التنويريفكر وفلسفة

من ملامح استقبال جان بودان

يمثِّل جان بودان  Jean Bodin(1529/30-1590)، وهو سليل عصر النهضة المتأخِّر، أحد الأقطاب العلميَّة المتميّزة بغزارة التأليف، حيث اشتغل بمختلف المعارف الرائجة في عصره وعمل على إخراجها في قالب موسوعي. وقد ترك وراءه إرثا فكريًّا متنوّعًا، يبين اهتمامات الرجل المتنوّعة، إذ توزع على التاريخ وفلسفته، وتاريخ ونظرية الاقتصاد، وعلم السياسة، والقانون العام والسياسة المقارنة، وفلسفة الدين، وفلسفة الطبيعة والسحر.

يحتلّ بودان منزلة إشكاليَّة في التاريخ الفكري الأوروبي الحديث، مثلما تتبدَّى في نظرياته الجدالية حول الفلسفة الأخلاقيَّة، والفقه القانوني والتاريخ المقارن. وقد انعكس الجدال مع بودان بشكل واضح في صور استقبال أفكاره، حيث اتَّسم ذلك إجمالا بمعارضة آرائه.

سنحاول في هذا الباب استحضار إحدى صور استقبال بودان، من خلال اقتفاء أثره في الثقافة الإسبانيَّة والبرتغاليَّة.

تطرَّقت دراسة ريازاRiaza ، إلى الأهميَّة التي احتلَّها كتاب الجمهورية داخل الثقافة الإسبانية، وكذا إلى جوانب الاستقبال المثيرة للاهتمام. ثم ناقشت الدراسة بعض التعديلات التي أجراها دو أناسترو إيسونزا (G. de Anãstro e Ysunza) على مصنَّف الكتب الست للجمهورية Les six livres de la République أثناء ترجمته.[1]

بينما وضعت دراسة مارفال Marvall اليد، على البعد النقدي الذي ميز الدارسين الإسبان، غداة مناقشتهم وكذا ردودهم على تعريف الجمهورية المقترح من طرف بودان، في غضون القرن السابع عشر. ومن جملة هؤلاء النقاد، هناك خوان دو سانتا ماريا P. Juan de Santa Maria، وكاستيلو دو بوباديلا Castillo de Bobadilla، ومارتير ريزو Martir Rizo، وغاسبار دو أناسترو  Gaspar de Añastro، ودييغو توفار إ فالديراما Diego Tovar y Valderrama، وراميرز دو برادو Ramirez de Prado.

نجد في ثنايا هذه الدراسة، مناقشة تفصيلية لمفهوم السيادة، وتعليقا على طبيعة الترجمات الملحقة بهذا المفهوم، إلى جانب استخدام أسلوب الاستقصاء التاريخي حول أصوله المستمدة من العصور الوسطى. كما نعثر على حيِّز خاص بدراسة مقوّمات السلطة المطلقة ومقتضياتها.[2]

ويتألَّف عمل مارفال، المتعلِّق بالفلسفة السياسيَّة الإسبانيَّة في القرن السابع عشر، من تقديم لميسنارد Mesnard، أشار في ثناياه إلى المؤلفين الإسبان لحظة القرن السابع عشر. وقد أشاد بأصالة إنجازاتهم في الفلسفة السياسيَّة، التي تمثَّلت في كيفيَّة استعادتهم لأطروحات ماكيافيل وبودان، ثم في طبيعة حواراتهم مع هذين المفكرين.[3]

وفحص ميسنارد طريقة استرجاع بودان في التأليف السياسي لخوان مارتن ريزو Juan Martin Rizo، (1592- 1642). وقد لفت مسينارد الانتباه إلى مجموعة من التصوّرات، منها ما يتعلَّق ببنية المجتمع السياسي، وكذا تلك المتمحورة حول حد الجمهورية، ولم يفته تشريح الاستبداد، ثم مقاربة مختلف أشكال الحكومات.[4]

وفي سياق آخر، اهتم بينيتو Beneyto في دراسته، بمستويات الترجمة التي حظيت بها الجمهورية داخل اللغة الإسبانية، وتعرض في هذا الباب للترجمة التي أنجزها غاسبار دو أناسترو إيسونزا Gaspar de Añastro e Ysunza سنة 1590. وتوقف كذلك عند إحياء بودان داخل الثقافة الإسبانية، بحيث تقصى هذه القضية عند مجموعة من المفكرين الإسبان، هم كاستيلو دو بوباديلا Castillo de Bobadilla، ومارتن غونزاليز دو سيلوريغو Martin Gonzàlez de Cellorigo، وفرنانديز دو ميدرانو Fernández de Medrano، وسيدران دو تالادا Cerdan de Tallada، وراميرز دو برادو Ramirez de Prado، وفراي خوان دو سانتا ماريا Fray Juan de Santa Maria، ومارتن ريزو Martin Rizoو oin  de e BobadillaKموعة من المفكرين ا  contreح من طرف بوادن، وسولورزانو بيريرا Solorzano Pereira، وفرانشيسكو راموس ديل مانزانو Francisco Ramos del Manzano[5].

وفي جانب آخر، تمحورت أطروحة الدكتوراه في الحقوق لألبوكويرك Albuquerque، حول الأبعاد النقدية التي نالها بودان. وقد توقف عند الملامح الرئيسية لهذا النقد، مثلما تبلور عند الكتَّاب الإسبان والبرتغاليين، خصوصا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومن أبرز الشخصيات التي اضطلعت بهذه المهمة، نجد ريبادينيرا Ribadeneyra، وماركيز Marquez، وغراشيان Gracían، ثم باربوسا هوميم Barbosa Homem.

ومن جهة أخرى، قاربت هذه الأطروحة صور استقبال بودان، بحيث بينت توسط بوتيروBotero  وبيير غريغوار Pierre Grégoire، ودورهما في ذيوع بودان. كما تعقبت الأطروحة خيوط تأثير بودان في ثقافة شبه الجزيرة الإبيرية ibérique، إذ تطرَّقت في هذا الباب، لقضية السيادة واستكشفت حدودها في الوقت نفسه.[6]

تلقف ألبيكويرك Albuquerque في دراسة أخرى، مظاهر استقبال بودان في بلاد البرتغال، لما تناول المواقف المناوئة لتوجه بودان، وغالبا ما وجدت هذه المواقف مسوغات دينية. ومن دعاة هذا التوجه، هناك بيدرو باربوسا هوميم  Pedro Barbosa Homem، وفرانشيسكو مانويل دو ميلو Francisco Manuel de Melo. 

يمكن القول بأن استقبال بودان في البرتغال، قد تميز باستيعاب نظرية السيادة، وهو ما حصل بالفعل، من خلال القراءة المباشرة لنصوص الرجل، ثم بصورة غير مباشرة، عن طريق توسط بوتيرو وبيير غريغوار.[7]

وتصدَّت دراسة فيلانويفا Villanueva لشخصية مارتن غونزاليز دي سيلوريغو Martín Gonzalez de Cellorigo، وركزت على مظاهر تصوراته الإصلاحية، من خلال وضعه اليد على أسباب انحطاط الدولة، ونهله في فلسفة الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي من معين أطروحات بودان.[8]


[1] Riaza, R., «Sobre la versión castellana de los seis libros de la república, de Juan Bodino», Anales de la Universidad de Madrid, Letras, III, 2, 1934, p. 175- 178. In Couzinet Marie-Dominique, Bibliographie des écrivains français, Jean Bodin, Memini, 2001, pp. 292- 293.

[2] Marvall, J. A., in La Philosophie politique espagnole au XVIIᵉ siècle dans ses rapports avec l’esprit de la Contre-Réforme, Paris, Librairie philosophique de J. Vrin, 1955, p. 88- 92, 155- 162 et ad ind. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 293.

[3] Mesnard, P., «Introduction», in José Antonio Marvall, in La Philosophie politique espagnole au XVIIᵉ siècle dans ses rapports avec l’esprit de la Contre-Réforme, Paris, Librairie philosophique de J. Vrin, 1955, p. 88- 92, 155- 162 et ad ind. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 293.

[4] Mesnard P., «Entre Bodin et Quevedo: l’humanisme politique et Juan Pablo Partir Rizo», in Miscelânea de estudos a Joaquim de Carvalho, Figueira da Foz, Biblioteca-Museu Joaquim de Carvalho, 1959, p. 184- 194.In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 293.

[5] Beneyto, J., «La réception de la pensée de Bodin en Espagne», Czasopismo Prawno-Historyczne, XXIX, 2, 1977, p. 13- 20. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 293- 294.

[6] Albuquerque, M. De, Jean bodin na península Ibérica. Ensaio de história das ideias políticas e de direito público, Paris, Fundação Calouste Gulbenkian, Centro cultural português, 1978, 265 p. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 294.

[7] Albuquerque, M. de, «L’humanisme portugais et la France. Bodin au Portugal», in L’Humanisme portugais et l’Europe, Centre d’Études Supérieures de la Renaissance, actes du XXIᵉ Colloque International d’Études Humanistes, Tours, 3- 13 juillet 1978, Paris, Fondation Calouste Gulbenkian, Centre Culturel Portugais, 1984, p. 247-261. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 295.

[8] Villanueva, J., «El reformismo de Martín Gonzalez de Cellorigo y sus fuentes: Maquiavelo y Bodin» [Le réformisme de M. Gonzales de Cellorigo et ses sources], Hispania, LVII, 1, 1997, p. 63-92. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 296.
________
*الدكتور أحمد الزاهد.


اكتشاف المزيد من التنويري

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

أحمد الزاهد

حاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، باحث ومترجم من المغرب.

مقالات ذات صلة