حرب أكتوبر حينما يستحيل المجاز حقيقة ويقينًا

image_pdf

أنت مضطر للوقوف طويلا أمام كلمات الرئيس المصري بطل الحرب والسلام الزعيم الراحل محمد أنور السادات متدبرا ومتأملا زهوه الاستثنائي بالنصر العربي والمصري الذي تحقق في أكتوبر 1973، تلك الكلمات التي تظل دونما ملل أو كلل لدى المتلقي مصدر فخر وسعادة وبهجة ومن ثم تعد سببا من أسباب التمكين العربي على مر العصور.

جاءت الكلمات خالدة كصاحبها في يوم السادس عشر من أكتوبر بالجلسة التاريخية لمجلسي الشعب والشوري المصري حينما بدأها مستهلا طاقة الأمل والقوة والنصر قائلا:

” بسم الله، أيها الإخوة والأخوات، كان بودى أن أجيء إليكم قبل الآن، ألتقى بكم وبجماهير شعبنا وأمتنا، لكن مشاغلي كانت كما تعلمون وكما تدرون، وأثق أنكم تقدرون، ومهما يكن فلقد أحس بكم وبشعبنا وأمتنا معا فيما أخذت على مسؤوليتي تعبيرا عن إرادة أمة، وتعبيرا عن مصير شعب، مناسبا أن أجيء إليكم اليوم أتحدث معكم ومع جماهير شعبنا ومع شعوب أمتنا العربية وأمام عالم يهمه ما يجرى على أرضنا لأنه وثيق الصلة بأخطر القضايا الإنسانية، وهى قضية الحرب والسلام، ذلك لأننا لا نعتبر نضالنا الوطني والقومي ظاهرة محلية أو إقليمية لأن المنطقة التى نعيش فيها بدورها الاستراتيجي والحضاري في القلب من العالم وفى الصميم من حركته”.

بهذه العبارات الافتتاحية بدأ الرئيس الراحل محمد أنور السادات حديثه وهو الأشد فخرا بما حققه الجيش المصري العظيم والأقوى بالمنطقة العربية وكيف تحقق النصر المبين عن طريق إرادة قوية وتخطيط فريد وعزيمة مميزة وتنفيذ يأتي النموذج الأمثل للمعارك الحربية في العصر الحديث.

لذا كان من المنطقي جدا أن يباغتنا الزعيم السادات بصوته الفريد وبثباته الذي لم يفارقه أو يتخلى عنه حتى لحظة استشهاده على أيدي حفنة من الغادرين الجهلاء الذين ظنوا أنهم امتلكوا الحقيقة عن طريق ثمة رجال دغدغوا أعصابهم وسيطروا على أدمغتهم بأحاديث الزعامة الواهمة الواهنة وراحوا ضحية فكر مغلوط ومنطق غير محمود.

جاء السادات في حديثه التاريخي منشدا أبلغ الخطابات السياسية على مر التاريخ العربي حينما قال:

” لست أظنكم تتوقعون منى أن أقف أمامكم لكى نتفاخر معا ونتباهى بما حققناه فى أحد عشر يوما من أهم وأخطر بل وأعظم وأمجد أيام تاريخنا، وربما جاء يوم نجلس فيه معا لا لكى نتفاخر ونتباهى ولكن لكى نتذكر وندرس ونعلم أولادنا وأحفادنا جيلا بعد جيل، قصة الكفاح ومشاقه ومرارة الهزيمة وآلامها وحلاوة النصر وآماله، نعم سوف يجيء يوم نجلس فيه لنقص ونروى ماذا فعل كل منا فى موقعه، وكيف حمل كل منا الأمانة وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة فى فترة حالكة ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق حتى نستطيع أن نعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء”.

وكم كنت أتمنى أن تستعير الأنظمة التعليمية الغارقة في استخدام الرقميات دون توظيفها، وأن تكترث السياسات التربوية بعض الوقت لإحداثيات النص التاريخي لنصر أكتوبر مستلهمة تفاصيله اللغوية والوجدانية في مناشط تعليمية شتى، ليست من قبيل رسم الطلاب لوحة تعبر عن الحرب أو تصف شكل الطائرة والدبابة والجندي كما هو في اعتيادنا التعليمي، إنما في إبداع قصة أدبية، أو محاكاة النص نفسه بصورة السيناريو القصصي الحواري، أو حتى تمكين المتعلمين في تصميم نماذج تحاكي الحدث بأيديهم مما يعزز العمق الوطني والقومي والعروبي لديهم.

إن السادات هذا الزعيم الذي قلما يتكرر في تاريخنا العربي تزامنا مع انتصاره الفريد على الكيان الصهيوني لم يكن مبالغا أو متجاوزا تخوم البلاغة العربية وحدودها حينما صادف صوته أسماعنا قائلا:

” حاولت أن أفى بما عاهدت الله وما عاهدتكم عليه قبل ثلاث سنوات بالضبط من هذا اليوم، عاهدت الله وعاهدتكم أن قضية تحرير التراب الوطنى والقومى هى التكليف الأول الذى حملته ولاء لشعبنا وللأمة، عاهدت الله وعاهدتكم على أن لن أدخر جهدا ولن أتردد دون تضحية مهما كلفنى فى سبيل أن تصل الأمة إلى وضع تكون فيه قادرة على دفع إرادتها إلى مستوى أمانيها، ذلك أن اعتقادنا دائما كان ولا يزال أن التمني بلا إرادة نوع من أحلام اليقظة يرفض حبى وولائى لهذا الوطن أن تقع فى سرابه أو في ضبابه”.

إن أكتوبر يحمل عاماً على صدر عام ذكرى أعظم انتصار للعسكرية المصرية التي اتحدت مع عروبتها في العصر الحديث، وسنتجاوز القول بأن مصر جميعها شعباً وجيشاً استطاعت في السادس من أكتوبر أن تنتصر للكرامة والإنسانية وأن تعبر حواجز اليأس لتضرب بذلك أروع وأعمق ملحمة وطنية تجبرنا على التفكير فيها عقوداً طويلة قادمة.

ولست أبالغ القول والبيان إن قلت بإن انتصار أكتوبر قاده شعب عظيم قبل جيشه الذي قدم للوطن حدثاً فريداً في تاريخه ومجداً مقيماً نظل نتذكره ونُذكِّره أيضاً للأجيال المتعاقبة، هذا النصر إن أمكن لنا تحليل هدف استرجاعه ذهنياً هو مطمح راق من أجل عدم الوقوع في غياهب الإحباط أو الاستسلام الوئيد لمشاعر اليأس التي تجتاح صدور بعض المصريين، إن أكتوبر النصر والحدث درس عظيم من شعب قادر على لم شتاته وقت الأزمات والشدائد التي تعصف به، فالمواطن الذي مزقته وقائع السياسة الداخلية وإبطاء قرار العبور العظيم نجح في أن يعبر أزمته النفسية واجتاز بنجاح مخاطر المرحلة الضبابية والحرب النفسية التي كان يحياها مثلما استطاع البواسل ضباط وجنود مصر العظيمة دائماً في اقتحام واجتياز وعبور خط بارليف الذي صُوِّر للبعض أنه منيع.

إن نصر أكتوبر بالنسبة لأجيال النصر أكبر من انتصار عسكري على الكيان الصهيوني المتغطرس آنذاك، وأعمق من مجرد تخطي هزيمة يونيو 1967م، وأروع من تلك المشاهد السينمائية التي جسدتها أفلام السبعينيات والتي أعقبت النصر، ولكي يدرك المصريون عظمة الانتصار التاريخي فعليه أن يرجع إلى الوثائق العسكرية الأمريكية التي أفادت عن استيقاظ الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون من سباته الذي لك يكن عميقاً بالقطع واستدعائه كبار مستشاريه حينما علم أنباء الحرب من أجل التشاور وإعداد التقارير التي كالعادة تبوء بالفشل مثلما باءت تقاريرهم بالفشل الذريع في الخامس والعشرين من يناير 2011م والثلاثين من يونيو 2013م، وجاءت التقارير لتفيد خطورة تقدم إسرائيل وعبورها قناة السويس واحتلالها مدينة القاهرة وضربها بالطائرات والصواريخ ثم الاستدارة إلى سوريا لاحتلال عاصمتها دمشق.

هذا ما أكده الزعيم الراحل أنور السادات في خطابه التاريخي وهو يصف نكسة يونيو بأنها الاستثناء في عقيدة المصريين وليست القاعدة، وأن ما جرى وحدث ضمن وقائع نكسة يونيو ما هي إلا تفاصيل باهتة قلما تتكرر في تاريخ المصريين.

قال السادات: ” عاهدت الله وعاهدتكم على أن نثبت للعالم أن نكسة 1967 كانت استثناء فى تاريخنا وليست قاعدة وقد كنت فى هذا أصُر عن إيمان بأن التاريخ يستوعب (7000) سنة من الحضارة ويستشرف آفاقاً أعلم علم اليقين بأن نضال شعبنا وأمتنا لايعلو عنها وللوصول إليها وتأكيد قيمها وأحلامها العظمى، عاهدت الله وعاهدتكم على أن جيلنا لن يسلم أعلامه إلى جيل سوف يجيء بعده منكسة أو ذليلة، وإنما سوف نسلم أعلامنا مرتفعة هاماتها عزيزة صواريها قد تكون مخضبة بالدماء، لكننا ظللنا نحتفظ برؤوسنا عالية فى السماء وقت أن كانت جباهنا تنزف الدم والألم والمرارة. عاهدت الله وعاهدتكم على ألا أتأخر عن لحظة أجدها ملائمة ولا أتقدم عنها لا أغامر ولا أتلكأ، وكانت الحسابات مضنية والمسؤولية فادحة، لكننى أدركت كما قلت لكم وللأمة مرارا وتكرارا أن ذلك قدري، وأنى حملته على كتفي، عاهدت الله وعاهدتكم وحاولت مخلصا أن أفى بالوعد ملتمسا عون الله وطالبا ثقتكم وثقة الأمة، وإنى لأحمد الله”.

ولاستدراك متابعة الحدث قام وزير الخارجية الأمريكية ومهندس اتفاقيات السلام هنري كسينجر بالاتصال هاتفياً بالدكتور محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر والذي كان موجوداً بالفعل في نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وطبعاً كان الاتصال الهاتفي مفاده أن يتوقف القتال الدائر خشية الرد الإسرائلي القوي والطاغي لاسيما وأن مصر وسوريا لا تحتملان هذا الرد.

وكانت صفعة الدكتور محمد حسن الزيات قوية حينما أبلغ هنري كسينسر أن القوات المسلحة المصرية الباسلة أصبحت على الضفة الشرقية للقناة من بورسعيد شمالاً وحتى عيون موسى جنوباً، وهرع هنري كسينجر إلى الزيات بضرورة وقف إطلاق النار فوراً وعودة القوات المسلحة إلى خطوطها السابقة على العبور العظيم. ثم جاءت صفعة ثانية لوزير الخارجية الأمريكي حينما قوبل طلبه الساذج بالرفض لسبب بسيط في مظهره عظيم في الجوهر والكنه والهدف، ذلك لأن جنودنا البواسل الأبطال كانوا على أرض المعركة إما النصر أو الشهادة فلم يسمعوا بهذه الأخبار أو الالتفات لاقتراحات كسينجر المجحفة والتي كانت تستهدف تعويق النصر المصري الذي تحقق بالفعل.

ورغم أن قصة أكتوبر محفوظة بالذاكرة والقلوب أيضاً لكن لابد من التذكرة ببعض التفاصيل المدهشة مثل أنه حينما أدرك قادة الكيان الصهيوني بخطورة وفداحة الهزيمة على أيدي هؤلاء الجنود البواسل المخلصين لأوطانهم لجأوا مساكين تحديدا جولدا مائير وموشى ديان إلى الولايات المتحدة الأمريكية استنجاداً بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون كي تتدخل مباشرة في الأحداث. هذه مصر القوية وهذا هو نصرها العظيم الذي يريد بعض المتنطعين اليوم أن يتغافل عنه ويتجاهل عظمة وقوة وبسالة هذا الجيش الاستثنائي.

لكن بات من المهم أن يعي الشباب المصري والعربي كيف استطاع الجيش المصري العظيم أن القوات المسلحة المصرية استشرفت خوض الحرب عقب هزيمة يونيو الحزينة في والتخطيط العميق والطويل غير المتسرع لعبور قناة السويس.

لقد نجحت القوات المسلحة المصرية أن تركز جهودها وتوظِّف طاقتها مستغلة دعم وطني خالص قُدِّمَ من جانب الشركات المدنية من القطاع الخاص والقطاع العام وقامت بالتشارك في أعمال قومية شملت كافة ربوع مصر جميعها ليس في منطقة سيناء ومدن القناة فحسب.

وكان من نتائج هذه الشراكة الوطنية إقامة تحصينات منيعة حماية المدنيين والعسكريين فضلا عن حماية الأسلحة والمعدات والذخائر، كذلك حفر الخنادق ومرابض النيران للمدفعية الرئيسية والتبادلية المؤقتة والهيكلية وتجهيز مراكز القيادة، وإقامة وتعلية السواتر الترابية غرب القناة وإنشاء هضبات حاكمة علي الساتر الترابي لاحتلالها للدبابات والأسلحة المضادة للدبابات كما تم إنشاء نقط قوية في الاتجاهات ذات الأهمية الخاصة و إنشاء شبكة الصواريخ المضادة للطائرات. وأيضا تفادياً لما حدث في هزيمة يونيو 1967 تم إنشاء ملاجئ ودشم خرسانية مسلحة للطائرات والمعدات الفنية بالقواعد الجوية والمطارات وزودت بأبواب منا لصلب وإنشاء 20 قاعدة ومطارا وتشكيل وحدات هندسية في كل مطار لصيانة وسرعة إصلاح الممرات بمجرد قصفها. وتم تزويد المشاة بمعدات خاصة وأسلحة دعم تتناسب مع مشكلة عبور قناة السويس بعد ان أصبحت الشدة الميدانية (البل) التي كان معمولاً بها في القوات المسلحة لا تتناسب مع الظروف الجديدة. وهذا ما جاء ذكره نصا بمجموعة من المصادر العربية والأجنبية التي أرَّخت لحرب السادس من أكتوبر من أهمها كتاب (William B.Quandt, Peace Process: American diplomacy and the Arab-Israeli conflict since 1967) .

لقد ظل الكيان الصهيوني منذ هزيمة يونيو 1967م يروج بامتلاكه قوة عسكرية لا تقهر، وأسلحة مبتكرة لا يمكن إقصاؤها بالهزيمة لاسيما من مصر التي لا تفكر في المواجهة لضعفها، وبعد أن استفاقت إسرائيل الصهيونية على حقيقة وواقع مرير بالنسبة لها خرج العالم بصحفه ومطبوعاته ووسائطه المسموعة والمرئية يؤكد أن أداء العسكرية المصرية فاق كل توقعات الحرب وتقدير كافة الخبراء العسكريين، وأدرك الغرب الأوروبي وأمريكا أن خريطة المنطقة قد تغيرت، الأهم من ذلك حيرة علماء النفس في العالم الذين تاهوا وسط دراساتهم وأبحاثهم التنظيرية الفارغة من الحقيقة حينما وقفوا باهتين مندهشين كيف استطاع هذا الشعب بجيشه أن يجتاز مرحلة التعثر والتشتت والحيرة لينتصر على أمريكا الصغرى أقصد إسرائيل.

وفرق كبير بين انتصار أكتوبر العظيم بالنسبة للمصريين وانتصار الكيان الصهيوني علينا في يونيو 1967، فالإسرائيليون ظلوا ست سنوات يعايرون مصر والدول العربية بمرارة الهزيمة وطعمها المرير وتوقفوا عند حد هذه الفاصلة الثابتة، أما المصريون فكانوا خلاف ذلك، إنهم لم يلتفتوا إلى النصر على إسرائيل فحسب بل لم تكن هزيمة الكيان الصهيوني بالنسبة لكثير من المصريين موضوع الحديث، بل إن الأجدى لديهم وقتذاك كان الحديث عن بطولات الجندي المصري، وخصاله الوطنية، وصفاته الاستثنائية، وتضافر روح التعاون والتكاتف بين الشعب والجيش وأن المصر قادر على الأخذ بزمام المبادرة والمبادأة.

وحينما اطلع المصريون على نص التوجيه السياسي العسكري الذي صدر في أول أكتوبر من الزعيم الخالد البطل الوطني المخلص محمد أنور السادات والذي نص على إزالة الجمود العسكري الحالي بكسر وقف إطلاق النار اعتباراً من يوم 6 أكتوبر 1973، وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة في الأفراد والأسلحة والمعدات، والعمل على تحرير الأرض المحتلة على إمكانيات وقدرات القوات المسلحة. أدرك المصريون وقتها أنهم بالفعل قادرون على عبور الهزيمة النفسية والوصول إلى أقصى مراتب الأمل.

ومثلما أكد خبراؤنا السياسيون الأجلاء بأن أعظم الأسلحة التي واجهنا بها العدو الصهيوني الخبيث والماكر والمستجدي بالمعسكر الأمريكي كان سلاح الصبر أو بتعبير دقيق بدستور الصبر الذي تجسد من خلال تخطيط محكم وعزيمة وطنية وإدارة عسكرية ملتزمة بالواجب الوطني الذي لم تتخلى عنه يوماً واحداً منذ إنشائها.

ولمن يفطن حقيقة الانتصار التاريخي للقوات المسلحة المصرية الباسلة على الكيان الصهيوني يدرك بضرورة الوعي بأن سنوات المرارة والهزيمة في يونيو 1967 واستنزاف دماء المصريين ومشاعرهم بصورة يومية واستحالة العبور بل واستحالة التفكير في الحرب من الأساس كل هذا كان كفيلاً بتحقيق النصر إذا ما فكرنا فيه بشكل إيجابي، فالمواطن من حقه أن يستسلم لمشاعر اليأس والإحباط التي تعتريه بعد نكسة يونيو وأن تفاصيل المشهد السياسي آنذاك أصبح ينبئ بالانكسار المستدام، أما على الشاطئ الآخر فهناك رجال يؤمنون بدورهم الوطني وبحقهم في أن يحتفظ سجل التاريخ بأسمائهم لما سيقدمونه من أعمال وبطولات وتضحيات لبلادهم وأوطانهم ولأنفسهم أيضاً،  هؤلاء الرجال الذين أتقنوا بحق دقة التخطيط، وكما ذكر مرسي عطا الله في كتابه الماتع عن حرب أكتوبر عن صفاتهم التي تجسدت في براعة الإعداد وحسن الحشد وروعة الأداء.

ثمة أمور أخرى من شأننا الترويج لها ونحن نرصد بالذكر نصر أكتوبر المجيد منها تنوع الخطط العسكرية التي استخدمت في المعركة الوطنية العظيمة ؛ فلم يقتصر الجيش المصري على خطة واحدة بعينها قد تشكل عائقا إذا ما تم التصدي لها من جانب العدو الصهيوني، أو حدث شئ قد يخفق تحقيق النجاح، لذا فإن القوات المسلحة المصرية اعتمدت مجموعة من الخطط العسكرية منها الخطة 200 التي وضعها العبقري المصري الفريق محمد أحمد صادق (1916 – 15 مارس 1991) وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة المصرية عامي 1971-1972، وكان كبير معلمي الكلية الحربية ومدير المخابرات الحربية، وخطة المآذن العالية، والخطة ” جرانيت 2 “، وأخيرا الخطة ” بدر ” والتي اقترحها الفريق سعد الدين الشاذلي.

كل هذا ولك أن تندهش حينما تعرف أن أكبر خطة عسكرية استخدمت هي خطة التمويه الخادعة، ليست تلك الأخبار التي اعتاد العرب على سماعها بإرسال الضباط إلى القيام بعمرة بمكة المكرمة، أو إعطاء إجازات واسعة للضباط والجنود، أو حتى الخبر الذي تم ترويجه عن طريق الملك حسين ملك الأردن بأن الرئيس السادات يعتزم الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإلقاء كلمة يوم الخامس من أكتوبر في مجلس الأمن وغيرها من خطط الخداع الاستراتيجي، بل إن أكبر خطة كانت تتمثل في التدريب العسكري الذي تم عن طريق تحالف سياسي سلمي معلن بين القيادة السياسية في مصر وسوريا قبل الحرب في مشروع للوحدة مع ليبيا والسودان رأى فيه الكيان الصهيوني حالة استرخاء للقيادات السياسية في البلدين. ولم ير في تشارك الوحدة والتحالف بحسب ما جاء في ” مذكرات حرب أكتوبر ” للفريق سعد الدين الشاذلي بعدها الاستراتيجى في أن ليبيا والسودان قد أصبحا هما العمق العسكرى واللوجيستى لمصر. فقد تدرب الطيارون المصريون في القواعد الليبية وعلى طائرات الميراج الليبية ونقلت الكلية الحربية المصرية إلى السودان بعيدا عن مدى الطيران الإسرائيلى، وقد سمح مشروع الوحدة بجلوس القادة العسكريين في مصر وسوريا على مائدة المفاوضات أمام عيون الموساد للتنسيق فيما بينهم على موعد الحرب. كما تم تطوير مصلحة الدفاع المدني قبل الحرب بمعدات إطفاء قوية وحديثة ومنها طلمبات المياه التى استخدمت في تجريف الساتر الترابى بطول الجبهة وذلك بعيدا عن عيون الموساد.

ولك أن تفتخر بعظمة العقل المصري الذي فكر ودبر في وسيلة سحرية لفتح الثغرات في الساتر الترابي المنيع عن طريق سحر المضخات المائية وليس اللجوء إلى المدفعية أو القنابل أو أنواع المفرقعات المختلفة. وما أجمل أن نستغل براعة هذا العقل الجميل في معركة إعادة البناء الداخلي للوطن وهي معركة شريفة لا تقل أهمية أو شرفاً عن معركة العبور في أكتوبر المجيد.

أكتوبر الذي يظل أهم إحدى العلامات الفارقة في العسكرية العالمية التي ينبغي أن نعتز بها ونكرس ثقافتها لدى أبنائنا وطلابنا، هذه العسكرية المذهلة التي وقف عندها ذهولاً ودهشة الجنرال الإسرائيلي ناركس نائب القائد العام للجبهة الجنوبية يوم التاسع من أكتوبر 1973 بقوله: ” لابد أن نشهد للمصريين بحسن تخطيطهم، لقد كانت خطتهم دقيقة وكان تنفيذهم لها أكثر دقة، لقد حاولنا بكل جهدنا عرقلة عملية العبور وصدها بالقوة وردها على أعقابها، للكننا ما كدنا نتمثل ما حدث إلا وقد تحققت لهم نتائجه كأننا أغمضنا أعيننا وفتحناها فإذا بالجنود المصريين قد انتقلوا تحت النار من غرب القناة إلى شرقها ووجدناهم صباح السابع من أكتوبر بخمس فرق كاملة أمامنا “.

هي مصر بجيشها وجنودها البواسل وقواتها المسلحة الصامدة وشعبها الرائع التي شكلت أروع ملحمة عسكرية وإنسانية في تاريخ البشرية الحديث والمعاصر ؛ ملحمة عسكرية باجتيازها خط بارليف المنيع وتحطيم أسطورة الكيان العسكري الصهيوني والجيس الذي لا يقهر فكان قهره على أيدي المصريين الذين ارتوت أرض الفيروز بدمائهم الشريفة، جيش عظيم استطاع بفضل إدارة حكيمة وعقول مستنيرة أن تخطط وتصبر، ثم تدبر، ثم تنظم صفوفها لتدير أروع بانوراما عسكرية في تاريخ مصر، ولأنني أرفض المحايدة والموضوعية حينما أتحدث عن وطني هي أغلى وأعظم بانوراما عسكرية في العالم أيضاً.

هي مصر العظيمة شعباً وجيشاً، شعب يثور ويفجر طاقات الإبداع والحراك الجماهيري الاستثنائي ويقف وراء جيشه الباسل وهو يصنع معجزة القرن العشرين العسكرية، هذا الشعب الذي لم يكن المعلم والملهم فحسب، بل هو البوصلة التي تحرك الأرض فتهتز طرباً تارة، ووجعاً تارة أخرى.

تمر ذكرى حرب أكتوبر المجيدة، ونحن لا نزال نحتفي بجنودنا البواسل وقواتنا المسلحة التي مهدت وهيأت لجيلنا أن يغدو مرفوع الرأس بغير انحناء، أنا وغيري من مواليد هذه الحرب، أعيننا لا تزال متعلقة برئيس استثنائي خالد هو الرئيس محمد أنور السادات، الذي حارب وانتصر، وسالم فانتصر ووقى جيلي ويلات الحروب وبطشها الغاشم.

وقديما كنا نسمع إذا أردت أن تكون رجلاً قوياً صاحب تجربة حقيقية يجب عليك أن تلتحق بالخدمة العسكرية وخدمة الجيش المصري مصنع الرجال، فكيف فأولئك الذي حاربوا وعبروا وانتصروا وقدموا أرواحهم هدية لنا ولجيلي الذي يقدر أدوار البطولة وحزن عندما شاهد قتلة السادات بطل الحرب والسلام وهم يحتفلون بجواره بنصر أكتوبر. لكنه كان على يقين بأن الظلمة وإن طالت سيأتي صبح جديد.

مصر التي وجدنا في قصائد صلاح جاهين، وعرفناها في شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، وتلمسنا سحرها في ثنايا كتابات العبقري جمال حمدان، وهي البهية الطاهرة المهرة الولادة عند أحمد فؤاد نجم، وهي الأهرامات والنيل وقناة السويس والسد العالي، وهي الجندي والفلاح البسيط والموظف والوزير والرئيس، هي درس بسيط في التنوع الثقافي، ولو أدركت إسرائيل هذا الأمر لكان عليها أن تبني مائة خط باليف آخر.

أكتوبر الذي يظل أهم إحدى العلامات الفارقة في العسكرية العالمية التي ينبغي أن نعتز بها ونكرس ثقافتها لدى أبنائنا وطلابنا، هذه العسكرية المذهلة التي وقف عندها ذهولاً ودهشة الجنرال الإسرائيلي ناركس نائب القائد العام للجبهة الجنوبية يوم التاسع من أكتوبر 1973 بقوله: ” لابد أن نشهد للمصريين بحسن تخطيطهم، لقد كانت خطتهم دقيقة وكان تنفيذهم لها أكثر دقة، لقد حاولنا بكل جهدنا عرقلة عملية العبور وصدها بالقوة وردها على أعقابها، للكننا ما كدنا نتمثل ما حدث إلا وقد تحققت لهم نتائجه كأننا أغمضنا أعيننا وفتحناها فإذا بالجنود المصريين قد انتقلوا تحت النار من غرب القناة إلى شرقها ووجدناهم صباح السابع من أكتوبر بخمس فرق كاملة أمامنا “.

_________

*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل/ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م)./ كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر.

جديدنا