أتابع عن كثب حركة النشر والكتاب في مصر منذ سنوات بعيدة، وكنت أسأل نفسي دائما عن سر الجفوة بين الناس وكتب الفلسفة والتعاطي معها، والفيلسوف المصري الوحيد الذي اقترب من الناس كان الدكتور زكي نجيب محمود، بسبب مقالاته في الأهرام، لكنَّهُ كان اقترابًا نسبيًّا، مؤخّرًا صدر كتاب عن مكتبة ديوان يحمل بالعاميَّة المصريَّة اعادة تقديم الفلسفة والمفاهيم بالعاميَّة المصريَّة، من تأليف الباحث شهاب الخشاب، وهو باحث مصري مقيم في بريطانيا، الفهامة استخدم العاميَّة المصريَّة في تقديم رؤيته للفلسفة والمفاهيم السياسيَّة المرتبطة بها، وفي حقيقة الأمر حقَّق الكتاب مبيعات فاقت الروايات في الفترة الأخيرة، وهو ما يطرح تساؤلا حول هذا الكتاب وما يطرحه، فهو اخترق الحائط العازل بين الفلسفة والناس لأول مرَّة، المؤلِّف قدَّم رؤيته للكتاب ذاكرًا أنَّ المفاهيم عبارة عن منتجات فلسفيَّة مصنوعة للتفاعل مع إشكاليات العالم، ليس بمعنى أنّها تحل مشاكل الناس اليوميَّة فورا، وإنما إنها تفتح مجالًا للتفكير في الظروف التي سمحت بتواجد هذه المشاكل، وهذا المجال ابداعي في رأيه، وقائم على صنعه فلسفيَّة لازم يتقنها الفيلسوف بالممارسة، الفيلسوف هو الذي يستخلص الإشكاليات الفكريَّة ويصنع مفاهيم حتى يرد عليها، هذه الصنعة في رأي شهاب الخشاب تأخد مجهودًا ماديًّا بين التفكير والقراءة والكتابة،عكس التصور الشائع عن الفلاسفة بوصفهم ناس كلامنجيَّة تحفر في السحاب، في هذا العرض أنا أستخدم لغة المؤلف بقدر الامكان لكي أوصل للقارئ ما ينشده المؤلف، وهو هنايقدم ثورة جديدة في عالم الكتابة في مصر اذ أنَّ كتب العلوم الإنسانيَّة يجري تقديمها عادة باللغة العربيَّة الفصحى البسيطة لقارئ ممتد مجاله من المغرب للخليج، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لم يستطع الفلاسفة في مصر تقديم إجابات للناس عن المسائل الأساسيَّة في الحياة، وبالتالي ظلَّت كتبهم حبيسة الدرس الجامعي والنقاش الأكاديمي، من هنا تأتي أهميَّة هذه التجربة، لكن الأهم هو أن الاعلام المصري حبس العلماء داخل جدران الجامعة فهو ليس لديه القدرة على اثارة قضايا ومفاهيم تغير من البنيَّة القائمة في مصر، وبالتالي الحقيقة المرَّة أن مصر متراجعة في الدراسات الفلسفيَّة أيضا، فقد أوقفت الدولة المصريَّة الابتعاث في العلوم الانسانيَّة وحَّدت منه فترة من الفترات، فضلا أنَّ لدينا فجوة مع المدارس الفلسفيَّة المعاصرة، لذا على الساحة العربيَّة برز باحثون من المغرب وتونس والجزائر في حقول الدرسات الانسانيَّة في السنوات الأخيرة .
ما هو طرح هذا الكتاب؟
طرح هذا الكتاب جاء عبر عدَّة محاور منها الفرد والمجتمع، العرق واللون والجنس والجغرافيا والتاريخ وسياسة الدولة وسياسة الحكم و اقتصاد الانتاج و اقتصاد الاستهلاك واللغة والعلامات والأدب والنقد الأدبي والصورة والفن، هذه الموضوعات ما هي اذن علاقتها بالفلسفة على تنوعها، في حقيقة الأمر لا يوجد أي مجال معرفي إلا وله فلسفة تصيغ وجوده وتبعث فيه إجابات حول ماهيَّة وجوده، لذا فنحن هنا أمام كتاب عابر للتخصُّصات ليتناول معارف شتى من باب الفلسفة، هذا سر نجاح هذا الكتاب وانتشاره في أيدي الشباب في مصر .
إنَّ من المفاهيم الممتازة من حيث التناول في الكتاب مفهوم سيادة العين فهو يرى أنَّ الطرح الاعلامي الرسمي: هل رأيتم الانجازات ؟ الطرق والكباري والمساكن والجوامع الأكشاك والبنزينات؟ هل رأيتم الإنجازات التي تسد عين الشمس، التي تسد كل الشاشات؟ هذا الخطاب الاعلامي يسميه شهاب سيادة العين، ويطرح تساؤلا حول العلاقة بين حاسة البصر والحكم، والعلاقة واضحة في مفهوم سيادة العين، ومن هذا المفهوم ممكن نفهم الدولة فسيادة العين هي السائدة في تفكير الدولة في كيفيَّة تقديم نفسها للناس، ثم يلفت الانتباه إلى أنَّ الناس التي لم ترَ الإنجازات ن والذين توقفوا عن رؤية الإعلانات ويشاهدونها، لديها فجوة في مشاهدة الإنجازات، لفت شهاب النظر أنَّ الثقافة المنتشرة في مصر ثقافة سمعيَّة .
من المفاهيم التي قدمها الكتاب في رشاقة مفهوم تأثير الدولة وطرحه أولا عبر تساؤلات تجري على ألسنة الناس في مصر مثل: لماذ يهاج الناس الدولة ؟ هل تعرفون ماذا تعني مصر؟ ما الفرق بين الدولة وبين مصر؟ وغيرها من الأسئلة لينتهي إلي أن الدولة أكثر من مجموعة من المؤسسات مرتبطة ببعضها بشكل موضوعي، وأكثر من فكرة قوميَّة مجيدة عظيمة مثل مصر السبعتلاف سنة . هذه الدولة نتيجة ممارسات وصراعات سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة تحدِّد الفرق بينها وبين المجتمع بشكل متغيِّر مع الظروف التاريخيَّة المتغيِّرة، لذلك الناس التي تهاجم الدولة لا تهاجم دائما نفس الحاجة وإسقاط الدولة لا يبقى دائما نفس المعنى . كم سقطت دول في تاريخ مصر السبعتلاف سنة، وبقي المصريون أحياء، وكم انقرضت شعوب من أرض مصر والدولة التي قضت عليهم استمرت بعدهم، إذن الناس التي تهاجم الدولة لا تهاجم مصر، وإنما تهاجم تصورًا معينًا عن مصر .
من المفاهيم التي تناولها شهاب الخشاب بالشرح مفهوم باسم الشعب وطرحه عبر عدد من الأسئلة والفرضيات باعتبار أن مفهوم باسم الشعب هو مفهوم فرضي ووهمي أيضا، وبدأ طرحه لهذا المفهوم كما يلي: هل الإنجازات في صالح الشعب؟ هذا السؤال يطرح سؤالين: ما هي هذه الإنجازات باضبط؟ ومن يقدر أن يحددمصالح الشعب؟ ولا يجوز أن نطرح هذين السؤالين أساسا، لأنَّ الإنجازات واضحة وضوح الشمس، والشعب يريد أزهى عصور الديموقراطيَّة، وأكيد أنّ الإنجازات تتمّ لصالح الشعب بلا شك وبلا جدال، أما في العهود الغابرة مثلا، مثلا في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فنقدر أن نطرح السؤالين ، لأن بعضنا نسي إنجازات العصور السابقة ، ونسي إن مصر لم تكن ديموقراطيَّة كما هي.
يبدأ شهاب في تحليل مفهوم باسم الشعب من كتاب نداء الشعب للمؤرخ شريف يونس، ليخلص إلى أن إنجازات العصر الناصري لم تكن توزع على الشعب الحقيقي بشكلٍ متساوي ومتوازن، الفروق رهيبة بين إدارة المدن وإدارة الأرياف مثال واضح لعجز الدولة عن تحقيق عدالة اجتماعيَّة فعليَّة، بالإضافة للسياسات الفوقيَّة التي تسبَّبت بضرر مباشر للناس في حياتها اليوميَّة، سواء المتضررين كانوا سجناء سياسيين أو لم يأخذوا حقهم، لينتهي شريف يونس أن الضرر المباشر لا يمثّل إشكاليَّة كبرى بالنسبة للقيادة الثوريَّة إذا الناس العاديّين لم تنضم إلى الجموع في خدمة النظام، فهي ترى على إنها وقافه في طريق تحقيق ( اسم الشعب ) يعني التصور المثالي المستقبلي عن الشعب المؤدب المحترم المهندم الذي أراد الضباط الأحرار بناءه، لينتهي شهاب الخشاب إلى تساؤل هل الإنجازات في صالح الشعب، ممكن أن نقول بكل فخر في رأيه في صالح الشعب المصري العظيم، وإنما الشعب االذي سيستفيد من هذه الإنجازات مجرد اسم، ولسه الاسم دم مالوش وجود .
الكتاب يمضي على هذا المنوال في كل مواده وتحليلاته، لذا فعرضه هنا هو مجرد صورة مبسطة من كتاب ممتع إذا أمسكت به لن تستطيع تركه إلا بعد أن تنتهي منه، هو كتاب يسرقك ولا تدرك الوقت الذي ستقضيه في قرائته إلا بعد أن تنتهي منه .