التنوير في العراق المعاصر عبر الموسيقى والفنون

image_pdf

عن الجمالي و”معهد الفنون الجميلة” ومحنة الفكر التنويري*

اعتماداً على منهج إغناء المعرفة عبر تراكم التجارب، أسست الحكومة العراقية (وزارة المعارف آنذاك)، وتحديداً في أوائل شهر كانون الثاني من عام 1936، معهداً فنياً هو “معهد الموسيقى”، الذي يرجع الفضل فيه للراحل حنا بطرس، إذ قدّم كل ما يملك من موهبة موسيقية وجهد ونشاط في تهيئة مكان ومستلزمات هذا المعهد، الذي عمل على إظهار فكرة تأسيسه إلى النور، كل من الأستاذين التربويين: الدكتور متي عقراوي، والدكتور فاضل الجمالي الذي كان مديرا للمعارف وصار لاحقا أبا للدبلوماسية العراقية المعاصرة، وحامل رسالة بلاده إلى العالم كونه أحد الموقّعين البارزين على إعلان تأسيس منظمة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية.

محمد فاضل الجمالي ممثلاً للعراق في التوقيع على وثائق تأسيس الأمم المتحدة 1945

جهد الفصيل الرائد الذي مثّله حنا بطرس، متي عقراوي وفاضل الجمالي توّج في العام ذاته، بدعوة وجّهتها الحكومة العراقية،إلى الموسيقار الشريف محيي الدين حيدر، الذي اعتمد على ما أنجزه الثلاثي العراقي، من خطوات تأسيسية لصرح فني وتربوي هو الأول من نوعه في المنطقة.

 وتشكلت الهيئة التدريسية الأولى لـ”معهد الموسيقى” من الاساتذة:

*الشريف محيي الدين حيدر مديراً للمعهد ومدرساً لآلة العود والفيولونسيل (الجلو).

* حنا بطرس معاوناً للمدير ومدرّساً للآلات الهوائية.

*ماركو ثيجي وجوليان هرتز (رومانيا) لآلة البيانو.

*نوبار ملخصيان (أرمني من تركيا) لتدريس آلة القانون.

*انيس جميل سعيد (فرنسي من أصل تركي) للكمان الغربي.

*ساندو ألبو (من رومانيا) للكمان.

*عبدو الطّبّاع لتدريس آلة الناي.

*علي الدرويش لتدريس آلة الناي وغناء الموشحات الآندلسية، والذي كوّن فرقة عملت في الإذاعة العراقية وكان من أشهر تلاميذه ومساعديه، الأستاذ الراحل روحي الخماش، الذي ظل أميناً على هذا النهج الموسيقي والتربوي، أكان في إحيائه “فرقة الإنشاد العراقية”، أم في تدريسه الموشحات، شكلاً غنائياً وفناً موسيقياً خالصاً في معهد الفنون الجميلة لسنوات طوال.

ضد القيم السائدة

ولنلاحظ هنا الجدية في دراسة الفنون، وأين؟ في بلاد كانت قيمها الاجتماعية والثقافية السائدة، تنظر بريبة إلى الثقافة الجديدة، فكيف بها وهي فنون جميلة، يدرسها طلبة يتطلعون بشوق إلى العصر ومواكبة أفكاره، ثم ومتى؟ في لحظة كانت فيها القيم العشائرية والدينية تخنق أي تطلع للخروج من خيمة وصاياها وسلطتها الثقيلة، بل إن تلك القيم كانت تقف بقوة ضد التعليم وحتى الأساسي منه، فكيف بدراسة الموسيقى والرسم والنحت!

ويكفي كمؤشر على حصاد تلك البدايات الجدية، أن نعرف الأسماء الرفيعة التي قدمها المعهد، لفنون العراق الجميلة، والموسيقى في مقدمتها وتحديدا لآلة العود: جميل بشير، سركيس آروش، سلمان شكر، منير بشير، غانم حداد، نازك الملائكة (الشاعرة الرائدة والناقدة لاحقا)، خليل إبراهيم، و فوزي ياسين.

وفي الفروع الموسيقية الآخرى تخرّج، آرام بابوخيان، آرام تاجريان، سيلفا بوغوصيان، بياتريس أوهانيسيان، حمدي محمد صالح، منير نوري الله ويردي وغيرهم.

تأصيل الحداثة؟

يمثّل الراحل فاضل الجمالي امتداداً طبيعياً لجيل النهضويين العرب الذي انشغل بما أصفه دائما “تأصيل الحداثة”، أي جعل قيم الحداثة الغربية وأساليبها بملامح محلية، وهي لعمري مهمة جبارة شائكة عسيرة، أقلها في الصدام المحتم والمفتوح مع قوتين تقليديتين عاتيتين في المجتمعات العربية، يمثلهما رجال الدين وشيوخ القبائل، ممن كانوا رأس الحربة في مناهضة الحداثة ومحاربتها بلا هوادة، وربطها مرة بالكفر (رجال الدين) وأخرى بالإنحلال الأخلاقي (شيوخ القبائل)، دون أن ننسى أصولية سياسية بدأت من شخصيات حكومية كانت تجد نفوذها مهددا من قبل مناهج المعرفة والإدارة الحديثة، لتنتقل إلى الأحزاب وأفكارها وأهدافها، لا سيما تلك التي تلتزم التنظيم الحديدي والسري حتى وإن كانت تبدو “ثورية” ومناهضة للرجعيات الحاكمة، ووصم الحداثة بما كان مخيفاً قبل ستين عاما: “العمالة للاستعمار  وتنفيذ مخططات الإمبريالية”.

من هنا، أي عبر فكرة “تأصيل الحداثة”، يمكن التوقف عند شرح عميق، تولاه الشريف محي الدين حيدر وصاغه الجمالي انطلاقا من نهجه التربوي، لمهمة “معهد الفنون الجميلة”، وكيف ان تربية النشء الجديد هي الضامن لأجيال متعلمة تحقق حداثة اجتماعية لاحقا.

وفي ذلك الشرح الذي جاء توضيحا لأسئلة من الحكومة عن مسار عمل مؤسسة التهذيب الفني الرائدة تلك، نقرأ:

في باب الموسيقى الوطنية وكيفية تنشيطها؟

إن تنشيط وترقية الموسيقى الوطنية يتوقف على بذل الجهود والزمن، فهو لا يتم بمدة قصيرة، وإذا كان يقصد بالموسيقى الوطنية (الموسيقى الشرقية)، فمن الضروري جلب أساتذة أخصائيين لمختلف الآلات الموسيقية الشرقية ليقوموا بتدريسها وبعد مرور المدة الكافية على تدريسها فحين ذاك يمكن أن ينتظر الحصول على الفائدة المتوخاة.

 أما الموسيقيون الأميون الموجودون في الوقت الحاضر فلا ينتظر أن يظهر منهم في المستقبل أكثر مما ظهر منهم لحد الآن، وإذا جُلب الأساتذة الأخصائيون وقاموا بتدريس النشء الجديد فهذه الموسيقى، ستبقى محلية لا يمكن ظهورها بين الأمم الراقية لأن الموسيقى الوطنية لا تزال في دور الطفولة، إذ أن أسس الموسيقى ثلاثة وهي:  Rhythm،Melody ،Harmony فالرذم والميلودي موجودان أما الهارموني والشكل الموسيقي المهم فلا وجود لهما، زد على ذلك الآلات من الناحية الفنية فيها نواقص ولا تفي بالمرام.

فأرى (القول هنا للشريف حيدر)(1) أن الطريقة الوحيدة التي توصلنا إلى الحد المطلوب وفي تنشيط وترقية الموسيقى الوطنية، ان تُدرس الموسيقى العالمية بنظرياتها الكاملة وآلاتها حسب الأصول الفنية المتبعة في العالم الراقي، ولا يجب الاعتقاد أنه بتدريس الموسيقى العالمية سوف نهمل الموسيقى الوطنية بل بالعكس فهي باقية وراسخة في روحية الأمة، ولأن النشء الذي سيدرس هذه الموسيقى العالمية سوف يبني بناء عظيماً للموسيقى الوطنية، وهنا أعرض أمثلة:  فلو اكتفي بالموسيقى القومية فقط لما ظهر كريغ في النرويج ولا سيبلوس في فنلندا ولا ريمسكي كورساكوف  و بورودين في روسيا ولا شوبان في بولونيا وغيرهم، فعلى هذا الأساس ينتظر ظهور بعض البارزين في الموسيقى القومية (الوطنية) في المستقبل بعد دراستهم الموسيقى العالمية.

وردا على سؤال يتعلق بـ”دور النشيد في المدرسة وكيفية إحيائه” عبر لجنة تربوية – موسيقية متخصصة؟ وهو ما ظل جانبا موسيقيا مهما بين أجيال عراقية على مدى عقود، نقرأ الشرح التالي:

1 انتخاب الأناشيد الملحنة تلحيناً متقناً ولا يجوز تبديلها.

2 تشكيل لجنة لأجل تدقيق وانتخاب الأناشيد الجيدة.

3 لا يجوز للمعلم تعليم غير الأناشيد التي تقررها اللجنة المنوه عنها.

4 ولتعميم الأناشيد المقررة في المدارس، يُلزم حينذاك انتخاب المعلمين القديرين لتعليم الأناشيد حسب النوتة الموجودة لديهم.

لنلاحظ هنا، بل لنتوقف ان معلمي النشيد كانوا من المعرفة الموسيقية حد ان عليهم تعليم الانغام وتحفظيها للتلاميذ بحسب “النوتة”.

الإذاعة و كيفية رفع مستوى الموسيقى فيها؟

مبكرا تم التنبه الى ان ما تبثه وسائل الإعلام سينعكس في الذائقة الاجتماعية مثلما هو متأثر بها أيضا، وشرح حيدر الجمالي يكشف انه من الضروري:

  1. تشكيل الموسيقى التي يفهمها عامة الشعب ويرتاح لسماعها وهذه ما نسميها الموسيقى المحلية، ولأجل تشكيلها يُنتخب من أحسن الموسيقيين والمغنين والمغنيات الذين هم بالدرجة الأولى وتخصص لهم الأوقات المناسبة في المناهج الأسبوعية ما تتطلب الحاجة، ولا يجوز إعطاء المجال لأعضاء الجوق الموسيقي بالعزف منفرداً لمدة طويلة، كالتقاسيم المطولة المملة، أما إذا كانت حاجة للعزف الانفرادي فلا بأس بذلك على أن لا تتجاوز الوقت بضع دقائق، ولهذا الفرع من الموسيقى علاقة برغبة واستحسان الشعب بصورة عامة.
  2. ولكن من الضروري تخصيص أوقات خاصة في منهاج الإذاعة للموسيقى العالمية المشهورة بين الأمم ليتمتع بسماعها الطبقة الراقية ولتحسين تربية شبابنا، ولا يجب الالتفات إلى كلام الناس الذين لا يفهمون هذه الموسيقى لأن الغاية من إذاعتها غاية تربوية، ومن الجهة الأخرى عندما يسمع هذا النوع من الموسيقى داخل الوطن وخارجه يكون بمثابة دعاية حسنة للعراق.
  3. إذا وجدت ضرورة لتنويع الموسيقى الشرقية في الإذاعة عند وجود ميزانية كافية لهذا الغرض فيمكن جلب جوقة من الآلاتية القديرين لمدة محدودة كفصل الشتاء مثلاً من الأقطار الشرقية كإسطنبول وغيرها، وأرى بأن يكتفى بجعل الإذاعة أربع مرات في الأسبوع فقط.
  4. إذاعة النشيد: الأوفق أن يحدد وقت قصير لإذاعة النشيد من قبل طلاب المدارس.
  5. الإسطوانات: تقتنى مجموعة من أسطوانات الموسيقى لكبار المؤلفين والموسيقيين البارزين.

المفارقات القاتلة!

لأنه كان يستند إلى ذخيرة من الثقافة المحلية ذات الجذور الدينية من جهة، وإلى مسار قائم على الإيمان بالحداثة الغربية، كان الراحل الجمالي يرى ان “اعتماد التربية الغربية من دون تكييفها اللازم مع القاعدة التربويّة الوطنية، قد أدّى إلى نوع من أنواع الانفصام والثنائيّة داخل تركيبة السكّان الاجتماعيّة والفكريّة”(2).

هذا الإنفصام ما لبث ان تحول قوة اجتماعية سياسية رهيبة في 14 تموز 1958، فقد أطاح تحالف من كبار الضباط  مع عدد من “الأحزاب التقدمية” بالحكم في العراق في انقلاب عسكري،  لتشير وكالات الأنباء العالميّة حينها إلى أنّ من بين قتلى الانقلاب محمّد فاضل الجمالي، وزير الخارجية لثماني مرّات ورئيس وزراء المملكة بين عامي 1953-1954. في الواقع، تمّ القبض على الجمالي بعد ثلاثة أيام في منطقة نائية شمالي بغداد، واستُجوب واقتيد للمحاكمة فحُكم عليه بالإعدام بتهم ملفقة.

بالتزامن مع هذا خرجت تظاهرات في بغداد وكانت تمثل مسارا اجتماعيا واسعا، تطالب الحاكم العسكري الأوحد للبلاد، الزعيم عبد الكريم قاسم، بتنفيذ حكم الإعدام بالجمالي الذي كان منشغلا في حياته الفكرية التي تحصل خلالها على شهادات عليا من الجامعة الأميركية في بيروت، فجامعة كولومبيا بنيويورك، على مراعاة الأسس الفكرية التقليدية الإجتماعية لبلاده في سعيها المعلن نحو التحديث.

تظاهرة في شارع الرشيد ببغداد 1959 مؤيدة لقاسم تطالب بإعدام الجمالي (جيتي إيمجيز)

 

وإذا كان الجمالي قد وضع حقا الأسس لبناء واحدة من مؤسسات التحديث التربوي والفني في العراق، عبر رؤيته المستقبلية النافذة في إنشاء “معهد الفنون الجميلة”، فانه شخصيا كان أحد متذوقي الفن الحديث بحسب انجاز رسامين ونحاتين عراقيين وأجانب، بل ان بيته الذي تعرض للنهب من قبل الجمهور “الثوري” الغاضب، في 15 تموز، كان يحوي نماذج من الحداثة الفنية العراقية، وبينها لوحة بعنوان “الجزائر” للراحل محمود صبري، دون ان يدري ان الحدث ذاك سيكون دلالة على مفارقة عنوانها: من هو الرجعي .. من هو التقدمي؟ فحين يصنّف الجمالي رجعيا، نجده يقتني أعمال “التقدميين” من أمثال محمود صبري، وإذا كان الجمهور الغاضب “ثوريا” نجده في الحقيقة يمثل أعمالا همجية دالة على قيم اجتماعية “رجعية”، النهب والسلب وسرقة أعمال وضعها فنانون هم أنصار ذلك الجمهور وممثلي فكرته.

أنها حقا ليست مفارقات حتى لو كانت قاتلة، بل هي توكيد لما كان يحذر منه ابن مدينة الكاظمية ببغداد محمد فاضل الجمالي، لا من مخاطر “اعتماد التربية الغربية من دون تكييفها اللازم مع القاعدة التربويّة الوطنية”، بل من مخاطر استعارة الأفكار بشكل عام وتطبيقها بطريقة فجة على مجتمعات غريبة عن تلك الأفكار، والأمثلة التي تقدمها التحولات العراقية من عقود “الثورية” إلى يومنا، لتعطينا الدليل الدامغ على غربة العقل والعلوم في مجتمعات تمسك الغوغائية بتلابيبها وتقودها من هاوية مخيفة الى أخرى أشد هولا، وقد يبدو حديث الراحل الجمالي في رسائله من السجن لولده، اقتراحا من نوع ما لإبدال فكرة الحداثة بمنظومة عمل أكثر عمقا لجهة إرتباطها بجذورها المحلية، هي التنوير العقلي والروحي ضمن مراحل من التحولات الهادئة لا تؤدي إلى “الانفصام والثنائيّة داخل تركيبة السكّان الاجتماعيّة والفكريّة”.

 (1): ” الشريف محي الدين حيدر وتلامذته”، حبيب ظاهر العباس، بغداد 1998. (2): “دعوة إلى الإسلام. رسائل من والد في السجن إلى ولده”، محمد فاضل الجمالي، بيروت 1963 

جديدنا