عقليَّة القطيع: التماهي مع الفشل في زحمة النجاح

image_pdf

توطئة:

تعجبني كثيراً كتابات الفيلسوف “كوستيكا براداتان”، أستاذ العلوم الإنسانية بجامعة تكساس للتكنولوجيا، وأستاذ أبحاث الفلسفة الفخري بجامعة كوينزلاند في أستراليا، ليس لأني اتفق ما يقرره، ولكن لقدرته الفائقة على استفزاز العقل بما يكتب، أو ما يمكن أن أسميه الموهبة الخاصة في الخروج على المألوف. إنه يقول إن فكرة “عقلية القطيع” في “رأس” أولئك الذين يشعرون أنه لمن دواعي امتلاك الإحساس بالقوة الهائلة، وحتى المسكرة، أن يفقد الإنسان نفسه وسط حشد من الناس. ويزعم أن هذا هو السبب في “أننا بحاجة إلى المتناقضين”، خاصة في ظل ثقافة أصبحت مهووسة بالنجاح، حيث يجادل في كتاب جديد له، بعنوان: “في مديح الفشل: أربعة دروس في التواضع”، سيطرح في الأسواق قريباً (2023)، يزعم بأن الفشل أمر حيوي لحياة سعيدة، ويعالجنا من الغطرسة وخداع الذات، ويولد التواضع بدلاً من ذلك. ويقول براداتان من الصعب التغاضي عن هوسنا بالنجاح حيث إننا في كل مكان نتنافس ونرتب ونقيس. ومع ذلك، فإن هذا الدافع الدؤوب لنكون الأفضل يعمينا عن شيء مهم للغاية، وهو الحاجة إلى التواضع في مواجهة تحديات الحياة. ويرفع قضيته لمدح الفشل من خلال قصص أربع شخصيات تاريخية عاشت حياة التأثير والمعنى، وتوددت بجدية إلى الفشل، بعد أن أدركت غايات النجاح. وتُظْهِر نضالاتهم أن التعامل مع قيودنا لا يمكن أن يكون علاجياً فحسب، بل تغييراً إلى ما هو أفضل.

إن براداتان يستكشف، في مدح الفشل، العديد من مجالات الإخفاق؛ من القضايا الاجتماعية والسياسية إلى الروحانية والبيولوجية. ويبدأ الأمر بفحص الخيارات الجريئة للفيلسوفة الفرنسية المتصوفة سيمون ويل، التي أظهرت تعاطفاً مع العمال المستغَلين، فتولت وظائف المصنع، التي لا يستطيع جسدها الضعيف تحملها. فقد كانت سيمون ناشطة سياسية، وُلِدَتْ في عائلة يهودية غير متدينة، واعتبرت من أهم فلاسفة القرن العشرين، مع أنها لم تعش سوى 34 عاماً، إذ كانت غزيرةَ الإنتاج، وتجاوزت مؤلفاتها العشرين. وقال عنها ها الكاتبُ والروائي الفرنسي ألبير كامو إنها أكبرَ عقل في عصرها، وكان يرى أنه من المستحيل تصور أية مكانة لأوروبا في المستقبل ما لم تأخذ بالحسبان المتطلباتِ، التي حدَّدَتْها سيمون. كما اعتبرها الكاتبُ والصحفي البريطاني توماس مالكوم مادجيريدج العقلَ الأكثرَ إشراقاً في القرن العشرين. من هناك ننتقل إلى المهاتما غاندي، الذي دفعه سعيه القاسي من أجل النقاء إلى أعمال أكثر تطرفاً من إنكار الذات. بعد ذلك، نلتقي بالخاسر، الذي يصف نفسه بنفسه بأنه إميل سيوران، والذي أدار ظهره عمداً للقبول الاجتماعي، وقدم استقالته من الإنسانية، بقوله إنه لم يعد راغباً أن يكون، ولم يعد قادراً على أن يكون إنساناً، متسائلاً: “ماذا سأفعل؟ أخدم الأنظمة الاجتماعية والسياسية؟”.

ومثل سيمون وغاندي وسيوران، يأخذ براداتان الكاتب يوكيو ميشيما؛ واسمه الحقيقي هو كيميتاكي هيراوكا، وكان أشهر روائي في اليابان، الذي توجه، يوم 25 نوفمبر 1970، إلى قاعدة للجيش في طوكيو، واختطف القائد، وأمره بأن يجمع الجنود، ثم حاول أن يقود انقلاباً عسكرياً. ودعا ميشيما الجنود للتمرد على الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والدستور، ووبّخهم بقسوة على الاستكانة والخنوع وتحداهم أن يعيدوا للإمبراطور هيبته كإله حي وقائد قومي كما كان قبل الحرب. وعندما تعالت أصوات الجنود بالسخرية عليه، جثا على ركبتيه وانتحر على طريقة الساموراي ببقر بطنه، ما عده اليابانيون “فشلاً نبيلاً”. وَوَطَّنَ براداتان هؤلاء الأربعة نموذجاً لحجة كتابه حول مدح الفشل، وذلك قبل أن يتطلع إلى الفيلسوف الروماني لوكيوس أنّايوس سينيك، الذي يُعرف أيضاً باسم سينيكا، لاستخلاص مكونات الحياة الجيدة. ومنها يخلص إلى أنه في حين أن النجاح يمكن أن يجعلنا ضحلين، فإن إخفاقاتنا يمكن أن تقودنا إلى حياة أكثر تواضعاً، وأكثر انتباهاً، وأفضل عيشاً، إذ يمكننا الاستغناء عن النجاح، لكننا أفقر بكثير بدون هدايا الفشل. لكن بشرط أن نتعلم “الهِدَايَة” من حكمة “هَدَايَا” هذا الفشل، لا أن نركن إليه، وتكون لنا الجرأة أن نرفع شارة الانتصار، ونحن ننحدر إلى دركه الأدنى، من دون أن نجترح أسئلة سيوران حول جدوى أن يكون الإنسان إنساناً وهو يخدم أنظمة اجتماعية وسياسية تغرق في لجة الفشل.

المعنى والمفهوم:

إن “عقلية القطيع” هي مفهوم يتبنى فيه الأفراد أيديولوجية مجموعة أكبر متجاوزين النقد الشخصي والعقلانية. إنهم يتصرفون وفقاً لمعتقدات المجموعة على افتراض أن الجميع قد أجروا أبحاثهم، إلا هم؛ وينبع في الغالب من حاجة الفرد إلى التوافق والالتزام بالأعراف الاجتماعية. وينشأ من رغبة الإنسان الطبيعية في الانتماء إلى مكان ما، مما يخفي ويتحدى مهارات صنع القرار الشخصي، خوفاً من أن تؤدي الأحكام الغامضة للفرد إلى نتائج غير مرغوب فيها. هنا عادة ما يتم تجاوز المثل والمبادئ الفردية المخالفة لقيم المجموعة، التي تقودهم إلى اتخاذ قرارات تتجاوز إحساسهم بالهوية الشخصية لكل فرد فيهم. لذلك، تنبع “عقلية القطيع” من جزء عاطفي من نفسية الإنسان بدلاً من التفكير المنطقي، الذي يحفظ للفرد خصوصيته ومكانته. وليس من غير المألوف أن نلاحظ أن الناس يطورون ميلاً للتصرف بنفس الطريقة، التي يتصرف بها معظم أقرانهم، حتى في عصر العولمة، التي تحل فيها قيم المجموعة محل القيم والمبادئ الفردية، والتي تُؤدي إلى اتخاذ قرارات إجماعية تتجاوز إحساسهم بالهوية الشخصية. إنه ميل الناس بشكل عام لاتباع أيديولوجية مشتركة والتصرف وفقاً لها، إذ تشكل الرغبة في القبول الأساس لكونك جزءاً من “القطيع”. ويمكن أن يكون الحس القوي للعيش وفقاً للمعايير الاجتماعية سبباً آخر. في الوقت نفسه، تدفع مشاعر مثل الخوف، وربما الجشع، هذه العقلية في الأسواق المالية.

والمفهوم العام، الذي يبرر سلوك “عقلية القطيع” هو القول إن جميع الكائنات الحية مبرمجة مسبقاً بسلوكيات غريزية معينة تساعدهم تطورياً على البقاء على قيد الحياة عند وجود خطر. عندما يرى أحد الظباء في مجموعة حيواناً مفترساً مثل الفهد، يبدأ في الجري. يتبع باقي المجموعة قيادتهم دون حتى التفكير في السبب. بهذه الطريقة، تعمل المجموعة ككائن حي واحد، ويقل احتمال اصطياد الظباء من قبل المفترس. هذا سلوك “القطيع” هي إحدى الطرق، التي تتجنب بها الكائنات الحية المواقف، التي قد تؤدي إلى الإصابة، أو الوفاة. في البشر، يمكن أن يخدم سلوك “القطيع” نفس الغرض، الذي يسمح لمجموعات البشر بتجنب المواقف الخطرة دون أن يضطر كل فرد إلى اتخاذ قرار واع خاصٍ به. بالطبع، بما أن سلوك “القطيع” يعزز قراراً فردياً موجهاً نحو المجموعة، فهناك دائماً خطر أن يكون اختيار المجموعة خاطئاً، أو أن اختيار المجموعة سيئ لأفراد معينين. قد يكون حظ الظباء البطيئة سيئاً في حال الهرب الجماعي، ولكن المقتدر منها هو أوفر حظاً في محاربة المفترس وجهاً لوجه بدلاً من الهروب بعيداً. ومع ذلك، فإن الجميع لن يفكروا في ذلك لأنهم يتبعون “القطيع”. وفي البشر، يمكن أن يؤدي سلوك “القطيع” أيضاً إلى شيء يسمى شبيه بذلك، الذي يمكن أن يكون خطيراً للغاية على الأفراد داخل المجموعة. عندما يولي البشر اهتماماً غير متناسب لما يقوله الآخرون، ويبنون قراراتهم الخاصة على ذلك بدلاً من أفكارهم العقلانية، فإنهم يستخدمون “عقلية القطيع”، التي تُرِينا كيف أنه من السهل أن نُدرِك كيف يمكن أن يؤدي ذلك إلى مشاكل للفرد وللجماعة.

شيءٌ من التاريخ:

صاغ عالم النفس الاجتماعي الفرنسي غوستاف لوبون مصطلح “عقلية القطيع” في أواخر القرن التاسع عشر واستخدمه لشرح مجموعة متنوعة من سلوك الجماهير. حتى أن أدولف هتلر طبق نظرياته. اشتهر هتلر باستخدام الدعاية لإقناع الناس باتباعه على الرغم من فظائعه. ومن المثير للاهتمام أن تقييم لوبون ل “عقلية القطيع” لم يتضمن فكرة أن شخصاً واحداً يمكن أن يقود الجماهير للقيام بأشياء مروعة. لقد كان قلقاً من أن الغوغاء الذين يتصرفون فقط على العاطفة بدلاً من التفكير العقلاني يمكن أن يشكل خطراً على المجتمع ككل. لم يبدأ الخبراء في فهم أن بإمكان الأفراد التلاعب بالآخرين عن عمد باستخدام سلوك القطيع إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أجرى الخبراء في العديد من المجالات المختلفة أبحاثاً عن سلوك “القطيع” لدى البشر، ووجدوا أمثلة في جميع المجالات. في الخمسينيات من القرن الماضي، عالم النفس سولومون آش أجرى تجربة لاختبار ما إذا كان معظم الأشخاص سيقدمون إجابة خاطئة لسؤال ما لتجنب تناقض الأشخاص الآخرين في الغرفة. وجد أن 75٪ من المفحوصين وافقوا حتى عندما عرفوا الإجابة الصحيحة. كان القلق المحيط بوصمة العار من كون الواحد منهم غريباً ثمناً باهظاً للغاية بالنسبة لمعظم المشاركين. وبالمثل، يستخدم المؤرخون “عقلية القطيع” لشرح ما حدث أثناء محاكمات ساحرة “سِالِم” في أمريكا، حيث كان هناك العديد من النظريات حول ما بدأ السلوك “الممسوس” لدى فتيات سِالِم. 

ومع ذلك، ليس هناك شك في أن “عقلية القطيع” قادت بلدة بأكملها إلى الشروع في إدانة الأبرياء من الارتباط الشيطاني دون وجود دليل فعلي يدعمها. بمجرد أن تم بيع الفكرة لشخص واحد، تبع البقية حذوها دون مراعاة الحقائق. ويستخدم الاقتصاديون ما يعرفونه عن “عقلية القطيع” لمحاولة التنبؤ بسلوك المستثمرين في سوق الأسهم. ويبدو أن الخبراء الماليين الأذكياء لديهم حاسة سادسة في الاستثمار لأنهم يعرفون ما سيفعله الجمهور بناءً على الاتجاهات، التي يرونها. ولسوء الحظ، يمكن أن يؤدي الميل إلى اتباع الحشد أيضاً إلى حدوث انهيار مخيف في السوق حيث يندفع المستثمرون لبيع الأسهم عندما يرون شخصاً مهماً يفعل ذلك. يمكن أن تؤثر “عقلية القطيع” على أي اتجاه تقريباً، بدءاً من الأشياء الحميدة مثل خيارات الموضة، أو الترفيه إلى الموضوعات الأكثر أهمية مثل العلاقات بين الأعراق والتحكم في السلاح. وفي كل حالة من هذه الحالات، يتبنى الفرد رأيه بناءً على ما يقوله الآخرون ويفعلونه من دون عناء النظر في الأدلة لأنفسهم.

التحيز الاجتماعي:

وبعد هذه الأمثلة، وقبل أن ندخل في غيرها من أمثلة “عقلية القطيع”، لنبدأ بفحص ما تعنيه “عقلية القطيع” حقاً. وفقاً لتعريف “عقلية القطيع” لميريام ويبستر، فإن ميل الأشخاص في المجموعة إلى التفكير والتصرف بطرق تتوافق مع الآخرين في المجموعة وليس كأفراد. بمعنى آخر، هذا يعني تعديل وجهات نظرك الشخصية لتتلاءم مع المجموعة. وهناك العديد من الأسماء الأخرى ل “عقلية القطيع”، والتي تعطي أيضاً فكرة عما هي عليه. وتشمل هذه: سلوك “القطيع”، وعقلية المجموعة، وعقلية الغوغاء، الحزمة العقلية، وأحد الأمثلة على سلوك “القطيع” عند البشر هو ضغط الأقران. إنه الشعور بأنك يجب أن تتصرف مثل الأشخاص الآخرين في عمرك، أو الموجودين في مجموعتك الاجتماعية حتى يُعْجبوا بك، أو يحترموك. على الرغم من أن الناس غالباً ما يربطون ضغط الأقران بالمراهقين، إلا أن هذه الرغبة في التوافق يمكن أن تحدث للأشخاص في أي عمر. وهناك أيضاً التفكير الجماعي، وهو المصطلح، الذي استخدمه عالم النفس إيرفينغ جانيس في السبعينيات. يحدد التحيزات، التي تحدث داخل المجموعات، والتي تؤدي إلى التوافق مع قيم وأخلاق المجموعة المتصورة. ومن أمثلة عقلية الغوغاء أعلاه، القيمة السائدة هي التوافق مع المجموعة بغض النظر عن وجهات نظر الشخص، أو قيمه. كما اتضح، فإن “عقلية القطيع” مرتبطة بالدماغ البشري إلى حد ما. واتخاذ القرارات بناءً على تصرفات الآخرين هو سلوك حيواني طبيعي، وهذا يشمل البشر. ووفقاً لتقرير Psych Central، لا يتطلب الأمر سوى 5٪ من الأشخاص للتأثير على اتجاه الحشد، وسيتبع بقية الجمهور من دون أن يدركوا أنهم قد تأثروا. 

إذا تساءلنا: ما هو التحيز العقلي لـ”القطيع”؟ فإن الإجابة المباشرة تُشير إلى أن التحيز يُخبرنا عن ميل لا إرادي لمتابعة ونسخ ما يفعله الآخرون. إن الناس هنا يتأثرون إلى حد كبير بالعاطفة والغريزة، وليس بتحليلهم المستقل، ما يقف دليلاً على كيفية استسلامهم لتحيز القطيع. والشيء الرئيس هو أننا مرتبطون بـ”القطيع”، هناك قدر كبير من الأدلة على تحيز “عقلية القطيع” في التصرفات العامة. أحد الأشياء، التي يجب أن نكون حذرين منها هو أننا غالباً ما نجد أنه من المؤلم عاطفياً، أو نفسياً، أن نواجه الحشد. فكر في ظرف قمت فيه بخنق رغبتك في فعل شيء ما لأن كل شخص آخر في مجموعتك صوت لفعل شيء آخر. وجد علماء النفس أنه قد يسبب ألماً جسدياً للناس ليكونوا مخالفين، إذ عادة ما يؤدي مواجهة الحشد، أو عدم المطابقة، إلى إثارة الخوف لدى الناس على الفور. لماذا؟ لأن أي شخص آخر يقول إن الموقف الخاص قد يجعله يخشى أنه ربما يكون مخطئاً في التفكير. بالإضافة إلى ذلك، قد يخشى الشعور بالحرج، أو الظهور بمظهر الأحمق إذا استمر في الاختيار الخاص واتضح أنه خطأ.

إن التحيز الاجتماعي قد يبلغ في بعض مراحله حالة مرضية مستعصية، ويمكن أن يُسبب عدوى اجتماعية حقيقية، وقد يكون فائق الانتشار. فالظاهرة المعروفة باسم “المرض النفسي الجماعي”، حيث تبدأ مجموعة من الناس بالشعور بالمرض مع أعراض مماثلة في غياب سبب جسدي واضح، ليست شيئاً جديداً. في الواقع، يعود السجل التاريخي إلى العصور الوسطى في أوروبا، بما في ذلك حالة واحدة سيئة السمعة حيث تم الإبلاغ عن الراهبات اللائي يعشن في انسجام مثل القطط. ففي فيلم “الإيمان هو الرؤية”، يقول روبرت بارثولوميو، عالم الاجتماع في جامعة أوكلاند، إن عالمنا المترابط للغاية من وسائل التواصل الاجتماعي يفضي إلى الذعر الاجتماعي كما كانت الأديرة المنعزلة في العصور الوسطى. وبالتركيز على الاتجاه، الذي تنتشر فيه اضطرابات التشنج اللاإرادي عبر مقاطع فيديو TikTok، يوضح بارثولوميو سبب استمرار تسبب “تأثير الدواء الوهمي في الاتجاه المعاكس” في حدوث مرض حقيقي، وكذلك سبب اعتقاده أن وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن تأتي مع المزيد من الحواجز. ويُعتبر “الإيمان هو الرؤية” جزءاً من مجموعة الأفلام القصيرة لعام 2022، التي جاءت بمبادرة من صناعة الأفلام النيوزيلندية، المسماة “تحميل المستندات-Loading Docs”.

دوافع إيجابية:

يمكن للمجتمع أن يستفيد من هذه القابلية في جوانب فعل إيجابية، وذلك باستخدام معتقدات مشتركة لصالح المجتمع، مثل تشكيل منظمة الخيرية، أو زراعة الأشجار، كما يفعل رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في ثورته الخضراء. وعندما يصبح الأقران جزءاً من المنظمات، التي تروج للصالح الاجتماعي، فإنه يؤثر حتماً على الأفراد من حولهم للمشاركة فيها. يمكن لهذه المجموعات أن تصوغ الإنسانية من أجل مستقبل تقدمي. فـ “عقلية القطيع”، أو الغوغاء، بهذا المعنى ليست سيئة دائماً؛ لقد مهدت الجمعيات والاحتجاجات السياسية الطريق للعديد من البلدان لتذوق الحرية، عن طريق عمل سياسي منظم، وليس عبر انتفاضات وثورات مُدَمِّرَة، كما شهدناه في بلدان الربيع العربي. ومع ذلك، فهي تعتبر فكرة خطيرة لأنها تقمع الآراء الفردية، إذ يتصرف الناس بما يتفق مع الخوف من الاستبداد والاستعباد، إلى خوف ممنهج من الاستبعاد. لذلك، فإن اتباع الجماهير دون تفكير ثانٍ له آثار سلبية. على سبيل المثال، أدى اتجاه وسائل التواصل الاجتماعي المتمثل في تناول قرون المد والجزر إلى إلحاق الضرر بصحة المشاركين، كما أن الاستثمار المتهور في “عقلية القطيع” له تأثير كارثي على الأفراد والجماعة.

إن هناك تفسيران واسعان لسلوك القطيع عند البشر. يمثل كل من النماذج المستندة إلى النمط والنماذج القائمة على الإرسال هذا النوع من السلوك، لكن الخبراء يختلفون حول أيهما هو الأكثر احتمالاً. أولهما، النموذج القائم على النمط، الذي يؤكد أن الناس يتبعون الحشد لأنهم يعتقدون أنه لا توجد طريقة يمكن أن يكونوا على حق بها وأن أي شخص آخر يمكن أن يكون مخطئاً. إنه يروج لفكرة أن الناس يفتقرون إلى الثقة بالنفس في أفكارهم. في دراسة سلمون آش المذكورة سابقاً، طُلب من الأشخاص اختيار سطرين من نفس الطول. كان من المرجح أن يختار جميع الأشخاص نفس الخط مثل الآخرين حتى عندما كان من الواضح أنهم كانوا يختارون الخط الخطأ. يوضح النموذج المستند إلى النمط هذا بالقول إن الأشخاص يعتقدون أن الإجابة، التي يقدمونها يجب أن تكون الإجابة الصحيحة لأن الجميع يراها بهذه الطريقة. ويأتي الأفراد إلى عدم الثقة في حواسهم لصالح تصور المجموعة. نموذج الفيزياء يشرح الحركة داخل سوق الأوراق المالية كمثال رئيس للسلوك القائم على النمط. وعندما يرى المستثمرون الأفراد مجموعة من المستثمرين تشتري، أو تبيع، فإنهم يفترضون أنهم يعرفون شيئاً لا يعرفونه؛ هذا يمكن أن يسبب جنوناً حيث يتدافع الأفراد حتى لا يتخلفوا عن الركب. بالطبع، يؤدي هذا إلى تقلبات كبيرة في الأسعار حيث يصبح العرض والطلب غير متطابقين، وهذا مثال آخر على سلوك “القطيع” القائم على النمط هو التدفق البيولوجي.

وقد يقول قائل، هذا هو ميل الكائنات الحية للتَشَكُّل معاً في مجموعات والحفاظ على التماسك المكاني، ويُلاحظ أكثر الأمثلة شهرة لسلوك التجمع هذا في الطيور، لكن البشر يشاركون فيه أيضاً بوجه من الوجوه. ويمكن لأي إنسان أن يلاحظ الطريقة، التي تميل بها السيارات على الطريق السريع إلى السير بنفس السرعة بغض النظر عن الحد الأقصى للسرعة. وينخرط السائقون في سلوك التجمع وهم يسعون جاهدين لتشكيل مجموعة؛ بوعي، أو بغير وعي. ولا يحدث سلوك القطيع بشكل شخصي فحسب. يحدث أيضاً في تفاعلات المجموعة عبر الفضاء الافتراضي، والتفاعلات الأخرى عبر الإنترنت. فمن نواحٍ عديدة، فإن سلوك القطيع ليس عقلانياً، بل هو أكثر عاطفية، إذ تُشير العديد من الدراسات إلى أنه عند العمل في مجموعات، فمن المحتمل أن نتأثر بالفكر السائد. وفي مجال الحياة العامة، يمكن أن يؤثر سلوك القطيع على اتخاذ القرار، إذ يقود الناس إلى مواكبة القرارات، أو اتخاذ قرارات مختلفة بناءً على المجموعة بدلاً من القرارات، التي سيتخذونها إذا تُركوا لاتخاذها بمفردهم. وعلامة أخرى يجب الانتباه إليها هي أن أولئك الذين يخضعون لـ“عقلية القطيع” هم أكثر عرضة للاعتقاد بأن الجميع متفقون بشكل عام. حتى الأشخاص الذين لا يتفقون تماماً قد يبررون آرائهم ويستمرون في الانسجام مع الجمهور. وقد لا يعبر بعض الناس عن أنفسهم بشكل كامل وقد يفرضون رقابة على مشاعرهم لتتماشى مع الحشد. ومن المرجح أن يعتقدوا أن المعيار، الذي وضعته المجموعة يجب أن ينطبق على الجميع.

مساوئ متفاوتة:

إذن، هل “عقلية القطيع” أمر سيء؟ بالطبع ليست في كل الأحوال، وكما تقدم، فإنه إذا كانت المجموعة، أو الشخص صاحب التأثير الأكبر لديه نوايا حسنة، يمكن أن تكون “عقلية القطيع” إيجابية. على سبيل المثال، عندما يجتمع الناس لإحداث تغيير كبير في المجتمع. في المقابل، إذا كانت المجموعة، أو الشخص، الذي يؤثر على السلوك لديه نوايا سيئة، فقد تكون العواقب السلبية هائلة. إذا نظرت إلى التاريخ، وحتى العصر الحديث، فهناك العديد من الأمثلة على القادة الكاريزميين، الذين أثروا بشكل سلبي على المجتمع. وكانت جاذبيتهم تعني أن معظم الناس يبررون التصرفات الرهيبة ويتصرفون بطرق لم يظنوا أنها ممكنة من قبل، ويمكن أن يكون ل “عقلية القطيع” أيضاً عواقب سلبية في الأعمال التجارية. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي إلى تفكير إبداعي أقل، كما هو الحال عندما يخشى الناس التميز من المجموعة، فلن يطرحوا أفكاراً مخالفة. وهكذا، فإن مجموعة الأفكار الإبداعية، التي يتعين على المجموعة الاختيار من بينها أصغر بكثير، وهذا أيضاً له تأثير غير مباشر، حيث إن المدخلات الأقل تنوعاً يمكن أن تؤدي إلى قرارات أضعف. وأحد أوضح الأمثلة على “عقلية القطيع” في العالم الحقيقي هو ما يمكن أن يحدث في الاحتجاجات والمسيرات. يمكن أن يكونوا مسالمين، ولكن عندما يبدأ عدد قليل من الناس في التصرف بعنف، يمكن أن يتغير مزاج المجموعة على ما يبدو على الفور. 

لا شك أن التبرير، الذي يمكن أن يُساقُ بغير كثير جهد هو عدم القدرة على عدم الانعتاق من “عقلية القطيع”، لأنها، كما قال بادارتان، في “الرأس”، أو في الذهن، الذي تورط في إدمان “الإتباع”، لا التحرر الذاتي، إن لم يكن التطلع لدور القيادة. والتشبيه الملطف لذلك يمكن أن يكون بأمثلة لا تحصى: هل لاحظت كيف تشعر، عند عبورك طريق مزدحم، برغبة مفاجئة في الإسراع والذوبان وسط الزحام؟ سواء كنت في مدينة كبيرة، أو صغيرة، اكتظت طُرُقَاتها بالمَارَّة، إذ تُخْبِرُك غريزة الحيوان الخاصة بك أنه من الآمن أن تغامر بالإسراع كجزء من قطيع، أكثر من أن تغامر بالتلكؤ بمفردك في طريق يلهث السائرون فيه للحاق بغايات ونهايات مختلفة. إن الخوف من أن يِسْبقنا الآخرون يقربنا من بعضنا البعض، والأدلة على ذلك ليست مجرد قصص نرويها لتدعيم حجتنا في هذا المقام. فقد أثبتت تجارب التصوير العصبي أنه عندما نكون جزءاً من “القطيع” يَظهر نشاطاً متزايداً في منطقة “لوزة” الدماغ، حيث تتم معالجة الخوف والمشاعر السلبية الأخرى. بينما قد نشعر بالضعف حين نكون لوحدنا، فإن كون المرء جزء من القطيع يمنحه إحساساً مميزاً بالحماية. إذ يعلم في خاصة نفسه أنه في وسط الآخرين، يكون أكثر أماناً، وكلما زاد عدد هذا “القطيع”، قلت المخاطر، وقد تكون الثقة في الأرقام أكبر بكثير من مجرد الأمان.

سكرة الحشد:

لقد شَهِدنا أن “القطيع” يأتي أيضاً بإحساس مخمور بالقوة: كأعضاء في حشد، إذ يشعرون بأنهم أقوى وأكثر شجاعة مما هم عليه في الواقع، وأحياناً يتصرفون وفقاً لذلك. فالشخص نفسه، الذي لن “يؤذي ذبابة” بمفرده لن يتردد في إشعال النار في مبنى حكومي، أو يوقد عود ثقاب صغير ليشعل غابات كاملة حتى يتأكد من تجليات قُدرته، أو يقوم بسرقة متجر ذهب عندما يكون جزءاً من كتلة غاضبة. ويمكن للأشخاص الأكثر اعتدالاً منهم الإدلاء بأقوى التعليقات كجزء من الغوغاء عبر الإنترنت. ويمكن للقطيع أن يفعل عجائب التحول النفسي في أفراده؛ ففي لمح البصر تتحول الحكمة إلى حماقة، والحذر إلى تهور، واللياقة إلى همجية. وبمجرد الوقوع في دوامة العاصفة، من الصعب للغاية التراجع، فهم يرون أنه من واجبهم المشاركة، وربما بمقدورهم عمل أي فعل من أفعال الإعدام خارج نطاق القانون، قديماً، أو حديثاً، حرفياً، أو على وسائل التواصل الاجتماعي، يعرضون هذه الميزة عن أنفسهم. وكأني بهم يستعيرون من أمثالنا ما درج الناس على قوله: “الموت مع الجماعة عُرس”، حيث تكون جريمة القتل المشتركة مع كثيرين مبررة، وهي ليست قانونية ولا آمنة، ولكنها مباحة فقط عند صراع الحشود والسلطة. ولنا أن نقرأ الأمثلة، التي أمام ناظرينا فيما يعتمل في مجتمعاتنا من ثورات، تتبدى فيها “عقلية القطيع” بأوضح صورها، مع احتفاء عصبي بحصاد الفشل.

لهذا، يمكن للقطيع أيضاً أن يمنح أعضائه إحساساً غير متناسب بالقيمة الشخصي، بغض النظر عن مدى كون وجودهم الفردي فارغاً، أو بائساً بخلاف ذلك، فإن الانتماء إلى مجموعة معينة يجعلهم يشعرون بالقبول والاعتراف، وحتى الاحترام. لذلك، لا توجد فجوة في الحياة الشخصية للفرد من أعضاء “القطيع”، بغض النظر عن حجمها، لا يمكن أن يملأها الإخلاص الشديد لهذا “القطيع”، ولا توجد صدمة لا يبدو أنه يُعالجها. هذا هو السبب في أن الطوائف والعصابات، أو المنظمات الهامشية، تتمتع بمثل هذا الجاذبية غير العادية، لأنها بالنسبة للروح المشوشة، يمكنها أن تقدم إحساساً بالوفاء والاعتراف لا يمكن أن توفره العائلة، أو الأصدقاء، أو المهنة. ويمكن للجمهور، أو “القطيع”، أن يكون علاجياً بنفس الطريقة، التي يمكن أن تتمتع بها مادة شديدة السمية بقدرات علاجية. فـ”القطيع”، إذن، يولد شكلاً متناقضاً من الهوية؛ فأنت شخص ليس لأنك انصهرت في الحشد، ولكن بسبب ذلك. وقد لا تكون أحداً بمفردك، وحياتك عبارة عن صدفة فارغة، ولكن بمجرد أن تتمكن من إنشاء اتصال ذي مغزى مع “القطيع”، فإن حياته البركانية، التي لا حدود لها تفيض في حياتك، وتفي بها أكثر من ذلك. لن تكون قادراً على أن تجد نفسك وسط الحشد، ولكن هذا أقل ما يقلقك: فأنت الآن جزء من شيء يبدو أنه أعظم وأنبل بكثير من نفسك المهينة. إن ارتباطك بحياة “القطيع” لا يملأ الفراغ الداخلي فحسب، بل يضيف إحساساً بالهدف لوجودك المشوش. وكلما زاد عدد الأفراد، الذين يجلبون ارتباكهم إلى “الزفة”، أصبحت أكثر حيوية. والأكثر خطورة.

ولهذه العوامل كلها، تبدو ردود فعل “عقلية القطيع” غريزية، غير مُدْرَكَة، بغض النظر عن مقدار التبرير، الذي يقوم به الفرد لأفعاله، فإنه يمثل، مع غيره، العمل الخبيث للبيولوجيا فينا. إذ تقول الخبيرة الاقتصادية ميشيل باديلي في كتابها “المقلدون المتناقضون”، الصادر عام 2018، إننا نتشارك مع الحيوانات الأخرى مجموعة واسعة بشكل مدهش من الغرائز المماثلة لـ”القطيع” في سلكونا كمجموعات، “هكذا نجونا، بعد كل شيء. إن التاريخ التطوري الطويل قد جعلنا نرعي “القطيع”، كما يمكن أن تؤكده نظرة سريعة على أقرب الحيوانات من الأقارب”. ويختتم عالم الأحياء فرانس دي وال، الذي درس السلوك الاجتماعي والسياسي للقرود لعقود، في كتابه “عناق ماما الأخير”، الصادر عام 2018، بالقول إن الرئيسيات “صُنعت لتكون اجتماعية”، و”الأمر نفسه ينطبق علينا”، فالعيش في مجموعات هو “إستراتيجيتنا الرئيسية للبقاء”. قد لا نشارك جميعاً في الطوائف، أو المنظمات الهامشية، أو السياسة الشعبوية، لكننا جميعاً متحمسون لـ”القطيع”. نحن نرعى مع غيرنا كل الوقت؛ عندما نخوض الحرب، كما نفعل ذلك عندما نصنع السلام، وعندما نحتفل وعندما نحزن، نرعى مع “القطيع” في العمل وفي الإجازة. فـ”القطيع” ليس هناك في مكان ما، أو يوجد في مكان بعينه، لكننا نحمله في داخلنا، وهو راسخ بعمق في أذهاننا.

مثال المونديال:

لنضع أنفسنا أمام مرآة اختبار نموذجية؛ فمن مِنَّا لم تراوده حالة ميل عاطفية جماعية تجاه دولة قطر، وهي تنجح فيما عقدت عليه العزم من تنظيم مبهر لـ”مونديال كأس العالم 2022″، واحتشدنا خلف المملكة العربية السعودية يوم انتصارها، ومع المغرب في انتصارات صعودها المقتدر لأدوار الفوز النهائية. فقد صرنا ذلك “الجمهور النفسي”، الذي “يمتلك وحدة ذهنية موحدة”، وفقاً لوصف عالم النفس الجماعي الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، الصادر في الأصل عام 1895، وطبعته العربية الأولى عام 1991، رغم أنه ينبّه إلى أنّ “الجماهير دائماً غير عقلانية وهدامة، ودورها دائماً لا يكون في البناء إنما في الهدم”. ولكن لأن التأييد لقطر والسعودية والمغرب كان عاطفة حماس إيجابية، وإن كانت طارئة ومؤقتة، ولا تخلو من كثير من العقلانية، التي شكلتها فواعل الانتماء المشترك، بأبعادها المختلفة. أما فيما يتعلق بالسلوك العملي لحياتنا وبقائنا في العالم، الذي صارعنا بمنطق الاستعلاء، فإن هذا التأييد ليس ترتيباً سيئاً، فهو لم يبن غير جلال تضامن اللحظة التاريخية، فهو لم يهدم شيئاً. بل بفضل وجود “القطيع” في أذهاننا، وجدنا أنه من الأسهل التواصل مع الآخرين، والتآزر والتعاون معهم، وبشكل عام العيش براحة مع بعضنا البعض. وبسبب سلوك رعي “القطيع” لدينا، فإننا نتمتع بفرصة أفضل للبقاء على قيد الحياة كأعضاء في مجموعة وليس بمفردنا. غير أن المشكلة تبدأ عندما نقرر استخدام عقولنا ضد فطرتنا، كما هو الحال عندما نستخدم تفكيرنا ليس بشكل عملي، لنجعل وجودنا في العالم أسهل وأكثر راحة في بعض النواحي، أو في أخرى، ولكن بالتأمل، لنرى وضعنا في حالته العارية من الخارج.

ونحمد لأسود المغرب ودولة قطر أن جعلوا هذه الحالة العارية لوضعنا تبدو أزهى بكثير مما تعمدت تلوينه أساطير الاستشراق عن شرق تهزمه المحاولة، فكان هنالك شعاع أبرقت بضيائه قيم الدين المركوزة في وسم المعاملة، رغم جهود الحد من اظهار الفضيلة في مجتمع ثروتها هذه الفضيلة، لا الغاز والنفط، أو في الطريقة، التي يرتبط بها المجتمع بمعرفته الراسخة لمحددات ثقافته. في مثل هذه الحالة، وفي مثلها مستقبلاً، فإذا أردنا إحراز أي تقدم يعزز ما مضى، فنحن بحاجة إلى إخراج “القطيع” من أذهاننا ووضعه جانباً بحزم، حتى لا تكون المهمة صعبة. ولا يمكن القيام بهذا النوع من التفكير الراديكالي إلا في غياب تأثير “القطيع” السلبي بأشكاله العديدة؛ مثل، الضغط العالمي، والتحزب السياسي المفارق للثوابت، والتحيز الإيديولوجي، والتلقين الإعلامي، والتقليد الفكري الأعمى، أو أية نزعات أخرى، نتشبث بها من أجل ردعنا عن هذا الأمر. فكثيراً ما تميل هذه العوامل الدخيلة إلى تضليلنا، عندما لا تستطيع أن تعمينا تماماً. وهذا هو السبب في أننا في معظم الأوقات لا ننتج معرفة جديدة وحقيقية، ولكننا نعيد فقط تدوير المعرفة الراسخة، التي يرتضيها “القطيع”، والتي ترضي رعاة “القطيع”، الذين يأتمر بأمرهم، أو تعتمد عليهم، بعض قطاعات مجتمعنا.

ويا له من منظر رائع، رسمه المغاربة بسلوكهم أمام شاشات العالم، الذي ناهض التجربة العربية في الاستضافة واللعب بتحيزات “القطيع” المُشَبَّع بترسبات من الاستعلاء والكراهية تغيأته نُخبه، كما راجت بها وسائل إعلامه، وكأننا في مستودع إعادة تدوير نفايات التاريخ الاستعماري، الذي ما ترك للناس في المنطقة سيرة يحمدونه بها. فكانت رسائل السلوك مُبَلِّغَة عن هذه الروح، في مواجهة هجمة أرادت أن تحد من حضور الدين في الطريقة، التي يرتبط بها المجتمع بمعرفته الراسخة له. الأمر، الذي يجعلنا هنا في اتفاق مع كوستيكا براداتان، والذي يقرر أن هذه الروح لا تعتز بها فقط بهذه السلوكيات في جوهرها المؤسسي؛ أي الكتب المدرسية والموسوعات والأكاديميات والمحفوظات والمتاحف، وإنما تتأكد من خلال التعامل معها بأقصى درجات الاحترام. إنها لا تتوقف عن تمجيدها وتقديسها إلى درجة تحويلها إلى دين. ولسبب وجيه، فإن المعرفة الراسخة للمجتمع هي العروة الوثقى، التي تُبقيه متماسكاً. ونمتلك الحق في أن نختلف وجهة نظر أخرى لبراداتان حين يصف ثقافة المجتمع وهويته، على أساس أنها ما هي في الواقع إلا هذا الخليط الفريد، الذي هو “مزيج من الأكاذيب المتدينة وأنصاف الحقائق المريحة، والتحيزات المفيدة، والتفاهات الذاتية – هو ما يمنح المجتمع ملامح ثقافية خاصة به، وفي نهاية المطاف، إحساسه بالهوية”. فقد يَصِحُّ هذا الزعم على المجتمعات الغربية، التي تحاول منذ عقود طويلة لخلق أسطورة قومية تُحيي بها ذاكرتها الجماعية، وتصنع بها هوية جامعة، من خلال الاحتفال بما يسمية بـ”المعرفة الراسخة”، والتي تحتفل بها هذا المجتمعات.

الحكمة التقليدية:

يلاحظ الخبير الاقتصادي جون كينيث جالبريث في كتابه “مجتمع الأثرياء”، الصادر عام 1958، كيف أن التعبير عن المعرفة السائدة، التي يسميها “الحكمة التقليدية”، يشبه “طقس ديني”. ويكتب أن هذا “فعل توكيد مثل القراءة بصوت عالٍ من الكتاب المقدس، أو الذهاب إلى الكنيسة”. نظراً لأن المجتمع لا يمكن أن يعيش ويعمل بدون طقوس؛ مقدسة، أو دنيئة، صريحة، أو مقنعة، ويجب الاحتفال بمعرفته الراسخة؛ طقوساً وبصوت عالٍ وبكل احترام أمام جميع أعضاء المجتمع. من هذا المنظور، لا يجتمع العلماء في الغرب مع العامة في الكنيسة لمشاركة بعض الأفكار الجديدة والنظريات الرائدة، ولكن لأداء صلاة يوم الأحد حتى يطمئنوا من خلالها على مجتمعهم، وأنفسهم، بأن التقليد المجتمعي في أيد أمينة. وكتب جالبريث أنهم “يجتمعون في مجموعات علمية” للاستماع في بيان أنيق لما سمعه الجميع من قبل، إذ إن “الغرض من الطقوس” ليس نقل المعرفة، بل تطويب التعلم والمعرفة. لذلك، “ليس من المستغرب، في مثل هذه المناسبات، أن يرتدي العلماء بما يتناسب مع الطبقة الكهنوتية، التي هم عليها، نوعاً خاصاً من اللباس، أو ملابس العصور الوسطى، أو أردية بعض المعالجين الآخرين. ويمكن ملاحظة ذلك في الزي الغريب، الذي يبدو مضحكاً، والذي يرتديه أعضاء معهد فرنسا عندما يجتمعون لأداء كهنوتهم العلني، والويل لمن يجرؤ على السخرية من هذه الغرابة.

يقول براداتان إننا نجد أنه من المهم للغاية أن الفلسفة الغربية تأسست، كما نحب أن نفكر عادة، من قبل شخص غريب الأطوار ومعارض – شخص يسخر من القطيع كمسألة دعوة شخصية وطريقة فكرية. وبنفس القدر من الأهمية، قام القطيع بقتله لقيامه بذلك. وتوضح قصة سقراط المزدوجة، مثل قلة من الآخرين، ما ينطوي عليه التفكير الراديكالي عادةً: الانحراف والتحدي والشجاعة وحتى الغطرسة من ناحية، والشك والمقاومة والاستياء والانتقام في النهاية من ناحية أخرى. إنه عمل جريء من عدم الامتثال لمتطلبات المجتمع، يتبعه على الفور استجابة مجتمعية دموية، وهكذا ولدت الفلسفة في الغرب. وصدمة الولادة هذه لم تترك الفلسفة حقاً: أي إعادة تمثيل لاحقة للجرأة السقراطية ستعيد تنشيط العداء المجتمعي إلى حد ما. كلما كان عدم امتثال الفيلسوف أكثر تحدياً، كانت استجابة المجتمع أكثر حدة. وبالحديث عن الفنانين الأدبيين، لاحظ أندريه جيد ذات مرة أن: تتمثل القيمة الحقيقية للمؤلف في قوته الثورية، أو بشكل أكثر دقة، في صفة معارضته. فالفنان العظيم هو بالضرورة “غير ملتزم” وعليه أن يسبح عكس التيار السائد في عصره. وما يقوله جيد عن “الفنان العظيم” ينطبق أيضاً على الفيلسوف العظيم. يجب أن يُنظر إلى القدرة على “السباحة ضد التيار” كشرط أساسي مطلق لمهنة التفكير.

 لن تصنع المفكرة أي فرق ما لم تتعارض مع ما يعتز به مجتمعها ويحتفل به كمعرفة راسخة، وتكشف عن “القطيع” الكبير، الذي ينطوي عليه، ليس فقط في صنعه، ولكن أيضاً في طقوس الحفاظ عليه وتقديسه. يعني هذا عادةً مواجهة مفتوحة مع الطبقة الكهنوتية المسؤولة عن الحفاظ على المعرفة الراسخة، يليها تهميش المفكر وحرمانه ونفيه. إلى الحد، الذي تمكنت فيه من القيام بكل هذا، فإنها ستخرج “القطيع” من عقلها، وتتجاهل الادعاءات بأن مجتمعها، بشكل علني، أو أكثر مكراً، يضعها في تفكيرها. ونظراً لأنهم قطعوا علاقاتهم مع قبيلتهم، فلا شيء يمنعهم من رؤية الأشياء كما هي، وهذا ما حدث خلال بعض أفضل اللحظات في تاريخ التفكير. تم نقل عصا سقراط المتناقضة إلى سلسلة من المنشقين الفلسفيين، بالألوان كما كانت هناك جرأة: من دوجين المتهكم، إلى هيباتيا، إلى سبينوزا، إلى كيركيحورد، إلى نيتشة، إلى والتر بنيامين، وإلى سيمون ويل، بطريقة، أو بأخرى، علانية، أو بطريقة أكثر حذراً، فقد ذهبوا جميعاً ضد تفكير القطيع في عصرهم، تاركين وراءهم سلسلة من الهرطقات الفكرية، والرؤى الجريئة، وفضائح اجتماعية في كثير من الأحيان. من خلال ما فعلوه، أبقت هذه الأرقام التفكير حياً في عالم حيث كل شيء، بما في ذلك التفكير، يميل إلى الوقوع في الأنماط والروتين، وفي النهاية الضمور والموت نتيجة لذلك. لقد صنعنا، على ما يبدو، لدرجة أننا بحاجة إلى وجود شوكة في الجسد لنبقى مستيقظين روحياً ونحيا عقلياً. ويلزم المفكرون المتضاربون بكل سرور بتزويدنا بالضيق الضروري.

تمجيد الغَرَابَة:

في كتابه عن الحرية، الصادر عام 1859، يأتي جون ستيوارت ميل في مرحلة ما ليثني على الغرابة في كل شيء. يقترح أن “غريبو الأطوار” هم، الذين يحافظون على العالم من خلال إمدادهم السخي من وجهات النظر الجريئة والأفكار الجديدة والأفكار الجديدة. كتب ميل، في سطور كتابه هذا، إنه قال ذلك “على وجه التحديد، لأن استبداد الرأي يجعل من الغرابة عاراً، فمن المستحسن، من أجل اختراق هذا الاستبداد، أن يكون الناس غريبو الأطوار.” فكلما كان هناك المزيد من الغرابة، كانت الحالة الأخلاقية والفكرية للعالم أفضل: “لقد كثرت الغرابة دائماً عندما وحيث تكثر قوة الشخصية؛ وقد كان مقدار التغير في المجتمع بشكل عام متناسباً مع مقدار العبقرية والحيوية العقلية والشجاعة الأخلاقية، التي يحتوي عليها. وهذا هو مبدأ “اللامركزية” الفدائية، الذي يمتلكه المعارضون بوفرة، إذ تأتي حداثة تفكيرهم وحدتها؛ في جزء كبير منها، من تصميمهم على البقاء خارج الدائرة، التي ترسمها أي مجموعة، صراحةً، أو ضمناً، في الرمال لتعريف نفسها. المتناقضون ليسوا فقط في وضع جيد يسمح لهم بمراقبة كيفية عمل “القطيع” والتهميش والإقصاء، ولكنهم لم يعد لديهم ما يخسرونه من خلال التعبير عن آرائهم الهرطقية وبثها. إنهم ما ينبغي أن يكون عليه “المثقفون العموميون” بشكل مثالي؛ “منتقدون للمجتمع” بشكل لا هوادة فيه، وقليل منهم في الواقع هم الذين يصمدون. إن قوة معارضتهم، وقوة لغتهم، وجدية التزامهم، أي “نوعية معارضتهم”، على حد تعبير ميل، هي بالمناسبة، التي تحولهم إلى مثل هذه الشخصيات الهائلة.

إن القطيعة الغريبة في أذهان المعارضين، وعدم ثقتهم الفطرية في أي شيء موثوق به، أو ثابت، وتحطيم المعتقدات التقليدية، وانفصالهم الجذري عن المجتمع، الذي ولدوا فيه، كلها تتآمر لمنحهم حق الوصول إلى حقيقة أعلى مما يستطيع مجتمعهم أن يسمعه. لا يهتم المعارضون بالبدع والأزياء والسلطات والتسلسلات الهرمية، ولديهم القليل من الصبر تجاه طقوس المؤسسات. ونظراً لأنهم قطعوا علاقاتهم مع قبيلتهم، فلا شيء يمنعهم من رؤية الأشياء كما هي، لأن معارضتهم لا تحررهم فقط، بل تمنحهم أعيناً جديدة. فقد تعلّم باروخ سبينوزا بشكل مذهل، أو كما قد يكون بالفعل، إذ لم يكتمل التكوين الفلسفي له إلا عندما طُرد رسمياً من مجتمعه. فصار كـ”هيرم القاسي” بشكل غير عادي، أي أنه “مَلْعُونَهُ بِالنَّهَارِ، وَهُوَ مُلْعُونُهُ بِاللَّيْلِ، مُلْعُونٌ إِذْ يُلْعَنُ بين رِبْعِهِ، وَيُلْعَنُ فِي قَوْمِهِ. وَيُلَامُ يوم يَخْرُجُ، وَيَلْعُنُ حين يَدُخُل”، وهكذا أصبح سبينوزا، الذي نعرفه اليوم. فالطرد العنيف من مجتمعهم الآمن، وإلى عالم مجهول وبارد، يرقى إلى ولادة جديدة للمعارضين. لذلك، وبفضل العمل الصادم، فقد ظهروا الآن إلى الوجود الكامل، تحفهم هالة من التبجيل والتقديس.

إن هذا التبجيل والتقديس لا ينبغي أن يكونا سبباً للحماس الكبير جداً بإنجازات يحققها المعارضون للتقليد العام والراسخ للمجتمعات، فقطع المعارضين لطريق المخاطر بمثل هذا الشكل الشجاع، لا يعني أنهم سينتصرون. وعلى الرغم من كل ما لديهم من ذكاء وشجاعة ونجاح عرضي، فإن المعارضين للقيم السوية ليسوا رابحين أبداً. قد يربحون معركة، أو اثنتين، لكنهم لا يستطيعون كسب الحرب. ولكن هذا، وعلى الرغم من ذلك، لا يجعلنا نتجاهل عبقرية بعضهم عندما يحققوا اختراقاً لم يتفق مع قناعات “القطيع”. ونظراً لأن أفعالنا الأكثر حيوية وتلقائية تخضع عاجلاً أم آجلاً للأنماط والروتين، فإن المؤسسة هي، التي تسود على المدى الطويل، حتى لو كان عليها أحياناً إجراء عمليات انسحاب وتعديلات تكتيكية في العملية الاجتماعية. وكتجسيد لفكر المجتمع، الذي يقره “القطيع”، فإن المؤسسة الفكرية هي المنتصر افتراضياً، في عصر صار فيه فضاء المنافسة لا يعني ذات الزمان والمكان بحيثياتهما وإحداثياتهما القديمة. ومع ذلك، فإن مواجهة المؤسسة الاجتماعية مع المعارضين هي مشهد يستحق المشاهدة. ففي البداية، ستسعى المؤسسة إلى سحق المتنافسين وإسكاتهم. ولكن لا يعني ذلك أنها لا تستطيع تحمل المعارضة، ولكنها، مثل أي شكل من أشكال القوة المنظمة، تحتاج إلى إظهار الثقة بالنفس والصمود والمقاومة.

البدع البغيضة:

يقرر باروخ سبينوزا في “البدع البغيضة” أن الحرية هي أن تتعلم كيف تحب ما يعجبك، ورغم بغض الناس لهذه الأطروحة الفلسفية المعروفة، التي صاغها عام 1677، باسم “الأخلاق” وقتئذٍ، إلا أنها تعتبر اليوم، على نطاق واسع تحفة فلسفية. ولكن في وقت نشرها، كانت رؤية سبينوزا الراديكالية عن الله كمرادف للطبيعة، كافية لجماعة اليهود البرتغاليين في أمستردام لحرمانه من “الهرطقات البغيضة ”. وقد قام الفيلسوف والمؤرخ البريطاني جوناثان ري بتشريح العقلانية الراديكالية للأخلاق، موضحاً آراء سبينوزا، التي كانت غير تقليدية فيما مضى عن الله والحرية وضرورة الاقتراب من العالم بـ”الحب الفكري” عن كل ما عداه. لكن ذلك لم يرق لسلطة المؤسسة الدينية والاجتماعية والأخلاقية، فكان مصير سبينوزا، ومن اعتقدوا بقناعاته، الطرد من رحمة “القطيع”. ففي الواقع، تهدف طقوس التهميش والإقصاء وكبش الفداء إلى تقريب المجتمع؛ وحشده حول مركز سلطته، من خلال طرد غير المرغوب فيهم بعنف، تُطَمْئن به المجموعة نفسها على كل من صلاحها وقوتها. فزعماء الكنيس اليهودي البرتغالي بأمستردام، الذين طردوا سبينوزا كنسياً بشكل قاسٍ لسبب اقتنعوا به، فشلوا بعملية الإقصاء تلك، في اسكات صوته. ومع بذل قصارى جهدهم، استمر سماع أصوات المنشقين؛ من المدينة المجاورة، من الخارج، أو حتى من وراء القبر. غير أن المؤسسة اسمرت في التظاهر بتجاهلهم، لأنها ما لم تفعل ذلك، ستعطي ختم الموافقة لأناس لا تعتبر أن لهم قيمة حقيقية. 

ففي المحصلة النهائية، وعندما يتضح أنه حتى التهميش والإقصاء هذا لا ينجح، تتخذ المؤسسة إجراءاتها الأكثر صرامة، والتي نادراً ما تفشل؛ فهي تتبنى خطاب المعارضين وتجعله سائداً. ففي ترنيمة غريبة الأطوار عن الغرابة، قال جون ستيوارت ميل هذا عن عمره: “قلة قليلة من، الذين يجرؤون الآن على أن يكونوا غريبي الأطوار، يمثل الخطر الرئيس في ذلك الوقت”. ومع ذلك، عند العودة إلى الماضي، يبدو أن زمن ميل هو الأكثر تناقضاً بين العصور. كان العام 1859، عندما نُشر كتاب “عن الحرية”، وعندما صدر كتاب تشارلز داروين عن “أصل الأنواع”، وكذلك كتاب كارل ماركس” مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي”، كان نيتشه قد بدأ دراسته في المدرسة في العام السابق وكان مستعداً لإثارة إعجابهم. كان كيركيجورد ميتاً منذ أربع سنوات فقط، وبدأت أفكاره للتو في التأثير، وتم إطلاق سراح دوستويفسكي لتوه من الخدمة العسكرية الإجبارية، التي جاءت مع حكم بالسجن فتح مسيرته الأدبية الرائعة أمامه. إذا كان جيل ميل الفكري في “خطر” بسبب الافتقار إلى حشد من غريبي الأطوار، فلا بد أن يكون جيلنا بعيداً عن الخلاص. إن أخطاء رعايتنا في مسائل التفكير، كما هو الحال في كل شيء آخر، منتشرة للغاية، وتوافقنا الفكري متقدم للغاية، لدرجة أننا لا نرى حتى مشكلة ميل. فالتفكير، الذي كان من المفترض أن يمنحنا الانفصال عن عمل غريزة البقاء، أصبح الآن لا يمكن تمييزه عن “القطيع” نفسه. نحن نسعى وراء المعرفة ليس لإبقاء “القطيع” تحت السيطرة، ولكن لتلبية مطالبه بشكل أفضل، ولزيادة قوتنا على الآخرين. 

 تعليب الأفكار:

لقد أثبت كيركيجورد أنه من الصعب جداً التخلص منه، أو تجاهله، فقررت المؤسسة أن تنهيه بهضم تفكيره في شكل كتاب مدرسي، ثم تعليمه للطلاب الجامعيين، الذين يشعرون بالملل من قراءة الأفكار الفلسفية المعقدة عن الوجودية، وبرؤية أنه لا يوجد تفكير حقيقي يمكنه تحمل ذلك. ومن هذا المثال، تعلم غير الدنماركيين صنعتهم مع فكر كيركيجورد، وأدركوا أنه إذا كانوا لا يستطيعون قمع نيتشه مثلاً، فيمكنهم أن يفعلوا شيئاً أكثر ضرراً له، وذلك بتحويله إلى مجال للدراسة الأكاديمية. وقد قال نيتشه “ما لا يقتلني يجعلني أكثر سخافة”، ولكن توقعه لهذه الخطوة لم تجعل الضربة أقل فتكاً به. ومن خلال عمل المصطلحات الفلسفية المعقدة بشكل أساس، هزم “القطيع الأكاديمي” المتناقضين مع رتابة دور المؤسسة. ولا يمكننا أن نفوت هذه السخرية؛ فالمتناقضون يعرّفون أنفسهم ضد المؤسسة، ويسخرون منها بوحشية، ويفعلون كل ما في وسعهم لتقويضها. ولكن، ماذا تفعل المؤسسة؟ إنها تحولهم إلى مذهب فلسفي، أو منظرين؛ ونادراً ما كان الانتقام أعذب، وأمَضّ من هذا. إذ لم يكد سبينوزا يموت حتى ولدت الـ”سبينوزية”. وإذا عاد نيتشه إلى الحياة بأعجوبة اليوم، فإنه سيموت مرة أخرى، من الخزي والإحراج، ليرى كيف “نشكّل” أفكاره في دوراتنا وندواتنا ومؤتمراتنا حول الـ”نيتشوية”.

ومثال آخر، أكثر غرابة، حين اعتبرت جامعة فرانكفورت أطروحة التأهيل لـ”والتر بنجامين” غير مرضية، مما منعه من الوصول إلى مهنة التدريس. اليوم، هناك عدد قليل من الجامعات حيث لا يخضع عمل بنيامين، بما في ذلك أطروحته التأهيلية، إلى “إشكالية” مثيرة للذهول. بينما كان على قيد الحياة، شن إميل سيوران حرباً بلا رحمة ضد الجامعات، وكان يعتقد أنها خطر عام، لأنها تُمثل “موت الروح”، ولحق به رسل جاكوبي في “آخر المفكرين”، وألن بلوم في “إغلاق العقل الأمريكي”، وقد بدأ الأكاديميون للتو في البحث حول “إشكالية” المؤسسة دائماً تفوز. والنتيجة النهائية لهذا “الإشكالية” الانتقامية هي منتج معالج للغاية، لا طعم له، كما أنه غير صحي، لأنه “تفكير معلب”. إذ إن الأفكار، التي كانت في يوم من الأيام طازجة وبرية ونابضة بالحياة تم تفريغها وتنظيفها وتعقيمها، ثم غرقت في صلصة ثقيلة من المصطلحات، التي لا يمكن اختراقها، من أجل الحفظ. والمصطلحات اللغوية هي العنصر الرئيس هنا، وهي عامل التحويل، لأنه من خلال استخدام المصطلحات، في المقام الأول، هزم “القطيع الأكاديمي” المتناقضين في النهاية، ولا شيء يمكن أن يقف ضد تآكلهم؛ إذ لا شيء يبقى على حاله. فكل شيء كان شخصياً وغير قابل للاختزال وغريباً في كتابات المتناقضين أصبح الآن قاسماً مشتركاً غير شخصي. المصطلحات اللغوية المتخصصة تجعل الجميع في الصف، ولا تمارس أي تمييز، ولا تُظهر أي محاباة، ولا رحمة، فقد أصبحت المساواة مجنونة.

بيد إنه سيكون من الخطأ القول إن المصطلحات هي مجرد “أسلوب أكاديمي”، فالمصطلحات اللغوية الأكاديمية ليست أسلوباً، وإنما هي موت الأسلوب، إنها عملية اغتيال بطيء لجمال ونبل المعنى. وبالغرق في المصطلحات والتعرض لعملها المدمر، فإن الثراء الأسلوبي للمعارضين لا يحظى بفرصة، ولربما تأخذ هذه النسخة المعلبة من تفكيرهم في فمك لتذوقها، ولا تشعر بشيء. وبغض النظر عن مدى مذاق المتناقضين في أنفسهم ومذاقهم، الذي قد يكون لذيذاً وصحياً، ومدى اختلافهم عن بعضهم البعض، فإنهم الآن يتذوقون نفس الشيء تقريباً؛ التشابه الثابت للفكر المُعَالَج. فإذا طفقت تبحث عن بعض آثار روحهم الفريدة فيما كتب عنهم؛ مقالات تمت مراجعتها من قبل الزملاء، وقائع المؤتمرات، ورسائل الدكتوراه، والكتب المدرسية، وغير ذلك، لكنك تنظر عبثاً، إذ كل ما يمكنك أن تجده هو اللطف المغلف بغطاء بَرَّاق. فقد ابتلعهم النظام الأكاديمي، ومضغهم جيداً، ثم بصقهم، حتى صار المعارضون آمنون الآن للاستهلاك العام، بعد أن هُزِمُوا تماماً. ويتساءل براداتان، لإثارة الانتباه: هل لاحظتم كيف نشعر، في الأوساط الأكاديمية اليوم، بالحاجة إلى الإسراع والاندفاع نحو مركز “القطيع”؟ خوفاً من أن نتجاهلنا ونتعرض للخطر، سنفعل أي شيء لنكون في المكان الأكثر كثافة. سواء كنا في لندن، أو لوس أنجلوس، في باريس، أو بكين، أو في القاهرة كخيار خاص، نسعى دائماً إلى الذوبان في “القطيع الأكاديمي”، كما لو كان هذا هو الشيء الأكثر طبيعية بالنسبة للعالم.

مظان التنوير:

يتساءل الفيلسوف جون مان، في مقال له بعنوان: “فلسفة القطيع وبلاغة التنوير”، الذي نُشر في العدد الثاني من مجلة “الفلسفة الآن”، الصادرة عن جامعة كمبردج، عام 1991، هل صحيح أن “الحياة غير المنعكسة لا تستحق العيش”؟ لقد كان الافتراض الشائع في الفلسفة أن هناك كتلة غير عاكسة، أي هي “القطيع المشترك”، الذي يعيش بالجهل والتقاليد، والفلاسفة الانعكاسيين، والذين هم عدد قليل من الأفراد الحقيقيين القادرين على النظر إلى الحياة بموضوعية وعقلانية. وجادل بأن الفلاسفة مجرد “قطيع” آخر يعيش مع قيم ومعتقدات مختلفة، وليس بالضرورة أفضل، وأن “حججهم” للفلسفة والتنوير هي مجرد أدوات بلاغية لإعطاء الأولوية لقيمهم. فهل حقاً هناك مجموعتان، عاكسة وغير عاكسة؟ فـ”المثقفون” الغربيون، مع تاريخهم الاشتراكي، الذي يُثير الكثير من السُخرية، يتصرفون بشكل جماعي مثل “القطيع” غير التأملي، ويتحولون من معتقد جماعي إلى آخر كـ”فردي” كصف من قطع الدومينو؟ هل ننتقل ببساطة من العقلية الجماعية والجماعية للعاكس إلى مجموعة متطابقة تسمى “الانعكاسية”؟ هل قواعدنا المستنيرة والعقلانية أكثر فردية، أو غير متوقعة، أو أكثر “حقيقية” من المجموعة غير التأملية؟ وكيف يجب أن تنظر المجموعتان إلى بعضهما البعض؟ بالنسبة للمجموعة العاكسة، فإن عدم الانعكاس يعني الخطأ والتحيز والغباء. إنهم يحبون فقط المجموعة غير العاكسة لأن الله يحب الخاطئ وليس الخطيئة، أو أن التاريخ، بالنسبة للماركسية، يحب البروليتاريا لما يمكنهم فعله، وليس لما يفعلونه.

إن غريزة البقاء لدينا، كما يعتقد كوستيكا براداتان، تُخبرنا أنه من الأسلم السير مع “القطيع”، وليس ضده، وفي الواقع، أن نكون في مركزه، وليس على هامشه. نحن نستخدم مصطلحاً خيالياً له، “التواصل”، على الرغم من أن ذلك لن يخدع أحداً؛ لأنه مجرد رد فعل غريزي، ولا يتوافق مطلقاً مع التعبير المقنع عن دافع البقاء. وللعيش في المركز، حيث يبدو أن معظم الموارد مركزة، سنفعل أي شيء؛ والعمل على أي موضوع يكون عصرياً، سواء كان لدينا ما نقوله عنه أم لا، فنحن نسعى في درب التقليد الأعمى لمن هم في مواقع السلطة والنفوذ، ونتحسس أقلامنا لاعتماد العبارة على طريقة أحدث المصطلحات، مهما كانت سخيفة، أو لا طعم لها، وتجنب المخاطرة في أي أمور خطيرة، والابتعاد بشكل عام عن أي شيء من شأنه أن يجعلنا متميزين ويعرض سلامتنا للخطر. في قلوبنا، نعلم أنه بالنسبة لأي شخص يطمح إلى المعرفة الحقيقية، أو لرؤية الأشياء كما هي، فإن هذه اللعبة السياسية هي وصفة للفشل، لكن هذا لا يقلقنا كثيراً. فقد لاحظ جون ماينارد كينز قبل قرن من الزمان: “تعلمنا الحكمة الدنيوية أنه من الأفضل أن تفشل السمعة بشكل تقليدي بدلاً من النجاح بشكل غير تقليدي”، وعندما يكون طموحك الرئيس هو البقاء في مركز “القطيع”، فأنت تفعل كل ما تطلبه اتفاقيات “القطيع”؛ أي السمعة، أو عدم السمعة.

في الواقع، ونظراً لأنه من طبيعة السلطة الأكاديمية أن يتم الحفاظ عليها من خلال مزيج من القسوة والأخلاق، فإن القائمين على الأمر ينخرطون في سلوك “خسيس” وغير أخلاقي حتى عندما يبشرون بالفضيلة بجرأة وبقوة. فالبلطجة والاستحواذ أسلوب؛ هو يا للأسف، شائع، ويكاد يبلغ درجة التقنين، أو حتى الاحتفاء به، حين يوقع زملاء المهنة رسائل مفتوحة يُطالبون فيها إقالة بعض زملائهم، والأمثلة على ذلك لا يأتيها الحصر في بعض أوطاننا، التي أصيبت بلوثة الثورية، والانقلاب على كل ميراث أخلاقي قديم. وليت الأمر توقف عند حد الإقالة، أو الإحالة إلى مصادر أرزاق “يملكها من يملكها حقاً”، وإنما، تمادياً في الضرر، يقومون بحملات اغتيال الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي ضد آخرين، وما زالوا يُخضعون الآخرين لـ”جلسات صراع” مكثفة مع حقائق انتمائهم؛ كل ذلك باسم بعض الأخلاق العالية والسياسات النبيلة. ويظنون يقيناً، أنه كلما قللوا من أفعالهم الإيجابية المتسقة مع التقاليد، زادت مكانتهم الثورية، فهم ليسوا مجرد نوع من الغوغاء، بل هم شيء مستحيل؛ إنهم “الغوغاء العلماء”. إنهم مرضى بشكل خطير، وليس من العزاء أن الحالة، التي يُعانون منها؛ أي “التهاب الأنانية المزمن” يبدو أنها أصبحت هي القاعدة؛ فالمرض ليس أقل خطورة لمجرد أن كل شخص مصاب به، وإنما توهم أنه من علامات الصحة المطلوبة.

ما العمل:

لاحظ تشارلز ماكاي، في كتابه “الأوهام الشعبية غير العادية وجنون الحشود”، الصادر عام 1841، أن الناس يفكرون كـ”القطعان” سيتبين أنهم يصابون بالجنون كـ”القطعان”، بينما يستعيدون حواسهم ببطء واحداً تلو الآخر. لذلك، إذا أردنا استعادة ذكائنا، فمن الأهمية بمكان أن نتعلم كيف نتخلص من “عقلية القطيع”. وقد نكون أحياناً متحمسين لـ”القطيع”، وقد يكون بقاؤنا بسبب ذلك، لكن لا يمكننا أن نصبح كليين روحياً إلا بعيداً عن الحشد، لأن علم الأحياء والروح ينتميان إلى عوالم متعارضة. ومن المفارقات، أن أكثر ما نحتاجه الآن بشدة هو شيء يصعب الحصول عليه في عصرنا، الذي يجبرنا كل يوم على شيء من التوافق القهري؛ أي اتباع ما هو سائد من انحرافات تُبعدنا عن قيم الخير الكلية. ورواد هذا الخير يتناقصون، ويُدفعون إلى أضيق مساحات الانزواء؛ فهل من سبيل لجمع كل من المعارضين لما هو سائد، والمنشقين، وغيرهم من المنبوذين، رغم أنهم قليلون ومتباعدون، حتى يمكنهم تعلم حرفة عدم الصراع؟ وفي قول براداتان، إذا لم يكن ذلك سيئاً بما فيه الكفاية، حتى لو تمكنا من الحصول عليه، فسيكون علاجهم محفوفاً بالمخاطر، وغير مؤكد، وغير دائم، لأنه، مرة أخرى، في المخطط الكبير للأشياء، فإن المؤسسة هي السائدة، وهذا هو السبب وراء التناقض.

ومع ذلك، فإن مجرد ملاحظة التناقضات، في رأي جون مان، لا يكشف عن كيفية حلها. فسياسياً، أدى فشل المجتمعات الاشتراكية في التنبؤ بالتأثير السلبي للتغييرات واسعة النطاق المصممة لإزالة مظالم الرأسمالية إلى إعادة تقييم العديد من الأشخاص لإرث التنوير. وبدلاً من صعود العقلانية والموضوعية، يُنظر إليه على أنه ظهور مجموعة أخرى من الافتراضات والقواعد. إنه تشاؤم الهروب من المعتقدات والقواعد الضمنية لتحقيق بعض الأفضلية المستنيرة، التي تشكل المزاج الكئيب لما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. ومع ذلك، افترض مان أنه يمكننا الهروب من “القطيع”؛ من خلال الرفض المتعمد والمنحرف لاتباع القاعدة. فهل يمكننا بعد ذلك تحقيق حياة فريدة تماماً؟ من الناحية النظرية، هذا ممكن، خاصة إذا تمكنا من توضيح افتراضاتنا ومعتقداتنا، ثم استخدام شكل من أشكال العملية العشوائية، التي لا تتبع أي قواعد واستبدلها بافتراضات ومعتقدات أخرى، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن أن نكون قابلين للتكرار، سواء كان هناك أي شيء آخر مثل نحن. ولعيب هو أنه من شبه المؤكد أننا سنضع في مجموعة تسمى “مجنون”، إذ يُلاحظ أحياناً أن المجانين والفلاسفة فقط يجلسون على المكتب ويتساءلون عما إذا كانوا موجودين أم لا. 

وفي الختام، فإن وجهة النظر الشائعة لتحديد العقلانية الخالصة، كما قال جون مان، هي مثل الجنون، لأن ما هو خارج “القاعدة” هو قاعدة متكررة لكثير من الناس. وغالباً ما يُنظر إلى أولئك القادرين على تبرير معتقداتهم بعقلانية على أنهم غريبون؛ كأولئك القادرين على تبرير صحة ما يأكلونه، وأناقة ما يرتدونه، ورسوخ ما يؤمنون به. في الواقع، إذا قام شخص ما بشيء خارج عن “المألوف”، فهذا هو السبب، الذي يقع عليه اللوم فيه عادةً، مثلما وقع اللوم على دولة قطر عندما فازت بحقها في استضافة كأس العالم، أو حتى عندما ترشح شخص أفريقي أسود كجيسي جاكسون لمنصب الرئيس في أمريكا لأول مرة، أو باراك أوباما لاحقاً، يسأل الناس “العاديون”: ما هو سبب ذلك الحقيقي؟ لماذا يريد أي منهما حقاً أن يكون رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية البيضاء عُرفاً، لا عِرقاً فحسب؟ وقد يشاركهم في هذا الشعور، الذي يستبطن الجهل والاستعلاء، المثقفون، لأن النظرة غير العاكسة للمثقفين، في هذه الحالة، لا تختلف كثيراً عن العوام، لأنهم يفتقرون إلى الحس السليم، ويعيشون ورؤوسهم في الغيوم، وينظرون إلى النجوم ويسقطون في الثقوب، ويعتقد كل منهما أن تطلع الآخر للارتقاء هراء، مثلما يعتقد كل منهما أن دين الآخر هو تجديف.

*الصادق الفقيه: سفير سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2022

صقاريا، تركيا

جديدنا