محدوديَّة التنشئة السياسيَّة في فضاءات التعليم: تونس مثالا

image_pdf

مقدِّمة :

تؤكِّد الثقافة المدرسية السائدة- بصفة اطلاقية- فكرة “حياد” المؤسَّسات التعليمية عن الشأن السياسي والنأي بها عن كل تدخل سياسي. تدعم هذا الحياد مع الدستور التونسي 2014 الذي ينص على أن “الدولة تضمن حياد المؤسسات التربوية عن التوظيف الحزبي”[1]، وتضمن “مرسوم تنظيم الأحزاب السياسية” ضرورة احترام “حياد الإدارة ودور العبادة والمرافق العامة ” [2]. هذا الإطار التشريعي  لا يعني ضرورة وضوح الرؤية والممارسة من حيث الحفاظ على الحياد السياسي وعدم التباسه، بل توجد منطقة رمادية لا تميز بين التربية على المواطنة والتنشئة السياسية والاهتمام بالشأن العام والتوظيف السياسي، إذ تتشابك محمولات تحييد المدارس عن النشاط السياسي بتحييد الفاعل التربوي وخاصة المتعلمين عن المشاركة النشيطة. يتم التعاطي عموما مع المعاهد وغيرها من المؤسسات التعليمية كفضاءات يتنافذ فيها رفض الاصطفاف السياسي وعدم الانخراط العلني في توجيه الخيارات السياسية مع تكييف أدوارها ومناخها وتنشئتها البرامجية والقيمية والبيداغوجية في رسم ملامح وعي عام كما يرغبه أصحاب القرار السياسي أو على الأقل إنشاء وعي منمط. بمعنى أن التنشئة السياسية ميدان جدلي بامتياز وظل مناخ المعاهد والممارسات التعليمية يجاور السياسة وعلى تخوم الحقول السياسية متضمنة مفارقتين رئيسيتين، أولا بقدر تحييد المدرسة والرغبة في إبعادها تقليديا عن النقاش السياسي وخضوعها إلى التوجيهات الرسمية، تشارك في التنشئة الاجتماعية على امتداد مراحل التعليم وتسهم في “قولبة” المتعلمين وإنشاء وعي عام متماثل. ثانيا لا تشتغل المعاهد على التنشئة السياسية إلا في بعدها المعرفي والتتثقيفي دون أن تشمل ممارسات وتدريبات تحث الشبان على المشاركة في الشأن العام وعلى المواطنة النشيطة.

تحرص المعاهد التونسية على شبكة مواد “تربية على…” تدور حول المعارف المدرسية وتتجنب -قصدا- الخوض في المعرفة السياسية السياقية والانخراط السياسي، يوجد منحى “لتسييج” المدرسة عموما في المعرفي وفصلها عن كل ما له صلة بالشان العام وعدم تسييسها، ما يفقدها مساحة تأثير في غاية الأهمية، فهي محاضن للتربية على التنشئة الاجتماعية والحث على المواطنة الفاعلة والمشاركة الإيجابية. ويفترض أنها تسهم في صناعة الثقافة المدنية وتنحت رؤية وموقف من السياسة، وبناء قيم تحمل المسؤولية الاجتماعية، فالمدرسة محل / مكان ترسيخ مبادئ المشاركة ومختبر معايشة تجارب الديمقراطية. فبأي صيغة تنفتح/ تنغلق المعاهد على المدني/ السياسي / المواطنة؟ وإلى أي مدى تحث المدرسة بطبيعة اشتغالها وبرامجها وطرائقها البيداغوجية في التربية على الاهتمام بالشأن العام ومعرفة سياسية تمكن الشباب التلمذي من النشاط المجتمعي والانخراط السياسي؟ هل تشجع المعاهد التربية على الديمقراطية؟ أي دور للمعاهد في التنشئة السياسية وتنمية الاتجاهات الإيجابية لدى الشباب التلمذي؟ بأي طريقة يتم نحت الحس المواطني لدى التلميذ – المواطن؟ إلى أي حد  توفر المعاهد ثقافة وأدوات تكوين التلميذ لتحمل المسؤولية الاجتماعية؟ هل أتاحت المنظومة التربوية بتشريعاتها ونظمها وثقافتها في التنشئة السياسية أم اختزلت مهمتها/ مهامها في ما هو تقني/ تعليمي محض؟ ماهي الملامح العامة للحياة المدرسية من خلال صلتها بالزخم المجتمعي والجدل السياسي، وهل تتضمن علامات التعايش المشترك والمشاركة من تطوع وانتخاب ونشاط  مجتمعي وخدمي ؟

  1. دور المؤسَّسات التربويَّة في التنشئة الاجتماعيَّة:

لا ينفصل الفعل التعليمي عن التنشئة الاجتماعية وتلقين المبادئ والقيم المجتمعية، وينزع نحو تهيئة الفرد وتأهيله للقيام بمهامه وأدواره، وقد أكدت الدراسات السوسيولوجية أن المدرسة بطبيعة اشتغالها تقوم بصيغ متباينة ومتعددة في التنشئة الاجتماعية للمتعلمين. اهتم “دوركهايم” بدراسة التربية باعتبارها ظاهرة اجتماعية بالأساس، فهي نتاج اجتماعي تتشكل وتتطور حسب السياقات المحلية ووفق الاحتياجات المجتمعية، وتعرّف بفعل التنشئة الاجتماعية الموجه إلى تمرير القيم والمعايير والمعارف الضامنة لاستمرار المجتمع[3]، فكل مجتمع يصوغ تصورا نحو الإنسان/ الفرد.  في النصف الثاني من القرن العشرين تمأسست العملية التعليمية ، وصار تعليم الحشود وتنشئتها عملية مقننة وهيكلية وجماهيرية، حيث يحتاج المتعلم لتدخل الآخر/ المدرسة لمساعدته على النمو والنضج، ما أضفي مشروعية قانونية ومؤسسية على العمل المدرسي بصورة عامة. وتهيكلت المدرسة التونسية كغيرها في بلدان العالم كمؤسسة مقننة تُسير ضمن قوانين وضوابط اشتغالها الإداري والتعليمي، وفق سياسات تربوية تحددها الدولة، وتؤطر فئات عمرية متقاربة في شكل مجموعات صفية، ما يعني أن ديناميتها لا تنفصل عن أشكال من التفاعلات وصيغ تنشئة التلاميذ وخضوعهم إلى شروطها ومبادئها التعليمية وغاياتها التربوية. وبالتالي لا تقتصر المدرسة على نقل المعرفة اكتسابا واقتدارا، بل تنقل قيم المبادلات والتنافس، فهي ليست مستقلة عن المجتمع بل تنفذ ما يريده من التربية ومن المدرسة تحديدا، وتلبي حاجياته عبر صياغة ثقافة مشتركة وتوحيد القيم. بهذا المعنى تسهم التربية في تنشئة الفرد باستدخاله القيم والمعايير الاجتماعية التي تؤهله للعب أدوار مؤسسية لرأب “التصدع المجتمعي” وتحقيق “التآلف الاجتماعي”[4]، حيث تكون جماعة اجتماعية مندمجة كلما امتلك أعضاؤها وعيا مشتركا وتقاسموا نفس المعتقدات والسلوكات  وتفاعل بعضهم مع بعض، ولديهم الاستعداد لتحقيق الأهداف الجماعية. وتولي المدرسة عموما أهمية كبيرة لعامل التنشئة ، فلكل مجتمع في لحظة محددة من تطوره نسق تربوي يُفرض على الأفراد بقوّة لا تغلب، والتنشئة الاجتماعية تلقين أنظمة الفكر والعقائد والممارسات الدينية والأخلاقية والتقاليد المهنية.

تأسست مدرسة الاستقلال في تونس حسب هذا المنوال لإعداد كفاءات وطنية تحل محل الإطارات الاستعمارية، وأقامت نوعا من التربية الشعبية ونشر التعليم والتربية بما هي انتماء للوطن، وأنها أداة إدماج لضمان ديمومة المجتمع واندماجه وتماسكه من خلال قنوات المعارف الأكاديمية وترسيخ المهارات الاجتماعية [5] بما هي مجموعة قواعد وضوابط وعادات ومواقف واتجاهات مكتوبة أو “عرفية” تنقل المعارف والقانون، كما تنقل الصراعات والمصالح. يتحدد الاندماج الاجتماعي في المدرسة ضمن بعدين متكاملين، الأول موضوعي والثاني ذاتي، يرتبط البعد الموضوعي باشتراك الأفراد في علاقات تفاعلية مع غيرهم  ومع المجتمع بكامله، ويعرف عبر تبادل الخبرات والسلوكات بين الفاعلين أو الجماعات، أما البعد الذاتي، فيعبر عن مستوى إدراك الأفراد لطبيعة العلاقات التي يقيمونها مع غيرهم ومدى تماهيهم في الجماعات الاجتماعية التي ينتمون اليها، فأن يكون الفرد مندمجا يعني أنه قادر على قول “نحن” يعني أن يُعرف  نفسه من خلال انتمائه لجماعة ما. ويتميز كل مجتمع بتعدد مستويات الاندماج الاجتماعي[6]، ويتموقع المتعلمون ضمن تقاطع “دوائر اجتماعية” تشكل تفاعلاتهم مع المجموعات الفرعية طريقة لاكتسابهم القيم والسلوكات واستدخالها. إذا كانت التنشئة الاجتماعية الأولية للمتعلّم تنجز عبر الفاعلين الأولين (الأسرة والمدرسة واللغة والقيم والمعايير)، فإن التنشئة الاجتماعية الثانوية تتم داخل مجموعة الأقران وأساسا صلب المؤسسات التربوية حسب “ألان توران”[7]. مثلما أن  أثر المؤسسة/ المدرسة يظهر في استراتيجيات “المنزلة” و”الدور” لدى التلميذ، حيث لا يُعرف الفرد لذاته بمعزل عن انتمائه أو عضويته في جماعات معينة[8] ، فالذات ليست ذات طبيعة فردية فحسب، بل تتشكل عبر التفاعل الاجتماعي أثناء عملية التنشئة الاجتماعية، وتتحقق من خلال علاقتها بالأخرين مثلما بينت”مارغريت ميد” . وتتحقق الهوية الفردية عن طريق التفاعل الاجتماعي، ويسمح الاعتراف الاجتماعي للمتعلّم بأن يكون واعيا ومدركا لقيمته الاجتماعية الفعلية، حيث لا يوجد مجتمع إنساني دون تضامن بين أعضائه[9]، فالفرد مرتبط بالآخرين وبالمجتمع، ليس فقط لضمان حمايته تجاه “نوائب الدهر”، ولكن لتلبية حاجته الرئيسية للاعتراف، مصدر هويته ووجوده كإنسان. ونجد هنا كل فائدة التنشئة الاجتماعية التي تلعب دورا أساسيا في إقامة العقد الاجتماعي، وجعل الفرد مسؤولا، وهو شرط إمكان ممارسة حريته والتمتع برفاهيته (bien-être) حسب تصوره الخاص للحياة الجيدة.

  1. حدود التنشئة الاجتماعية وحق المشاركة للفاعل التلمذي

شهدت المدرسة التونسية إشعاعها تاريخيا مع دولة الاستقلال وإرساء الجمهورية الأولى بتعميم التعليم وانتشار مؤسساته في مختلف المناطق الجغرافية وتوسيع التمدرس ليشمل كافة المدن والأرياف، ودمقرطة الولوج إليها وجمهرتها وإكساب المتعلمين كفايات التعليم الأساسية، إلا أن أدوار التنشئة الاجتماعية ظلت في دلالاتها العامة مختزلة في أبعادها التفاعلية بين الأقران وداخل المدرسة دون أن تنفتح على الفضاءات الخارجية (الشبابية، الاجتماعية وخاصة السياسية) ما عمق أزمتها.  وهو ما أبرزته التقييمات الدولية وحتى التقييمات الوطنية، فمنذ قرابة العشرين سنة ضبطت وثيقة وزارة التربية ضعف مردودية المؤسسة التربوية وسيطرة المنحى الكمي على البرامج، حيث يسود حشو الأدمغة بدل تكوين العقول، وغياب التفاعل الإيجابي مع المحيط وانعدام التنشئة على المبادرة والفاعلية[10]. ولم تصاحب النمو المتسارع للأنظمة التعليمية وللتمدرس تغيرات نوعية في ملامح المتخرجين ولا في تدعيم نجاعتهم ومشاركتهم المجتمعية، فالمدرسة “تختنق” أو محشورة بين اللافاعلية مصدر عدم الرضا (التفاوت، الإخفاق، الانقطاع، العنف، اللانضباط..)، والبحث عن مشروعية مفقودة حولتها مثلما عبر عنها ” برنارد شارلو” إلى ” رمز خيبة الأمال “. إن مخيال التنشئة الاجتماعية لا يمكن أن يكون سرديات كبرى تنزل من فوق، فالمعاهد لم تغير من نمط التنشئة الاجتماعية ولم تتفطن إلى التحولات البنيوية العميقة في البيئة وفي ذات التلميذ وشخصيته، حيث انبثقت حاجيات جديدة ومتطلبات قيمية وسلوكية كالاستقلال والحرية والكرامة وتثمين الذات.

يتكثف الحديث- في الوقت الراهن- على أزمة المجتمع المدرسي وخاصة المؤسسة التربوية في تونس التي تستوجب إعادة التفكير في طبقات معاني التنشئة الاجتماعية من داخلها، إذ انكشف أفقها المحدود وضمور دورها في التنشئة السياسية،  خصوصا وأن شكلها السائد يبدو وكأنّه مستنسخ من الشكل الكنسي حسب مفردة  “فرنسوا دوبي”، فهي قناة تؤكد بصفة عامة  الانتماء إلى “مقدسات” الجمهورية وصناعة الجمهوريين بطريقة مماثلة للصيغة التي تصنع بها الكنيسة “المؤمنين” في “مخيال جديد للتنشئة الاجتماعية”[11]. تحولت إلى مجرد مؤسسة بيروقراطية ومهنية توفر  التفاعلات العامة دون استحضار لنجاعة المشاركة الحيّة وتفتقد إلى روح البهجة والرغبة، فمنذ أعلن “بول فرايري” على أن المؤسسة التعليمية ذات مناحي تقليدية وسلبية، لم تتطور المدرسة الجديدة المدافعة على الحوار والمرتكزة على المبادلات النابضة والممارسات الجماعية الحرّة. لا نلحظ هذه القيمة، بل هي مدرسة الصمت[12]، وننتبه إلى حقيقة مفزعة أن الفردانية والأنانية والعزلة تعشش داخل جدرانها، وأنها تعيش نوعا من “العجز الديمقراطي” حسب “فرنسوا دوبي” مع غياب قنوات الإنجاز والحياة المشتركة والوعي الجمعي المنتج، ما يدفعنا للتساؤل هل تعزز المدرسة الغايات الكبرى للتنشئة الاجتماعية فعلا وتتيح آليات  انفتاحها على الأدوار المجتمعية المختلفة أم تظل قلعة مغلقة[13].

إن الكشف عما يجري داخل “العلبة السوداء” ورصد وضعيات الاندماج المختلة وأشكال التنشئة الاجتماعية السائلة، الناتجة عن “قولبة” المؤسسة للعلاقات وضغطها، فهي ليست وحدة معنوية واحدة، بل وحدة متشظية وهشة في إقدار المتعلمين على المهارات الاجتماعية والمشاركة الفاعلة وهو ما أثبتته عديد البحوث التربوية[14]. تحولت هذه الهشاشة مع “سارج بوغام” إلى “قدر” لعدد كبير من الشباب لعدم التهيئة الاجتماعية والفضائية للمدرسة لتحقيق ذلك، حيث تتعرض عمليات التنشئة الاجتماعية خلال عمليات التمدرس إلى أشكال إقصاء، تؤدي لاحقا إلى الإقصاء الاجتماعي، الذي يتجسد في العجز عن المشاركة الفاعلة في الحياة المجتمعية والثقافية، ويفضي في عديد الحالات إلى الاغتراب والانفصال عن المجتمع[15] . هذا الاغتراب التلمذي أفقد المعاهد مهمتها التنشيئية  والتأطيرية، ما يحرض التلاميذ على البحث عن قطيعة مدرسية أو ما يسمى “بالرأسمال السلبي”[16] باللجوء إلى مجموعات يتقاسمون معها التجارب والرموز والعلامات، تأخذ أبعادا مخالفة للمعيارية المدرسية (اللغة- اللباس- تسريحة الشعر)، وتصطدم بالقواعد والأخلاق المدرسية. وبالنتيجة يمكن للتنشئة الاجتماعية أن تنزاح ضدّ المؤسسة، وتفرز من يطلق عليهم “بورديو “المقصيين من الداخل”[17] ، حيث يتعلم التلميذ في المدرسة أشكال النحو ووقائع جغرافية وتاريخية وقواعد الصرف والقوانين الفيزيائية والخوارزميات، دون أن يعلم  معاني هذه المعارف ودلالاتها، وصلاتها بالسياق الاجتماعي والسياسيى ووروابطها باللحظة التي يعيشها وما تتطلبه من كفايات سياسة واجتماعية.

تشهد ممارسات التنشئة الاجتماعية انسدادا في الوسط المدرسي، ذلك أن التطورات التقنية والسياقات القيمية  الجديدة كشف هوة عميقة بين الثقافة المدرسية التقليدية ذات الإيقاع الرتيب والثقافة الشخصية للمتعلمين الباحثة عن عوالم تكنولوجية مغايرة والمتطلعة إلى مثل إنسانية جديدة وسلوكات مختلفة. يبدو مفهوم التنشئة الاجتماعية في دلالاته العامة عاجزا عن تدعيم ثقافة المشاركة والتنشئة السياسية للمتعلمين في المعاهد التونسية، فهي لم تتجاوز السياق التعليمي ولم تتحول إلى مؤسسة تنشئة اجتماعية بامتياز من انتماء عام ووعي مشترك إلى شخصنة الوعي وتفعيل المشاركة الفردية والجماعية مهتمة بالشأن العام، مع الاستجابة لانتظارات الشباب والجيل الجديد. تحتاج المعاهد  التونسية إلى تعديل أدوارها في التنشئة الاجتماعية والانتقال بممارستها من وظيفة الادماج العام إلى الأدوار الفاعلة للمتعلّم، لهذا فإن اعتماد المقاربة المقترحة من “أنيك برشورن”  لمفهوم التنشئة الاجتماعية أكثر خصوبة- في مقاربتنا- من المفهوم الدوركهايمي، وهو اكساب المتعلم  “كود رمزي” (code symbolique) يكون نتاج “مبادلات” الفرد والمجتمع[18]، تبعا لمسارين مختلفين، مسار الاستيعاب ومسار الملاءمة ، حيث يبحث الفرد/التلميذ بالاستيعاب عن تعديل محيطه والفعل فيه لجعله أكثر مطابقة مع رغباته وتقليص أحاسيس القلق، ويسعى الفرد/ التلميذ بالملاءمة إلى التعديل الذاتي  للإجابة عن الضغوطات البيئية. وتتميز التنشئة الاجتماعية التفاعلية والنشيطة بخمس خصائص، أولا، تتسم بتعدد الأبعاد، وتفترض مبادلات مستمرة بين المتعلّم والمنظومات الفرعية للتنشئة الاجتماعية[19]، ثانيا، ليست مجرد نقل للقيم والمعايير والقواعد فقط ولكن تنمي نوعا من “تمثلات للعالم” تتيح “إجابات سريعة ومنمطة”، يرتبها المتعلم حسب خبراته. ثالثا، ليست نتيجة تعلمات شكلانية ولكن تجارب تنشئة غير شخصية يعاد هيكلتها باستمرار. رابعا، تمثل بناءا بطيئا ومتدرجا “لكود رمزي” لا يضم مجموعة المعتقدات والقيم الموروثة للجيل السابق فقط ، ولكن “منظومة / نسق مرجعي وتقييمي للواقع” يمكن من التصرف بهذا الشكل دون آخر في هذه الوضعية أو تلك. خامسا تعتبر مسار بناء هوية المتعلم وتحمل مسؤولية انتمائه لمجموعات متنوعة واتجاهات متعددة تقود سلوكاته إلى نوع من  “بداية التفكير مع الآخرين” وتقترب أكثر من الحقل المواطني والتفاعلي.

تحضر الفاعلية الفردية في إطار المدرسة، بما أن كل متعلّم مطالب بالحصول على موقع يناسب قدراته، ولكن أيضا حسب استحقاقه، فالتنشئة الاجتماعية ليست مسارا منتظما، بل واقعة متعددة، حيث تثري الفردية مع تنامي الاستقلالية وتكثيف الأنشطة، تجعل من المعهد فضاء اجتماعيا بامتياز  لتنشئة المتعلمين على فكرة التعاون والانتساب إلى المجتمع وخدمته والاهتمام بالشأن العام والمشاركة أو الاستعداد للمشاركة في التأثير. بمعنى يمارس المعهد بالضرورة أدوارا مضاعفة، دور التنشئة الاجتماعية التربوية من ناحية ودورا منظوميا وسياسيا من ناحية أخرى، يحفز على المسؤولية الاجتماعية وعدم الانزواء في المشروع الدراسي أو الشخصي. ويمكن تفعيل/ تجديد التنشئة الاجتماعية عبر إعادة تأسيس مؤسسة تربوية قادرة على إرساء مشرورعيتها حول مشاريعها وترقية مهامها حول تكوين الأفراد الذين يتعلمون شيئا آخر، بخلاف أن يكون مقتدرا (Performants) أو التميز والحذر من الآخرين.

منذ الثمانينات، طرحت أدوار المؤسسة التعليمية في نسج علاقة بالسياسة كنشاط اجتماعي  ونمط في التنظيم السياسي للمجتمع على المواطنة[20]، حيث تناولت عدّة دراسات في العلوم السياسية الدور السياسي للمدرسة والتربية المدرسية، وتقاطعات التنشئة الاجتماعية بالشأن السياسي في الوسط المدرسي[21]، وتحليل علاقة التنشئة السياسية في المدرسة بامتلاك رأسمال ثقافي خصوصي في مجال السياسة، وإيجاد جسور بين تلميذ “جيد” ومواطن “جيد”[22]. تكشف المقاربة المؤسسة على الحقوق واجب المجتمع لضمان المشاركة وإدماج كافة أفراده، وأن إقرار مبدأ تكافؤ الفرص أو المساواة غير كافية لضمان تكافؤ القدرات. إذ تنتعش في المعاهد مظاهر الإقصاء والانفصال عن المجتمع، ما يقلص من قدرات المتعلمين خاصة المهمشين على التفاعل، حيث يدل الإقصاء الاجتماعي على عدم تطبيق الحقوق المدنية، السياسية، والاجتماعية للمواطن. وتبرز مقاربة “أمارتاي صان” الذي يؤكد أن كل فرد له الحق في الحصول على تكافؤ للقدرات الأساسية، القدرة أن يكون في صحة جيدة، والغذاء الجيد، والاندماج في المجموعة، المشاركة في الحياة العامة والاستفادة من القواعد الاجتماعية لتثمين الذات  (Sen,1999)، وأن جوهر الإقصاء الاجتماعي هو انعدام هذه القدرات الثلاث. يستدعي تطبيق مفهوم “الاقصاء الاجتماعي” على التلاميذ  اعتبارات أخرى، فهو انتهاك مباشر للحقوق والقدرات  المعترف بها في اتفاقية حقوق الطفل (UNICEF)[23]، التي تؤكد أن للقرارات والاختيارات منذ مرحلة الطفولة استتباعات محددة في وضعيتهم كراشدين[24]، إما  تيسر أو تعيق الاندماج والانسجام المجتمعي، وتتيح للتلاميذ فرص وقدرات وامكانات تجعل منهم مواطنين ناشطين. حيث ينص الفصل (12) من اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الأطفال على استشارة التلاميذ حول الأسئلة التي تهمهم، وبالتالي المشاركة في مجلس المدرسة، والتربية على المواطنة  والديمقراطية مؤسسة على “التعلم النشط” ، هذه الفكرة عمقها “جون ديوي” بقوله “أعطي التلميذ شيئا يفعله لا شيئا يحفظه، وأن الممارسة هي التي تثير التفكير، وينتج عنها طبيعيا التعلم”. وهو  ما أكدته أيضا دراسة ميدانية في بلجيكيا أنجزها “مرصد الطفولة والشباب ومساعدة الشباب”(OEJAJ) من  أن رفاهة التلاميذ في المدرسة تتجاوز اعتبارات الصحة البدنية والذهنية إلى المهارات الاجتماعية ودور الفرد ومسألة المشاركة.

  • خصائص التنشئة السياسية في البيئة المدرسية
    • التنشئة السياسية في المعاهد بين تنميط الوعي والوعي النقدي

تعرف التنشئة السياسية بأنها امتلاك معرفة تفضي غالبا إلى نحت موقف سياسي (مرن- التفاوض- قبول الوساطة-..)، وتعد المؤسسة التربوية حاضنة للمعرفة السياسية عبر تعليم النشء المفاهيم والقيم والنظم السياسية من خلال الأنشطة النظامية واللانظامية، وتصوغ ملامح المتعلم وفق السياسات العمومية للتعليم بغية تنشئته كمواطن صالح وترسيخ المواطنة الفاعلة في جمهور المدارس. والتنشئة السياسية عمليات عن طريقها يحصل التلميذ على معلومات وقيم واتجاهاته نحو السياسة ومن المشاركة كعضو فاعل.  بيد أنه تختفي تحت هذه الغايات النبيلة رهانات التنشئة السياسية الموجهة، بمعنى تشكيل وعي المتعلمين وسلوكهم حسب صفات محددة وبناء قناعات تربوية تجسد التوجهات السياسية للسلطة الحاكمة. وتعمل المنظومة التعليمية على تربية التلميذ منذ السنوات المدرسية الأولى على إدراك الفضاء/ النسق السياسي ورموزه وشخوصه السياسية وفق عناصر تزرع تدريجيا في بنيته الذهنية والنفسية تجعله غالبا أسير الخطاب التربوي الرّسمي. فالمدرسة مؤسسة تعليم ومرفق عمومي تربوي تسهر على إدارته  الدولة والإشراف عليه (التصورات- البرامج- التمويل- التعيينات…) ، وأن يكون أداة فرض الوعي الذي تحدده السلطة الحاكمة والمشاركة السياسية تعني الانخراط في المشروع المجتمعي والسياسي السائد.

حيث تمرر سياسات السلطة وخياراتها في المدرسة عبر المحتويات التعليمية بما تتضمنه من توجهات فكرية وقيمية وأساليب بيداغوجية تقليدية، فهي لا تنقل المعارف فقط بل تقوم بقولبة أراء واتجاهات التلميذ نحو الوطن و المجتمع والتاريخ والسياسة، وهو ما أثبتته البحوث السوسيولوجية حول الأدوار الإيديولوجية الخفية للمدرسة التي ينفذ عبر شبكة المواد الدراسية أو المناخ المدرسي العام. هذا الدور السياسي للمؤسسة التعليمية معلن في البرامج التونسية، فقد أدرجت عديد القيم الإنسانية والحضارية والأخلاقية،  ومن بينها تعريف التلميذ بتاريخ بلاده، وتوعيته بالقيم الوطنية التي تجعله يشعر بالانتماء إلى وطنه والوفاء له، ولم تقتصر  على التعريف بخصائص المنظومة السياسية، بل انخرطت في تمجيد الرؤساء، فمجمل الكتب المدرسية تضمنت دروسا حول الدور “الكفاحي” للرئيس بورقيبة سواء في الحركة الوطنية أو في بناء دولة الاستقلال، فكتاب مادة التاريخ للسنة السادسة من التعليم الابتدائي مثلا يحتوي درس حول “إنجازات دولة الرئيس بورقيبة” مرفقة بصوره، بهدف التأثير السياسي على المتعلمين وصياغة عقل جمعي يمجد الرئيس، ونزعت البرامج نحو شخصنة الدولة، ونحت أسطورة الرئيس لعقود طويلة. وهو ما تواصل بنفس الإيقاع مع بن علي، ولم تنأى المدرسة عن هذا الخيار، ومن أبرز الأمثلة الإشارة إلى إنجازات 7 من نوفمبر والدعاية لصندوق التبرعات المفروضة 26 – 26 في كتاب السنة التاسعة أساسي مع  إدراج صور بن في أغلب الكتب المدرسية.

ظلت الأنظمة التربوية “الرسمية” (1958-1991-2002) تروج صورة ثابتة وتمثلات مدرسية شبه مستقرة لتنشئة سياسية مشوهة و”متوجسة” من التعدد والاختلاف وتجنب الصراعات وكأنها “خلل” لا ينبغي الانزلاق نحوه، وحماية المعاهد من مخاطر التسيس في معنى المطالبة بالحقوق والحريات أو في المساهمة النشيطة في الفضاء العمومي. استمرت المنظومة المدرسية المجال الحصري للدولة/ الحزب الواحد/ الرأي الواحد، حيث تؤكد على الانتماء “الوطني” في بعد ملتبس لا تنفصل الوطنية عن خطاب الدولة/ الحزب / المدرسي وتسييج السلوك التلمذي في “مهنة” التلميذ دون غيرها. حيث تحكّمت السلطة السياسية في البرامج التعليمية، وتغيير المناهج التربوية، حسب ما يناسب الخيارات الحكومية لا ما تتطلبه المناهج التربوية وغاياتها وقيمها،كانت المنظومة التربوية ملحقة بالسياسة في تونس، منذ بورقيبة،ولم تخرج الإصلاحات التربوية عن رداء”عقل الدولة” الذي استمر مع جل الإصلاحات التربوية دون استثناء، ولعبت السياسة في المعاهد أدوارا رئيسية في تشكيل الواقع التربوي وهندسته، فمجمل المرجعيات التربوية لم تتضمن إشارات دقيقة إلى التنشئة السياسية أو التربية السياسية بشكل مباشر وواضح، وإنما إشارات عامة للمشاركة السياسية، مع غياب/ تغييب ملامح ” التلميذ المواطن” و”التلميذ المشارك”. بمعنى أن المؤسسة التربوية لم تخل من قولبة الأفكار والتوظيف السياسي والدعاية إلى إنجازات الحاكم ، ما نمى تمثّلات خاطئة لدى الناشئة، فيما يتعلق بالواقع السياسي الذي فرض عليهم الطاعة العمياء والولاء التام،  وخلق شخصية تلمذية خاضعة وتابعة، وغير قادرة على ترسيخ الفكر النقدي ولا حرية التعبير، فأصبح غير قادر على الإنتاج الذاتي، ولا التفاعل مع محيطه الاجتماعي والسياسي والثقافي، دعمته البيئة التونسية، حيث المبادئ والقيم والقوانين المدرجة في الكتب المدرسية، بقيت مجرّد نظريات تدرّس ولا أثر لها في واقع التلميذ ومحيطه.  

والنتيجة أنّها ساهمت في خلق جيل عاجز على تمثّل الواقع تمثّلا صحيحا، وغير قادر على استيعاب قضاياه، ومتغيّراته، وتنشئته على الخوف من السياسة خصوصا بعد غلق الفضاء العام  واحتكاره واختزلت المدرسة في أدوارها التعليمية وتخريج قوّة العمل وقوّة الفكر التقني. وعملت السلطة السياسية على محاصرة زخم الفضاء العمومي المدرسي وإقصاء المعاهد عن الفضاء العمومي بقطع قنوات الانفتاح على دينامية محيطها والقضايا الجدلية للنخب، بمعنى أن الساحة العمومية محتكرة ومغلقة، يقابلها انغلاق مضاعف للمدرسة وغياب كل تواصل وانفتاح مؤسسي بين المدرسة ومحيطها السياسي والثقافي. نشأت  أعداد غفيرة من التلاميذ وأجيال عديدة لا على التعدد وقبول الاختلاف بل  على الحذر والتكتم والخوف من اقتحام عالم السياسة، ” إذ يتلقى الشباب تربية تجعلهم متفرجين يوكلون الشؤون العامة لمن يكبرهم سنا (…) هذا النوع من التربية ينتج في المجتمع (…) أفرادا منسلخين عن مجتمعهم لا يشعرون تجاهه بالتزام ولا يتحسسون إلا ما يتعلق مباشرة بأنفسهم، فالشأن العام في نظرهم أمر مجرد كل  وهم يشعرون بالعجز عن التأثير فيه”[25]، و ” إن المجتمع يقضي أن تحل روح الخضوع محل روح الاقتحام وروح المكر محل روح الشجاعة وروح التراجع محل روح المبادرة”[26].

  • التربية المدنية معرفة بلا حياة وثقافة بلا أثر

قسم  “برنامج البرامج”[27] المواد الدراسية إلى مجموعات من قبيل المواد العلمية واللغات والاجتماعيات، حيث تشتغل كل مادة دراسية في استقلالية تامة عن بقية المواد، مع تأكيد أفقيّة مسألة التربية على قيم المواطنة، لكن بينت الممارسة التعليمية  تنافر ها وانعدام أثرها في المناخ التربوي العام وفي سلوك المتعلمين. إذ توجد قطيعة هناك قطيعة بين المواد، مع إدراكها بصفة هرمية، تتغذى من تمثلات اجتماعية كفرق بين المواد المميزة بضوارب كبرى للنجاح والتفوق، ومواد  ثانوية بضوارب ضعيفة  تهتم بالقيم، ومن ثم هيمنت الاستحقاقات المدرسية على المنظومة التربوية وساد البعد البراغماتي على حساب تنشئة “التلميذ-المواطن” وانكمشت في  دوائر النجاح المدرسي دون الولوج في تربية الحضور المجتمعي والمسؤولية الاجتماعية والتنشئة السياسية.  

أدرجت مادة التربية المدنية في تونس في الإصلاح التربوي لسنة 1991، حيث حلت عوضا عن مادة التربية الوطنية التي أقرها الإصلاح التربوي لسنة 1958، لتسهم -حسب ما ورد في الورقة المرجعية – في توطين ثقافة المواطنة والتربية على حقوق الإنسان لدى التلميذ،  وترسيخ حزمة من القيم المجتمعية ذات الصلة بالديمقراطية والاهتمام بالشأن العام، وتنشد في سياق برامجها إلى تكوين المواطن الفاعل والمسؤول [28]. وتتغي التربية المدنية كمادة دراسية بتحقيق المعرفة والمهارات والفضائل المدنية، حيث تحتوي المعرفة معلومات وقيم وسلوكات الفرد في المجتمع، وتحيل المهارات إلى قدرة المتعلّم على تمثل القيم وتطبيقها في الحياة الاجتماعية، وتشير الفضائل إلى الخصال الرئيسية لشخصية المتعلم في التسامح والاستقلالية واحترام الآخر وسيادة القانون، وتقدير البيئة الطبيعيّة. ولمعرفة عامة بمضامين المادة اعتمدنا عينة من الكتب المدرسية للإطلاع على المحتوى التعليمي الذي يدرس للتلاميذ، يتضمن كتاب السابعة أساسي تحت عنوان “العيش ضمن مجموعة” ثلاثة محاور كبرى وهي العيش في العائلة (الحقوق والواجبات..) والعيش في المدرسة (التدرب على الحياة الجماعية…) والعيش في المجتمع ( القانون- التعايش- الأنشطة السياسية…)، مع تأكيد فكرة  الانتخابات وحق المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية[29]. ويحتوي كتاب الثامنة أساسي بعنوان ” المشاركة في الحياة العامة” ثلاثة مستويات كبرى، الطفل مشاركا في الحياة العامة (الهياكل المدرسية) بالاحالة إلى الأمر المنظم للحياة المدرسية، والمشاركة بالانخراط في التنظيمات بالإشارة إلى التعددية الجمعياتية والسياسية والتداول على السلطة، وثالثا المشاركة من خلال الانتخابات. وينضوي كتاب التاسعة أساسي على محاور حول الوطن (الهوية الوطنية) والمواطنة في أبعادها (القانونية والسياسية والإدارية والاجتماعية) والحرية ( التعبير والصحافة والنشر والاجتماع..) والمسؤولية والمساواة والتسامح. وتنص كتب المرحلة الثانوية أيضا في مكوناتها على ثقافة المشاركة والتثقيف السياسي، ففي كتاب الأولى ثانوي، يضم محورين رئيسيين: أولا المواطن في محيطه الاجتماعي والسياسي ودوره في تنظيم الحكم. ثانيا، والمواطن والممارسة التعددية السياسية والثقافية. ويتناول كتاب الثانية ثانوي ثلاثة مشاغل محورية تتعلق بالدولة الديمقراطية الحديثة، ودولة القانون، والمجتمع المدني، ويتطرق كتاب الثالثة ثانوي بالعرض حقوق المواطن على المستوى الدولي وفي التنمية المستدامة، والمواطن إزاء التحديات الدولية الراهنة.

على الرغم من هذه الغايات النوعية في التربية المواطنية إلا أنها لم تحقق النتائج المرجوة حسب عديد الدراسات واستنتاجات خبراء التربية والمشتغلين على هذه المادة[30] ، ولم ترتق إلى ترسيخ سلوكات تلمذية متشربة بقيم المواطنة والتنشئة السياسية إذا ما اعتبرنا كلاهما الوجه الأخر، فالمواطنة تنشئة سياسية والتنشئة السياسية تجسيم للمواطنة الفاعلة. وإشارة في مقدمة كتاب التاسعة أساسي أن “للمدرسين تأثير أساسي في سير الدروس وإنجازها…تعلم المواطنة وممارستها من خلال مشاركتكم بالتفكير والتعبير ومبادرتكم وتعاونكم ونقاشكم الحرّ في إطار تسود فيه علاقات تربوية ديمقراطية”[31]. بيد أن المفارقة تبدو واضحة، فهذه الدروس المتنوعة والتثقيفية  من الناحية السياسية لم تسهم إيجابيا في التنشئة السياسية للمتعلمين لا في المستوى الإعدادي ولا  في مستوى المعاهد الثانوية، إذ لا يوجد أي صدى لما يدرس في الواقع  ولا أثر له في التوعية السياسية ولا حتى في مهارات الانخراط الاجتماعي، فلا توجد مؤسسات فعلية نافذة ولا انتخابات حقيقية.  في مقابل تدريس حق المشاركة وحق الانتخاب لا يوجد في الحياة اليومية  إلا كوابح المشاركة ومنع التعددية الحزبية والممارسة السياسية، وبالتوازي مع دروس حرية التعبير وحق التنظم  نجد تغييب/ غياب تام لحرية التعبير. هذا ما جعل برامج مادة التربية المدنية في تونس فوقية، متعالية لا تطبق حقيقة مع الناشئة أو في المحيط السياسي والاجتماعي الذي يعيشون فيه، فهي مجرد مواد دراسية لاجتياز الاختبارات.هذا التناقض بين النظرية والتطبيق، خلق انفصاما حادّا في شخصية التلميذ الذي يدرس برامج لا يستطيع الاستفادة منها. وحتى في مرحلة الانتقال الديمقراطي لم تشهد مضامينها التعليمية والبيداغوجية أي تحوير فعلي، فلازال دستور سنة 1959 هو المرجع في الدروس ولازال قانون 1988 الخاص بتأسيس الجمعيات هو الذي يدرس للمتعلمين، وظل تلاميذ الأقسام النهائية محرومين من دراسة مادة التربية المدنية، ولا تقيم في امتحانات الباكالوريا في مختلف  شعب الاختصاص.

نعاين إضافة إلى البيئة المناوئة للتنشئة السياسية للمتعلمين”ضعف” البيداغوجيا المعتمدة على معرفة مدنية نظرية ومواطنة مفاهيمية جافة، إذ لا تخرج بيداغوجيا تدريس التربية المدنية عن بيداغوجيا التلقين وتفتقر إلى بيداغوجيا الوعي، فماهي قيمة خطاب عن الديمقراطية حين لا يتمكن المتعلم من ممارستها فعليا، وما قيمة الحديث عن المؤسسات إذا لم تحترم، وما جدوى تدريس علوية القانون حين يداس أمامه يوميا،  وما أهمية درس في المواطنة والمدنية مع وجود فجوة فاقعة بين الدرس والواقع وبين المعرفة التي تلقن والممارسات الاجتماعية. اهتمت البرامج كما حواملها البيداغوجية بالأهداف المعرفية على حساب الأهداف الوجدانية والذهنية والعملية والسلوكية واعتماد التثقيف المواطني عوض بناء المواقف والاتّجاهات، ولم تسهم حقيقة في تنشيط تبني القيم ولا في تنشيط التنشئة الاجتماعية، ولم تحرص على توفير الشروط الخصبة للاندماج في الشأن العام المجتمعي والسياسي.  ونعتقد أن “الخلل” الرئيسي في تدريس مادة التربية المدنية يتمثل في عدم تطبيق بيداغوجيا المشروع وبيداغوجيا الحركة والقرب، ما جعل منها مادة “جافة” تتحرك في أرض تربوية قاحلة، جعلها لا تختلف عن غيرها من المواد الدراسيةللاختبارات لا للتنشئة الاجتماعية أو التربية السياسية.

كل بيداغوجيا في جوهرها ممارسة حوارية والتنشئة السياسية تمر بداية بمعرفة ممارسات التدريس في الأقسام، ولا تقتصر على عرض سرديات وطنية وجمهورية وتكرار شعارات “العيش معا” و “العيش المشترك” وإنما تعلم التلاميذ ” التحرك معا” و “التحرك المشترك” من أجل قضايا مجتمعية ووطنية والتحرك ضدّ السلوكات اللامدنية واللامواطنية. لذلك تحتاج التربية المدنية في جوهرها إلى التدريب وإلى تطبيقات من خلال زيارة مؤسسات وطرح القضايا الواقعية والانفتاح على زخم المشكلات الجهوية والبيئية والمحلية، بمعنى أنها لا يمكن أن تنجز أهدافها وترسخ قيمها إلا بالاستناد إلى البيداغوجيا الميدانية بتحويل الدرس إلى مادة تجريبية ترصد مشكلات المجتمع المحلي وملامسة معضلاته (المناخية- التلوث- البيئة- احترام القانون…). فهي تعمل على تأصيل القيم المدنية في عقل المتعلم ووجدانه، وتوعيته بقضايا مجتمعه وشؤونه ، وتعلمه/تدربه كيف يتكيف مع المؤسسات وكيف يمارس دوره ، وتحضه على المشاركة والتعبير عن مواقفه وإبداء رأيه، وتشجعه على المشاركة المواطنية والسياسية مشاركة فعالة وحيوية، فالتربية المدنية تعني بناء الروح الوطنية والمواطنية.  وهذا ما أكدته البحوث والتقارير  من أهمية التربية على المواطنة في إنشاء الوعي بالانتماء إلى الوطن، وتعليم المواطنة يوفر معرفة صورية ومؤسسية بالسياسي، ولها إثر في تنمية انخراط التلاميذ في النقاشات السياسية خارج المدرسة ومتابعة الحملات السياسية[32].

على خلاف ذلك، شككت دراسات أخرى في جدوى التربية المدنية  النظامية وإيلائها مكانة محورية في التنشئة السياسية، وإبراز الأثر المحدود للوضعيات المدرسية الشكلية[33] ، وأنها توفر سواء معارف شكلية ومؤسسية للسياسي، ولا تمنح التلاميذ إلا عدد قليل من أدوات رصد الحياة السياسية، ولا تمكنهم من الموارد الضرورية للتعبئة والانخراط السياسي، وأنه ينبغي أن ينظر إلى ما هو خارج المادة المدرسية،  فالتربية السياسية من مهام المجتمع الديمقراطي، بتنشيط الوسائط وابتكار الوسائل وبلورة الوضعيات التدريبية التي تيسر قدرة المتعلمين على  التعبير والتمرس على المثل الديمقراطية  [34]

  • التحول الديمقراطي وضمور التنشئة السياسية في المعاهد
    • الحياة المدرسية وجفاف التربية على الديمقراطية

سعت السلطة السياسية إلى تسييج المدرسة وتجفيف صلاتها قيميا وتربويا بالتفكير الديمقراطي والمشاركة المدنية، احتضنت تنشئة سياسية مضادة اخترقت القوالب المؤسسية والتعليمية لتؤثر جزئيا في المزاج العام للتلاميذ وفي تشكيل المشاعر الشبابية. فكانت المدرسة  من أبرز الحقول التي غذت الأحزاب السياسية والتيارات الإيديولوجية، عبر مدرسين لا يمكن مراقبة محتوى حصصهم وطبيعة تواصلهم الحواري في الصفوف، وموافاة التلاميذ بموارد تأطيرية وتنشئة نقدية “تعرفت على بعض الأصدقاء مدوني ببعض المجلات والجرائد أذكر من بينها جريدة الرأي وبالمكشوف لتتطور فيسع (سريعا) إلى تبادل الكتب ونقاشات ليلية في المبيت “[35]. بقدر ما كانت السلطة الحاكمة تغلق الفضاء العمومي وتقلص مساحات الحريات وتكتك وسائل الإتصال والإعلام، مثلت المعاهد محاضن نواتية لبلورة أفكار إيديولوجية للمراهقين وانتماءاتهم الفكرية والسياسية وتكوين وعي تلمذي صلب “الحركة التلمذية”. وهذا يعني أن هناك تأثيرات من خلال مدرسي المواد الاجتماعية (فلسفة، تاريخ وجغرافيا، التربية الإسلامية…) وحتى المواد العلمية، فكل مدرس أي كان اختصاصه وينتمي إلى ايديولوجية يفتح أقواس لمناقشة فكرة أو مسألة مع “حذر” مفرط في التعاطي مع هذه الموضوعات “التابوهات”، أما الممارسة الخفية، فقد كان المدرسون يناقشون مع تلامذتهم الأوضاع السياسية و”نقدها” واستقطابهم في سن البحث عن حلم ومثل، فالسياسة أو الجدل السياسي حاضر وكامن بصيغ متنوعة ومؤسسية وشخصية لا يمكن حصرها، تعززت بشبكات خفية من التنشئة الاجتماعية الموازية في العائلة أو الجيرة أو الانتساب الجهوي أو المناخ المدني المعارض للاستبداد وتنميط الشباب.

مع  ارتفاع منسوب المطالبة بالحريات وحقوق المواطنة،  سعت السلطة- قبل 2011- إلى تطوير السياسات العامة للشباب ضمن سياق تعزيز ثقافة حقوق الإنسان لتجميل النظام السياسي الذي فقد شرعيته خاصة مع أحداث الحوض المنجمي.  تضمنت  “خطط وبرامج إنجاز الإستراتيجية الوطنية للشباب 2009-2014 ” مقترحات في إحداث أطر خصوصية لضمان حق الشباب في المشاركة، وفي وثيقة أخرى طالبت بآليات “تفعيل حق الشباب في اتخاذ موقع فاعل في الحياة السياسية والاجتماعية” (…) و” تنويع الأطر والفضاءات التي تخول للشباب التعبير عن أرائهم ورصد اهتماماتهم وشواغلهم ورصد تطلعاتهم ومدى قدرتهم على المشاركة في الاهتمام بالشأن العام”، ومن بين هذه الأطر: “إحداث برلمان الشباب” وهي مؤسسة استشارية تسهم في غرس روح المواطنة لدى شبابنا وفي تشريكهم في الشأن  العام والحياة السياسية”[36] .  وأصدرت  عديد الأوامر منها “الأمر المنظم للحياة المدرسية”[37] الذي احتوى  عديد الإجراءات لدعم “التنشئة الاجتماعية” واعتبار التلميذ محور العملية التربوية ، وسن العديد من الإجراءات والآليات المؤسسية شأن “مجلس المؤسسة” و”المجلس البيداغوجي” وغيرها، لكنها ظلت نصوصا نبيلة دون صدى في الواقع التربوي أو تطبيقات فعلية.

في السنوات التي تلت اندلاع الثورة، أصدرت وزارة التربية منشورًا يقضي “بتحجير تعاطي أي شكل من أشكال النشاط السياسي أو الدعاية السياسية في المؤسسات التربوية من مدارس ابتدائية ومدارس إعدادية ومعاهد بمختلف أصنافها”، ومنعت “الترخيص لأية جهة في تنظيم أنشطة مهما كان نوعها في فضاءات المؤسسات التربوية مستثنية الجمعيات والمنظمات التي أمضت عقود شراكة مع وزارة التربية في المجال التربوي أو تلك التي لها اهتمامات تربوية”. شكلت الثورة التونسية سياقا خصبا لنمو قيم الانخراط المجتمعي والالتزام بشكل عام، إلا أن ذلك لم تتم الاستفادة منه واستثماره من قبيل الأحزاب والجمعيات، ظل الشباب التلمذي مجافيا وبمنأى عن الفعل السياسي حتى في حدوده الدنيا والعزوف عن التصويت، ففي الاستشارة الوطنية حول الشباب لسنة 2008، بينت أن قرابة 83 % منهم لا يهتمون بالسياسة وهو ما لم يتغير نوعيا بعد التحول الديمقراطي. ومع  هذه التغيرات السياسية والدخول في تجربة الانتقال الديمقراطي انطلقت خطوات محتشمة في إصلاح المنظومة التربوية سنة 2012 واقترحت عديد المداخل والمخرجات (الكتاب البيضاء) و(المنهاج) لوزارة التربية، وانتظمت عديد الورشات والآيام الدراسية للتفكير والنظر في إطلاق الفعل الإصلاحي كأحد روافد الانتقال الديمقراطي وتشريك المنظمات الوطنية والجمعيات التعليمية ومكونات المجتمع المدني بأقدار متفاوتة وبصيغ متنوعة.

وفي الأمر الوقع تعاقبت الحكومات وتغير وزراء التربية، إلا أن قطار الإصلاح ظل معطلا، وخيمت  وضعية السكون والصمت المطبق وارتخاء الحماس وتواري إرادة الإصلاح مع خنوع تام للمنوال التربوي السائد في التنشئة الاجتماعية والسياسية. وعلى مدار عقد كامل لم يتغير أي مكون من المكونات التربوية باستثناء حذف صور الرئيس السابق، بل انتقلنا من منطق حماس الإصلاح إلى منطق تأمين الحد الأدنى التعليمي وإنجاز الإمتحانات الوطنية. ولم تشرع المدرسة في تنشئة إيجابية على إدراك السياسة وإتاحة طرائق تربوية ومسارات تكوين لتغيير التمثلات والأراء والاتجاهات السياسية، وتشجيع التلاميذ على الاندماج في عالم السياسة بما هي مشاركة مجتمعية ومواطنية، على النقيض من ذلك، عاينا استمرار تقليد توظيف حجافل التلاميذ في الاستقبالات وزيارات المسؤولين السياسيين حتى في فترة الرئيس “الباجي”[38]، وكأنه سلوك عادي وتعبير عن الوطنية. ما يثير أسئلة محرجة حول ماهيةالملامح الكبرى لإصلاحات التعليم والمنظومة التربوية وعلاقتها بالتحولات السياسية وتضمين التنشئة السياسية محتويات وقيم ديمقراطية، لم يتم سواء إعادة إنتاج تكييف المتعلمين وربما “ترويضهم” تحت عناوين “حياد” المعاهد وضرورة  تجنب الخوض في الموضوعات السياسية في الأقسام، واستمرار غياب التدريب على  الثقافة المواطنية والسلوك الديمقراطي والقيمي في البرامج وفي الحياة المدرسية.

مثلت ثنائية الحياة المدرسية وتجربة الانتقال الديمقراطي مجالا لنقاش عميق، حول طبيعة التنافذ ومدى تكاملها العضوي، فلا أحد ينكر أن المكونات المدرسية لا تهدف إلى نقل المعارف فقط بل إلى التنشئة السياسية وترسيخ  قيم الديمقراطية، وأن الحياة المدرسية ليست فضاءات ومساحات بل دينامية تربوية وروح تأطيرية تسري. وبالتالي تعد المدرسة ذات أهمية استراتيجية في مراحل التحولات المجتمعية، فهي التي تنمي وعيها وتعزز هويتها، لذلك ترنو نحو أداء دور تثقيفي وتربوي، بغية تحرير العقل وإزاحة القيود أمام التفكير الحر. يفترض أن التربية التي تحرص عليها ثقافة  الانتقال الديمقراطي ليست مجرد عمليات مؤسسية وبيداغوجية في تكوين المهارات وتشكيل القدرات الفردية، وإنما عمل عمومي منظم وحركة ثقافية ترسخ مبادئ الديمقراطية وقيم التشاركية في الشأن العام كمسلك جوهري للتحرر المعرفي والسياسي. وهذا ما يحفز على إنجاز إصلاحات تعليمية ، ويستوجب في أحيان كثيرة “إصلاح الإصلاح”، وتقييم منهجيته ومراجعة طبيعة مدخلاته ومخرجاته وطرق اشتغاله، والتعمّق في قضايا الإصلاح التعليمي وعلاقته بثقافة الديمقراطية. تؤدي المدرسة بما هي مرفق عمومي خدمة عامة للناشئة، وتقوم بإعداد الأجيال الجديدة معرفيا وسلوكيا وقيميا من أجل المساهمة في أنشطة الحياة الاجتماعية، فهي ليست أداة  أو جسرا من أجل الحياة بل هي الحياة عينها. ومن أبرز وسائلها الاعتماد على مناخ اجتماعي وتنشيطي كمتغير مهم في التربية المواطنية للمتعلمين، حيث يمارس أثره في التنشئة السياسية من خلال تنشيط الحياة المدرسية في مجمل أبعادها، وحرصه على تعليم الديمقراطية ومعايشتها فعليا، شأن تنظيم منتديات نقاش وعقد استشارات وتجارب مواطنية (حملات تحسيسية، …) وحث التلاميذ على المشاركة في أخذ قرارات ذات صلة بتسيير المؤسسة والحياة المدرسية وتدريبهم على تحمل المسؤولية الاجتماعية وتقديم خدمات اجتماعية، وترسيخ ثقافة التطوع.

لم تدمج في الحياة المدرسية آليات ديمقراطية جديدة لا في تسيير المعاهد ولا في المقاربات البيداغوجية، ولم تتم الاستفادة من قيم الأرضيّة التشريعيّة والقانونيّة للمواطنة في دستور ،2014 حيث نصّ في فصله الثّاني على أن “تونس دولة مدنيّة، تقوم على المواطنة وإرادة الشعب، وعلويّة القانون”، إلا أن النص الدستوري لم يفرز آليات عمل ولا ثقافة مواطنية تثري دافعية المشاركة السياسية من خلال تجسيمها في الحياة المدرسية. خصوصا وأن التربية في معانيها الشاملة هي الآلية الأكثر تأثيرا والأفضل في إرساء قيم المشاركة وتجذيرها لأنها تلامس مختلف الفئات العمرية والاجتماعية وتمتد تقريبا لسنوات عديدة. ومن ثمة يتطلب توطين المشاركة تبيئة ثقافة المواطنة وجعلها مؤثرة في صياغة مواقف التلاميذ وميولاتهم، وتوجيه سلوكاتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية، وهو هدف لا يمكن إنجازه بالاقتصار على النصوص الدستورية أو القانونية، وإنما يستند على مسارات تنشيئية وتأطيرية تسعى جاهدة لتحقيقه واقعيا. حافظت الحياة المدرسية على معاييرها التقليدية مثل إدارة الصفوف ذات طبيعة مركزية حول المدرس وكذلك تواصل اشتغال المدرسة/ المعاهد بطريقة هرمية، حيث لا تناقش شؤونها اليومية بما أنها من مشمولات الإدارة وتحديدا من قبل مديرها، دون تشريك للإطار التربوي والتدريسي فما بالك بالتلاميذ المستبعدين من هذه الشراكة، ما يحول دون تطبيق”الديمقراطية المدرسية”.

لم نلحظ حسب تجربتنا التربوية  أي استفادة  من مساحات الحريات، ونحن مقتنعون بأن تشريك/مشاركة التلاميذ في الحياة المدرسية ذات أثر إيجابي في انخراطهم خارج المدرسة، وهو ما أكدته أيضا البحوث التربوية من أن المدرسة توفر معرفة شكلية ومؤسسية بالسياسي عبر المواد الدراسية وخاصة مواد التنشئة الاجتماعية، فالمدرسة – بلا شك- تنقل معارف سياسية للتلاميذ حول المؤسسات والتاريخ السياسي، ولكن تحتاج إلى تفعيل فضاءاتها ليمارس فيه الفعل العمومي وتجارب المواطنة مثل المشاركة في مجالس البلديات للأطفال وانتخاب ممثلي التلاميذ، وإنجاز مبادرات ثقافية ومجتمعية وتطوعية عديدة لادماج التلاميذ في حياة المؤسسة. كان من المنتظر استدخال التنشئة السياسية وتطوير محمولات التنشئة الاجتماعية وتغذية ملامح البعد السياسي للمواطنة في الفضاء المدرسي، بما يتماشى والثقافة الديمقراطية وانتشار قيم الحرية،  وهو بعد غائب في التربية المدرسية على المواطنة، فالمدرسة – ما بعد الثورة- لم توفر الأدوات اللازمة لتمكين المتعلمين من مباشرة الحياة السياسية وفهم رهاناتها ومعرفة فاعليها ونتائجها. وكان من المفروض تجسيد المواطنة تدريجيا في الحياة المدرسية، وتكييف مبادئ اشتغالها مع منظور الديمقراطية السياسية، لا يعني أن يكون التلميذ فاعلا سياسيا، وإنما مشاركا ومتابعا للشأن العام.

تأخذ التنشئة السياسية الإيجابية والفاعلة في الاعتبار التمثلات والممارسات التي تنجز في مجال الحياة المدرسية، والحياة الجمعياتية، وهي وسائط تدريبية تنحت استعدادات المشاركة، وتنقل المدرسة ثقافة مدنية ومعرفة سياسية تشجع التلاميذ على الانخراط في الحياة العامة وتكوين “مخيال سياسي”. وتشمل أبعادا متعددة وجدانية ومعرفية وتقييمية، وتعد الفضاء المفضل لتعلم الديمقراطية، والمقصود ليس مجرد معارف نظرية، وإنما وضعيات حياتية وأساليب معايشة  تنجز من خلال التربية بالحركة، والتربية على قيم المساواة والاحترام وحرية التعبير والاستقلالية والمسؤولية والعدالة والإنصاف. وتعتبر التربية اللانظامية عبر المناخ المدرسي مسار يتملك المتعلم من خلاله الاتجاهات والقيم ومعرفة الإنجاز والمعارف عبر التجربة اليومية في المدرسة وفي محيطها، لتكوين مهارات تحمل المسؤولية والدفاع عن هذه الحقوق والمسؤوليات الديمقراطية[39]. من هذا المنطلق الاجتماعي تعد المؤسسة التربوية مؤسسة تنشئة سياسية بامتياز، تعمل على تصيير التلميذ إنسانا اجتماعيا فاعلا في مجتمعه ومتضامنا مع قضاياه، فما يتعلمه التلاميذ في المدرسة يتجاوز بعيدا ما هو منصوص عليه في البرامج.

  • التجربة الديمقراطية ومناخ سياسي مناوئ للمشاركة التلمذية

من الطبيعي أن المدرسة ليست بمفردها تكون الشباب سياسيا، إذ هناك قنوات وفضاءات أخرى تسهم في تشكيل ملامح المشاركة أو عرقلتها، من قبيل الشارع ووسائل الإعلام والبرامج التلفزية، الإشهار، والشبكات الاجتماعية…. تسعى التنشئة السياسية إلى تدريب التلميذ على التفاعل مع هذه الوسائط بحسّ نقدي، وإقداره على التفكير الحرّ بما هو عنصر حيوي في المشاركة النشيطة. أفرز الانتقال الديمقراطي في تونس منسوبا كبيرا من الحريات السياسية، وأنتج سياقا اجتماعيا وسياسيا غذّى عودة فئات شبابية- بما فيهم تلاميذ المعاهد- إلى ساحة الشأن العام بعد أن أقصتهم منها سياسات عمومية سابقة. وبالرغم من هذا الاهتمام المستجد والمشاركة  الشبابية الفاعلة في ثورة 2011، فإن مشاركته في الأنشطة المدنية والجمعياتية لا تتجاوز  نسبة (3% ) أما الانخراط في العمل السياسي فإن النسبة في حدود (1 % )، أما التصويت في الانتخابات التشريعية والرئاسية  تتسم بالعزوف بنسبة (6  %)[40]. اعترف الدستور الجديد بأهمية الشباب، إذ ينص الفصل (8) على أن “الشباب قوّة فاعلة في بناء المجتمع” ، وأطلقت رئاسة الجمهورية مبادرة حوار مجتمعي بشأن التحديات التي يواجهها الشباب وذلك من أجل صياغة خطة وطنية متكاملة للشباب من 2016-2030″، وانتظمت عديد المؤتمرات والورشات[41] في سياقها دون أن تفضي إلى مراجعة عميقة وحقيقية للسياسات العمومية التربوية والشبابية. تتعدد التفسيرات، من بينها عجز السياسات العمومية عن تحقيق المطالب المختلفة للشباب التلمذي والاستجابة لانتظاراتهم المتنوّعة. وساهمت النخب السياسية المختلفة في استدامة هذا العزوف خاصة أنها لم تتشتغل على الاحتياجات الأساسية للشبان،  ولم تشكل أحد أولوياتها  لا في الخطاب ولا في الممارسة، كما  خلقت مناخا متوترا  مبني على الصراعات الإيديولوجية والتجاذبات السياسية، ما أحدث شرخا عميقا بين التلاميذ والحياة السياسية.  اعتبرت نسبة (%78.6)من شباب عينة البحث أن  سلوك النخب السياسية بمكوناتها المختلفة لا يشجع أو لا يشجع إطلاقا، وهي نسبة مرتفعة عمقت الشرخ بين ما تأتيه النخب قولا وفعلا ونظرة الشبان وتقييمهم[42].  

يوجد إجماع شبابي في الحكم سلبيا على الحياة السياسية بنسبة تقارب (50 %) ترى أن الحياة السياسية تتّسم بفقدان النّجاعة والفاعلية، تتأتى أساسا من عجز السياسات العمومية في تغيير الواقع المعيشي لعموم الشباب وفشلها في إيجاد حلول لمشاكله المتنوعة، ولم تنجح الدولة بخياراتها ومؤسساتها والفاعلين السياسيين في صياغة مشروع مجتمعي يُجمّع حوله الشباب.  ويبدو أن الانتقال الديمقراطي والطبقة السياسية لم تفلح  في نحت انطباع إيجابي حول الحياة السياسة، ولم  تحدث نقلة نوعية في تنشئة المتعلمين سياسيا، بل قد يكون أدى إلى نتائج عكسية، حيث ساهمت “السياحة الحزبية” وانتشار قضايا الفساد وتحويل فضاءات التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية إلى فضاءات لتبادل الاتهامات والشتائم بين الفرقاء السياسيين،  وتجلي خطاب عنيف ومتوتر صلب البرلمان وغيرها من العوامل، في صنع صور وأحكام  نمطية تتفه العمل السياسي وترذل الاهتمام بالشأن العام، تتعمق هذه الصّورة السلبيّة بل وتنكشف خيبة الأمل التي يحملها الشباب حين يصرحون  بأنّ “المصلحة الخاصة والزّبونية والمحاباة” طغت على الحياة السياسية في تونس بنسبة (60.7%)[43]. ولتدقيق أراء الشباب  حول نظرتهم للعوائق التي تحول بينهم وبين المشاركة  في الشأن العام، حدد أفراد عينة البحث كلا من العائق الأول والثاني حول النظرة السلبية للسياسة وسلوك الأحزاب والطبقة السياسية بنسبة( 50.9 % )،  وبعد ذلك تتأثر التنشئة السياسية عموما بما تحويه القيم الاجتماعية من محافظة حيث لا يشجع المنوال التربوي على المبادرة والاقتراح والمشاركةبنسبة (  14.5% ). يليها تداعيات الإرث السياسي العام حيث هيمنت الدولة على كل المجالات، وعملت على   “تحييد” السياسة كمجال للنشاط المواطني وإخراجها من دائرة اهتمام الشباب بنسبة (11.6 % ) بمعنى رغم الحريات العامة  لازالت حالة الخوف والحذر الشديد من “تعاطي السياسة” قائمة، واعتبارها مجالا ممنوعا أو في الحد الأدنى “خطير” ويهدد مستقبلهم الدراسي والاجتماعي[44].

كشفت الدراسة الميدانية هيمنة حالة غضب وسخط شبابي متصاعد ضد السياسة والسياسيين[45]، حيث نشهد تغيرا في نماذج المشاركة السياسية، بمعنى أن اهتمامهم بالسياسة في معناها الكلاسيكي لم يعد يثير اهتمامهم، وهناك توجس من عالم السياسة والسياسيين. لكن بالتوازي نلاحظ التزاما متناميا بالممارسات السياسية غير المرتبطة بالرهانات الحزبية والانتخابية بل مرتبطة بالاحتجاجات  والتحركات حسب محاور القضايا، فقد تنامت المشاركة السياسية بانخراط الشباب التلمذي  في رهانات متميزة (أحداث الربيع العربي، مناهضة الاستبداد، مقاومة  الفقر ، مواجهة التفاوت الجهوي  والأسئلة المرتبطة بالبيئة…). فالشباب قد لا يهتم بالسياسة وربما لا يصوت، لكن في المقابل يهتم  بالحملات السياسية المخصوصة والتي يشعرون بنتائجها الملموسة، هذه النوعية من المشاركة تشكك في فرضية عدم التسيس التلاميذ الشبان ومدى رفضهم  للفعل السياسي. من بين المداخل الشبابية الجديدة  تمظهر أشكال تعبير مستجدة  عن مواقفه من الشأن العام، ولجوئه إلى استعمال التكنولوجيات الحديثة للإعلام والتواصل NTIC، وشبكات التواصل الاجتماعيواستعمال “الغرافيتي” أو الرسائل السياسية والمجتمعية عبر جدران المدينة. ما يتطلب جعل التربية السياسية مكون من مكونات التربية المواطنية وتجسير علاقة الشباب والسياسة، وذلك بتغذية مسارات التنشئة الاجتماعية والسياسية وتطوير انخراط التلاميذ في السياسة المواطنية بإحداث التجديدات المؤسّسية (البرلمان- مجالس الشبان-أنماط ديمقراطية- أشكال تشاركية…)، وتدعيم ديناميات التعبئة الجماعية في المدرسة وحولها. يحيلنا هذا الاستعمال في إحدى معانيه، إلى ممارسات ثقافية واجتماعية ذات صلة وثيقة بالمواطنة الرقمية للشباب، في نفس الوقت، يصاحب هذا الاستعمال المُكثّف لهذه الوسائل رهانات تهم تشكُّل آراء الشباب ومواقفهم والكيفيّات التي يتمّ بها بناء هوياتهم الجديدة ، تفاعل تلاميذ المعاهد معها وقدراتهم على توظيف التكنولوجيات الحديثة في ترسيخ المشاركة في إدارة الشأن العام والتعاطي مع الأحداث والقضايا. ويمكن للمعاهد التونسية التي توصف غالبا بالرتابة أن تحدث حركية بملامسة المعايير والأدوار والرموز والممارسات والسلوكات ، فمحورية المتعلم كشعار مركزي في تحديث المدرسة يتطلب فتح قنوات تفكير جديدة تتماشى مع تحيين منطق الإصلاحات التربوية العميق،  فالمدرسة ليست وحدة صماء بل تتكون من تنوع كبير من الفاعلين وتحمل موارد عديدة ومواقع واهتمامات مختلفة، مع الحرص على تأكيد محورية التلميذ كمشارك.

  • التلميذ شريك في المدرسة شريك في المجتمع

أصبحت التربية على المواطنة ومحورية التلميذ في المشاركة المعهدية والمجتمعية ضرورة حيوية في بناء المجتمعات الديمقراطية، ولم يعد ممكنا الحديث عن تحولات ديمقراطية حقيقية ما لم يترافق ذلك بإجراءات تشمل التنشئة السياسية، فالديمقراطية لا تتحرك في فراغ بل هي ممارسةتربوية تفرض نفسها في مختلف جوانب الحياة الديمقراطية في المجتمعات الحديثة، إذ لا مجتمع ديمقراطي دون تربية تلميذ ديمقراطي، فالتربية على المواطنة تعني بناء الإنسان/ المتعلم الديمقراطي القادر على المشاركة الحيوية في الحياة العامة. صار واضحا أن المشاركة السياسية للمتعلم في الشأن العام شرط أساسي في أصل المواطنة ذاتها، وهذا يعني أنه يفقد صفة المواطنة النشيطة خارج دائرة المشاركة في الشأنين المدرسي والعام لوطنه ومجتمعه، وبالنتيجة تستطيع التربية السياسية أن تولد مشاركة فعالة للمتعلمين في الحياة السياسية، فالتربية على المواطنة النشيطة تقتضي بالضرورة تربية سياسية أو على الأقل بناء حسّ المسؤولية. يسمح لها بالتأقلم فعليا مع القناعات التربوية الدولية من أن الديمقراطية تشكل الإطار الطبيعي لممارسة حقوق الإنسان ولعدد كبير من القيم شأن الحرية والكرامة والعدل والمساواة والإخاء وحق التعبير  وحرية الرأي وقبول الآخر والإيمان بالتعددية والمسؤولية، والمشاركة السياسية بوصفها قيمة إنسانية.

إن التنشئة السياسية للتلاميذ خيار استراتيجي في المجتمع، والديمقراطية بما هي الإطار الحيوي الضامن لبناء الوعي السياسي والمسؤولية المجتمعية، التي تقتضي وعيا عميقا أو بدرجة ما بالقضايا السياسية والتحديات التي تواجه بيئتهم.  كما لا يمكن تنمية شعور المواطنة  والوعي النقدي بمشكلات واقعهم، وتدريبهم على أخذ القرار إلا  بتطوير السياسات العمومية التربوية في هذا الاتجاه، خاصة أن أكثر من  ثلاثة أرباع أفراد العينة ( 77.7 %)  اعتبروا أنّ السياسات العمومية للدولة في (التعليم-الثقافة-الشباب-البيئة –التمويل…)، غير مشجعة مطلقا أو أنها غير مشجعة على انخراط الشباب في الشأن العام.   تظهر تفاعل المتعلمين السلبي مع السياسات العمومية، إذ يفترض  أن تُشجع بإجراءاتها وتشريعاتها على تمكين  المشاركة الشبابية  وتمتينها في الوسط المدرسي وخارجه[46]. وعلى رغم أهمية التحولات السياسية التي شهدتها تونس منذ العشرية الأخيرة، فإن الشباب لا يزال على هامش المساهمة في صناعة القرار وبلورة الخيارات وتحديد السياسات العامة، ولعل التنشئة الاجتماعية الحذرة  أو التنشئة السياسية  المنعدمة والتعليم الشكلاني، من أبرز العوائق أمام إحساسهم بجدوى مساهمتهم في الشأن العام، ويمكن القول أنها من أهم  القضايا التربوية  والمواطنية التي من المجدي أن تشملها السياسات العمومية للشباب  وللتربية. وأن تنفتح على التربية السياسية بما هي فهم الواقع السياسي القائم وفهم معضلاته، وتمكين التلميذ  من مهارات التقييم والحكم ، وتعمل على عدم ازدراء السياسة وترذيل العمل السياسي وبناء صورة أكثر موضوعية فيما يتعلق بالمشاركة وضرورتها، باعتبارها عملا اجتماعيا ضروريا للحياة، فلا مشاركة دون دور ولا مشاركة دون مهمة، وهو جانب من قيمة الاعتراف بالمتعلم/ المواطن .

نعتقد أن مدرسة جديدة على وشك الانبعاث، وأن المنظومة التربوية تعيش نوعا من “الثورة الصامتة”، فلم تعد مدرسة اليوم مدرسة الستينات ولا السبعينات أو بداية القرن العشرين، إن التغيرات البنيوية  التي أثرت في شبكة القيم المجتمعية والتربوية وتحولات سوق الشغل (البطالة، التهميش) وتصاعد دونية الشهادات وخيبة العديد من الفئات الاجتماعية إزاء  المدرسة ، تستوجب انفتاحها على التربية المواطنية.  وأن تنخرط في إصلاحات تربوية عميقة تشمل عدّة مبادئ سياسية في العلاقة بين الديمقراطية والتربية، يحددها “معهد من أجل التربية على الديمقراطية” (IED) في التربية المتعددة، وتربية تحترم حقوق الإنسان وتوسيع لائحة المواد الاختيارية والدروس والأنشطة وإدارة المدرسة حسب الاجراءات الديمقراطية، وإرساءعلاقات تحاورية وتشريك التلاميذ في مسار اتخاذ القرارات. يتطلب هذا إرساء آليات مؤسسية وتفعيلها على شاكلة “مجلس المؤسسة” يشارك فيه الأولياء  كما التلاميذ للتداول في شؤون المدرسة بكافة تفاصيلها، وأن تنسجم التربية الديمقراطية مع سياقها الثقافي، وأن يتوافق تعليم المدرسة مع حركية الحياة خارجها، وأن يكون المتعلم شريك نشط في تنظيم  الأنشطة بمختلف مكوناتها. وأن تكون الإصلاحات حركة ممتدة وشاملة مع إقحام تجديدات تقنية وموضعية، سواء في شكل “تربية على..” أو تطوير أدوات أو طرق منهجية إو إضافات فنية وثقافية أو رياضية. ومن المجدي أن تؤخذ بعض المقترحات في مجال التربية اللانظامية في الاعتبار من قبل المدرسة (مرونة في المكان والزمان)، مع نظرة أكثر انفتاحا للبرامج والارتباط بالمشكلات الاجتماعية القريبة واستحضار البعد المحلي وتنويع الأنشطة، والانتقال من “التلميذ الفرد” إلى  “التلميذ المواطن “.

توجد عديد التجارب والمشاريع التي اهتمت بتربية التلاميذ على المشاركة كأنشطة متممة للتعلّمات أو في إطار برامج تربوية غير نظامية تدار من قبل جمعيات أو هياكل بلدية، نذكر منها ثلاث تجارب في إسبانيا- يمكن الاستئناس بها-، حركة “المدن التربوية” [47] حيث المدينة فضاء تربوي تضفي بعدا تربويا على الهياكل البلدية بتشريك مواطنيها من الشباب التلمذي، ومشروع “مدن الأطفال”[48] يحث على مشاركة التلاميذ في إدارة شؤون المدينة، ومشروع “الميزانيات التشاركية” المستوحى من التجارب البرازيلية في ساو باولو. كما يمكننا الإحالة إلى  عديد الأمثلة في تطوير المدرسة والتنشئة السياسية، حيث يبرز النموذج البرتغالي القدرة الابداعية للفاعلين المحليين على التجديد الجذري للمدرسة العمومية، والقطع مع الأشكال المحافظة للتنظم في القسم، وإنشاء حوامل بيداغوجية وتنظيمية غيرت من شكل ومحتوى ومعنى العمل التلمذي[49].  شاركت المدارس العمومية في برنامج الميزانية التشاركية بنسبة (90 % )، الذي يهدف إلى تدعيم الإدارة الديمقراطية للمدرسة وتشجيع مشاركة التلاميذ.  ونقدم أيضا تجربة المدرسة المفتوحة  بأوكرانيا ، حيث أحدثت منصة للميزانية المفتوحة لابراز شفافية تعامل المدارس وإمكانية مراقبتها، وأتاحت مساحات مناقشة حول أولوية الاحتياجات. كا نستطيع الاستفادة من تجارب بيداغوجية حول المدرسة التشاركية في أمريكا اللاتينية تضع التربية الديمقراطية وقيم المشاركة في مركز اهتماماتها وترمي إلى توفير الحرية للفرد في تعلّماته وتحرص في مناخ تفاعلي على ترسيخ قيم العدالة والاحترام والثقة ، مثل ” حركة بلا أرض”[50]  في البرازيل و”أحياء واقفة”[51]  في الأرجنتين  أو ” قافلات بيداغوجية” في كولومبيا[52]. تؤلف هذه التجارب التربوية مثالا حيا  من مدارس مجددة في منزلة التلميذ وأدواره ونمط اشتغالها، وأنه من الصعب توعيته دون التأثير فيه عبر التدريب والتطبيق الميداني صلب المدرسة.

الخاتمة:

تناول المقال اختزال المناخ المدرسي والمعاهد في أدوارها التعليمية والمهام المعرفية، والاقتصار على التنشئة الاجتماعية للمتعلمين في دلالاتها التفاعلية وعدم تنشيط التربية المواطنية بما هي ممارسات ميدانية وتطبيقات تربوية. وبالنتيج لا تحتل التنشئة السياسية مكانة متميزة في المنظومة التربوية بمستوياتها البرامجية والبيداغوجية أو الحياة المدرسية. تجنبت البرامج الدراسية تحفيز الحس النقدي وتشجيع التدريب على تحمل المسؤولية الاجتماعية وغابت عمليات تعزيز المشاركة المدرسية والمدنية والاهتمام بالشأن العام. وحتى مضامين مادة التربية المدنية وأساليب تدريسها اكتفت بالتثقيف العام دون بلورة مواقف لدى التلاميذ وتمكينهم من رؤى إيجابية للعمل الاجتماعي للانخراط المواطني الفاعل.

وبينا أن التجربة الديمقراطية والتحولات السياسية كانت دون أثر ولم يكن لها أي صدى، إذ ظلت البرامج عموما  بمنأى عن التغيرات ومساحات الحريات التي أتاحتها الثورة. واستمرت الحياة المدرسية في اجترار اشتغالها التقليدي دون إحداث أي إضافات أو تبديلات في عمق رتابة التفاعلات. يبدو المشهد غريبا، كأن هناك عالمين منفصلين بل متناقضين،عالم متحرك وحيوي يبحث عن تثبيت الديمقراطية ويسعى للاستفادة من فضاء الحريات المتاح، وعالم تلمذي بطئ بإيقاعات رتيبة يعيد إنتاج نفس السلوكات ونفس الثقافة المتكلسة، ولم تتمكن المعاهد ولا المؤسسات التربوية الاستفادة الحقيقية من تحولات الشارع ولا من نبض المثل والأحلام التي أفرزها. لهذا فإن السياسات العمومية في مجال التربية والسياسات الشبابية أن تهتم وتشتغل على صياغة تصورات واستراتيجيات لتنشئة اجتماعية لجمهور المعاهد تعيد ارتباطهم بقضايا مجتمعهم وتفتح قنوات تواصل بين التلاميذ واحتياجات بيئتهم المحلية والوطنية وتحدياتها الرئيسية.

قائمة المراجع:

بالعربية:

توران، ألان، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، (رحمة سليمان، منشورات المنظمة العربية للترجمة)، بيروت، 2011.

الدريسي، محرز، ” نماذج من أواصر الشباب وتفاعلاتهم تضامنات تلمذية في الوسط المدرسي التونسي”، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، 7- اوت- 2021، جامعة الجيلالي بونعامة- خميس مليانة- الجزائر.

شرابي، هشام، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، الدار المتحدة للنشر، بيروت، ط3، 1984، ص64.

بالأجنبية:

Bourdieu et al. La misère du monde, Paris, Seuil, 1993.

Crozier, Michel ; Friedberg, Erhard. L’acteur et le système. Les contraintes de l’action collective, Editions du Seuil, Paris, 1977.

Douniès, Thomas. « Parler politique en classe : Ethnographie de la socialisation politique au contexte scolaire », Sociétés contemporaines, N°114, 2019, pp.151-179.

Duffy, Katherine. Social Exclusion and Human Dignity in Europe, Concil of Europe, 1995.

Emile, Durkheim, Éducation et Sociologie, Paris, PUF, 1973.

Gaxie, Daniel. Le gens Caché. Inégalités culturelles et ségrégations politiques, Paris, Le Seuil,1978.

Kenneth P. Langton; M. Kent Jennings. “Political socialization and the High school civics curriculum in the Unites states”, The American Political Science Review, vol:62, N°3,1968.

Lahire, Bernard. « La réussite scolaire en milieux populaires ou les conditions sociales d’une schizophrénie heureuse », Ville École Intégration- Enjeux, n°114,1998.

Mathias, Millet ; Daniel, Thin. L’école au cœur de la question sociale. Entre altération des solidarités sociales et nouvelles affectations institutionnelles, in Paugam Serge (dir), Repenser la solidarité, PUF, Paris, 2015.

Mialaret, Gaston. Pédagogie général, Paris, PUF, 1991.

MOUGNIOTTE (A). Pour une éducation au politique, provocation ou sagesse ? EVS, Paris, 1992, p.2

Norbert, Elias. La société des individus, traduit Jeanne Etoré, Paris, Fayard, 1991.

Paugam, Serge, (dir). Repenser la solidarité, Paris, PUF, 2015.

Percheron, Annick ; Subileau, Françoise. « Mode de transmission des valeurs politiques et sociales : enquête sur des préadolescents français de 10 à 16 ans », Revue française de science politique, /24-1,1974.

REY, Bernard. Les compétences transversales en question, ESF, Paris, 1998.

Sawicki, Frédéric. « Pour une sociologie des problématisations politiques de l’école », Politix, N°98,2012.

Yves, Déloye. Ecole et citoyenneté. L’individualisme républicain de jules ferry à Vichy : controverses, Paris, Presses de la fondation nationale des sciences politiques,1994.

UNICEF. Convention sur les droits de l’enfant, New York, UNICEF, 1989.

UNESCO. Groupe de travail sur l’éducation non formelle, “The Dynamics of Non-Formal Education – Volume I”, Report on the Pre-Biennial Symposium and Exhibition, Commonwealth Secretariat on behalf of ADEA WG-NFE, Johannesburg, South Africa, décembre,1999.

UNESCO. Les stratégies pour contribuer à la consolidation de la paix, projet 1996-2001.


[1] الدستور التونسي لسنة 2014 ، الفصل 16، الرابط: https://bit.ly/3GY3M6c

[2]  المرسوم 87  لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011، الفصل الثالث (3).

[3] Émile, Durkheim, Éducation et Sociologie, Paris, PUF, 1973.

[4]  اعتنى بهذه المسألة في سياق أزمة الجمهورية الثالثة (1875) جعلته يتناول قضايا المدرسة والتعليم في أفق الاندماج والتضامن، باسترجاع الثقة المشتتة “للأمة الفرنسية” بعد هزيمتها سنة (1870) وعجزها عن ترسيخ مؤسسات مستقرة وفق المبادئ الكبرى للثورة الفرنسية.

[5] REY, Bernard, Les compétences transversales en question, ESF, Paris, 1998.

[6] Elias, Norbert, La société des individus, traduit Jeanne Etoré, Paris, Fayard, 1991.

[7]  ألان، توران، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، (رجمة سليمان، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2011.

[8] Crozier, Michel ; Friedberg, Erhard, L’acteur et le système. Les contraintes de l’action collective, Éditions du Seuil, Paris, 1977.

[9] Paugam, Serge, (dir), Repenser la solidarité, Paris, PUF, 2015 pp. 945-962.

[10] وثيقة منشورة ” نحو مجتمع المعرفة. الإصلاح التربوي الجديد. الخطة التنفيذية لمدرسة الغد 2002-2007″ ، جوان 2002، وزارة التربية.

[11] Dubet, La préférence pour l’inégalité, Comprendre la crise des solidarités, Paris, Éditions du Seuil, 2014.P 59

[12] Mialaret, Gaston, Pédagogie général, Paris, PUF, 1991.

[13] Mathias, Millet ; Daniel, Thin, L’école au cœur de la question sociale. Entre altération des solidarités sociales et nouvelles affectations institutionnelles, in Paugam Serge (dir), Repenser la solidarité, PUF, Paris, 2015, pp.683-699.

[14]  محرز، الدريسي، ” التلميذ والذات: مساهمة في التربية على تنمية الذات في التوجيه” رسالة  لنيل شهادة الدكتورا في علوم التربية، نوقشت  في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتاريخ 20جانفي 2015.

[15] Duffy, Katherine, Social Exclusion and Human Dignity in Europe.Concil of Europe, 1995.

[16] Lahire, Bernard, « La réussite scolaire en milieux populaires ou les conditions sociales d’une schizophrénie heureuse », Ville École Intégration- Enjeux, n°114,1998.

[17] Bourdieu et al, La misère du monde, Paris, Seuil, 1993.

[18] Percheron, Annick ; Subileau, Françoise, « Mode de transmission des valeurs politiques et sociales : enquête sur des préadolescents français de 10 à 16 ans », Revue française de science politique, 1974/24-1/pp.35-51.

[19] Ibid

[20] Frédéric, Sawicki. « Pour une sociologie des problématisations politiques de l’école », Politix, N°98,2012, pp.9-33.

[21] Yves, Déloye. Ecole et citoyenneté. L’individualisme républicain de jules ferry à Vichy : controverses, Paris, Presses de la fondation nationale des sciences politiques,1994.

[22] Thomas, Douniès. « Parler politique en classe : Ethnographie de la socialisation politique au contexte scolaire », Sociétés contemporaines, N°114, 2019, pp.151-179.

[23] UNICEF, Convention sur les droits de l’enfant, New York, UNICEF, 1989.

[24]  تحدد اتفاقية اليونيسف في (الفصول 3-17- 23-28- 23- 29- 31) أن عدم التمتع بأحد هذه الحقوق يعد نوعا من “الإقصاء الاجتماعي” بما أنها تهم قدرات المتعلّم على التفاعل مع المجتمع، ذلك أن متعلّم مهمش هو راشد مهمش. ويمكن أن يكون للإقصاء الاجتماعي روابط لصيقة بالإجرام والإرهاب والعنف والأمراض الاجتماعية والانحرافات، وتهديد مستقبل العيش الجيد للمجتمع. للمتعلّم حق أساسي في التربية (البند 28 من الاتفاقية)، وأن يكتسب المعرفة ضمن مسار تشاركي تمكنهم من المشاركة في المجتمع.

[25]  هشام، شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، الدار المتحدة للنشر، بيروت، ط3، 1984، ص64.

[26]  نفسه، ص 69.

[27]  وثيقة مرقونة، وزارة التربية، دون تاريخ (83 صفحة).

[28] القانون التوجيهيّ للتربية والتعليم المدرسيّ في جويلية 2002.

[29]  كتاب التربية المدنية للسابعة أساسي، ص 274.

[30] محمد بالراشد، محرز الدريسي، إلهام منصور وطارق لوصيف. التربية المدنية في تونس: دراسة تشخيصية، بحث ميداني ضمن  برنامج ” تكوين مواطنين/ت مسؤولين/ت ”   وتحت إشراف الإّتحاد من أجل المتوسّط   UFM و مركز التّنمية المجتمعيّة والتمكين  SDEC  بتونس، ومركز التّربية المدنيّة    MCCE  بالمغرب.

[31] كتاب التربية المدنية للثامنة أساسي، ص 238،ج 3.

[32]   تقرير حول “تعلم المواطنية لسنة “2016،  المركز الوطني لدراسة الأنظمة المدرسية، 2016. الرابط: https://bit.ly/32q9kHE

[33] Kenneth P. Langton; M. Kent Jennings. “Political socialization and the High school civics curriculum in the Unites states”, The American Political Science Review, vol:62, N°3,1968, pp.852-867.

[34] Daniel, Gaxie. Le gens Caché. Inégalités culturelles et ségrégations politiques, Paris, Le Seuil,1978, p.167.

[35]   محرز، الدريسي، “ نماذج من أواصر الشباب وتفاعلاتهم تضامنات تلمذية في الوسط المدرسي التونسي”، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، 7- اوت- 2021، جامعة الجيلالي بونعامة- خميس مليانة- الجزائر.

[36] تقرير حول مساهمة وزارة الشباب والرياضة والتربية البدنية في تعزيز ثقافة حقوق الإنسان” وثيقة مطبوعة، ماي 2010.

[37]  “الأمر المنظم للحياة  المدرسية” عدد 2437 لسنة 2004 المؤرخ في 19 أكتوبر 2004.

[38]  أقدم المندوب الجهوي للتربية  بسوسة على تخريج التلاميذ من قاعات الدرس لاستقبال الرئيس السبسي بتاريخ 4 أكتوبر 2017.

[39] Unesco (1999), Groupe de travail sur l’éducation non formelle, “The Dynamics of Non-Formal Education – Volume I”, Report on the Pre-Biennial Symposium and Exhibition, Commonwealth Secretariat on behalf of ADEA WG-NFE, Johannesburg, South Africa, décembre.

[40] المعهد الوطني للإحصاء.

[41]  عقد مؤتمر “نحو مشاركة أقوى للشباب في الحياة العامة” بتاريخ 23 نوفمبر 2016.

       عقد مؤتمر “بناء موقع إلكتروني لمشاركة الشباب” بتاريخ 16 فيفري 2017.

       عقد مؤتمر ” من أجل أن يسمع صوت الشباب وويؤخذ في الاعتبار: استشارة الشباب وتمثيلهم في تونس” بتاريخ 11 ماي 2017.

[42]  من نسب الإجابة عن سؤال رقم (17) من الدراسة الميدانية عادل العياري.

[43]  من نسب الإجابة عن سؤال رقم (18)، نفس الدراسة.

[44]  من نسب الإجابة عن سؤال رقم (19)، نفس الدراسة.

[45]  نفسه

[46]  من نسب الإجابة عن سؤال رقم (20)، نفس الدراسة.

[47]  “villes éducatives”

[48] “la ville des enfants”

[49] Antonio, Bolivar. « Une autre école en Espagne », Revue internationale de Sèvre, N°46, 2007, pp.35-44.

[50] « Mouvement des sans terre »

[51] « Quartiers debout »

[52] « Caravanes pédagogiques »
_______________
*د. محرز الدريسي.

جديدنا