السياسات الإعلاميَّة … وتحدِّيات التواصل

image_pdf

تمثِّل إدارة السياسات الإعلاميَّة تحدِّيا جديدا أمام دول العالم فدول المستقبل لن يكون لها وجود حقيقي دون أن تكون لها سياسات إعلاميَّة، قرأتُ كثيراً في هذا الاتجاه باللغة الإنجليزيَّة، أما باللغة العربيَّة فلا يوجد مؤلّف محدّد في هذا الاتجاه، فقط مؤلفات في الإعلان وأسسه، في الاتصال الجماهيري، الإعلام ومعالجة الأزمات إلى غير ذلك.

إذ كانت هناك خبرات متراكمة ورصد متتابع مني لجهود العديد من المؤسَّسات في هذا المجال، لكن لا بد من أن أكون أكثر تحديدًا لمسألة إدارة السياسات الإعلاميَّة، إن هذه الإدارة هي فن من فنون الدبلوماسيَّة شديدة التعقيد والتركيب، إذ هي تجمع بين توازنات داخل المؤسَّسة قد تتطلَّب في وقت ما كبح جماح التوجه نحو الإعلام بسرعة غير مطلوبة من بعض إدارات المؤسَّسة، وفي وقت آخر حث وإقناع بعض الإدارات على التوجه نحو الإعلام وتلبية متطلباته، كما أن هذه الدبلوماسيَّة قد تمارس داخل الدولة وخارجها، إذ من المطلوب تكثيف المادة الإعلاميَّة التي قد يجري بثها للوسائط الإعلاميَّة المختلفة، أو التقليل من حجم هذه المادة، لكن متى يتم هذا ومتى يتمّ ذاك، لا شك أن ذلك يتطلَّب قراءة جيدة يوميَّة من شخص ما للحياة السياسيَّة والثقافيَّة والأحداث الجارية، حتى يتسنَّى لهذا الشخص اتِّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.

ثم يلي هذا نوع المادة التي ستقدَّم للجمهور من خلال العديد من الوسائط الإعلاميَّة التي أصبحت من الكثرة بحيث قد تربك الشخص المسؤول، لكن هنا يبقى الفيصل هل حدَّد هدفه؟ هل حدَّد نوعيَّة المادة؟ هل حدَّد وسيلة الاتصال المناسبة؟ هل يستخدم كل الوسائط أم بعضها؟ المهارة التامَّة تكمن في استخدام كل الوسائط لكن الاكتفاء بوسيط دون الآخر قد يضعف أداء الإدارة، فالاتِّصال المباشر وهو أقدم الوسائط التي عرفها الإنسان ما زال أكثر الوسائط فاعليَّة وأكثرها صعوبة، لأن فيه إما أن يفقد المتصل به إلى الأبد، أو يكسبه إلى الأبد؟!

هنا يبرز الإقناع ولغة الحديث ولغة الخطاب كوسيلة من وسائل الإعلام، في عصر السماوات المفتوحة والإنترنت، قد يبدو مستغربًا أن العديد من المؤسَّسات بل حتى الحكومات تلجأ إلى الاتصال المباشر بالجماهير، لأنّ العلاقة المباشرة تحمل حميميَّة التواصل الإنساني، حتى الولايات المتحدة الأمريكيَّة واليابان تلجآن إلى مثل هذا النوع من الدعاية، فالولايات المتَّحدة لديها برنامج الزائر، حيث تستضيف من خلاله أحد الأشخاص المرشحين في بلد ما للصعود السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي لزيارة الولايات المتحدة لمدة شهر، ليبهر ببلد العام سام، تمَّ من خلال هذا البرنامج استضافة شخصيات تبوأت مناصب عليا فيما بعد في بلادها سواء من أوروبا أو إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينيَّة، الملفت للنظر عند حديثي مع العديد من الأشخاص سواء من مصر أو من دول أخرى ممّن استفادوا من هذا البرنامج، أن كل فرد منهم أعد ملفًا مسبقا عنه، حدّد من خلاله ميول وأهواء هذا الشخص وما يحبّه وما يكره، بحيث تخطِّط الزيارة وفق هذه الدراسة التي هي في جانب منها لها بعد نفسي وآخر انثروبولوجي، ولكي أوضح الجانب الأخير، فلا بد وأن أنبّه له، فلا يستحسن أن تدعو شخصا من بلد مسلم لديسكو، في حين من المحبَّب أن تجعل زائر أوروبا ينبهر بالحداثة في مجال التكنولوجيا، على حين يجب أن تري صينياً ذا تراث عريق متحف المتروبوليتان، في جانب آخر تقدم الولايات المتحدة نفسها على أنها أرض للتعايش الحضاري بين ثقافات متعددة، ولا مانع هنا من زيارة ناسا أو مفاعل نووي أو مشاهدة مترو لوس أنجلوس أو وادي التكنولوجيا في كاليفورنيا أو مصانع بيونج للطائرات مع العروج على البيت الأبيض ومكتبة الكونجرس، المهم في نهايَّة الأمر أن يتم غرس نوع من الحب والانبهار، وتركك وقد اقتنعت بعظمة أمريكا أم الدنيا المعاصرة .

الملفت للنظر في مثل ترتيب هذه الزيارات أنَّ المرافق للزائر، يحمل بتعليمات تتوافق مع طبيعة الزائر، بل قد تكون تركيبته الشخصيَّة أو كيمياءه النفسيَّة تتكامل معه، لكي يتحوَّل الاثنان إلى أصدقاء، هكذا تنشأ الدول العظمى لها أصدقاء في مختلف أنحاء العالم، وكانت الولايات المتحدة الأمريكيَّة قد وجهت الدعوة للسادات في عام 1965 م لزيارة الولايات المتحدة في إطار هذا البرنامج، وهو ما يعكس قراءة جيِّدة منها للواقع السياسي في مصر.

في عصر الرئيس جمال عبد الناصر، كان طلبة المدارس والعامة من الشعب لديهم حالة إبهار بكاريزما الزعيم، لذا كان يرسلون له طالبين صورة شخصيَّة منه، سرعان ما يقوم مكتبة بإرسالها ممهورة بتوقيعة، تخيل طفل في نجع في صعيد مصر في منطقة منسيَّة مهملة، تصله فجأة أمام أهل قريته رسالة من رئيس الجمهوريَّة، فيها صورة عليها توقيعه، كيف سيكون رد فعلها لدى أهل القريَّة، لاشك أنه سيكون كبيرا، بل ها هو تأثيرها لدى الطفل سيدافع عن عبد الناصر مدى الحياة، لذا لم أكن مستغربا أن أرى صورة جمال عبد الناصر معلقة في بعض المحال أو المنازل، لأن من أعدوا له صورته لدى الشعب أحسنوا وأدركوا أهميَّة الاقتراب من رجل الشارع .

هنا يجب أن ألفت الانتباه إلى الحضور الإعلامي، فهناك أشخاص ليس لديهم حضور إعلامي وآخرين تجذبهم الكاميرا، بل وآخرين يخطفون الكاميرا الفرق بينهم شاسع، لذا فمن المهم دراسة سيكولوجيَّة الأداء الإعلامي، وتجنب السلبيات الخاصة بضعف شخصيَّة أمام وسائل الإعلام، فعلى الرغم من جاذبيَّة جورج الابن احتاج لمعالجات عديدة وتدريبات حتى يصبح لديه قابليَّة جماهيريَّة .

إن تفهم طبيعة الجمهور المخاطب وسيلة أساسيَّة من وسائل النجاح الإعلامي، بل نجد كثير من الساسة لجأوا إلى حيل عديدة لكسب الجمهور، فها هو نابليون عند غزوه لمصر يشهر إسلامه ويتبنَّى منشورات تدعو المسلمين في مصر لمساندته ضد الظلمة المماليك، ويحضر الموالد الإسلاميَّة، بل نرى الرئيس السادات يبرع في هذا حين يرتدي أحدث الأزياء في القاهرة وعند سفره خارج مصر، ويلبس الجلباب والعباءة في ميت أبو الكوم، فالأولى لديه طبقة وجمهور معين يتناسب معه البذلة وربطة العنق المتناسقة معها وطريقة الإيليت في التعامل، والثانية كان لدى السادات فيها جمهور آخر يخاطبه هو جمهور الفلاحين والعمال وأهل المدن الصغيرة، الذي كان يهدف إلى إقناعهم بأنه واحد منهم يأكل البط والأوز في المولد النبوي على الطبليَّة، بل نشأ مثلهم، وأن لديه قيم الريف الأصيلة.

كان السادات رجل إعلام عشق الصحافة منذ صغره، لذا كان من المتوقع أن تستقل شخصيته عن محمد حسنين هيكل الإعلامي البارز الذي لعب دوراً كبيرا في صناعة صورة وشخصيَّة عبد الناصر أمام الرأي العام المحلي والعربي الدولي. لعل هذا هو المنشأ الحقيقي للخلاف بينهما بعد العام 1973، على الرغم من كونهما صديقين، لكن السادات أراد أن يقدِّم نفسه برؤيته التي اكتسبها وبناها من عمله في الإعلام. لكن في عصر الإنترنت والفضائيات والصحف الإلكترونيَّة والتلفاز والمذياع وغيرها من الوسائط الإعلاميَّة، هل يصلح أن يعتمد شخص على ذاته في صناعة صورته، أو تعتمد مؤسّسة على فرد في تقديم صورتها، أو شركة على وكالة إعلانات ذات اتجاه واحد في تقديم منتجها، أو دولة على سياسات ثابتة في تقديم إنجازاتها، لا شك أن هذا لم يعد يجدي في عصرنا ؟!

من هنا تجيء أهميَّة ادارة السياسات الاعلاميَّة العلم الغائب في كليات الإعلام في مصر،  مثل هذا العلم لا يبنى على العشوائيَّة بل يخضع لقواعد وخبرات متراكمة، لا تخرج في نهاية الأمر عن كونها تخضع للتخطيط Planning وتعني به توظيف الإمكانيات البشريَّة والماديَّة المتاحة والتي يمكن أن تتاح خلال سنوات السعي من أجل تحقيق أهداف معينة مع الاستخدام الأمثل لهذه الإمكانيات، ويقوم على مجموعة عناصر: المدى الزمني، معرفة الواقع، تحديد الأهداف والوسائل، ويرتبط هذا المفهوم دائما بمفهوم السياسة، وإن كانت السياسة Policy أوسع من الخطط فهي تحدد الأسس العريضة التي يتم في إطارها أوجه النشاط المتصلة بالتخطيط فتنفيذ السياسات من مهام التخطيط .

لسنوات طويلة ظل المجتمع العربي تسيطر عليه فكرة الهيمنة الأمريكيَّة على وسائل الإعلام وصناعته، وغاب عنه التحولات والتقلبات في الإعلام الأمريكي[iii] لكن هناك هيمنة الدولة الأمريكيَّة على العالم من خلال الاقتصاد والقوة المسلَّحة والأدوات الإعلاميَّة التي تسيطر على عقول البشر[iv] بحيث يصبح البشر أسرى هذه الأدوات ومنها الأفلام السينمائيَّة التي تبث السطوة الأمريكيَّة بطريقة ناعمة لدى المشاهد ومثلها المسلسلات الأمريكيَّة، وهي قضيَّة مثارة حتى في أوروبا، وبصورة خاصة في فرنسا التي لديها تخوفات حادة من الهيمنة الأمريكيَّة، حتى في مجال محركات البحث على شبكة الإنترنت إذ أن سيطرة Google على محركات البحث تجعل دائماً المواقع الإلكترونيَّة الأمريكيَّة في المقدّمة أمام الباحث عن أيَّة معلومة على الشبكة الدوليَّة للمعلومات[v] إن هذا النوع من الهيمنة يفرض علينا ضرورة البحث عن تفعيل محركات بحث عربيَّة.

الحقيقة التي يقرَّرها  الواقع العملي أكثر تعقيداً، لأن مراكز صنع القرار لا تمارس فعلها في المثالي المفترض، وإنما تمارسه تحت سطوة صراعات تاريخيَّة كبرى ومصالح يتعارض بعضها مع بعض، والكثير منها غائر في زمانه، أو جامح في مقاصده، أو عنيف في ممارسته، وفي ظل هذه الأحوال فإن القرار السياسي تحكمه بالقطع عوامل غير مثاليَّة !

إن هناك شىء يتقاطع بين المثالي المفترض والواقع الذي يعبر عن المصالح أيا كانت هذه المصالح هل هي مصالح دولة أم مجتمع أم شركة أم فرد، لذا فدور السياسات الإعلاميَّة عادة هو صناعة صورة مضيئة للمؤسَّسة أيا كانت، وتبرير أفعالها أو إنقاذ القرارات المتضاربة لها أو الضعيفة، باتت السياسات الإعلاميَّة في طور التحول إلى علم له تشابكه مع علوم مختلفة، فهي ليست قائمة على الخبر أو وسائط الإعلام، بل تستخدم علوم الأنثربولوجي والاجتماع والتاريخ فضلا عن التقنيات الحديثة.

صناعة هذه السياسات إذا ليست بالسهولة التي قد يتخيلها البعض، فهي تحدّد للمؤسَّسة أهدافها وطريقة الوصول لها، وفلسفتها، وعمليَّة التغيير اللازمة في الوقت المناسب، فضلا عن كونها الوسيط الفعال بين المؤسسة والجمهور، لخلق حالة من التوافق بينهما، وتبادل التأثر لصالح الطرفين .

أظهرت إحدى الدراسات أنه يربط المؤسَّسة بجماهيرها علاقة ذات ثلاثة أبعاد هي: بعد مهني Professional وبعد شخصي Personal وبعد مجتمعي  Community. ويقصد بالبعد المهني: العلاقات المهنيَّة بين المنظمة وجماهيرها في ضوء طبيعة عمل المؤسسة سواء أكانت إنتاجيَّة أم خدميَّة أم منظمة غير ربحيَّة. فالجمهور يريد من المؤسسات أداءا مهنيا يتمشى مع احتياجاته ومصالحه. ويقصد بالعلاقات الشخصيَّة: العلاقات التي تبنيها المؤسَّسة مع جمهورها على أساس شخصي، وليس باعتبارهم أفرادا مجهولين أو مجموعا من القطيع، أي أنه عليها أن تسعى لكسب احترامهم وثقتهم كأفراد. ويقصد بالبعد المجتمعي: إلتزام المؤسَّسة في علاقاتها بجماهيرها باحتياجات واهتمامات وقيم وأخلاقيات المجتمع الذي تعيش فيه .

إن أنجح السياسات هي التي تقوم على إقامة علاقة متوازنة بين الجمهور والمؤسسة Two – Way Symmetrical، إذ يجب ألا يتوقَّف دور المؤسَّسة على جعل الجماهير تتكيف معها، ولكن يجب أن تتكيف المؤسسة نفسها مع البيئة الخارجيَّة، بما فيها الجماهير الفاعلة اتجاه هذه المؤسسة، فبناء علاقة إستراتيجيَّة بين الطرفين تعتمد على الفهم المتبادل والاتصال الفعال في اتجاهين بدلا من الاعتماد على إستراتيجيات الإقناع في اتجاه واحد، وتتوقف قدرة القائمين على إدارة هذه العلاقة على عدَّة عوامل منها: الاستقلاليَّة في اتخاذ القرار، والقوّة والأهميَّة التي تتمتَّع بها جماهير المؤسسة، ومناخ تغطيَّة وسائل الإعلام، وكذلك القيود القانونيَّة والتنظيميَّة.

إنَّ المسؤولين عن إدارة هذه العلاقة عليهم تصميم رسائل تخاطب الحاجات الشخصيَّة للأفراد، وإحدى هذه الحاجات هي أن يشعر بأنه مهم للمؤسسة، وعدم القيام بذلك يعرض المؤسَّسة للعزلة من قبل هذه الجماهير .


[iii] – إنظر حول ذلك ما كتبه بنجامين كومبين مستشار الأبحاث ببرنامج تقارب الإتصالات والإنترنت بمعهد ماتشوستس للتكنولوجيا في العديد من أبحاثه خاصة في الكتاب الذي شارك في تأليفه مع دوغلاس جومري والمعنون Who owns the media ?

 Competition and concentration in the mass media industry. من يملك الإعلام ؟ المنافسة والتركز في صناعة وسائل الإعلام الجماهيريَّة .   

ومن الدراسات النقديَّة الجيدة للإعلام الأمريكي كتاب (our media not thieves ) وهو من تأليف جون نيكولاس وروبرت ماك تشيسني، يصدر المؤلفان في هذا الكتاب على ضرورة وجود إعلام ناقد لكي يعمل أي نظام ديموقراطي بشكل صحيح . ويوضح الكتاب أن جزءا من معاناة المواطن العادي عائد إلى الممارسات أو إلى وسائل الإعلام، ويعرض الكتاب بشكل جيد مفهوم الإعلام الموضوعي : هل وجد وهل سيوجد ؟ ويشرح طبيعة عمل الإعلام الأمريكي الذي تحتكره قلة قليلة من المؤسسات الضخمة المدفوعة بضغوط إما ملاكها الذين يضخون فيها الأموال أو رغبات واتجاهات المعلنين، الكتاب يتميز بإحصائيات وأرقا م ملفته للنظر وتستحق أن تقف أمامها كثيرا .

فيما يقدم كل من آلان وسيلفيا تشان أو لمقيد وجهة نظر جيدة حول أثر تملك الشركات الكبرى لوسائل الإعلام في كتابهما Media Economic: Commercialization , Concentration and Integration Of World Media Global  وقد نشرته جامعة آيوا في الولايات المتحدة عام 1998 م، ومن الكتب الرائعة في هذا المجال كتاب دين ألغز Mega Media: How Giant Corporations Dominate Mass Media , Distort Competition , and Endanger Democracy . وكتاب دين هذا يعالج سيطرة الشركات العملاقة على وسائل الإعلام وطريق تشويه منافسيها وتهدديها للديموقراطيَّة .

[iv]  أنظر نص المحاضرة في مجلة وجهات نظر العدد 106 نوفمبر 2007 من ص 4 : 7 .

[v]– راسم الجمال، العلاقات العامة في سياق إدارة الاتجاهات الجديدة والقضايا الجدليَّة، فصل في كتاب إدارة العلاقات العامة، المدخل الإستراتيجي، الدار المصريَّة اللبنانيَّة القاهرة، 2004، ص 27، 28 .
____________
*دكتور خالد عزب.

جديدنا