الجابري ناقدًا للعقل العربيّ

image_pdf

ينتمي المشروع الفكريّ لمحمد عابد الجابري للحركة الفكريَّة العربيَّة المعاصرة التي تهدف إلى مراجعة الكثير من القضايا والمسلّمات في مجال الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة. حيث سعى الجابري عبر مشروعه إلى تطوير النظرة الى التراث الثقافيّ العربيّ الإسلاميّ، بما يتماشى مع روح الحداثة، إيمانًا منه أن تراثنا الفكريّ الاجتهاديّ قابل للتحديث والتجديد.

وينطلق الجابري في مشروعه من إفتراض أنه من المستحيل تحقيق نهضة عربيَّة إسلاميَّة معاصرة من دون الاستناد إلى تراثنا العربيّ الإسلاميّ، مع التأكيد على أن قراءتنا له يجب أن تتمّ بأدوات جديدة، وبعقليَّة معاصرة، تنطلق من تصوّرات بنيويَّة داخليَّة، واستقراء لحيثيَّات الموروث، من أجل تشييد ثقافة عربيَّة أصيلة مستقبليَّة، تكون أرضيَّة ممهّدة لانطلاقنا.

ويلخِّص الجابري دوافع مشروعه بقوله: «إنَّ التحرُّر من التراث معناه امتلاكه، ومن ثمَّ تحقيقه وتجاوزه، وهذا ما لا يتأتَّى لنا إلا إذا قمنا بإعادة بنائه بإعادة ترتيب العلاقة بين أجزائه من جهة، وبينه وبيننا من جهة أخرى، بالشكل الذي يرد إليه في وعينا تاريخيّته ويبرِّر نسبيَّة مفاهيمه ومقولاته».

منهجيَّة الجابري:

اتَّبع الجابري في نقده للتراث العربيّ الإسلاميّ، المنهجيَّة البنيويَّة التكوينيَّة، والتي تعتمد على خطوات ثلاث: أوَّلًا، المعالجة البنيويَّة الداخليَّة التي ترتكز على استقراء دلالات الألفاظ والمفاهيم، واستكشاف المعاني والمعطيات الدلاليَّة، وتحديد القضايا والإشكاليَّات. وثانيا، المعالجة التاريخيَّة، التي تعنى بتبيان الأبعاد التاريخيَّة والسياسيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والثقافيَّة، التي أفرزت هذه الإشكاليّات الفكريَّة والفلسفيَّة المطروحة من قبل صاحب النصّ. وثالثًا، الوظيفة الإيديولوجيَّة التي يتضمّنها النصّ.

تكوين العقل العربيّ:

على مدى رُبع قرن، عمل الجابري على تفكيك تركيبة العقل العربيّ، ومساءلة مرجعيّاته، وخلخلة يقينيّاته ومسلّماته، وذلك في رباعيته «نقد العقل العربيّ» التي صدرت في أربعة أجزاء: «تكوين العقل العربيّ» (1984)، و«بنية العقل العربيّ» (1986)، و«العقل السياسيّ العربيّ» (1990)، و«العقل الأخلاقيّ العربيّ» (2001).

يرى الجابريّ أنَّ العقل العربيّ تكوّن ووضعت أسسه الأولى والنهائيَّة والمستمرَّة خلال عصر التدوين (أواخر العصر الأمويّ). هذا العصر الذي جمعت فيه الأحاديث وتفاسير القرآن، وشهد بداية كتابة التاريخ الإسلاميّ، ووضع أسس علم النحو وقواعد الفقه، وتشكَّلت فيه الفرق والمذاهب الإسلاميَّة. وهو نقطة البداية لتكوين النظام المعرفيّ في الثقافة العربيَّة.

وبحسب الجابري، في هذا العصر اكتمل تكوين العقل العربيّ ولم يتغيَّر منذ ذلك الوقت، وما زال سائدا في ثقافتنا حتى اليوم، وهو الإطار المرجعيّ للعقل العربيّ، وعلى هذا فإن بنية الثقافة العربيَّة ذات زمن واحد، زمن راكد، يعيشه الإنسان العربيّ اليوم مثل ما عاشه أجداده في القرون الماضية.

بُنية العقل العربيّ:

انطلاقًا من المفهوم الكانطيّ للنقد، باعتباره تحديدًا وتمييزًا للظواهر والموضوعات، تتبَّع الجابري الخطوط والاتِّجاهات العامَّة للمعارف التي يتشكَّل منها “العقل العربيّ”، وخلص إلى تقسيم ثلاثي لها: “البيان”، و”العرفان”، و”البرهان”.

وتشمل علوم البيان: النحو، والفقه، وعلم الكلام، والبلاغة. وبحسب الجابري فإن هذه العلوم تشكَّلت دفعة واحدة في عصر التدوين، بهدف الحفاظ على قراءة النصّ القرآنيّ، على أساس سماعيّ، قياسيّ، نظريّ.

ويعتقد الجابري أن الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة هي حضارة فقه في الأساس. وهذا ما جعله يعود إلى دراسة أصول الفقه، والتي خلص منها إلى أنَّ الفقه منذ زمن الشافعي ساد على العقل، خلافًا لما كان الحال عليه مع أبي حنيفة، ومع أهل الرأي عامَّة، حين كان المشرِّع هو العقل. فأصبح العقل العربيّ عقلًا نصوصيًّا، لا هو مرتبط بالواقع وقضاياه، ولا هو مرتبط بالطبيعة والتاريخ.

أمَّا علوم العرفان فتضمّ: التصوّف، والتفسير الباطنيّ، والفلسفة الإشراقيَّة، والسحر والتنجيم. وقد كان هذا هو العقل الذي تحمله الاتِّجاهات والفلسفات الهرمسيَّة والغنوصيَّة، السابقة على الإسلام، وهو أوَّل ما انتقل إلى الثقافة الإسلاميَّة مع الترجمة منذ القرن الهجري الأوَّل.

في حين تضمّ علوم البرهان: المنطق والرياضيات، وعلوم الطبيعة. ورأى الجابري أن بدايتها الأولى كانت عند أول فيلسوف عربي الكندي، ثم الفارابي، وأنها بلغت مرحلة الازدهار  في المغرب الإسلاميّ مع ابن رشد وابن باجة في الفلسفة، وابن حزم والشاطبي في الفقه، وابن خلدون في التاريخ. في الوقت الذي سيطر فيه العرفان والبيان في المشرق، مع الغزالي وابن تيمية. ولكن هذا الازدهار للبرهان في المغرب لم يلبث أن انطفأ شعاعه، وأخذت تسود المصالحة بين البيان والعرفان طوال عصور الانحطاط اللاعقلانيَّة التالية مع سيادة الصوفيّة الطُرُقية.

العقل المستقيل:

العقل المستقيل عند الجابري هو ذلك العقل الفلسفيّ القديم الذي مثَّلته الهرمسيَّة، والمانويَّة، وغيرها من الفلسفات التي قالت بعجز العقل البشريّ عن تحصيل أية معرفة عن الله من خلال تدبُّر الكون، وما ينبني على ذلك من اعتبار أن معرفة الإنسان لـ(الكون) يجب أن تمرّ عبر اتِّصاله المباشر بالحقيقة العليا (الله)، وهو ما يجعل ذلك العلم ذاتيًّا وليس موضوعيًّا.

ويذهب الجابري إلى أن حضور الموروث القديم (العقل المستقيل) في الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة بدأ حضورًا (عامياً) وليس (علميًّا)، وذلك قبل عصر التدوين الذي بدأ هذا الحضور فيه يأخذ طابعه العلميّ المنهجيّ، ويظهر هذا التعاطي العامِّي مع الموروث الفلسفيّ القديم مع المفسِّرين الأوائل الذين ضمَّنوا كتبهم كثيرًا من الشروح التفصيليَّة عن كيفية بدء الخلق وكيفيَّة بعثه ونشوره ممَّا يظهر فيه البعد التام عن كل ما هو عقلانيّ ومنطقيّ.

ويعتبر الجابري أن “العقل المستقيل” هو الرافد والأساس الذي تطوَّر عنه “العرفان”، والذي زاحم “البرهان”، إلى أن ساد، منحيًا المنطق والبرهان، وملغيًا إمكانيَّة التأسيس للعلوم والمعارف الموضوعيَّة، وهو ما أدى إلى سيادة اللاعقلانيَّة والدخول في عصور الانحطاط.

نقد النقد:

لم يكن مخالفو الجابري وناقدوه من الفقهاء، والمحافظين، ومناصري الاتِّجاهات الماضويَّة فحسب، بل كانوا أيضًا من أولئك الذين يتقاسمون معه حقل الاشتغال، ففي كتابه “تقويم المنهج في نقد التراث”، اتّهمه طه عبد الرحمن بـ “فساد التصور”، ونقد تقسيمه الثلاثيّ للمعارف، مقدّمًا الأمثلة على نماذج جمعت أكثر من نوع، كالشاطبي الذي جمع بين البيان (فقيه) والعرفان (متصوف)، بحسب طه. وأدونيس الذي رأى أنَّهُ لم يأتِ بجديد، إنّما قام بالتصنيف الأكاديميّ لما قاله السابقون. بينما رأى الطيب تيزيني في كتابه “من الاستشراق الغربيّ إلى الاستغراب المغربيّ” أنَّهُ “يملك وعيًا مراوغًا غير وطنيّ” واتَّهمه بتبني الفكر الاستشراقيّ الغربيّ.

أمَّا أهمّ الناقدين فهو جورج طرابيشي، والذي خصَّص مشروعًا كاملًا في نقد الجابري، بعنوان: “نقد نقد العقل العربيّ”. وفي حين اعتبر الجابري أن استقالة العقل العربيّ الإسلاميّ جاءت نتيجة لغزو خارجي بفعل تسرّب عدَّة موروثات ما قبل قرآنيَّة، للحضارات التي امتدَّ لها الإسلام جغرافيًّا، مثل الفلسفات الإشراقيَّة والتصوّف والغنوصيَّة. رأى طرابيشي أن الأمر متعلِّق بآليَّات داخليَّة سمّاها بـ”انكماش العقل العربيّ على ذاته”، في مؤلّفه “المعجزة أو سبات العقل في الإسلام”، رابطًا بين “استقالة العقل” والانقلاب “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”. موضحًا أنَّهُ يحمل هذا العقل مسؤوليَّة النهوض من جديد.

ويضاف إلى الناقدين محمد عمارة في كتابه “ردّ على افتراءات الجابري”، والذي خصَّصه لنقد “مدخل إلى القرآن الكريم” آخر ما ختم به صاحب “نقد العقل العربيّ” مساره الفكريّ، ورأى عمارة في كتابه أن الجابري لم يقع في الأخطاء فحسب، بل وقع أيضًا في الخطايا. وكان الجابري يتفادى في معظم الحالات الردّ على منتقديه من المفكِّرين، ويعتبرهم أصحاب مشروعات فكريَّة مماثلة لمشروعه، وليس من الضروريّ الدخول معهم في سجالات.

***

أسئلة كثيرة طرحها الجابري في مؤلّفاته ستظلّ حاضرة باستمرار في النقاش الفكريّ، لا سيّما في الأذهان التي لا ترتاح للمعرفة الوثوقيَّة، وتفضّل الشكّ على اليقين.

وتبقى قراءة الجابري للتاريخ العربيّ الإسلاميّ ونقده له ودفاعه عنه في نفس الوقت مفيدة في التعاطي مع مسألة غاية في الأهمية والتأثير على نظرتنا لنفسنا والعالم. خاصة لدى الأجيال الشابة في المنطقة التي يتراوح موقفها من التاريخ بين التمجيد الأعمى او القطيعة المازوشية.

جديدنا