اجتماعالتنويري

عودة هنتنغتون

بعد انتهاء الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وتسيد الولايات المتحدة الأمريكية للنظام الدولي، على أساس قاعدة نظام القطب الأوحد الذي لا نظير له ولا قوة تضاهيه، ولا قانون يمكن أن يصده، تأكد ذلك بعد إخراج العراق من الكويت، حينها صرح الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الأب بأن نظاما عالميا جديد يولد، وهذا النظام هو تحت الهيمنة الأمريكية، بما تحمله من قوة وجبروت، وعلى مختلف الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية.

إلا أن كل ذلك، لم يقنع المفكر الاستراتيجي الأمريكي (صامويل هنتنغتون)، بمعنى لم يتفق مع قضية انتهاء الصراعات والتحالفات والمعسكرات، فإذا كان العالم قد انتهى من حقبة الصراع السوفيتي – الأمريكي، بما يحمله من أحمال أيديولوجية اشتراكية ورأسمالية، وبين حكم مركزي شديد، وحكم ليبرالي ديمقراطي، فضلًا عن التنافس الجيواستراتجي، والسباق في التسلح والقوة ومن يمتلك القنبلة النووية ومن لديه القدرة على الرد بالضربة الثانية… إلخ.

كل ذلك انتهى، أي الصراع السوفيتي الأمريكي، إلا أن العالم مقبل على صراع جديد، وتقاسم مختلف بين الأقطاب أو العوالم، ليس ميدانه الاستراتيجية والقوة والجيوبولتيك فحسب؛ بل ميدانه الجيوثقافة، أو الهُويات الاستراتيجية -كما أسميها-، فهو يرى أي هنتنغتون، أن عالم ما بعد الحرب الباردة، سيشهد انقسامًا ثقافيًا بين حضارات عدة، وهي الغربية الرأسمالية، والإسلامية، والصينية، والأفريقية، إلخ. بالتالي إن المنافسين الذين سوف يواجهون الأنموذج الغربي، أو بالأحرى الولايات المتحدة الأمريكية، سيكون للأنموذج الثقافي دورًا مهمًا في تنافسهم/ صراعهم معها. وعلى ما يبدو أن المفكر الروسي (الكسندر دوغين)، قد أعاد صياغة أفكار هنتنغتون، بما يتفق مع الرؤية الروسية، والتي أسماها بالأوراسية.

وعلى الرغم من النقد الذي واجهته أطروحة هنتنغتون، ولا سيما من أصحاب تيار حوار الحضارات، هذه الأطروحة التي طرحها المفكر الفرنسي (روجيه جارودي) في سبعينيات القرن العشرين عبر كتابه “في سبيل حوار الحضارات”(١)، وتم استعادتها بعد صعود أطروحة صدام الحضارات لهنتنغتون؛ على أساس أن الصراع لا يخدم البشرية، وأن عوامل الحوار والاقتراب والتعايش، هي أكبر من عوامل الصدام، وهي الأساس لقيام السلام بين الشعوب. إلا أنه ليس هذا محور موضوعنا في المقالة.

وعليه فإن الصراعات التي يشهدها العالم، يستحضرها بوعيه -صدام الحضارات- أو من دون وعيه، فأي صراع تقريبًا نجد أن الهُوية والثقافة حاضرة فيه بقوة، فالشعوب والدول لا تقاتل من أجل الجغرافيا أو المصالح المادية فحسب، بل هي تهدف إلى، أما لتصدير أنموذجها الثقافي، وكما هو الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو الدفاع عنه مثلما هو الحال لدى كل من روسيا والدول العربية والإسلامية، فهي أساليب عيش، ورؤية للبيئة المحيطة بنا كبشر ودول، فهي منطلقات تفسيرية لفهم العالم، وبالاستناد على ذلك يتم تحديد المصالح، ومن هم الأصدقاء، والأعداء.

وبالنظر إلى الحرب التي نشبت مرة أخرى، بين كل من حماس الفلسطينية، والكيان الإسرائيلي من الجهة المقابلة، ولكل طرف حلفائه وأدواته التي لجأ إليها في أرض المعركة. ما يهمني هنا هو استحضار الدين والثقافة والهُوية في الصراع، وثنائية الـ نحن والـ هم، فالفلسطينيون والعرب والمسلمون، استحضروا كل عوامل الاختلاف الثقافي مع الآخر، حتى أن قراءتهم للحدث هي قراءة ثقافية – دينية وهُوياتية بالدرجة الأولى، أكثر مما هي استراتيجية أو سياسية، وحتى أن اسم العملية التي شنتها حماس أسمتها “طوفان الأقصى”، أي أنها تحمل الطابع الإسلامي، بما يحمله الأقصى من رمزية عالية لدى الشعوب الإسلامية، فهو مسرى النبي محمد -حسب الرؤية الإسلامية- والقبلة التي كانوا يتوجهون لها عند الصلاة، قبل أن تأخذ الكعبة ومكة هذه المكانة. بالتالي هي رسالة دينية للعالم الإسلامي أجمع وليس العربي فحسب، ولا تريد حماس أن تقتصر الموضوع على جهة دون أخرى فهو صراع يشمل المسلمون جميعًا. فضلًا عن ذلك، فإن بعض الآيات القرآنية أيضًا كانت حاضرة في المشهد، والتي تشير إلى القتال مع الآخر والمختلف دينيًا.  ولا يوجد أفضل من الدين للتحشيد وتوحيد الجهود.

أما من جهة الكيان الإسرائيلي؛ فلا يخفى على المهتمين بهذا الشأن، مسألة قيام هذا الكيان بالاستناد على فكرة دينية قديمة، أعاد قادته قراءته وصياغته منذ هرتزل وبما يتفق مع مصالح اليهود، ورغبتهم بإيجاد وطن لهم يجمعهم، وكان الاختيار قد وقع على فلسطين منذ أيام حكم السلطان العثماني (عبد الحميد الثاني) الذي رفض حينها منحهم هذا الحق. وفي كل صراع مع العرب والفلسطينيين، يتصاعد الخطاب الديني الإسرائيلي الذي يمثله اليمين الإسرائيلي المتطرف، وعلى رأسه رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو)، وهو على وفاق أي هذا التيار الإسرائيلي، مع اليمين الديني الأمريكي. ولهذا نرى مثلًا أن السيناتور الأمريكي (ليندسي غراهام)، قد وصف ما يحدث بأنها “حرب دينية” داعيًا الكيان الإسرائيلي إلى تسوية الأرض للدفاع عن نفسها بحسب تعبيره(٢). وهذا التيار لا يؤمن بخيار الدولتين، ولا بحق الفلسطينيين بأن يكون لهم دولتهم الخاصة بهم، فالرؤية الدينية الإسرائيلية، تحتم قيام الدولة على كامل الجغرافيا الفلسطينية، ومن ثم فإن القوة وحدها هي من تحقق هذا الهدف وتضمن سلام الكيان الإسرائيلي، فضلًا عن ذلك، فهي العامل الوحيد الذي يردع العرب أو “الأنظمة العربية المعادية” بحسب وصف نتنياهو(٣). إلا أنه فاته مسألة أن القوة ستواجه بالقوة؛ ففي ظل بيئة إقليمية معقدة مثل الشرق الأوسط، يصعب ضمان الأمن بالاعتماد على القوة فحسب، إذ ينبغي أن يكون هنالك شرط الإيمان بشرعية وجودك، واقتناع تام بهذا الأمر ممن يشاركونك مصير هذه الجغرافيا.

ختامًا، يبدو أن هنتنغتون كان محقًا بدرجة كبيرة بشأن أطروحته “صدام الحضارات”، فالمجتمعات كما يعتقد المفكر التونسي (فتحي المسكيني)، “عبارة عن براقع هُووية لا يمكن الاستغناء عنها مهما أوتينا من غرائز الاختلاف أو ملكات التفرد. وليست عبارات من قبيل العقل الغربي، أو العقل العربي… إلخ، سوى ضروب مع البراقع الهُووية لتوجيه العقل في ثقافة ما أو السيطرة عليه ومنعه من أداء دوره الخاص”(٤). بالتالي تتحول هذه البراقع إلى قواعد مقدسة من الصعب إعادة النقاش بشأنها، وعلى هذا الأساس تحدد المجتمعات الآخر معها أو ضدها، مما يعني قوة العامل الثقافي الذي عمل عليه هنتنتغون، وأكد أنه غاية في الأهمية بعد الحرب الباردة، وهو من سيحدد مسار الصراعات. كون أن الحضارات المختلفة فيما بينها يصعب عليها الخروج من هذا المأزق الهُووي، فضلًا عن نظرتها لذاتها التي تمتاز بالتفوق، بينما الآخر هو دائمًا ما يكون في موقع أدنى والنظرة إليه نظرة دونية، لأنه لا يشبهنا ولا يحمل تطلعاتنا.

……

المصادر

  • نقلًا عن: لطيفة يوسفي، روجيه جارودي والتأسيس الفكري لحوار الحضارات، مركز أفكار للدراسات والأبحاث، نشر في ٢٧ آذار ٢٠٢١، استخرج في ١٦ تشرين الأول ٢٠٢٣، على الموقع الالكتروني: https://afkaar.center/2021/03/27/%D8%B1%D9%88%D8%AC%D9%8A%D9%87-%D8%AC%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AF%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A3%D8%B3%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1%D9%8A-%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84/
  • (2)        “نحن في حرب دينية”.. ضجة يثيرها سيناتور أمريكي وما دعا إسرائيل للقيام، موقع CNN عربية، نشر في ١٢ تشرين الأول ٢٠٢٣، استخرج في ١٦ تشرين الأول ٢٠٢٣، على الموقع الالكتروني: https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2023/10/12/graham-israel-social-gaza
  • بنيامين نتنياهو، مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم، ترجمة: محمد عودة الدويري، مراجعة: كلثوم السعدي، الأهلية للنشر والتوزيع، ط٢، عمان، ١٩٩٦، ص٢٦٦.
  • فتحي المسكيني، الكوجيطو المجروح: أسئلة الهُوية في الفلسفة المعاصرة، دار الأمان، الرباط، ٢٠١٣، ص١٥.

اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

عبدالله ناهض

باحث وكاتب، دكتوراه فلسفة في العلوم السياسية/ تخصص الاستراتيجية. لديه كتابان أحدهما بشكل منفرد الموسوم (تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا: الأهداف والتداعيات)، وآخر مشترك مع باحثين آخرين الموسوم (التاريخ الامريكي: نماذج بحثية)، وكتب أكثر من خمسين مقالة منشورة في أكثر من موقع الكتروني، وكما لديه ثلاثة أوراق بحثية تقريبا منشورة في مركز البيان، فضلاً عن ذلك لديه بحث محكم مشترك منشور في المجلة السياسية والدولية بالعلوم السياسية في الجامعة المستنصرية الموسوم (عصر النانوستراتيجي تحليل عوامل الإرتباط بين المعرفة والاستراتيجية والدولة).

مقالات ذات صلة