حيرتني معاجم اللغة عندما اخترت أن يكون التناسب مكونا في عنوان هذه الدراسة التي انعقدت حول رواية:” مشانق العتمة” للكاتب /يسري الغول، فقد وجدت نفسي أمام مترادفات متعددة، منها: التشاكل، التوازن، التناسب:الأولى تدل على المشابهة والمماثلة والنمطية و الثانية تشير إلى التعادل والتوازن، والأخيرة تُشور إلى النسقية والموافقة والمشاكلة، فاخترت التناسب؛ لأنه حلقة مشتركة بينها، و يقوم على تناسب في العلاقات لا الصفات، و لم نتعامل مع التناسب في هذه الرواية على اعتباره كيفية انبنت عليها الرواية، بل على أساس التناسب أو التوازن الحدثي وما يدور في سياقه، وهو توازن أو تناسب كان أُسا واضحا في فكر الراوي:”ابن رشد الذي من أَجْله بت أفهم المتناقضات وأحاول صناعة التوازنات، تعلمت منه الكثير وحفظت الشعر والأدب والسياسة والفن فكان رجلا استثنائيا “.وهذا يعني أن المتناقضات قاعدة أساسية في بناء التوازن أو التناسب، الذي يَحصُر الراوي إطاره العام في منطقة جغرافية محددة، يمُطها في أحايين أخرى:”اللاجئون المقهورون في لبنان، الهاربون من جحيم الموت بمخيم اليرموك في سوريا، المعذبون بالحصار في غزة، المحروقون في صحاري العراق والسودان، المتناثرون في بلدان شتى يبحثون عن هويتهم لا يعرفون سوى موسيقى الجوع والحرمان والفقر والتشرد والضياع “.
واستنادا إلى انبناء التناسب على المفارقة ، شُيدت هذه الدراسة على محورين متداخلين هما:
أولا – المفارقة: تحمل المفارقة في داخلها تناسبا ضمنيا تجلى في هذه الرواية في تقاطع الأنظمة والأمن والاحتلال والإرادة الدولية في صناعة هذه المفارقات وتكريسها، والتي اتخذت الأشكال الآتية:
* المقاومة =الإرهاب: أي معادلة المقاومة بالإرهاب من منظور الأمن العربي وكانت في الحوار بين الأمن العربي ويونس:” -أَلاّ ترسل المال من خلال ابن عمك المتطرف للإرهابين بغزة ؟
-أي إرهابيين ؟
-حماس والجهاد الإسلامي والمنظمات التي تقاتل إسرائيل.
-تقصد فصائل المقاومة.
-إذن أنت تعترف.”
وتتمدد هذه المفارقة في جوانية يونس وهو في سجون جنائية، فانعكست تساؤلات في المقطع السردي:” أسبوع كامل عاشه يونس في سجون جنائية، برفقة أفارقة وآسيويين، هل هو لص أم متصدق ؟بطل أم خائن ؟ إنسان أم شيطان ؟…كيف حدث هذا التغيير في نظامنا العربي ؟ ومن الذي يحكم بلادنا اليوم ؟هل هم من بني جلدتنا ؟ كيف تم تدْجينهم ليصيروا إلى ما صاروا إليه من رجس ؟.” هذه التساؤلات الجوانية قائمة على التقابل وغايته الكشف وكذلك على السردية وغايتها الاستفسار، فكان يونس يريد من وراء ذلك كشف حقيقة ذاته بعد موجة الشك الذي اجتاحته، وينتقل أيضا إلى كشف واقع من يحكمون الشعوب العربية بعد موجة الاستغراب والشك التي انتابته، فهي أسئلة همسية جوانية للبحث عن الذات والهوية.
*الديمقراطية: الاعتراف والمقاطعة.
فالمفارقة هنا فيما أعقب العملية الانتخابية وما تمخض عنها وفوز حركة حماس بالانتخابات فيها واعتراف العالم بنزاهتها وفي الوقت نفسه مقاطعة الحكومة التي شكلتها، بل ومحاربة نوابها في حكومة الوحدة الوطنية وتجلّت هذه المفارقة في حوار داخلي معبأ في صيغ استفهامية، ” لماذا يجب أن يعاني العربي من جحيم الأنظمة التي جاءت بأصواته ووصلت لسدة الحكم ؟لماذا يجب أن يدفع الفلسطيني والسوري والعراقي وغيرهم الثمن بسبب مناكفات سياسية بين أنظمة لعينة وأحزاب معارضة…ترى هل نحن لا نستحق الديمقراطية ؟هل كانت الشعوب غير مؤهلة لممارسة هذه الديمقراطية اللعينة ؟وهل الأنظمة العميلة سَتسلم بالأمر الواقع حال وصول المعارضة إلى كرسي الرئاسة والبرلمان ؟ هل المعارضة ستمنح المواطن الحرية لاحقا أم أنها ستظهر وجهها الدموي كما الأنظمة الأخرى التي تمارس الاضطهاد ؟” فالراوي يُغْرق هذه المفارقة بسحابة من التساؤلات يستغرب فيها هذه المعاناة التي ألمت بالناس على أيدي حكام جاؤوا إلى سدة الحكم بأصواتهم، ويتساءل عن تأهل الشعب والمعارضة والحكومات والعالم للديمقراطية واستيعاب نتائجها، إن هذه التساؤلات توشر إلى عدم التهيؤ للديمقراطية أو إن شئت فقل إن تهيأت فلن يكون مكتملا.
*السجن: الوطنية والكرامة، الكراهية والحقد: فالمفارقة حاصلة هنا بين السجن الصغير؛ أي المعتقل بمافيه من كرامة ووطنية والسجن الكبير الجزء من الوطن قطاع غزة بما يحويه من حقد وكراهية، وهذا يؤسس لمفارقة شاسعة بين مبادئ وطنية من أجلها ناضل المعتقلون وحاجات مادية شغلت بال المجتمع :”خرجت من سجن معبأ بالوطنية والكرامة إلى سجن ضيق مليء بالكراهية والأحقاد “. وهذه تعني انحسار الكرامة والوطنية في أحواز ضيقة وتحت مؤثرات وتفشي خلاف ذلك في أماكن واسعة، أيضا تحت مؤثرات، ويشي بشرخ في منظومة المبادئ والقيم والثوابت.
*الرغبة في زيارة فلسطين والهروب منها:
تنطلق هذه المفارقة المعاكسة من الوطن ذاته في صورتين مختلفتين: الرغبة في القدوم إليه والتلظي لمغادرته، فازدواجية الوضع للوطن بين الرغبة والتلظي هي ازدواجية الناس أيضا، الأمر الذي يعني أنهم يعيشون المفارقة قبل أن يحققونها في الوطن:”يقول يونس:فعائلتي التي بالخارج قادرة على زيارة أي مكان في العالم إلا فلسطين ونحن نتلظى هربا من وطن نحبه “.
*المعبر الفتح والإغلاق:
إن الفتح والإغلاق هو سياسة أمنية لا تجرؤ على الإغلاق إلا في وجه الإنسان الفلسطيني بينما تُفتّح على مصراعيها أمام الإسرائيلي، مما يدل على أن قوانين الأمن ودواعيه أُنتجت فقط للعربي وخاصة الفلسطيني منهم وتعطلها عند الإسرائيلي؛ لأن العلاقة محكومة باتفاقيات أمنية دولية.يقول يونس:-حسبنا الله ونعم الوكيل، إنهم يفتحون معبر طابا للإسرائيليين بشكل دائم ويغلقون علينا متنفس الحياة؛ لأننا عرب مثلهم “.
وتزداد هذه المفارقة حِدة عندما يُفرض على الإنسان الفلسطيني أن يدفع المال لرحلة يقوم بها ملايين الأشخاص من دون مقابل :”لماذا يجب أن أدفع المال لأجل رحلة تَحدث كل يوم لملايين الأشخاص في مطارات العالم دون مقابل ؟لماذا قدَر ابن غزة أن يدفع ويدفع لموظف في صالة المعبر ويتوسل السماح له بالسفر عبر مطار عربي ؟”.
وتتفشى المفارقة بين جزئي الوطن فلسطين:الضفة وغزة فهناك سيولة حركية في غزة وانسداد في الضفة:” أتعرف يا يونس، في غزة قهر وحصار لكنك تتنقل بسهولة بين المدن لانسحاب الاحتلال من القطاع، أمّا في الضفة فالمستوطنات جاثمة على قلوب الناس، ولا شوارع للفلسطينيين كي يتنقلوا إلى المدن في المنطقة إلا بشقِّ الأنفس “.
*خطاب الرئيس وتعذيب الأطفال والمراهقين:
تقَوض هذه المفارقة العلاقة التبريرية لما تقوم به الأجهزة الأمنية من عقاب للأطفال والمراهقين استجابة لخطاب الرئيس حافظ الأسد: ” يقول هتلر:لكن ماشأن هذا الخطاب باستدراج وتعذيب الأطفال والمراهقين على يد اللعين عاطف.لم يطلب المحتجون تغيير النظام، بل إصلاحه بالقليل من الحريات السياسية والاقتصادية “.
*أجهزة الأمن والمظاهرات في الضفة وغزة.
وتجسد ذلك في الحوار الذي دار بين سراب وابن رشد:”أريد أن تطرحي ذات السؤال على نفسك:هل تقبل الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية أن تسمح لأي مظاهرة بالخروج احتفالا بانطلاق حركتنا الإسلامية أو تنفيذ أي حراك لا يقوم به أبناء المنظمة وفتح “.
هذه المفارقة وإن حاول الراوي استجابة لأيدولوجيته أن يواريها بتتويهها في حواره مع سراب، فالبائن لنا من هذا الحوار كيف تسمح غزة وكيف ترفض وكذلك رام الله وهذا الذي انكشف لنا وواراه الراوي بصيغة استفهام تفيد الاستفسار لا الاندهاش كما فعلت كيف، فهو يقول:”هل ؟ التي إجابتها معلومة لدى الراوي.
إن المتأمل في هذه المفارقات يكتشف علاقة جامعة بينها، ترتكز في عوامل عدة: الأنظمة العربية الحاكمة والأجهزة الأمنية والإرادة الدولية والاحتلال، وهذا العوامل تربطها علاقة استراتيجية واحدة هي تأصيل الإرهاب المزعوم عند الفلسطيني، بما يبرر هذا المفارقات التي تُتْخذ بحقه في كل المحافل والمعابر والانتخابات، بل وفي شوارع مدنه وقراه ومخيماته، وابتزازه بشكل واضح متعمد.
ثانيا -التناسب:
قلنا إن التناسب مبني على المفارقة وهذا الانبناء وصل إلى درجة التلاحم؛ لأن المفارقة ذاتها تحوي في جوفها تناسبا تجلى في هذه الرواية فيما يأتي:
أ-الطرد من المملكة والطرد من المطار الروسي:
جرى هذا في حوار داخلي بين الأمن ويونس في أمر الطرد من المملكة بحجة دعم الإرهاب في غزة:” إنك ممنوع من العمل داخل المملكة…سنعطيك مهلة ثلاثة أشهر لمغادرة البلاد وإلا فإننا سنطردك بطريقتنا “.
و يَسُد هذا الأمر الأفق أمام كفالة الشيخ متعب.” لا صوت يعلو فوق صوت الأمن في وطننا العربي العظيم، هذا ما يجب أن تفهميه يا عزيزتي.
-وكفالة الشيخ متعب ؟!
عند الأمن كل شيء يصبح هباء منثورا.
وأما الطرد من المطار فظهر في الحوار الخارجي بين الأمن الروسي ويونس وأفضى إلى أبعاده بحجة نية التهريب إلى النرويج.:”ستعود مع أول طائرة إلى بلادكم “.
وكما لم تعلُ كفالة الشيخ متعب على الأمن العربي، لم يعلُ صوت القنصلية الروسية على الأمن الروسي:”كيف ولماذا ؟ألا تثقون بدائرة شؤون القنصلية الروسية التي منحتنا الفيزا أيها المحقق، ومن سيتحمل كل تلك التكاليف…
-أنت ستدفع كل شيء وستعود إلى بلادك”.
فالعلاقة الواضحة بين هذين التناسبين هي الطرد من المكان استجابة لمبرري:”الإرهاب، التهريب “وهما منتوج أمني مفتوح الصلاحية و لا يعبأ بأي اعتبار اجتماعي ” الشيخ متعب “أو سياسي” القنصلية الروسية “، لأنه لا صوت يعلو فوق صوت الأمن.
*-القمع:الهوس الأمني والاغتيال، التعذيب، الإسقاط، الدفاع عن النظام:
الهوس الأمني قمع نفسي يلازم الأنظمة الحاكمة كما يلازم الشعوب في أي وقت ومكان، فالأنظمة تُسقطه على الشعوب لتكوير إجراءات أمنية و السعي إليها لتعميق الهوس وحماية أركان النظام ، تقول “سراب”:” نخرج فلا نتحدث بشيء !يعترينا الرعب من أعمدة الإنارة وإشارات المرور والمارة ومرتدي المقاهي والباعة وكل شي “.
بل إن هذا الهوس قد انسرب إلى المواقف الحميمية:”أتأمل المكان حولي، مرتاعة من الأجهزة الأمنية، أخاف أن يصل صوتي إليهم خلال همساتي لرفيقي “.
فالواضح أن الهوس الأمني قد بلغ من الحدة ما جعله يتجسد في كل شيء وإن كان أعمدة الإنارة أو إشارات المرور والمارة ومرتدي المقاهي والباعة، بل سرى في ثنايا العلاقات الحميمية، وهذا إن دل فإنما يدل على استبداد النظام وفي الوقت ذاته خوفه وقلقه وكذلك جهوزية التهم مسبقا والأحكام المبالغ فيها وأيضا التعذيب؛مما يدفع المواطن إلى تحسس الأمن ورعبه وهوسه حتى في رغيف الخبز الذي يأكله والشراب الذي يشربه والهمس الذي يهمسه.
ويتطور الهوس ليكون حقيقيا لا سرابا إلى الاعتقال، الذي تستدعيه الذاكرة فيتحقق هوسه من خلال هذا الاستدعاء، تستذكر سراب مقطعا من سنوات الشقاء :”وها أنا بين دفتي الشرق الأوسط، التي تعود بي إلى سنوات الشقاء، حين اعتقلوا أبي لمواقفه السياسية ضد النظام، الرعب الذي تملكنا طوال تلك الحقبة حتى صارت حياتنا جحيما لا يُطاق، انتهى بموته في سجن حلب المركزي “. بل ويشتد أواره ويتحقق هذا الرعب باعتقالها وهي إلى جوار زوجها المستقبلي “هتلر” الذي يعمل في جهاز الأمن من دون أن تعلم بذلك:”-سيدة سراب ، لو سمحت تفضلي معنا… أغادر ورأسي يتطلع نحو حمام الرجال، وفي عيني صورة واحدة:التعذيب”.
بل ويتجسد في اعتقال طال جماعات من الطلاب كما يقول ابن رشد:” ذهبت إليه مباشرة كان يحتجز بعض الطلبة وعلامات الضرب المبرح تملأ أجسادهم، في أيديهم بيانات يافطات مليئة بالشتائم ضد نظام الحكم في غزة “.
واشتد الهوس الأمني عند الأنظمة، فطال ما يملك الناس من مال خشية أن يقع بين أيدي الإرهابيين على حَدٍّ زعم الأنظمة، هذا ما جاء على لسان يونس في حواره مع أبيه بشأن العودة إلى المملكة عبر معبر رفح:”-لا أَرْسله بعد أسبوع كي لا يتم وضعي تحت دائرة الأجهزة الأمنية بغزة وتحويل الأموال يثير الشبهة حول صاحبه “.
فالهوس الأمني كما واضح وسيلة وغاية في الوقت نفسه، فقد كان مبرمجا بعناية ودقة فخلق في أذهان الناس هوسا غير عادي جعله يتجسد في تفاصيل حياتهم اليومية، بل و أحلامهم، ويتحقق واقعا في الاعتقال وغيره، وهذا الهوس الذي زرعته الأنظمة في النفوس هو في الأصل منزرع فيها، فهي تخشى ما يخشاه الناس وتعاني هوسا لربما أشد مما يعانونه وإلا فلماذا هذا الحد العنيف جدا من التعذيب، بل ولماذا هذا الهوس الحاد الذي تزرعه في قلوب وعقول ووجدان الشعوب.
*التعذيب: بين الأب “حافظ الأسد ” والابن “بشار”: وهذا التعذيب بقرار سيادي جمهوري؛مما يعني عدم الحياد عنه وفتحه على أشكال التعذيب كاملة ومنح القائمين عليه حرية مطلقة، وعرضنا هنا مشهدين للتعذيب أحدهما للأب حافظ الأسد والآخرللابن بشار، ويتمثل قمع الأب في هذا المقطع السردي:” -لقد مارس حافظ وشقيقه رفعت حقدا على مدينة حماة وأهلها بشكل غير آدمي “.
وفي إطار، من شابه أباه ما ظلم:”بشار يوشك على الانتقام من الناس، يعتقلون العشرات في حلب وغيرها من المدن والريف وأخشى أن تستمر للجم أصوات المتظاهرين “.
فالعلاقة بين مشهدي التعذيب عند الأب وابنه تتجسد في أوامر عليا لتنفيذ التعذيب، مهما بلغت حِدته ومن كانت ضحاياه، وفي كونه استراتيجية متوارثة و دواعيه أيضا منقولة وهي الاستبداد والظلم.
و هذا التعذيب الرسمي المتوارث المبرر على مستوى القيادة السياسية الحاكمة قد سَهل على أجهزة الأمن أن تبالغ فيه من دون رقيب يحاسبها، فارتكبت أبشع الجرائم بحق المواطنين على اختلاف أعمارهم:”كان اسمه هتلر يقوم بتعليم الفتيات على السباحة وهن عاريات، يسكب عليهن الماء البارد في الليالي المثلجة ثم بالماء الساخن…يجبرون السجينات على تقليد الكلاب والحمير والقطط ويضربون اللواتي يفشلن في النباح أو النهيق على الوجه الصحيح “.
مشهد التعذيب هذا قائم على دعامتين ثنتين: تهميش الخصوصية الأنثوية بإرغامها على التعري واختيار نوع الماء المسكوب عليهن حسب الطقس، والأخرى مسخ الإنسانية وذلك بتحويلها إلى حيوانية:قطط، كلاب، حمير وذلك عبر آلية التقليد لها، الإخفاق فيها جزاؤه الضرب.
-الإسقاط: هو نوع من التعذيب النفسي وهوس أمني كذلك، لأنه استغلال لضعف الإنسان أمام التعذيب القهري لحَرْفه عن مبادئه وقناعاته إلى مبادئ وسياسات النظام الحاكم، مما يولد لديه هوسا فكريا حادًا، ولومًا متواصلا لا يتوقف، وتجلى الإسقاط وكيفته ودوافعه في هذا المقطع السردي الذي يرصد حوارا بين هتلر وسراب:”-نحن لا نريد أن نفعل بك أي شيء، فهناك صديق عزيز أوصى أن نترفق بك ؛ لذا تركناك بخير وسنخرجك بعد قليل، لكن بشرط أن تعملي معنا بدلا من التنمر والتذمر الدائم لسلوك الأمن الاضطراري ”
-الدفاع عن النظام: نقصد هنا الدفاع الفكري بالحجة والرأي، وهذا الدفاع غالبا ماتكون فيه عناصر النظام الحاكم معبأة به وموجهة إليه ومؤمنة به وإن كانت في قرارة نفسها يساورها الشك فيه، ولكنه الهوس الذي تجد نفسها أمامه ضعيفة وملزمة، وهذا ما ورد على لسان يزيد في حواره مع سراب:”-سراب، ليست ثورة، إنما هبَّة تحركها أيدي خبيثة…. العو موجود بكل مكان ياسراب، المعارضة هو عو كبير مرتبط بالخارج غير النزيه، والجماعات الدينية المتطرفة التي تريد أن تعود بنا إلى العصور الجاهلية عو…لا أدافع سوى عن الحق، ففخامة الرئيس والحكومة والبرلمان وأجهزة الدولة تكافح وتحارب الاستعمار والخيانة لدولة الاحتلال الصهيوني “.
فالملحوظ من الحوار تأليه النظام الحاكم ونعت الآخرين بما فيهم الشعب الذي يعاني من ويلاته بالخبث والجهل والتطرف وجر البلاد إلى عصور الظلام، بل ونعت المعارضة” بالعو” فتأخذ من الكلب صفة النبح الفارغة لتخلعها على المعارضة ، و هذه الأوصاف تبرر عدالة النظام الحاكم ومن ثم اتخاذ إجراءات صارمة تبقيه وعدالته.
* الهجرة بدافع الزوج المجرم و جحيم الوطن والطرد من العمل :فالهجرة قسرية مغلفة بالسياسة وملابساتها وإن انضوت تحت مبررات اجتماعية واقتصادية، وطالت أضيق الأماكن: بيت الزوجية ومكان العمل و المدينة والوطن كاملا، والهجرة بسبب الزوج المجرم حدثت مع سراب، “كيف يمكن لامرأة أن تحتمل الضرب كل ليلة ؟التهديد بقتل أو اختطاف أي من عائلتها إن تمردت ورفضت القيود التي حاصرها بها زوجها ؟
ذهبت لا ألوي على شيء، اختبأت في بيت أخي حتى يتسنى لي الفرار من المدينة كلها.”، فالهجرة من بيت الزوجية تعني هدم الحياة الاجتماعية ومن المدينة تعني مغادرة السياق الكلي بتأثير زوج مزدوج يحمل صفة الذكورية المنتصرة دائما والأمنية القمعية دوما.
ولعله من المفارقة أن هذا الزوج المجرم “هتلر ” يعلن عن رغبة في الهجرة لما اقترفه من جرم مبالغ فيه بحق المواطنين:”سأهاجر سأفعل مثلما يفعل الكثيرون، لقد بت مكبلا بالخوف، كل ليلة تحاصرني الكوابيس…ساترك العمل وأهاجر كما يفعل كثيرون اليوم، لندن أو السويد أو بلجيكا تستقبل السوريين وأنا أريد أن أرتاح من عذاب العمل الأمني والحرب…استدعاني جهاز الشرطة الذي عملت فيه بدايات الحرب…اعتقلوني…تعرضت الشبح والضرب “.
فالذي كان سببا من جملة أسباب أرغمت الناس على الهجرة يقرر اليوم الهجرة فتكون هجرة مختلفة، صحيح أنه هاجر من الوطن ولكن هجرته من العمل الأمني كانت آنية فآثارها ظلت بائنة في مهجره.
والهجرة بسبب جحيم الوطن: “نردد بداخلنا كمواساة لا إرادية:”ذاهبون إلى الجنة بدلا من جحيم الوطن “.
لاحظ معي ما يقوله الوعي في هذا المقطع، إنه يقول:الذهاب إلى الجنة وهذه مواساة لا إرادية مخبؤة في الداخل وهي صدى الهوس الأمني أو يأس من المستقبل، فالجنة المشكوك في أمرها والتي جيئ بها كمواساة داخلية لا إرادية تكون بديلا لجحيم الوطن، فهي بديل للجحيم لا للوطن.
وأما الهجرة بداعي الطرد من العمل، يقول يونس: “سأهاجر إلى أي مكان وأترك بلاد المسلمين لهم فليهنؤوا بها.
-لماذا ؟
لقد طردوني من العمل.”.
فهي أي الهجرة بداعٍ اقتصادي فيه دخن أمني، وهي متجهة إلى أي مكان في العالم مما يوحي بحال لا تطاق، والاتجاه إلى أي مكان في مقابل ترك بلاد المسلمين الذي هو طعنة مقصودة في خاصرة العالم الإسلامي الرحب الذي لم يعد قادرا على استيعاب أبنائه.
ويتناسب مع ذلك الخروج من الوطن “غزة” لظروف قاهرة.يقول يونس:”-أرجوك يا أبي، أريد الخروج من غزة، فالظروف هنا قاهرة “. والخروج في رأينا مغاير للهجرة مع تحفظنا على مآلاته، فهو طارئ وعاجل وقهري ومبغاه النجاة فقط من ظروف قهرية متنوعة.
نعود مرة أخرى إلى المتناسبات في الهجرة ودواعيها، فعلى صعيد المكان الذي تمت الهجرة منه أو الخروج، نراه متدرجا من بيت الأسرة، مكان العمل، المدينة والأيدولوجيا وإلى جحيم الوطن وأما دواعيها فهي متواشجة بعلاقات يتصدرها الأمن وما يترتب على إجراءاته، والتي لم ينجُ من كان قائدا في تنفيذها.
.
*الربيع العربي والانقسام الفلسطيني:
الصفة الجامعة بينهما هي الخلع من الحكم، نظرا لمفارقات كثيرة وتنفيذا لما أطلق عليه في حينه على لسان الخارجية الأمريكية “الفوضى الخلاقة: “يقول يزيد:” -سراب، إنما هَبَّة حركتها أيد أجنبية ” ويقترح يزيد القمع بكل أشكاله لقمع هذه الهبة.
يقول ابن رشد: هذا الانقسام مخطط قديم، لايمكن أن يكون طارئا ” وكما أن هنالك علاقة واضحة بين هذين المتناسبين: الربيع والانقسام حتى على مستوى النمو، فالربيع فرصة مواتية للتكاثر والنمو، الذي أخذ في السياسة مصطلح الانقسام، كما أنها واضحة في كيفيات العلاج سواء من رؤية يونس وابن رشد،
فاقتراح ابن رشد الوحدة في مواجهة طوفان الاستيطان، وشرعنة المقاومة، وفي موضع آخر يتخذ من الزواج وسيلة لإخفاء الانقسام، ورؤية هتلر القمع بكل أشكاله، وهذه الحلول للمتناسبين السابقين تتشاكل في علاقة واقعية هي بقاء الانقسام وديمومة النظام.
*الأزمات في الضفة وغزة:
ظهر هذا في الحوار بين يزيد وسراب.”-على الأقل فهم يعيشون أفضل منا حالا.
-أفضل حالا لأنهم لا يعانون من أزمة الكهرباء أو الوقود ؟ لا يعانون من أزمة معبر رفح ؟لكنهم يعانون أزمات أخرى أشد وطأة عل نفوس الأحرار هناك، والسلطة تلجم حراكهم بسبب التنسيق الأمني مع الاحتلال “.
العلاقة بين أزمات الضفة وغزة في هذين المقطعين هي المعاناة التي حصرها الراوي في غزة في الاقتصاد وفي الضفة في الأمن وكلا الحصرين عن قصد أملاه منظوره السياسي.
* فلسطين الوطن، فلسطين الابنة:
جاءت العلاقة بين فلسطين الوطن والابنة فلسطين من وحي الخيال القادم من الواقع وهي علاقة وجودية عضوية لا انفكاك فيها، يقول يزيد:”ابنتي التي لم أشبع منها ومن حملها ومداعبتها كأي أب..كانت تصغر وتصغر، كأنها مصابة بعلة عظيمة، وأنا الخائف على كنزي فلسطين…وفلسطين وطني يجب أن نذهب به إلى آخر الدنيا كي يعود سالما…لن أسمح لأحد أن يسرق فلسطين مني، ستظل باقية كالوطن، سأعمل كل جهدي أن تذهب إلى قطر أو تركيا أو ماليزيا لتحصل على علاج مميز، فهذه الدول تدعم الحركة بصورة أو أخرى، ورفاق السلاح لن يتوانوا عن مساعدتي…أخرج معهم تاركا فلسطين خلف ظهري، لا اتصالات ولا شيء سوى الخوف، خوف على الوطن وعلى فلسطين الوطن التي تعاني من إعاقة و شلل دماغي…الألم لا ينتهي، ابنتي فلسطين بالقاهرة تعاني من شلل دماغي، وأنا هنا كسيح بلا حراك، فقط، أريد أن أعرف ، هل ستدفنونني بجوار قدمي “.
وتمظهرت العلاقة بين المتناسبين:فلسطين الوطن وفلسطين الابنة في سلسلة من العلاقات هي:التعلق والتمسك والحماية والصوت والخوف عليها، الانكماش والاضمحلال، واللجوء إلى الأصدقاء للعلاج والمساندة، ، ثم تنتقل هذه العلاقة إلى أخرى بين يزيد والابنة فلسطين تأخذ صورة المعاناة، العلاج في القاهرة والتداوي في غزة والرغبة في مواراة الجسد في الوطن فلسطين، فالواضح لنا أن هذه العلاقات تدل على تحد وتمسك بفلسطين التاريخية ومقارعة الاستيطان الذي يقضم فلسطين الوطن فتصغر كما يذوي المرض فلسطين الابنة، وتدل على رغبة واضحة بأن يكون الممات والمواراة في أرض الوطن فلسطين.
*ابن رشد الفاسد والحلاج العظيم:
التناسب في هذا المقطع بين ابن رشد والحلاج والجامع بينهما المخالفة لتعاليم الإسلام، ابن رشد بالزندقة التي نُعِت بها والحلاج بالألوهية التي ادعاها في مقولته المشهورة “أنا الحق “
“فأنا المنقذ لك المليئ بالأفكار المشوهة في المجلس، طيب القلب، ابن رشد الفاسد بعقله وربما الحلاج العظيم، كما ظلوا ينادونني عند عودتي من مكتبة السجن “.وهذه العلاقة تؤشر إلى أن المنطق والفكر الذي يؤمن به ابن رشد الشخصية الورقية والمستند إلى فكر ابن رشد الفيلسوف والحلاج الشاعر الصوفي غير كاف للإنقاذ.
*هتلر ومالك:
جاء هذا التناسب بين هتلر ومالك خازن النار في سياق ساخر حاول تقديسه من خلال استدعاء خازن النار “مالك” ,والعلاقة بينهما هي ضمان الوصول إلى جهنم، ” طلبت من قريبي أن يتعامل معي باسم آخر غير يزيد، فاقترح اسما حركيا جيدا “رضوان” كي أنقل الناس من نار الجمهورية السورية وفلسطين إلى نعيم الجنة في أوروبا ضحكت وقلت:(مالك ) أفضل فهو خازن النار الذي يقود الناس إلى الهاوية…فاستقر بي المقام على (مالك)لأجعل من نار الآخرين جنة “.
هذا التناسب بين هتلر ومالك يؤكد أن مصير من يقودهم مالك الجحيم ومصير من يساعدهم هتلر على الهجرة من الوطن هو الجحيم وفي ذلك إشارات ضمنية بالتمسك بالبقاء في الوطن ومحاولة إصلاحه وتغييره.
*هتلر هتلر:وينشأ في هذه الرواية تناسب آخر في القمع والمجازر بين هتلر الشخصية الورقية في الرواية والتاريخية في الواقع، والتناسب بينهما المجازر:
“ارتكب هتلر حروبا عالمية ومحارق كبيرة ليحقق انتصاراته ضد أعدائه وإنني ماض على دربه، سأرتكب مجزرة بإغراق من تكالبوا ضدي ومن سمحوا لأنفسهم بسرق بعض المهاجرين مني كي يكونوا عبرة لغيرهم “. ولكن هذه العلاقة تفترق في غاياتها فهتلر يبغي من وراء هذه المجازر الانتصار على أعدائه بينما هتلر الورقي يريد من المجازر والإغراق الانتقام ممن تكالبوا عليه ونافسوه في عمله، أي أن هناك تباينا مابين العام والذاتية.
وفي هذا الإطار يعِن تناسب بين صراخ المسجونين في المعتقل والهاربين في القارب بعد قيام هتلر بالانتقام من المهاجرين على متن القارب: يقول هتلر:الركاب يكبرون ويهتفون كأنهم في ثورة عصيان داخل مردوانات السجن…أطلقت النار في الهواء…أضحك بهستيريا أنا ورفاق الشراب، لمن الملك اليوم أيتها الفلسطينية ؟لمن الحياة والعيش الرغيد ؟” وهذه العلاقة بين الصراخين تؤكد أن وحشية هتلر باقية وأن رواسب العمل الأمني مازالت عالقة في عقله ووجدانه فلا تغادره.
*الفلسطيني ودريد لحام:
يستدعي الراوي شخصية دريد لحام من فيلم الحدود الذي قام ببطولته ليعقد علاقة تناسبية بينهما في القهر والذل الذي يتعرضان له على المعابر والحدود:” إجراءات يقوم بها بحق أخيه العربي كي يشعر بالذل والقهر وفي مخيلتي صورة الفنان السوري دريد لحام أثناء فيلم الحدود يحاول أن يسافر فيمنعه العسكري العربي ” فهذه العلاقة تنقل المعاناة على المعابر والحدود إلى مشهد سينمائي من باب التوثيق وكذلك النشر والإعلام على أوسع نطاق جغرافي وثقافي.
*التنسيق والكفيل والتهريب:
تقوم العلاقة القائمة بين هذه المتناسبات على الابتزاز المادي سواء في اجتياز المعابر أو الإقامة أو التهريب عبر الحدود:
“المعبر ذو البوابة السوداء لايفتح سوى تسعة أيام متفرقة من العام فقط، ويجب على كل من يخرج إلى العالم عبر مصر أن يدفع الكثير من المال للتنسيق أو الوسيط “. فالذي يسهل الابتزاز هو الأمن الذي لايفتح المعبر سوى تسعة أيام متفرقة بذرائع أمنية، الأمر الذي يؤدي إلى تكدس المسافرين فتكون الفرصة مهيأة لابتزازهم.
ويتقاطع مع ذلك ما ُيدفع إلى الكفيل، كما ورد على لسان يونس:”مضت الأيام بسرعة والعمل لا ينتهي، نثريات وهدايا أحصل عليها خلال إقامتي في هذه المدينة التائهة في الصحراء، أقدم الكثير منها قرابين للكفيل المبارك الذي يحصل على ربع الراتب أيضا؛ لأنه يكفل وجودي في الأرض الحرام “.
و كذلك على صعيد التهريب:”يتفقون مع المهاجرين الجدد على المبالغ التي يجب أن يتم دفعها للمكاتب العاملة كنظام ما فيا ,حقيقي، تدفع نصف المبلغ وعند صعود القارب تدفع النصف الآخر أو تضع بقية المال عند كفيل لحين وصولك سالما “
*الفقد: قضم الجسد والبكاء.
إن العلاقة بين هذين المتناسبين تجمعها دواع واحدة هي:الاضطرار إلى العودة إلى غزة عندما أوشك أن يفقد يونس مصدر رزقه الوحيد في الغربة وخيار العودة إلى غزة المحاصرة المظلمة المقصوفة فلم يجد سبيلا أمام هذا الواقع بعد مشاهدة فيلم عربي ليوسف شاهين ألا أن يقضمها قضما، فالقضم الجنسي شكل من أشكال التعبير في بعض الأحوال عن الأسى والحزن “فجأة يركبني كطائرة تنتظر المسافر الوحيد، يتحسس جسدي كل مفاصلي حتى تغيب عنه كل المصائب، يقضمني محبة تفاح، ينتقم من الظروف المحيطة بجسدي، يحرثني كأرض بور، يحاول أن يسكب أوجاعه في رحمي، يمارس رغبته بقوة كما لم يفعلها من قبل، كأنه يريد أن يقتلني..”وفي مشهد آخر متناسب مع ما سبقه يتحول القضم إلى اعتصار لتخفيف الشجون والأحزان، ومثل هذا ماكانت سراب تصنعه مع ابن رشد عند سماع شجونه:”كانت زوجتي توشك على اعتصار جسدي بعد سماعها شجوني وأحاديث الأقبية المعتمة.
-سأنسيك نفسك في قفصنا الذهبي وطفلك سيسرقك من كل هذا العبث لتعيد بوصلتنا إلى درب الجنون “.
وفي مشاهد أخرى تتناسب مع هذا المشهد، يحل فيها الاغتصاب مكان القضم والاعتصار بدافع الانتقام وهذا ما ورد على لسان السجينات:”نقلوني بعد ذلك إلى فرع 322فكان في استقباله مدير إدارة السجون فقام بتعريتي ومارس معي الجنس بلا أي رحمة أو شفقة ثم نقلوني إلى قبو… وانا أبكي وأبكي.لم أقل سوى جملة واحدة حرام عليك، أنت مثل ابني، فازداد غيظا وشرع في معاشرتي…فجاءوا بي إلى هنا فاغتصبوني ليكسروا عيني “.
وينطفئ القضم والاعتصار ليعلو صوت البكاء وهو شكل من أشكال التعبير حيال القهر والآهات من عذابات السياسة، وهذا ما حدث لهاجر بعد أن أعادتهم الطائرة من روسيا إلى المدينة وقرب انتهاء الإقامة:” حينها شعرت أنني بحاجة لأسكب كل آهاتي وقهري، بكيت وبكيت، طفلي يبكي دون أن نعرف ماذا يتوجب علينا أن نفعله “.
وفي هذا الإطار يأتي الهروب من السياسة إلى الزواج وذلك للإفلات من ضغطها، يقول يزيد:”أتوقف عن مضغ السياسة وكتمها في سراديب قلبي.
-متى ستتزوج ؟”.
فالملحوظ أن هذه الانفلاتات إلى الجنس أو البكاء أو الزواج هي رفض ضمني للسياسة وسياقاتها الشاقة المختلفة.
*الملاجئ وأقبية التحقيق.
ومن ذلك ما ورد على لسان ابن رشد بعد إطلاق سراحه:”أحاول التملص من رحابة سجن غزة المركزي إلى سجن أكثر ضيقا اعدته رغم أنفي “. فالتناسب هنا بين سجن غزة الضيق “سجن غزة المركزي “وسجن أكثر ضيقا “قطاع غزة ” الجامع بينهما أنهما من صناعة الاحتلال، فالقيد في السجن والحصار للقطاع.
*الزواج رغم الاختلاف:
وقد تحقق ذلك في زواج يزيد من سراب وهذا الزواج لم يعارضه أحد من عائلة سراب ” -سنتزوج غدا، أنا وسراب، فهل توافقين على ذلك ياخاله ؟
باركت أمي الزواج وزلغطت.
نمت تائهة بين عالمين..الذاكرة والمستقبل ” يزيد أخفى عن سراب أنه رجل أمن وأنه المجرم هتلر. والهدف من هذا الزواج مقاومة المعارضين للنظام من خلال إسقاط سراب للعمل مع النظام، نهاية هتلر كانت الموت.
وفي زواج ابن رشد من هاجر على الرغم من معارضة بعض الأخوة لاختلاف اللون السياسي:”قررت إنهاء هذا التوتر بأن أخبرتهم رغبتي في الزواج من ابنتهم.نعم، تقدمت لخطبتها وعلامات الدهشة تملأ وجوههم “. والغاية من الزواج إعادة اللحمة والأواصر التي تقطعت بفعل الانقسام، يزيد يخفي مرضه وعمله المقاوم عن زوجته، نهايته الموت. وهذا الزواج كان يهدف إلى بناء غطاء اجتماعي عن طريق الزواج لشرعنة الانقسام وترسيخه.
ومن هذا زواج يونس من منال بتوافق يخفي خلافا ثقافيا وينتهي إلى الطلاق:”لم تمض عدة أشهر فقط حتى انطفأ البريق لم نعد هذين الزوجين الباحثين عن الحب، صار كل شيء فاترا…المكياج ذاب عن أول شجار وباتت الوجوه بشكلها القبيح “.
*التفاؤل والنجاة من الموت:
مقولة يونس الزوج الثاني لهاجر: “يونس يتطلع نحوي، يبتسم ويقول:كل شيء سيكون على ما يرام “.
ومقولة ابن رشد “حذيفة ” زوج هاجر الثاني ” قال لي حذيفة إنني سأنجو من الموت لأعيش وأحيا مغامرة مجنونة تحظى بحيوات متعددة، لن أغرق في البحر أو في البر وسأظل أحيا كل يوم وأبعث من جديد “
وهذا المقطع يتماهى مع ما ورد في رواية إبراهيم نصر الله:الجنرال لا ينسى كلابه:” لم أرهب، لم أتراجع،:الماء البارد، ليكن.التعليق لمدة سبعة أيام، ليكن، التهديد بالقتل والرصاص حولي تناثر، ليكن.كانت إرادتي هي التي تقاوم.الآن ماذا بقي مني فيّ أو مني ؟…-الحرية والوطن شيء واحد “.
تجلى هذا التناسب في المقاطع السردية السابقة في هاتين العلاقتين وهما:
- الاستشراف:سيكون على ما يرام. واظل أحيا كل يوم وأبعث من جديد.
- الحقيقة: الحرية والوطن شيء واحد.
__________ - د. محمد إسماعيل حسونة
- جامعة الأقصى- غزة