صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب المنطق الإسلامي: حضور المنطق الأرسطي لدى مفكري المشرق الإسلامي، وهو من تأليف محمد بن يعيش. يقع الكتاب في 272 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
أمام ما يعرِّفه مؤلفُ الكتاب بـ “حقيقتين تاريخيتين”؛ هما أوّلًا: كثرة من اشتغلوا بعلم المنطق في الحضارة العربية الإسلامية من أفذاذ العلماء، وانتشارهم في أصقاع البلاد الإسلامية، وتنوّع أديانهم، وأصناف تخصصاتهم العلمية ونتاجاتهم، تأليفًا وحواشيَ مسهبةً وترجماتٍ ومختصراتٍ وشروحًا وأرجوزات، وثانيًا: إقراره بما لقيه هؤلاء العلماء من مضايقات وتجريح واتهامات وملاحقات. يطرح الكتاب إشكاليةَ البحث، المتمثلةَ بالحيثيات التي رافقت استقبال المسلمين علمًا دخيلًا على العلوم الإسلامية كالمنطق وتعاملهم معه، ومراحل تردده بين الرفض والقبول في البيئة الجديدة، وأوجه الجِدّة لدى العلماء الذي ساهموا في تكريسه لغويًّا (الفارابي وابن سينا) ودينيًّا (الغزالي). وقد دفع “الحضور” الأرسطي لدى مناطقة الشرق الإسلامي الكاتبَ إلى تبيان مساهمة أرسطو – ضمن عناصرَ مساهِمة كثيرة – في تكريس خطاب إسلامي عقلاني جديد، وتشكيل المعالم الكبرى والجزئية لفلسفة هؤلاء المناطقة، التي تعبّر برأيه عن “تواصل” بين الفكرين اليوناني والإسلامي بدلًا مما يُحكى عن الانفصال والقطيعة والطلاق البائن، متجنِّبًا الانحياز إلى أحد طرفي الأزمة، المشنِّعين الذين يقذفون المنطق بشتى التهم، كإثارة الشبهات والباطل والرجم بالغيب من جهة، والقائلين بمادية فيلسوف اليونان وعقلانيته في مقابل لاعقلانية المسلمين وظلامية فكرهم، مع تشديده على تميز خطاب مفكري المشرق ضمن تاريخ الفلسفة المرافِق لهذا التواصل. وقد أتاح الجهد البحثي المبذول الانفتاحَ على أفق منطقي غير مدرسي اتبعته مجموعة من مفكري العالم الإسلامي، في محاولة لتكريس نظرة جديدة إلى التراثين اليوناني والإسلامي، متوسِّلًا لبلوغها كثرة الاستشهاد بنصوص المناطقة المشرقيين التي يُستدعى فيها أرسطو وسيلةً لإثبات حقيقة العلاقة بين الخطابين بطريقة علمية أمينة.
يعرض الكتاب في فصله الأول المسألة المنطقية الأرسطية في محاولة لكشف سر انتقالها إلى العالم الإسلامي، كما يستعرض ترجمة الفكر اليوناني إلى السريانية ثم إلى العربية، بأقلام النصارى بدايةً ثم بجهد المسلمين بعد ذلك، وما سببه حلول هذا العلم الدخيل من ردود أفعال رافقت انتشاره في العالم الإسلامي عبر مراكز الترجمة، كما يورد أسماء بعض أشهر المترجمين إلى العربية. ويتعرض الفصل لمسألة تقبُّل الفلاسفة وبعض الأصوليين العلم الجديد ورفضه من أغلب الفقهاء الأصوليين إلى درجة تحريم تداوله، وكيف كان قصْرُ عبد الوهاب السبكي التحريم على من ضعُفت معرفته بقواعد الشريعة سببًا في دمج العلماء من بعده المنطقَ بعلوم المسلمين عبر الترجمات في العصرين الأموي والعباسي، وبالأخص في عهد الخليفة المأمون، الذي أمر مترجميه بنقل العلوم اليونانية، ومنها كتب المنطق، إلى العربية، ولتشكِّل حصيلة أعمالهم القاعدةَ التي ارتكز عليها كل من الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد في تطوير علم المنطق اليوناني وتبيئته إسلاميًّا.
ويستعرض الفصل حياة كبار مناطقة المشرق الإسلامي، ويتناول مؤلفاتهم بتفصيل جعل من الكتاب شبيهًا بالمرجع، بادئًا بالفارابي، الذي ذكر له ستين عملًا ونيِّف في علوم شتى، معتبرًا أن الفارابي “استحق عن جدارة أن يُلقّب بـ “المعلم الثاني للمنطق” بعد المعلم الأول أرسطو”. ثم ينتقل إلى ابن سينا الذي انتقد التعامل مع المنطق بوصفه مجرد دراسة للنصوص الأرسطية، وكان معارضًا لاتجاه مدرسة بغداد، وظهرت له طريقة “سينوية” جديدة كتب على هديها سلسلة كبيرة من الشروح الفلسفية على كتابات أرسطو، الذي كان بالنسبة إليه “أعقل أهل اليونان، ومذهبه هو الحقيقة المطلقة”. أما الغزالي، الذي تعهد العمل على موازنة المنطق مع الآيات القرآنية، حتى وصفه المستشرق دانكن ماكدونالد بأنه جمع الفقه والكلام (أي المنطق) والسياسة في علمه، فيذكر الفصل تصديه الشديد للفرق الباطنية في زمانه، وخصوصًا فرقة الحشاشين الإسماعيلية، وموقفه الأقل حدة تجاه آراء المعتزلة في “الحرية العقلية”، متبنيًا مذهب الأشاعرة وإعطاء العقل حقه، ولذلك وضع مقدمة منطقية لمؤلف كتبه في علم الأصول ظهرت له فيها آراء عقلية محضة. وتناول الفصل بالذكر خمسة مؤلفات للغزالي ضمّنها أفكاره في المنطق والطبيعة والميتافيزيقا، وجعل المنطق مستمَدًّا من منهج القرآن ومقدمة لجميع العلوم.
ويستعرض الفصل الثاني آراء أرسطو في المقولات: “الحد” و”الجوهر” و”الكم” و”الإضافة” و”الكيف”، و”المكان/ الأين”، و”الزمان/ المتى”، و”الوضع”، و”الملْك”، و”الفعل”، و”الانفعال”، وآراء كل من أرسطو وابن سينا في “الألفاظ” و”المعاني” و”الحدود”، وانعكاسها لدى الغزالي، الذي عمل على تبيئتها إسلاميًّا وإضافة “أقسام الوجود وأحكامه” إليها، شارحًا قوانين الحد الخمسة كلًّا على حدة.
ويتعرض الفصل الثالث لشرح “القضية” عند أرسطو والفارابي وابن سينا والغزالي، فهي تُعتبر العنصر الأساسي في الاستدلال عند أرسطو، وقد قسمها إلى: قضية حملية وقضية ذات جهة، أما الفارابي فالقضية عنده ثلاثة أنواع: حملية وشرطية وذات جهة، وهي عنده تتقابل بين موجبة وسالبة بشروط بيَّنها، أما ابن سينا، فالقضية عنده بحسب نوع الكلام (جملة خبرية أو جملة إنشائية) خمسة أقسام: قضية حملية وقضية شرطية وقضية مطلقة وقضية ضرورية وقضية ممكنة، وقد عرّفها مستعينًا بأمثلة رمزية وأمثلة من اللغة العربية.
أما القضية عند الغزالي، فقد عرّفها بـ “المعاني المفردة، إذا رُكبت حصلت منها أقسام، حصيلتها الخبر، ويسمى قضية، ويتطرق إليه التصديق والتكذيب”، وقد بحث القضية في أحد كتبه في ستة أقسام: حملية وشرطية، موجبة وسالبة، شخصية ومهملة ومحصورة، ممكنة وممتنعة وواجبة، باعتبار نقيضها.
أما الفصل الرابع فيتضمن تصور مناطقة الشرق الإسلامي للنظرية القياسية الأرسطية، مستعرضًا بتوسُّع أشكال الأخيرة وضروبها، ثم تصور الفارابي لها وتقسيمه القياس إلى حملي وشرطي واقتراني حملي بسيط. يليه تصور الغزالي للقياس وتقسيمه إياه إلى حملي وشرطي منفصل وشرطي متصل وقياس الخلف، وأفرد بندًا مطوَّلًا لشرح القياس الشرطي بأنواعه المختلفة عند كل من أرسطو والفارابي وابن سينا والغزالي.
يُعتبر كتاب المنطق الإسلامي: حضور المنطق الأرسطي لدى مفكري المشرق الإسلامي إضافة نوعية ومهمة للمكتبة العربية عمومًا والفلسفية الشاملة خصوصًا، لما يحويه من غزارة المادة وحسن التبويب ودقة التحقيق.
- محمد بن يعيش: باحث مغربي في الفلسفة والمنطق. حائز الدكتوراه في الفلسفة، وحدة التكوين والبحث، من جامعة محمد الخامس (الرباط، المغرب). رئيس شعبة الفلسفة وعلوم التربية بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، في كل من طنجة وتطوان والحسيمة (المغرب). من مؤلفاته: مفاهيم أساسية في علم النفس الاجتماعي (2015)؛ التنشئة الاجتماعية (2019)؛ أوليات نمط التفكير الفلسفي (2020).