تجربة في عوالم النقد: درس الفلسفة والحلقة المفقودة

image_pdf

لم يعد التعليم اليوم يراهن على بناء المعرفة لدى المتعلِّم أكثر ممَّا يراهن على بناء القيم، فقد ولَّى زمن المعرفة مع الانفجار المعلوماتيّ حيث الكلّ يستطيع الوصول إلى جميع أشكال المعرفة بكبسة زِرّ. فأصبحنا في حاجة إلى تلك الإجابة القديمة لسؤال قديم: “ما الأنوار؟” أتذكَّر جيِّدًا تلك الإجابة التي يقدِّمها كانط في مقالته المشهورة، إذ يقول: “إنَّها خروج الإنسان عن قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه؛ قصوره يعني عجزه عن استعمال عقله”، إنَّها إجابة تدفعنا إلى البحث في الرهانات الجديدة المنتظرة من التعليم.

ذات مرَّة، في فصلِنا الدراسيّ، وبينما كان أحد المتعلِّمين “المشاغبين فكريًّا”، يقدِّم عرضًا حول العنف ويسافر بنا في عالم الأحداث التاريخيَّة، سأله أحد زملائه قائلًا: “لماذا لم تقدِّم لنا نظرة تاريخيَّة حول فلسفة العنف؟”، أجابه بكل ثقة: “إنَّنا لم نعد نبحث عن المعرفة، ولكن نبحث عن المواجهة”. لم يُسكِت زميله فقط، بل أسكتني كذلك، ودفعني للتفكير: هل نحن اليوم في حاجة إلى المعطيات التاريخيَّة والمعارف… أم أنَّنا في حاجة إلى المواجهة والنقد؟ ألسنا في حاجة إلى استعمال عقولنا؟ ألم يحن وقت مسح الطاولة من جديد (كما فعل ديكارت)؟ أو إن صحَّ التعبير قلب الطاولة (كما قلبها فلاسفة العقد الاجتماعيّ)؟ ألسنا في حاجة إلى تعاقد بيداغوجي جديد؟

رهانات منهاج الفلسفة:

إنَّ منهاج الفلسفة (في التعليم المغربيّ) يسعى – بعبارة صريحة – إلى إتاحة فرصة تجربة الرشد الفكريّ والنضج الوجدانيّ لمتعلِّم(ة) الفلسفة. ويعني هذا أنَّ هذا المنهاج يضع أمام المتعلِّم(ة) إمكانيَّة تعلُّم وممارسة التفكير المستقلّ عبر السؤال والمسألة والتحليل والنقد قبل القبول والإقرار، وتعلُّم وممارسة اتِّخاذ القرار بحريَّة واختيار، وتعلُّم التحرُّر من السذاجة الفكريَّة والعاطفيَّة ومن الأحكام المسبقة، والانعتاق من حجَّة السلطة، ومن سلبيَّة التلقِّي التي تضعه فيها وسائل الإعلام وخاصَّة منها البصريَّة المعتمدة على الصورة. ويعني ذلك أيضًا تعلُّم الشجاعة في استخدام العقل وفي التعبير عن الرأي المدعوم بحجج، والابتعاد عن الذاتيَّة المنغلقة الإقصائيَّة إلى التبادل والانفتاح القائم على الحوار. لكن كيف يمكن للفلسفة أن تضطلع بدور رياديّ في بناء مواطن عالميّ؟ كيف نكرِّس قبول الآخر في تدريس الفلسفة؟

أمام هذه الرهانات الكبرى المنتظرة من مادَّة الفلسفة في سياق عالميّ متحوِّل، يقدِّم برنامج الفلسفة العديد من الموضوعات التي من شأنها أن تدفع المتعلِّم إلى الانفتاح الفكريّ وإتاحته الفرصة للتفكير في قضايا معاصرة تهمّ حياته اليوميَّة والقضايا الإنسانيَّة بصفة عامَّة، ذلك بغض النظر عن ثقافته ومعتقداته، فمنذ البداية يقف المتعلِّم عند تاريخ الفكر الفلسفيّ وآليات اشتغاله، أوَّلًا، قصد تصحيح التمثُّلات السلبيَّة حول المادَّة، والتي تشكِّلُ بطبيعة الحال أكبر عائق يحول دون حصول تجربة النقد ودون المرور إلى مرحلة الانعتاق من الأحكام المسبَقَة.

يأتي التلميذ في بداية دراسته للفلسفة بأفكارٍ تُعَدُّ قنبلة يمكن أن تنفجر في أيَّةِ لحظة، وهذا أوَّل امتحان يخضع له أستاذ الفلسفة هو تفكيك خيوط هذه القنبلة، وتصحيح كل فكرة على حدة، وأوَّلها فكرة أنَّ الفلسفة إلحاد، ثمَّ أنَّ الفلسفة ثرثرة، وتؤدِّي إلى الجنون.

“ليس وعي الأفراد هو الذي يحدِّد وجودهم الاجتماعيّ، لكن وجودهم الاجتماعيّ هو الذي يحدِّد وعيهم” هذا ما قاله كارل ماركس ذات يوم، يبيِّن هذا القول في نظرنا كيف هو الوضع الحالي للمتعلِّم، فليس هو من يرفض الفكر النقديّ، ولكن مجتمعه هو من يؤسِّس لهذا الرفض. وبذلك تزداد المشكلة أكثر من المتوقَّع، فبناء القيم ليس كبناء المعرفة؛ بمعنى أمر مرتبط بالمتعلِّم فقط، ولكن المسألة أعقد بكثير من ذلك، من السهل بمكان قياس مستوى التعلُّمات لدى المتعلِّم، لكن من الصعب بمكان قياس مستوى القيم، ومن الصعب كذلك تغيير القيم، فليست المدرسة هي المتدخِّل الوحيد في سيرورة التنشئة الاجتماعيَّة للمتعلِّم، وإنَّما هناك جهات متعدِّدة تتدخَّل في ذلك (الإعلام، الأسرة، المؤسَّسات الدينيَّة…).  

وفي رأينا لا يمكن لأهداف برامج مادَّة الفلسفة أن تتحقَّق إلا بالدخول في العلاقة مع الغير وبالتحاور معه ومناقشته، لذلك تشكِّل المناقشة الشفويَّة صلب وجوهر كل هذه الأهداف التي أشارت إليها التوجيهات التربويَّة للمادَّة، لكن بشرط أن تكون لهذه المناقشة سمات خاصَّة تميِّزها وتجعلها تؤدِّي هذا الدور الرياديّ.

التدريس بالمناظرة: سفر في عوالم النقد

سألت الطلبة ذات يوم: “هل تقبل بالحوار مع شخص يختلف عنك دينيًّا وثقافيًّا؟” كانت الإجابات موزَّعة على النحو الآتي:

  • 24,67 في المائة تقول أقبل الحوار معه.
  • 46,76 في المائة تقول قد أقبل الحوار معه.
  • 28,57 في المائة تقول لن أقبل أبدا أن أتحاور معه.
  • كون المناظرة طريملاحظة وحيدة يمكن أن تقال حول هذه الأرقام هي: ألا يجب أن يكون الجواب على الأقل: 99 في المائة تقبل الحوار مع الآخر؟ سألتهم مرَّة أخرى: لماذا نعتبر الآخر ذئبًا؟ لماذا نعتبره جحيمًا؟ ألسنا من نوع واحد؟ توقَّف الكلّ عن الجواب، ولم أسمع كلمة واحدة من أيِّ واحد.
  • تساءلتُ مرَّة أخرى: كيف نواجه هذا الفكر المطلق، ولو داخل الفصل؟ وجدت إجابة في تاريخ الفلسفة وبالأخصّ في لحظة ازدهار علم الكلام، لحظة الفلسفة الإسلاميَّة، كان الجواب هو المناظرة. ما المقصود بهذه الأخيرة؟ وكيف يمكنها أن تخرجنا من هذا الفكر المطلق في درس الفلسفة؟ كيف يمكن للطالب أن يعيش تجربة في عوالم النقد؟
  • تأتي المناظرة في هذا السياق باعتبارها نمطًا من أنماط المناقشة، لكن تحكمها ضوابط وقواعد ديمقراطيّة تتيح لكل طرف الحقّ في الحديث وتقديم الأطروحة والاعتراض والاستدلال… وذلك في مدَّة زمنيَّة متساوية بين الطرفين.
  • تتجلى أهمِّيَّة المناظرة إذن، في مجال تدريس الفلسفة، كما أشار ميشيل توزي (أحد الباحثين الفرنسيِّين في ديداكتيك الفلسفة) إلى ذلك في:
  • نحو الديمقراطيَّة.
  • المناظرة وسيلة رئيسة لتعلُّم تاريخ الفكر الإنسانيّ.
  • تعتبر منطلقًا أساسيًّا لاكتساب الأخلاق، خاصَّة تلك المتعلِّقة بالحوار.

وما دامت الفلسفة هي قول ما يتمُّ التفكير فيه، والتفكير في ما يتمّ قوله، فإن تقنية المناظرة تشكِّل الوسيلة الناجعة في نظرنا لكي نقول ما نفكِّر فيه، ولكي نفكِّر في ما نقوله قبل أن يفكِّر فيه الآخر. وما دمنا نعتبر درس الفلسفة، كما اعتبره ميشيل طوزي من قبل هو تعليم لـ: الأشكلة والمفهمة، والمحاجّة؛ فإن المناظرة بدورها لا تخرج عن هذه الثلاثيَّة، وتسهر على قدرة المتحاورين على أشكلة الموضوع، ثم مفهمته وأخيرًا المحاججة.

ليس هناك نموذج واحد من تقنيات المناظرة، وإنَّما هناك عدد كبير من هذه التقنيات، وأشهرها نموذج البرلمان البريطانيّ ونمط كارل بوبر، تختلف من حيث عدد المتناظرين (فردًا واحدًا، فردين، ثلاثة أفراد…)، ومن حيث المدَّة الزمنيَّة المخصَّصة لكلِّ فرد (5 دقائق، 7 دقائق…)، وتختلف كذلك على مستوى سيرورة المداخلات، إنَّ المناظرة، إذن؛ هي سفر في عوالم النقد وتجربة فكريَّة يعيش فيها المتعلِّم بين الطرح والطرح المُضادّ، تنوّره وتفتح أمامه أفق التفكير النقديّ. إنَّنا نسلِّم في الأخير، أنَّ المناظرة هي الحلقة المفقودة في درس الفلسفة.

جديدنا