ماجد الغرباوي ومكاشفاته في المقدَّس ورهان الأخلاق

image_pdf

لا ريب أنَّ الإشكاليات المعرفيَّة التي يعاني منها المقدَّس ورهان الأخلاق تنعكس مباشرة على واقعنا المعاصر، إذ أضحت (كما يقول الباحث الجزائري المتميّز عبد العزيز بلعقروز)، مسألة القيم في الواقع الكوني مجالا تداوليا للنّقاش ضمن التحولات الحداثيَّة والما بعد حداثيَّة؛ واشتركت في هذا النّقاش المعرفة بفروعها (الفلسفة، العلوم الإنسانيَّة، الاجتماعيَّة…) بخاصة من داخل المؤسَّسات التي أدركت منزلة وجود التوجيه القِيمي داخل هياكلها كيْما تستقيم وكيْما تكون مقاصدها مشروعة. وفضلا عن هذا، فإن التحوُّلات الكونيَّة في مستوى الصّلات بين الثقافات والحضارات، قد دخلت إلى معجمها التقييمي روح المفاضلة بين الثقافات والحضارات، إمَّا شعورًا بتفوّق نظام القيم الذي تتبناه، وإما إبصارًا منها دونيَّة في منظومة قيم مختلفة عنها، لكن هذه الرؤية لم تكن تؤدي إلى مسالك الأمان، إذ اندفع العنف وبصورة لا سابق لها، بسبب هذه التّصنيفات القِيميَّة التي تتحرّك من وحي عوائد نفسيَّة وأيدولوجيَّة وجَهالة معرفيَّة. لقد استوجب من جهة أخرى؛ استدعاء سؤال القيم مُجدّدا، لكن ليس من أجل المفاضلة والتّصنيف التراتبي للقيم، وإنّما من أجل التنقيب عن المُشْترك بين الثقافات المتنوعة، من أجل أن يكون أفقا وجسرا للتواصل، ومُسوغا قويا من مُسوغات القول بوحدة الطّبيعة الإنسانيَّة في نزوعها نحو قيم مخصوصة نجدها مبثوثة في ذاتها أو في فطرتها، وإما لانتماء البشريَّة إلى روح دينيَّة أصليَّة ألهمتها هذه القيم وتمظهرت بعدها في الأديان وتجلّياتها.

ومن ثم ظلَّ سؤال “المقدَّس ورهان الأخلاق” هو أهم الأسئلة المحوريَّة لعودة منظومة القيم، وبعثها من سباتها العميق على مدى  عصورها المتطاولة، وهذا الحضور المُكثَّف والجلي، لسؤال القيم، انجلى أيضا في الفكر العربي المعاصر، وذلك من خلال ما يُصنّف من كتب تسعى لأن تفكر في القيم انطلاقا من زاويتها ومنظورها، ومنظورها معناه: حقيقة النظام الأخلاقي الذي يدبّر ذاتها، من حيث الأصول والمبادئ التي ينبني عليها.

وهنا يجيء كتاب المقدَّس ورهان الأخـلاق، للفيلسوف والمفكر المبدع ماجد الغرباوي، والذي صدر حديثاً عن مؤسَّسة المثقَّف في سيدني – أستراليا، ودار أمل الجديدة في دمشق سوريا، وهو الكتاب الثامن من سلسلة “متاهات الحقيقة”. والكتاب يقع في 385 صفحة من الحجم الكبير، وقد زينت لوحة الفنان التشكيلي الكبير ا. د. مصدق الحبيب غلاف الكتاب الجميل.

يتناول فيه كاتبه مجموعة قضايا من بينها العلاقة بين الكلام الإلهي والتعاليم الدينيَّة والسلوك، ودور المقدَّس في شرعنة الممارسات التي قد تتعارض مع الأخلاق، وما هي رهانات المقدَّس وهو يشرعن بعض الممارسات رغم تعارضها مع القيم الأخلاقيَّة، وهل ثمة ما يدو لإعادة النظر بمجموعة مفاهيم كالقداسة وغيرها؟ ومن جملة الموضوعات التي تناولها الكتاب أيضا: التشكيل الأخلاقي للوعي، القرآن والأخلاق، الفقه والأخلاق، أخلاق العنف، التحريض على القتال، إشكاليَّة العلاقة بين الدين والأخلاق، من خلال السلوك النموذجي للأنبياء، وكيفيَّة فهم التعارض بينها وبين القيم الأخلاقيَّة. كما تناول الكتاب: شروط الفعل الأخلاقي، الإلزام والأخلاق، الفعل الأخلاقي، الوعي الأخلاقي، مستويات الفعل الأخلاقي، الضمير، التجربة الدينيَّة والأخلاق، جوهر الدين والأخلاق، مأسسة الأديان والأخلاق، النص والأخلاق، المقدَّس والأخلاق. كما ركَّز الكتاب على التعارض بين الأوامر الإلهيَّة والأخلاق، وتعارضها مع الأحكام الشرعيَّة، وما هي العلاقة بين الدين والأخلاق. والفرق بين القيم الأخلاقيَّة الأصيلة والنسبيَّة / المكتسبة. ثم حدَّد مبادئ التشريع: العدل وعدم الظلم. السعة والرحمة. المساواة. وغيرها من موضوعات في دائرة اشتغال الكتاب لتسوية إشكاليَّة العلاقة بين الدين والأخلاق.      

ثم ينتقل، في محور لاحق، للكشف عن بديهيات العقل، ويناقش ضرورة الاحتكام لمصادر عقلانيَّة من أجل استنباط معايير حاكمة للأخلاق. وفي هذا المضمار يقارب مشكلة الحسن والقبح، وهل هما عقليان أم شرعيان؟. ولمن ترجح الكفة للتدبير والتفكير أم  للنص؟.

ويؤكد الغرباوي في كل فصول كتابه على الفجوة التاريخيَّة التي يحملها العقل التراثي بنيويا، فهو يرهن الحقيقة لمؤدي الخبر، ويصدّق ما يوافق عقائده بعيدا عن الدليل العقلي والفلسفي. مع أن الواجب يقتضي الركون للدليل وقدرته على تحدِّي الإشكالات، ودراسة جميع الأدلة والبراهين والقرائن المتاحة والإجابة على جميع الأسئلة والاستفهامات وتحليل الواقع بجميع عناصره.  وهذا يعني أن لا نكتفي  بالخبر دليلا على صحَّة الأفكار والمواقف، كي لا نكرِّس السكون والتبعيَّة. ويخلص بالنتيجة إلى ضرورة أن تقوم النخبة بترقية الوعي إلى مستوى قبول الآخر، والتعدديَّة، واتباع الدليل والبرهان في اعتماد الحقائق.

كما تناول الكتاب مجموعة قضايا قاربها الكاتب ضمن الحوار المفتوح. وكان محفز البحث فيه: سؤال عن قدرة القرآن على تهذيب سلوك المسلمين. سؤال يخفي أكثر مما يظهر، ويدين أكثر مما يُبجل. يثير أسئلة ويرسم علامات استفهام كبيرة، حول دور المقدَّس في شرعنة جملة ممارسات تتعارض مع القيم الأخلاقيَّة. ما هي رهاناته؟ وهل يمكن إعادة تشكيل الوعي أخلاقيا؟ وماذا عن التعارض؟ وهكذا يستمر طرح الأسئلة، ويواصل السجال طريقه، للكشف عن بديهيات العقل وفق رؤية أخلاقيَّة تؤمن أن العقل مصدر الأخلاق، وأن الحُسن والقُبح عقليان لا شرعيان. رؤية تضع العقل فوق النص. فثمة إشكاليَّة معقدة بين الدين والأخلاق تطرق الكتاب للقسم منها.

ومن هنا جاءت الأجوبة في هذه الموسوعة الحواريَّة (متاهات الحقيقة)، تقارع حصون الكهنوت وتحطّم أسيجة تراثيَّة تستغرق الذاكرة، وتطرح أسئلة واستفهامات استفزازيَّة جريئة.. بحثا عن أسباب التخلف، وشروط النهوض، ودور الدين والإنسان في الحياة. فتوغّلت عميقا في بنية الوعي ومقولات العقل الجمعي، واستدعت المهمّش والمستبعد من النصوص والروايات، وكثّفت النقد والمساءلة، وتفكيك المألوف، ورصد المتداول، واستنطقت دلالات الخطاب الديني، بعد تجاوز مسَلَّماته ويقينياته، وسعت إلى تقديم رؤيَّة مغايرة لدور الإنسان في الحياة، في ضوء فهم مختلف للدين، وهدف الخلق. فهناك تواطؤ على هدر الحقيقة لصالح أهداف أيديولوجيات – طائفيَّة. ومذهبيَّة – سياسيَّة.

وقد سبق أن صدر لماجد الغرباوي عدة مؤلفات تناول بها تجديد الفكر الديني بشكل عام والإسلامي على وجه الخصوص. ومن أهم أعماله: إشكاليات التجديد، التسامح ومنابع اللاتسامح، قراءة نقديَّة في تجليات الوعي، الحركات الإسلاميَّة.. قراءة نقديَّة في تجليات الوعي، الشيخ محمد حسين النائيني منظّر الحركة الدستوريَّة، الضد النوعي للاستبداد.. استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الدين، تحديات العنف، الأصول الرجاليَّة الأربعة. وقام بتحقيق كتاب “الوجيزة في الدرايَّة”  لمحمد بهاء الدين العاملي والذي صدر عن منشورات المكتبة الإسلاميَّة. كما صدرت عنه مجموعة كتب، وترجمت كتبه إلى لغات أخرى.

والأستاذ ماجد الغرباوي يُعدّ أحد القامات الفكريَّة العراقيَّة- العربيَّة التي آلت على نفسها الجمع بين النظرة العقليَّة الغربيَّة والتراث الإسلامي في معالجة القضايا الفكريَّة، وهي تلك النظرة التي كشفت له عن العديد من الأفكار المهجورة في الفكر الإسلامي، وفي علاقة الإسلام بالآخر والقضايا الفكريَّة الآنيَّة، ويحسب له أنه موسوعي الثقافة مستنير الفكر، فهو الذي كتب عن نقد الفكر الديني، والتسامح، والعنف، والحركات الاسلاميَّة، والمرأة، والاصلاح والتجديد، وهو متخصِّص في علوم الشريعة والعلوم الإسلاميَّة.

علاوة على أنّه متعدِّد المواهب فهو كاتب، وشاعر، وباحث دؤوب؛ حيث يسعى من خلال مشروعه في تجديد العقل الديني إلى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، وذلك من خلال قراءة متجدِّدة للنص الديني تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحريَّة والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

ولهذا نراه في مشروعه النهضوي الذي لا يقل عن مشروع كل محمد أركون ومحمد عابد الجابري وغيرهما يسعى إلى: تحرير العقل من بنيته الأسطوريَّة وإعادة فهم الدين على أساس مركزيَّة الإنسان في الحياة. وترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي، ومن خلال قراءة متجدَّدة للنص تقوم على النقد والمراجعة المستمرة، من أجل فهم متجدّد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحريَّة والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب.

وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن كتاباته تتميَّز بالوسطيَّة والعقلانيَّة، وتكشف عن تعمُّق كبير في العلوم الإنسانيَّة والعلوم الشرعيَّة، ويتميز أسلوبه بالوضوح والمنطقيَّة؛ ولقد شهد له كل من كتب عنه من الباحثين بالدقة، والأمانة العلميَّة، والثقافة الواسعة ..إلى جانب ما يتمتَّع به من خلق رفيع، وتمسُّك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثًا ومنقّبًا، محقّقًا ومدقّقًا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلميَّة، والبحوث الاكاديميَّة الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

تحيَّة خالصة لماجد الغرباوي لابن أرض الرافدين، وحفيد هارون الرشيد، الذي كان وما يزال رمزاً من رموز المعرفة الموسوعيَّة الفريدة، وواحداً من أصحاب الرؤية الفكريَّة والثقافيَّة الشاملة.. بارك الله في ماجد الغرباوي، وأفاد تلاميذه وقراءه بعلمه ووطنيته، بفكره وموضوعيته، بنقائه وطبيعته.

***

المراجع :

1-ماجد الغرباوي :  المقدَّس ورهان الأخلاق، ضمن متاهات الحقيقة 8، دار أمل الجديدة، دكشق.

2-عبد الرازق بلعقروز : سؤال القيم في الفكر العربي المعاصر : قلق تاريخي أم رهان واقعي ؟، اسلام أون لاين .

3- محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسيَّة، ترجمة هاشم صالح، دار النهضة العربيَّة، مركز الإنماء القومي، 2007.

4- أ. د. محمود محمد على – قراءة في كتاب المفكر العربي ماجد الغرباوي “تحرير الوعي الديني”، صحيفة المثقف.

___________

*أ.د. محمود محمد علي/ أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

جديدنا