قراءة في فكر أركون؛ في نقد العلمانيَّة المناضلة بحثًا عن توازن مفقود

image_pdf

1- توطئة تاريخيَّة

 إنّ الأطروحة التي تضادّ الإسلام بالمسيحيَّة، وتقول إنّ المسيحيَّة قد فصلت بين الذروتين الدينيَّة والدنيويَّة في حين أنّ الإسلام خلط بينهما منذ البداية هي أطروحة متسرّعة وسطحيَّة وغير مقبولة لأنّها لا تأخذ بعين الاعتبار الشروط التاريخيَّة لكلا الدينيْن.

فالمسيحيَّة قد نشأت في ظلّ الحكم الروماني لفلسطين وحاكمها كان يمثّل السلطة السياسيَّة والشرعيَّة والقانونيَّة للإمبراطوريَّة الرومانيَّة. وفي مثل هذا السياق وتلك الظروف فإنّ الوسيلة الوحيدة التي يتمكّن بواسطتها رجل الدين من ممارسة سلطة ما هي أن يظلّ في مجاله الروحي والديني، ولا يحشر أنفه في السياسة. فعبارة المسيح “ما لقيصر لقيصر ومالله لله” تهدف إلى استملاك السلطة الروحيَّة التي تنتمي للأنبياء أو للسلطة الكهنوتيَّة اليهوديَّة. فالمسيح إذ فعل ذلك قد حقّق عمليتين حاسمتين بضربة واحدة. فهو لم يهاجم السلطة السياسيَّة الرومانيَّة بشكل مباشر ولكنّه طرح، بشكل ضمنيّ، مسألة شرعيتها لأنّها ليست مرتكزة على السيادة العليا الروحيَّة لهذا الإله الموحي في شخص المسيح، ولكنّ التوتّر والصراع راحا يتعاظمان بين الحاخامات والسلطة الرومانيَّة في آن معا إلى أن أصبحت الكنيسة في فترة لاحقة تطالب بممارسة السيطرة على السلطة السياسيَّة متذرّعة بذروة السيادة الروحيَّة العليا الموروثة عن المسيح. ونتج عن ذلك صراعات متزايدة. إنّ الكنيسة في نسخها المتعدّدة: الكنيسة البيزنطيَّة ثم الكنيسة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة وانتهاء باحتجاج “لوثر الكبير” في القرن السادس عشر قد مارست السيطرة على السلطة الرومانيَّة أو الملكيَّة في الوقت التي حافظت فيه على صلاحياتها بصفتها ذروة السيادة العليا الروحيَّة التي تخلع المشروعيَّة على الحكم.

وبذلك، تنتفي مقولة الفصل بين الدينيّ والدنيوي في المسيحيَّة كما يثبت التاريخ، إلا أن هذا الوضع لم يتغيّر إلاّ عندما بدأت البرجوازيَّة التجاريَّة، ثم الرأسماليَّة تقتنص شيئا فشيئا استقلاليَّة الدائرة الاقتصاديَّة وتناضل من أجل اكتساب استقلاليَّة الدائرة القانونيَّة. وكان ذلك يعني تحرير الدولة من أسر الدائرة الدينيَّة التي أصبح طابعها الأيديولوجي غير محتمل وغير مقبول في معارضة الأيديولوجيا المنافسة التي شكلتها البرجوازيَّة. لقد بلغ التوتر أشده بين الإيديولوجيين حين نشبت الثورة الأنكليزيَّة وانتهت بإعدام الملك شارل الأول عام 1649 ثم نشوب الثورة الفرنسيَّة وإعدام الملك لويس السادس عشر عام 1793. ثمّ أدّت إلى الفصل القانوني بين الكنيسة والدولة، ويعتبر المثال الفرنسي الأكبر جذريَّة في كل بلدان أوروبّا(1).

هذا بالنسبة إلى المسيحيَّة، أمّا في الإسلام لقد كانت الحالة السياسيَّة والدينيَّة في الجزيرة العربيَّة تختلف عما كان عليه الحال في فلسطين زمن المسيح. إنّ العصبيات القبليَّة في الجزيرة العربيَّة كانت تولد باستمرار سلطات متقطعة ومتبعثرة ومتنافسة ومرتبطة بالعقائد والتقاليد والآلهة المتنوعة التي تقسم المجتمع وتنهكه. فمحمّد (ص)، إذن، لم يكن بمواجهة سلطة مركزيَّة قويَّة عندما ظهر كما هو عليه الحال بالنسبة للمسيح إزاء الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، وإنّما كان عليه أن يخلق نظاما سياسيا جديدا مرتكزا على رمزانيَّة دينيَّة جديدة. فالعمل التاريخي للنبيّ محمد كأعمال أنبياء التوراة الذين سبقوه وكعمل يسوع المسيح نفسه قد تمثّل في تأسيس نظام سياسي جديد بالنسبة للجزيرة العربيَّة، وذلك على قاعدة رمزانيَّة دينيَّة جديدة بالنسبة إلى العرب آنذاك، هي رمزانيَّة الميثاق أو التحالف في اللّغات الأوروبيَّة    (l’alliance)  فالنبي يبلور الفضاء السياسي في الوقت الذي يبلور فيه الفضاء الديني، عندما ينقل القبلة من القدس إلى مكة وعندما يفرض يوم الجمعة يوم احتفال جماعي كنوع من المنافسة لرمزانيَّة يومي الأحد والسبت لدى المسيحيين واليهود، وعندما يقيم مسجدًا في المدينة وعندما يعود إلى مكّة ويدمج في الرمزانيَّة الإسلاميَّة الجديدة كل الطقوس والدعائم المادّيَّة لشعيرة الحجّ الوثني السائد سابقا في الجزيرة العربيَّة، وعندما يعدل ويرمّم قواعد الإرث وطرق الزواج السائدة في الوسط القبلي إلخ.

عندما يقوم بكل ذلك فإنه يؤسّس تدريجيا نظاما سيميائيا يبطل النظام السيميائي الذي ساد في “الجاهليَّة” أي في المجتمع العربي السابق ويتفوق على الأنظمة المنافسة من يهوديَّة ومسيحيَّة وصابئة ومانويَّة ويجعل أمر إقامة دولة تطبق النظام السياسي الجديد ممكنا. وسيكون هذا النظام قابلا للاستمرار بفضل قدرة النص القرآني على بلورة رمزانيَّة دينيَّة جديدة في لغة مجازيَّة تتيح توليد الدلالات الملائمة للحالات التاريخيَّة الأكثر تغيرا واختلافا.

إنّ الإخضاع الذي تعرض له العامل الديني من قبل العامل السياسي من خلال تجربة الأمويين لا يجعلنا نسلم بحتميَّة ذلك الخلط المنسوب للإسلام ما بين الروحي والزمني، لأنّه مع مجيء عهد الدولة الإمبراطوريَّة فإن تأسيس الممارسة السياسيَّة على قاعدة الإبداعيَّة الرمزيَّة قد انتهى نهائيا. فمحمّد كان يرسخ يوما بعد يوم ولأول مرة نظاما سياسيا محددا، ثم يركّز قواعده بشكل ناجح ومطابق لمجريات عمليَّة الترميز. فكل قرار قضائي سياسي يتّخذ من قبل النبي كان يلقى مباشرة تسويغه الديني الرمزي من خلال العلاقة المعيشة مع الله، الله الذي كان فاعلا حيا من خلال التصرفات الشعائريَّة والحكايات النموذجيَّة المضروبة للعبرة والموعظة أي القصص القرآني الذي كان يقصّ على الوعي الأسطوري الحلقات الكبرى لتاريخ النجاة في الدار الآخرة. لكن مع الأمويين، حصلت عمليَّة معاكسة لتجربة النبوة. فقد أصبحوا يستخدمون الرأسمال الرمزي المتضمن في الخطاب القرآني من أجل تشكيل إسلام أرثودكسي وفرضه. إنّه نتاج الخيار السياسي التي اتخذته الدولة أو النظام الحاكم والذي راح يصفي معارضيه جسديا بحجّة تبنيهم لتأويل مخالف للخيار السياسي للدولة الحاكمة.

  2-الذات الإنسانيَّة والمنزع العلماني:

إنّ التوترات التي تشتد أحيانا بين المنزع الديني والمنزع الدنيوي، وتخفت أحيانا أخرى، ليست إلا صدى للنفس الإنسانيَّة في مختلف اعتمالاتها.

وقد عمل محمّد أركون على تعميق مسألة العلمنة بالبحث عن جذورها في الذات البشريَّة وتشخيص تجلياتها تحت مجهر علم النفس الذي أضاء نقاطا معتمة في الإنسان. وقد نجح أركون في الإفادة من مكتسبات هذا العلم حتى يدافع عن أطروحته وهي تأصيل المنزع العلماني في الفرد. في الواقع نجد في الإنسان حاجات ودوافع متزامنة تتجه عموما في اتجاهين أساسيين مترابطين أولا مرتبة الرغبة L’instance du désir مع كل القوى الملحقة بها(2). هذه القوى الفرديَّة والتاريخيَّة هي أيضا مظلمة وعصيَّة على الوصف. لكن التحليل النفسي وحده يستطيع أن يقبض على جوانب منها ويحللها. هذه الرغبة تتأرجح ما بين الرغبة في الله مع كل القوى التي أثارتها على مر التاريخ وصولا إلى الرغبة البسيطة المتمثلة في الإنجاب أو الغنى أو الهيمنة. إننا نختزل كثيرا هذا البعد البشري بعد الرغبة إذ نضعه ضمن الدائرة الدينيَّة فحسب كما كان قد فعل باحتكار وحيلة رجال الدين .حين أخضعوا كل الرغائب إلى أحكام فقهيَّة صارمة (المكروه/المندوب/الحرام/الحلال…) وهي نسغ الحياة وتوهجها. إن الرغائب هي المحركات الأوليَّة التي تتجسّد فيها نوازع الفرد وميولاته. وحتى لا يصبح الفرد عبدا لرغباته وأسيرا لها لا بد أن يتعلّم استبدال ميولاته اللاوعيَّة بتحكيم العقل الذي يرشد الإنسان من خلال التجربة إلى أن كل رغبة ينبغي أن تضبط. وأن يستبدل مبدأ اللذة بمبدأ الواقع حتى يحصل التوازن المنشود. ولبلوغ هذا المأرب نصل إلى الاتجاه الثاني وهو إلحاح الفهم والتعقل l’exigence de l’intelligibilité . هذا الإلحاح هو حاجة كامنة في أعمق أعماق الإنسان .هكذا كان الأمر دائما على مر العصور.لكن حدث تاريخيا أن إلحاح الفهم هذا كان قد تعرض للمقاومة وحرف عن دربه الصحيح(3).

فإيديولوجيات التبرير والتسويغ سواء في المجال الإسلامي أو المسيحي والتي كانت ترمي إلى اقتناص السلطة والاستحواذ عليها تشهد على ذلك. لقد حدثت عمليات تحريف في الماضي، تحريف للواقع وتزوير له إلى حد أن الإنسان اضطر للنضال والكفاح من أجل اكتساب حقه في المعرفة والفهم. ضمن هذا الخط النضالي من أجل الفهم والتعقل يندرج تاريخ العلمنة. لكن إلحاح الفهم والتعقل يصطدم بكل تجليات الرغبة وعليه أن يشق طريقه ويؤكد نفسه. في هذه البوتقة ينبغي موضعة ذلك التوتر الداخلي الذي يمتاز به الإنسان أيا كان الوسط الثقافي الذي ينتمي إليه. هذا التوتر يمكن أن يعاش بدرجات ووسائل ثقافيَّة مختلفة. إن الأطروحة التي يدافع عنها أركون هي أن العلمنة يمكن أن يعاش بدرجات ووسائل ثقافيَّة مختلفة و هي بالتالي لا يمكن أن تكون غائبة تماما عن التجربة التاريخيَّة لأيَّة جماعيَّة بشريَّة حتى ولو تجلت أحيانا في صور ضعيفة وغير مؤكدة، لكن يمكن لقوى الرغبة أن تتوصل في لحظة ما من لحظات التاريخ وفي وسط ثقافي معين إلى أن تخنق نهائيا إلحاح الفهم والتعقل عند الإنسان فلا يعود قادرا على التعبير عن نفسه لكن هذه الحالة يمكن أن تتغير. ذلك أنه ليس هناك من اختناق أبدي. كما يمكن في الآن نفسه أن ينقلب إلحاح الفهم والتعقل إلى عقيدة، أي أن تتحول العلمنة إلى إيديولوجيا تضبط الأمور وتحد من حريَّة التفكير كما فعلت الأديان سابقا.إن العلمنة ينبغي أن تتركز فقط في الإلحاح على الحاجة إلى الفهم والنقد داخل توتر عام في الإنسان ولا ينبغي أن تصبح سلطة عليا تحدد لنا ما ينبغي التفكير فيه وما لا ينبغي التفكير فيه.

 3- نحو آفاق أرحب

لقد أدرك العديد من المفكرين، ولا سيما علماء الإناسة، المأزق الذي آل إليه مسار العلمنة المناضلة la laïcité militante التي عرفت أوجها في القرن التاسع عشر والتي تصدّت لغطرسة الكنيسة وهيمنتها والتي نجحت في افتكاك مجالات متعددة من الحياة من براثن اللاهوت مثل مجال السياسة والثقافة والاقتصاد(4)..

وكان ذلك يعد مكاسب ثمينة للإنسان، لأنها استطاعت أن تشرع له حقه في استعمال حقه بكل حريَّة في فهم كل ما يحيط بحياته وتعقله دون وصاية من أحد ولكن بمرور الوقت، انقلبت العلمنة المناضلة إلى عقيدة إيديولوجيَّة تضبط الأمور وتحد من حريَّة التفكير، مما يجعل هذا الصنف من العلمنة المتشنجة في مرمى سهام النقد بالرغم من أن البعض يفهم دوافعها وأسباب تطرّفها ففرنسا، مثلا، عاشت كثيرا من حروب الأديان بين الكاثوليك والبروتستانت، ثم من تعصب الكاثوليك وارتباطهم بالنظام الملكي المستبد. وآن الأوان لممارسة تفكير جديد، ذي نظرة متطورة إزاء العامل الديني ولا بد من تجاوز العلمنة المناضلة إلى علمنة منفتحة .

إن رصد أركون للتطورات والمتغيرات التي تحصل في المجتمعات الأوروبيَّة قد مكّنه من اكتشاف تقارب بدأ يحدث بين الكنيسة والدولة في البلدان الغربيَّة المعلمنة. يرمي هذا التقارب إلى البحث عن صيغة جديدة ومشتركة من أجل علمنة جديدة تتيح إمكانيَّة وجود روحانيَّة جديدة. ويعبر عن هذا في فرنسا باحث في علم اجتماع الأديان هو إميل بولا في كتابه عن العلمنة:Emile Poulat, Liberté, Laïcité la guerre de deux France et le principe de la modernité, cerf, (paris 1987) 

إن هذا التوجيه الجديد يتماشى مع القناعة التي روج لها الأنتربولوجيون والتي مفادها أن الإنسان لا يعيش بالماديات فقط وإنما هو بحاجة إلى إشباع روحي أيضا مما جعل العلمانيَّة المناضلة تتهم اليوم بالسطحيَّة وذلك لأنها همشت الرمز والدلالة والمعنى. فالبحوث الأنتربولوجيَّة الحديثة كشفت عن أهميَّة المعنى في حياة الشعوب، وهو ما أهّل أصحاب تلك البحوث إلى الدعوة إلى ضرورة انفتاح الإنسيَّة العلمانيَّة على الإنسيَّة الدينيَّة، بحثا على أرضيَّة مشتركة تتكفل بإرجاع التوازن المفقود للذات الإنسانيَّة، التي ظلّت لقرون طويلة عرجاء بسبب استبداد أحد قطبي التوازن بمصير البشريَّة، وإقصائه للطرف الآخر.

لتجربة العلمنة في أوروبا رصيدها الذي بتراكمه أصبح يقتضي مراجعة نقديَّة ملحّة. ولكن ماذا عن العرب والمسلمين الذين لم يصوغوا إلى الآن تجربتهم الخاصة مع العلمنة من ناحيَّة، ومع المقدّس من ناحيَّة أخرى؟

لعل تلك مسألة أخرى تحتاج إلى بحث آخر (5)

_____
الهوامش

1. محمد أركون، الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، دار السافي (لندن 1990 –ص 58).

2.أركون، تاريخيَّة الفكر العربي والإسلامي، (بيروت 1986-ن م, ص293-3 ص292  )
4.محمد أركون، العلمنة والدين: الإسلام –المسيحيَّة-الغرب، دار الساقي(لندن 1990-4
– Voir aussi : Peter Berger, la religion dans la conscience moderne,

 (Paris 1971) P174
5-أنظر الى محاولتي كل من

-68  

عبد المجيد الشرفي العلمنة في المجتمعات العربيَّة الأسلاميَّة ضمن كتابه لبنات (تونس 1994) ص 53 – فتحي القاسمي، العلمانيَّة وانتشارها غربا و شرقا نشر ضمن سلسلة موافقات(تونس 1994) و لاسيما الفصل الثاني المعنون” بارهاصات العلمنة في المجتمعات العربيَّة و الأسلاميَّة قديما و حديثا صص 171-265   ).

جديدنا