هل يمكن للإنسانية أن تعيش بسلام؟ في مفهوم ” السلام الأبدي”عند كانط

image_pdf

مدينة  السلام كونيغسبيرج  المدينة الألمانية بالأمس – كاليننغراد الروسية اليوم –  هي المدينة التي قد شهدت ميلاد كانط  فيلسوف السلام  العالمي …. ومن الغريب العجيب أن تشكل  هذه المدينة  اليوم المكان الذي يحتمل أن تنطلق منه شرارة الحرب الأخيرة  حيث لا يكون حجر ولا بشر . 

“نحن نعيش في زمن شديد الغرابة، أصبحنا نلاحظ فيه وباستغراب أن التقدم قد عقد تحالفاً مع النزعة الهمجية والبربرية” سيغموند فرويد [1].

1-مقدمة:

شُغل كانط، مثل غيره من الفلاسفة الكبار، بمسألة التنازع بين البشر، وما تجرّه الحروب من مآسٍ وويلات تفوق قدرة العقل على التصور وطاقة النفس الإنسانية على التحمل. فالحروب كانت وما زالت تمثل المأساة الكبرى والهاجس الخطير للإنسانية ومصدر الشّرور عبر التاريخ، وما زالت تثير الرعب الإنساني وتصيب الروح الإنسانية بكلّ المخاوف ونزعات القلق الوجوديّ.

ولم يكن أمام كانط أن يُعرض عن هذا الهاجس المستبدّ بالإنسان الّذي يهدد الحياة الإنسانية برمتها، فوجد نفسه في مواجهة فكرية شرسة مع تحديات هذه القضية التي أثارت فيه أعمق أحاسيسه الإنسانية وحركت فيه أعظم مشاعره الكونية، ولم يكن لحكيم مثله أن يجبن عن المواجهة والنزال، فاستنفر أدواته الفلسفية ليرسم للإنسانية حلم الطمأنينة والسلام عبر مشروع السلام الأبديّ في مواجهة الحروب والنزاعات القاتلة بما تسببه للإنسانيّة قاطبة من هلاك وبؤس وشقاء.

أعلن كانط في أكثر من موقف “أنّ أكبر شر يصيب الشعوب المتمدنة ناجم عن الحرب لا بمعنى الحرب الحاضرة أو الماضية بل بمعنى الاستعداد الدائم للحرب القادمة”[2]. ولم يستطع أن يتجاهل مشهد الفظاعات التي تسببها الحروب بين البشر، ولم يكن له أن يقف مكتوف اليدين أمام هذا التحدّي الإنساني، فأبدع في توظيف جهازه الفكريّ الأخلاقيّ متصدّياً لتحدّيات الحرب وكوارثها المصيرية، وكرّس لهذه القضية المصيرية وقتاً طويلاً من التأمل والتفكير والنظر، واستطاع في النهاية أن يقدم للإنسانية مشروعاً فكرياً فلسفياً متكاملاً يحدد لنا فيه، ومن خلاله، سبل تجاوز البؤس الإنساني المتمثل في الحرب والدمار. وقد أطلق على مشروعه السلمي المصقول بفلسفته الأخلاقية: “نحو مشروع السلام الدائم“، وهو المشروع الذي حظي باهتمام عالمي دولي واسع في مختلف المستويات الفلسفية والفكرية. وهو المشروع الذي أعلن فيه أن إنشاء “حلف بين الشعوب” هو السبيل الوحيد للقضاء على شرور الحرب وويلاتها [3]. وقد ذاع هذا المشروع وانتشر عالمياً، فطَبَّقَتْ شُهْرَتُهُ الآفَاقَ، ليشكل في الوقت نفسه محور الاهتمام السياسي. وقد تصدّر المنتديات الدولية واستقطب اهتمام المنظمات العالمية الحقوقية، فكان أن تم اعتماده مرجعيةً سياسية وظفت في تأسيس “عصبة الأمم”(VÖlkerbund) التي استلهمت اسمها من مشروعه السلمي الإنساني الشامل بعد نحو ربع قرن من وفاته[4].

2- مرتكزات السّلام الدائم:

يرى كانط أن تأسيس “قانون الشعوب” يجب أن ينطلق من أسس التحالف بين دول ديمقراطية دستورية حرة. وقد رأى أن العلاقات الدولية – القائمة في زمانه– تقوم على حالة الهمجية والانحطاط البهيمي، وأن الحرب ما زالت تدق طبولها من أجل الحقّ والعدل، رغم أنّ النّصر فيها لا يخدم في شيء هاتين القيمتين. كما أن المعاهدات لا تستطيع أن تضع حداً للحروب الراهنة والمستقبلية ولا يمكنها أيضاً أن تنزع حالة الحرب الكامنة في النفوس والميول المتأصّلة فيها، فكلّ هذه العوامل تجعلنا نفكر في إقامة اتحاد عالمي جديد يتولى إدارة النزاعات والمحافظة على السلم العالمي. وتأسيسا على هذه الرؤية رفض كانط كل أشكال الحروب، ورأى أن الحرب لا تحقق سلاماً، ولا تمكّن من العدالة، ولا هي سبيل من سبلها، ولا يمكنها أن تجعل من حالة السلم واجباً إنسانياً. ولذلك لا بدّ من العمل على تأسيس العلاقات الدولية على قواعد أخلاقيّة ثابتة، والانتقال بها من حالة الطّبيعة المتوحشة إلى حال المدنية الأخلاقية، ولا يتم ذلك إلا عن طريق اتحاد الشعوب في منظمة دولية واحدة تتولى شؤون السلام، وتقوم بمنع الاقتتال والاحتراب.

مثلُ هذا التّحالف -بحسب كانط – لا يمكنه أن يكون إلزامياً لكلّ الدول، ولا يجب إكراه دولة أيا كانت على الانضمام إليه، لأنه تحالف حرّ يقوم على الحرية الكاملة والنوايا الطيبة. ويقترح أن تقوم إحدى الدول الكبرى بإقامة حلف مع مثيلات لها، و”سرعان ما تسعى كل دولة متمدنة إلى الانتفاع بثمرات نظام يكفل لها سلامتها من كل اعتداء. وإذا كان قيام حلف شامل للإنسانية جمعاء أمر لا يتحقق في مستقبل قريب، فهو كالهدف الذي يجب أن ترمي إليه جهود الدول المسالمة جميعاً “[5]. وقد شاهدنا هذا التحقق في عصبة الأمم بداية، وكيف تنادت مجموعة من الدول إلى تأسيسها. ولم يبلغ عدد أعضائها أكثر من ستين دولة، ثمّ تطور هذا العدد فيما بعد ليشمل  دول العالم جميعها في هيئة الأمم المتحدة التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية.

ويعدّ كتاب كانط “السلام الدائم”(Perpetual peace)[6] المنشور في عام 1795 من أكثر أعماله انتشاراً وتأثيراً، وقد أعيد نشره أكثر من 12مرة في حياته، وأصبح مادة فكرية وفلسفية تطرح للمناقشة بين كبار المفكرين والفلاسفة في مختلف الأزمنة والأطوار الفكرية [7]. ولا يزال هذا الكتاب قيد الاهتمام والبحث حتى يوم النّاس هذا، كما أنه يشكل مادة علمية عالمية رصينة تدّرس في مختلف الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، ولا سيّما في مجالات الفلسفة والسياسية وحقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم. وما زالت هذه الوثيقة التاريخية (نحو مشروع للسلام العالمي) تحمل في طياتها القدرة على التجدد الذاتي. وما زال شُرّاحُها يتداولون على تناولها بمنهجيات جديدة، واستجواب مناحيها برؤى مستحدثة. وما فتئت هذه الوثيقة الفلسفية تحظى بإعجاب المفكرين والباحثين لما تنطوي عليه من قدرة إبداعية فارقة في تاريخ الفلسفة السياسية.

يتجسد أحد أوجه عبقرية كانط في كتابه “السلام الدائم”[8]، وهو يشكّل صورة إبداعية لمشروع سياسي بنكهة فلسفية أخلاقية مضمخة بالعقلانية النقدية. ومع أن كانط صاغ هذا المشروع بطريقة حقوقية سياسية على النمط الذي تكتب فيه المعاهدات الدولية والنصوص القانونية، فإنّه يقوم على ركائز فلسفية وأخلاقية تمثل كل ما في الفلسفة الكانطية من تماسك منهجي يقوم على مبادئ الفضيلة الأخلاقية للمجتمع الإنساني برمته.

وقد يبدو كتاب كانط (السلام الدائم) لقرائه في الوهلة الأولى كما لو أنه مدونة قانونية، أو صورة مسودة لمعاهدة دولية مقترحة، أو بالأحرى كتاب متواضع يبحث في السلام الدولي. وكثيراً ما يقع المهتمون في شرك هذه الرؤية الساذجة، فيغفلون عما ينطوي عليه هذا العمل العبقري من تجليات فلسفية، وما يحمله في ذاته من مضامين أخلاقية عميقة تفوق، في كثير من الأحيان، قدرة المثقفين العاديين على استجواب المضامين الأخلاقية الراسخة في هذا العمل، واستكشاف الجوانب الفلسفية االترانسندنتالية، والدلالات الأخلاقية والفلسفية الكامنة فيها. فالكتاب يقوم على ركائز فلسفة كانط الأخلاقية التي تجلت في كتبه الأخلاقية المتينة المتجسدة ومنها: ميتافيزيقيا الأخلاق، وأسس ميتافيزيقياً الأخلاق، والعقل العملي.

ويندرج “مشروع السلام الدائم” ضمن التوجه الفلسفي الكانطي، الموسوم بالعقلانية الكونية الشمولية، إذ ينبثق من فكرة إنسانية – عالمية ترمي إلى تحقيق أقصى مراتب السمو الأخلاقي، وهو السلام الأبدي. ويشكّل بذلك تجسيداً حقيقياً للنزعة السلميّة للفيلسوف الألماني، الذي، رغم إقراره بأن النزوع إلى الحرب هو متجذّر في النفس البشرية، لكون الفطرة الإنسانية أقرب إلى الحرب- سواء أكانت حرباً بالمعنى الملموس أم مجرد توجه ينطوي على تهديد دائم بالتجاسر والعدوان- إلا أن النزوع إليها شرّ، لكونه يقود إلى التخريب، وينطوي على أساليب وحشية وعدائية [9].

صدر كتاب كانط “نحو السلام الدائم” (Perpetual Peace) [10] في عام 1795 على أثر كتابه الموسوم:”المبادئ الأولى الميتافيزيقية لنظرية القانون”، ويتألف الكتاب من ست مواد تمهيدية يحدّد فيها الشروط السلبية للسلام. وثلاث مواد نهائية يُضمنها الشروط الإيجابية العامة لقانون السلام. وقد صيغت نصوص الكتاب على صورة معاهدة سلام، وكأنها تنتظر التوقيع من الدول التي يمكن أن تلتزم بها. ويحدّد لنا كانط، بموجب المواد التمهيدية، نسقاً من الأفكار التي تؤسّس لمشروع السلام، والتي من دونها لا يمكن للسلام أن يتحقق فعلياً. وتمثل “المواد النهائية” الثلاث نصّ المعاهدة وبنودها. ويهدف المشروع إلى تطوير الدساتير الجمهورية في البلدان الراغبة بالانضمام إلى المعاهدة كي ترقى، فتسمح لهذه الدول بالدخول في فيدرالية دولية قائمة على أساس حقوق الإنسان وحقوق الشعوب والأمم. وقام كانط بتعديل هذه النصوص في طبعة لاحقة، وعزّزها بملحق يركز على أهمية البعد الأخلاقي للسياسة الدولية القائمة على السلام[11].

يخاطب كانط – في كتابه هذا – المجتمع الإنساني بمختلف شعوبه وأممه، داعياً إيّاه إلى إرساء سلم عالميّ لا يكون فيه للحرب حضور أو وجود، ولا تقوم فيها للجيوش قائمة، سلام يستند إلى ركائز أخلاقية وإنسانية راسخة وأصيلة. وتنصّ المواد التمهيدية الست على الآتي:

 1- لا يجوز أن تتضمن معاهدة السلم أي بند سري للاحتفاظ بحق استئناف الحرب.

 2- لا يمكن امتلاك دولة مستقلة عن طريق الميراث، أو التبادل، أو الشراء، أو الهبة.

3 – الجيوش الدائمة يجب أن تزول نهائياً مع الزمن.

4- لا يجوز اقتراض ديون وطنية من أجل مصالح خارجية للدولة.

 5- لا يجوز لأي دولة أن تتدخل في نظام أو حكم دولة أخرى.

6 – لا يجوز لدولة، في حرب مع دولة أخرى، أن تقوم بأعمال عدوانية من شأنها أن تجعل من المستحيل عودة الثقة المتبادلة بينهما لدى عودة السلم: مثل الاغتيال، دس السم، خرق امتياز ممنوح، التحريض على الخيانة.

وتنص المواد الثلاث النهائية على ما يلي:

1-يجب أن يكون النظام السياسي لكل دولة هو النظام الجمهوري.

2-القانون الدولي يجب أن يؤسس على اتحاد (فدرالي) بين الدول الحرة.

3-القانون (الحق) العالمي يجب أن يقتصر على شروط الضيافة العالمية.

ويرى كانط أن تحقيق هذا المشروع السلمي يحتاج إلى مرحلتين: يتم في الأولى تنظيم الأمم في هيئة دولية تتولى المحافظة على السلم، وهذا أمر ميسور التحقيق. وقد تحقّق بالفعل للمرة الأولى في سنة 1919 بإنشاء عصبة الأمم، وللمرة الثانية في سنة 1945 بإنشاء هيئة الأمم المتحدة التي لا تزال قائمة حتى اليوم. والمرحلة الثانية هي: السلم الدائم، وهو مثل أعلى، أي غاية بعيدة لا تتحقق أبداً، لكن يجب على الأمم أن تجعلها دائماً هدفاً نهائياً لها: إنّه أمل، وليس مجرد سراب لأن الحرب ليست ضرورة حتمية لا مفر منها [12].

3-البعد السياسي للسلام الدائم:

يعبر كانط في “السلام الدائم “عن تصوراته وطموحاته السياسية في تشكيل كيان سياسي متكامل الأبعاد أخلاقياً وإنسانياً واجتماعياً. وتشكل رؤيته في هذا المشروع بعداً جديداً من أبعاد الفلسفة السياسية في عمله الفكري الشامل. وينطلق كانط من تصوراته حول “الدولة “بوصفها الصيغة السياسية القانونية التي يلتئم بها شمل المجموعات الإنسانية المتجانسة في صورة اتحاد قانوني يحظى بموافقة أغلبية السكان المنتسبين إلى الدولة. وهي كذلك عنده، نعني الدولة، صيغة اتحاد مجموعات بشرية في كيان سياسي واحد، ويريده كياناً سياسياً ديمقراطياً تسوده القيم والفضائل الأخلاقية، ويرفض أن يكون هذا الكيان خاضعاً لأي سلطة خارجية مهما يكن نوعها، فلا يحق لأيّ كيان آخر أن يتصرف في شؤونها. وعلى هذه الصورة يرى أن الدولة جماعة إنسانية مستقلة سياسياً لا يجوز لأحد مهما يكن أن يتحكم فيها، أو أن يشكل سلباً لوجودها المعنوي، أو تجريدا لكيانها السياسي والأخلاقي.

ويرى كانط أنَّ حالة الطّبيعة بوصفها حالة سابقة على التّنظيم السّياسيّ ليستْ حالة يعمها السّلام أو الوﺋﺎم، بل هي حالة أقرب ما تكون الى حالة الحرب، أو أنها كانتْ دائماً منطوية على ﺗﻬديد ﺑﺎلحرب واستخدامها، بل إنّ الحرب تؤدي دوراً مهما في نشوء الدّول وتوزعها الجغرافيّ[13].

ويتأسس وفق ما سبق تصور كانط للدّولة المدنيّة بأنّها دولة اجتماعيَّة تنتظم بوساطة قوانين الحق، وتقوم على أساس المبادئ العقلانيّة الآتية:[14].

1- مبدأ الحرية: ويشير هنا إلى أنَّ كل فرد في المجتمع إنَّما هو إنسان قبل كل شيء.

-2 مبدأ المساواة : ويشير الى أنَّ كل فرد من أفراد المجتمع هو متساوٍ مع غيره بوصفه موضوعاً للقوانين وندَّاً للآخرين.

-3مبدأ الاعتماد الذّاتيّ (الاستقلال): ويعني أنَّ كل فرد، بتحقق حريته ومساواته أمام الأفراد الآخرين يُعدُّ مواطناً، معتمداً على نفسه، ومقِّراً لما يمتلكه من حرية وما يعامل الآخرين به ويعاملونه به من منطلق المساواة.

-4 مبدأ الشّخصيّة المدنيّة- القانونيّة: ويشير إلى أنَّهُ في أُمور الحق لا يجوز أنْ ينوب عن الفرد المواطن أي أحد غيره.

ويعوّل كانط في مشرعه السلمي على الوضعيات الدستورية للدول المعنية بالسلام، ويرى أن تحقيق الشرط الدستوري لكل دولة أمر ضروري في عملية تحقيق التحالف الدولي من أجل السلام. وهو يريد بذلك أن تتحوّل الدول من دول تقوم على حكومة الفرد الواحد إلى حكومات دستورية جمهورية وهذا شرط أساسي للمشاركة في الاتحاد الدولي للسلام. فالدستورية السياسية تعني أنه لا يمكن اتخاذ قرار الحرب إلا بعد موافقة المواطنين وقبولهم، ومثل هذا القرار يتطلب تفكير المواطنين في عواقب الحرب وويلاتها، وما يترتّب عليها من كوارث وسفك للدّماء وفساد أخلاقي، وهو ما يدعوهم، في الأغلب، إلى رفض الحروب وتجنبها. أما عندما تكون الحكومات فردية والدساتير غير جمهورية أو ديمقراطية فإن قرار الحرب يتّخذ بأقل قسط من التدبر والتفكير والحذر، ذلك لأنّ الحاكم، في هذه الحالة، لا يتصف بكونه مواطناً عضواً في الدولة، بل مالكاً لها، “ولا يخشی، من ثم، إن وقعت الحرب أن تؤثر على مائدته أو في دور لهوه أو حفلات بلاطه، إنه يستطيع أن يقرر الحرب لأضعف الأسباب وأتفهها، كما لو كان يقرر رحلة للهو أو الصيد”[15].

ويطالب كانط في مشروعه للسلام الدائم الدول الحرة – التي تأخذ هيئة جمهوريات دستورية مستقلة- بالتخلي عن القوة العسكرية وإلغاء الجيوش وكل التنظيمات والميليشيات الحربية بصورة كاملة، لأنّ مجرد وجود هذه التشكيلات والقوى العسكرية يشكل تهديدا للدول الأخرى، وهو نمط من التهديد المستمر بالحرب أو التفكير بشنها مستقبلا. وتشكّل مثل هذه الحروب – كما بينت التجارب التاريخية – خطراً وجودياً على الحياة الإنسانية في هذه الدول، وهي تؤدي – فيما تؤدي إليه – إلى خسائر اقتصادية وبشرية كبيرة. وتؤدي أيضاً إلى حرمان الإنسان من حقوقه الإنسانية الأساسية وتحويله إلى كائن مغترب يفقد إحساسه بإنسانيته على نحو كلي. ويعني هذا بالنّسبة إلى كانط أن وجود الجيوش لا يمثل تهديداً للسلام فحسب، بل يمثل خطراً وجودياً شاملاً يهدد الاقتصاد والحقوق الإنسانية. وينذر بالموت والفناء، كما يؤدي إلى إفراغ الإنسان من قيمته الإنسانية. فالأفراد الذين يُكرهون على خوض الحروب يفقدون غالباً حسّهم الإنساني وكرامتهم الأخلاقية وشعورهم بالآدمية وهذه نتيجة طبيعية للفظائع والويلات التي ترتكب ضد جنود العدو المفترض. وتحول الناس إلى مجرد أدوات للقتل والتدمير والفتك بالآخر دون رحمة ودون أي شعور بالقيمة الأخلاقية للإنسان. ويتنافى هذا بالطّبع مع القانون الأخلاقي عند كانط، وهو قانون يجعل من الآخر غاية أخلاقية كلية، وفي الوقت نفسه يدين كانط الاستعدادات التي تقوم بها الجيوش في أثناء السلم لغرض الدفاع عن حدود الوطن في حالة الحرب. فهذا التّأهّب للمواجهات الدّمويّة بين الشّعوب والأمم يشكل تهديداً لجميع الدّول، ويجعل الإنسانية في دوّامة معاناة من استمرار حالة من السباق الدائم المحموم نحو التسلح. وإنّ وجود هذه الجيوش والإحساس بقوتها قد يغريان، في حدّ ذاتهما، بالحرب والدمار العسكري الذي تفرضه الحرب بويلاتها، ومن هذا المنطلق ينادي كانط بإلغاء الجيوش وكل مظاهر القوة العسكرية.

يرى كانط، إذن، أن السلام الدائم سيشكل المنطلق المنهجي في التأسيس للسياسة العالمية التي تقوم على ركائز المواطنة العالمية وحقوق الإنسان والتفاهم الدولي وقيم التسامح والسلام، وهي المفاهيم التي تؤسّس لتشكيل مجتمع سياسي كوني يقوم على أساس الفضائل الأخلاقية التي تتشوّف إلى الارتقاء بالإنسان إلى مستوى الغاية الأخلاقية العليا. والسّلام الدّائم، على هذا الأساس، لا يمكن أن ينحبس في إطار قوميّ أو عرقيّ. ولا يمكن أن ينحصر بشرق أو غرب أو حضارة معيّنة، بل هو سلام سياسي يشمل الإنسانية برمتها دون استثناء، ولا يمكن أن يكون سلاماً أبدياً ما لم يكن سلاماً يعم الإنسانية دون أي اعتبار عرقي أو ثقافي أو ديني.

ويرفض كانط، من هذا المنطلق، أن يبنى هذا السلام على أساس الثقافة الغربية بما تنطوي عليه من أبعاد حقوقية، وبما تقوم عليه من أنظمة دستورية ومواثيق ومعاهدات. ويعني هذا أن مفهوم السلام العالمي يتجاوز الحضارة الغربية، ويستلهم الحضارة الإنسانية برمتها شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً. وهذا يحيلنا إلى مقاصد السلام بوصفه حقيقة كونية تتجاوز حدود القوميات والأعراق والثقافات الإنسانية، فتشملها وتنهض بها إلى ثقافة سلمية عالمية تأخذ بعين الاعتبار روح الحضارات والثقافات الإنسانية في مختلف دوائر الانتماء الإنسانيّ، وتحتضن، في الوقت نفسه، الثقافات الإنسانية التي تتحرك في الفضاء الكوني للكوكب الذي نعيش فيه. فالسلام الدائم المقصود هنا لا هوية له، بل لعلّه يتجاوز كل هوية، فليس هناك معاهدة أو سلم أصيل، كل ما هناك هو كيفيات أصيلة للمشاركة في إرساء السلام الدائم، لذلك فإن كلّ سؤال فلسفي لا مفر له اليوم من أن يجد نفسه منخرطاً في إطار كيفية الحفاظ على النوع البشري-الإنساني، ولابد من أن يُطرح على الفكر بما هو فكر إنسانيّ كونيّ”[16].

ويتّضح أنّ مثل هذا السلام لا يكون كونياً إلاّ إذا كان أخلاقياً، ولا يكون أخلاقياً إلا إذا كان كونياً، لأن الأخلاق الكونية تكون بالضرورة جامعة لكل أشكال التنافر بين البشر وعابرة لكل الاختلافات القائمة بينهم. فالناس جميعاً في كل مكان وزمان يتّفقون على تمجيد الأخلاق الكونية التي تتمثل في الخير والحق والعدالة والرحمة والفضائل الإنسانية الخلاقة. وعلى هذا النحو يتجلى السلام بأبعاده الأخلاقية ويتماهى مع المواطنة العالمية، ويقوم على أساس القيم الديمقراطية الخلّاقة، وهي المبادئ الأخلاقية التي تتمثّل في صورة قيم عالمية كونية راسخة الحضور في الوعي الأممي لسكان الكوكب وأصيلة في مشاعرهم الإنسانية، وهذه هي الأسس التي يمكن أن يقوم عليها السلام العالمي المنشود.

وتفيد رؤية كانط بأن البشر جميعاً مطالبون بالمشاركة في بناء السلام الدائم. ويتضح أيضاً أن مثل هذا التوجه للمشاركة لا يمكن أن ينطلق من فكر عنصري أو من ثقافة تعصبية في أي مستوى من المستويات، بل يتطلب رجالاً من هذا النمط الذي يؤمن بالإنسان والإنسانية، وينطلق من مبدأ الفضيلة الأخلاقية التي تنهض بالإنسان والإنسانية إلى الصورة الغائية للحياة والوجود. ويعني أن هذا التوجه يقوم على أساس خلقي قوامه الإحساس العميق بالواجب الأخلاقي وبكونيته التي تتجاوز كل مظاهر الشر والخلاف والصراع والتعصب والتّحيّز والكراهية بين البشر. ومن هذا المنطلق يحثّ كانط على أهمية الوصل العميق بين الممارسة السياسية والفعل الأخلاقي، وتلك دعوة منه “لأخْلَقَةِ” السياسة، وترويضها أخلاقياً حتّى تكون في خدمة الإنسان والإنسانية. ويؤكد كانط هذا الترابط العميق بين السّياسة والأخلاق بقوله: “يجب ألا تقوم حرب البتة، لا بينك وبيني في الحالة الطبيعية، ولا بيننا كدولٍ مبنية داخلياً”، ويحرص على أن يشكل هذا السلام السياسي القائم على الأخلاق قوة هائلة قادرة على إيقاف الحروب وحماية أبناء الإنسان من شرورها وويلاتها.

4-البعد الفلسفي والأخلاقي للسلام الدائم:

احتل مشروع السلام الدائم مكانة سامقة في تاريخ الفكر السياسي. واستمرّت هذه الأهمية محافظة على قوتها وحضورها في كل الأزمنة: الماضي منها والحاضر والمستقبل. ونحن الآن نعيش في توجّس من شبح حرب عالمية ثالثة، ونقصد بذلك هذه الحشود الروسية على حدود أوكرانيا، وكأن العالم اليوم يستعد للحرب التي قد تكون نهائية وقاضية على البشرية على الأرض.

ولكن جانباً كبيراً من الأهمية في مشروع كانط للسلام الأبديّ يكمن في بعده الفلسفي والأخلاقي. ويدرك المتأملون بعمق في هذا المشروع أنّه متلبّس برؤية فلسفية متكاملة تجسد الروح الحقيقية للفلسفة الأخلاقية الكانطية. فالنسق الأخلاقيّ ممزوج بدقة متناهية في نسيج هذا المشروع. ويمكن أن نلاحظ أن قوانين الواجب والفضيلة حاضرة في هذا المشروع على نحو فلسفي متماسك لا يخفى على أهل العلم والبصيرة. فالحبكة الأخلاقية كامنة في عمق هذا المشروع إلى حدّ يجيز لنا القول إنّه مشروع سلام أخلاقي بالدرجة الأولى، وهو قائم على الركائز الأخلاقية الكانطية في النظر إلى الإنسان بشموليته وغائيته ومسؤوليته بوصفه كائناً حرّاً عاقلا. فالحرب بكلّ ما فيها هي معادلة مضادة للإنسان وللأخلاق والقيم، وهذا يوجب على الإنسانية أن تنطلق في مسار القضاء على أسبابها ودواعيها من أجل سلام أبدي دائم.

ومن الواضح أن مشروع “السلام الدائم” يشكل “محاولة أصيلة انطلق منها كانط لاستكمال مشروعه النقدي بإعطائه صيغة “أنثروبولوجيا برغماتية” (Anthropologie pragmatique)[17] موضوعها معرفة “ما يمكن ويجب على الإنسان أن يفعله بنفسه من حيث هو كائن يمارس نشاطه العملي بحرية[18]. “إنها الإطار العام للأسئلة الثلاثة التي لخص فيها كانط فلسفته النقدية (ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يجب علي أن أفعل؟ ماالمسموح لي بأن أرجوه؟ من حيث كونها تتلخص في سؤال جوهري واحد هو “ما هو الإنسان؟” [19]. وتلك هي الحبكة الفلسفية التي تغلغلت في نسيج مشروع كانط في السلام العالمي. ويعني هذا في الجوهر أن” السلام الدائم هو تجسيد أخلاقي لتصور عالمي إنساني، وهو سعي متواصل لبناء تشريع أخلاقي لسلام دائم يهدف إلى خلاص الجنس البشري، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تأصيل الكمال الأخلاقي الأقصى للإنسانية في السلام الأبدي[20].

وقد أعلن كانط في كثير من ملامح نظريته السلمية أن السلام مسألة أخلاقية بالدرجة الأولى، ووجد أن العلاقة بين الأخلاق والسلام علاقة صميمية متلازمة دائماً. فالسلام لا يكون في غياب الأخلاق، وكذلك لا تكون الأخلاق غائبة عن السلام أو في غيابه، ففي وجود الأخلاق يكون السلام، وفي غيابها يمتنع ولا يتحقق. وهو ما يعني أن تحقيق السلام لا يكون في معادلة التلازم الضروري مع الواجب الخلقي. وهذا هو الأمر الذي ينطلق منه كانط في التأكيد أن السلام لا يعدو أن يكون مشكلة أخلاقيّة، “وأن تحقيق السلام الأبدي لم يعد خيراً مادياً فحسب، بل شرطاً صادراً عن تقديس الواجب الأخلاقي. لذلك فإنّ السلام الذي تقيمه الأخلاق بين البشر ليس سلاماً سياسياً أو قانونياً، ولا هو سلام الاستسلام من خاضع مهزوم لمنتصر غالب. ولا هو سلام الضرورة والمصالح الضاغطة على الأعناق مطأطأة الرّؤوس، ولا هو سلام اليأس والضعف من جبروت القوة والطغيان، ولا هو سلام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الجائرة. ولهذا فإنّ السّلام الذي تقيمه الأخلاق هو مخالف لكل هذا، إنّه سلام مؤسس على الأخلاقية، أي مؤسّس على العقل، ويكون ممكناً عندما يكون للعقل إرادة هي ذاته، فيكون السلام سلاماً نابعاً من الإرادة الخيرة الملتزمة بالواجب الخلقي، فبالأخلاق تكون حتمية السلام وفي غيابها تولد حتمية الحرب”[21].

ومن الواضح بمكان أن الرؤية الأخلاقيّة الكانطية تؤسّس للسّلام وترسّخ دعائمه على نحو عقلي. وقد أشار كانط مراراً إلى أن السلام بين البشر ليس حالة فطرية، بل حالة أخلاقية، لأن الحالة الفطرية للإنسانية تقوم على روح النزاع والحرب. وعلى خلاف ذلك، فإنّ ملكة العقل والأخلاق تدين كلّ أشكال الصراع المؤدية إلى الهلاك البشري. ولهذا فإنّ السلام قضية أخلاقية ترتبط بالعقل الإنساني وقدرته على تجاوز النّزوع إلى الحرب المنغرس في فطرة الإنسان. ومن هذا المنطلق فإنّ العقل الأخلاقي يشكل المنطلق الحقيقي لإقامة دول تسودها الدساتير الجمهورية التي تؤسس بدورها لإقامة اتحاد عالمي للسلام بين دول ديمقراطية حرة تتعاهد على تجريم الحرب وتحريمها حتى في الضمائر الخفية للبشر. ويعني هذا كلّه أن كانط يرى في العقل الأخلاقي الضّمان الحقيقي للسلام، وذلك من منطلق أن هذا العقل الأخلاقي هو المشرع الأوحد والحكم الفَصْل في كل ممارسة أخلاقية أو سلميّة، وقد أصبح واضحاً من وجهة النظر الكانطية أن العقل الإنساني يدين الحرب وينبذها على وجه الإطلاق[22].

ويبرهن كانط على البعد الأخلاقي لمسألة السلام بقوله:” إن السلام الدائم لا يستتب عن طريق مطويات سياسية وقانونية لا غير، بل إن بلوغه يرتكز على رقي أخلاقي، منطلقاً في ذلك من اعتقاد ديني، يرى أن الرسالة الحقيقية التي أتى بها الدين المسيحي، هي رسالة أخلاقية، تروم توحيد البشر عن طريق إقامة مجتمع يُؤسّس على قوانين الفضيلة، فيما يمكن وصفه بمملكة الفضيلة[23]. وانطلق كانط على هذا الأساس في دعوته إلى السلام العالمي من الفكرة المسيحية التي تدعو إلى السلام ووحدة البشر، فالسلام الدائم لا يمكن أن يتحقق بالوسائل السياسية والقانونية فحسب، بل سيكون التقدم الأخلاقي للإنسان أيضاً رهاناً مهمّا في تأسيس السلام وترسيخه، وقد جاء ذلك بوضوح في كتابه الشهير “الدين في حدود العقل“، إذ يرى في هذا الكتاب أن الرسالة الحقيقية للدين المسيحي هي رسالة أخلاقية تتمثل في الدعوة إلى وحدة البشر وترسيخ هذه الوحدة على أساس قوانين الفضيلة. “وهذا يتطلب استحضار هذه القوانين وتطبيقها على الجنس البشري بأسره وتحقيق أحكام الفضيلة على كل أولئك الذين يحبون الخير، ويسمي كانط هذا المجتمع “مملكة الفضيلة”[24].

ويتأكد هذا البعد الأخلاقي لمشروع السلام الدائم بالتّشديد على أهمية النية المسبقة أو الإرادة الخيّرة، والرغبة الحقيقية في تحقيق السلام، “اللّتين تشكلان شرطين أساسيين للمعاهدات القبلية، لأن السلام لا يتجلى فقط في منع وقوع الحرب؛ بل في القضاء على أي احتمال لاندلاعها، أي إن انعدام هذين الشرطين، يحول فكرة السلام إلى مجرد هدنة مؤقتة، أو استراحة للتسلح، يستحيل معها وصف هذا النوع من السلام بالدائم، لأنه لا يغدو مجرد كونه حشوا ولغواً مريباً”[25]. ويعني هذا أنه لا يقوم في هذه الحالة على أساس أخلاقي قوامه النية الطيبة أو الإرادة الخيرة.

وكان كانط يريد سلاماً راسخاً يفوق ما تحققه المعاهدات الوقتية العابرة التي لم تكن تاريخياً أكثر من وقفة يلتقط فيها المحاربون أنفاسهم لمعاودة الحرب والاقتتال، ولم تكن إلاّ استراحة محارب قبل الاستعداد المتجدّد للحرب. وهذا ما يعلمنا إياه التاريخ، فالمهزومون يبدؤون غالباً بإعداد العدّة للانتقام الذي يقضي بإشعال الحرب من جديد بعد استعادة مظاهر القوة والقدرة على معاودة القتال.

فالسلام – وفقاً لكانط – يجب بالضرورة أن يرتبط بالبعد الأخلاقي، وأن يتأصل سياسياً بروح المواطنة، من أجل تكريس القيم الديمقراطية بوصفها قيّماً أخلاقية كونية “لا يمكن لها أن تقوم إلا في ظل سلام عالمي متشبع بالفضائل الأخلاقية”[26]. وبناء على هذا التصور يرى كانط أن مستقبل الإنسانية ومصيرها رهينان بقدرة الجنس البشري على تحقيق كماله الأخلاقي، وهذا الرهان العظيم يتوقف على أقدار الإرادة الخيّرة للإنسان التي يُتوقع لها أن تتغلب على الجوانب الشرّيرة في النفس الإنسانية ليعم الخير والسلام في الكوكب. وما لا شك فيه أن الطبيعة ستساعد على تحقيق هذا المصير الأخلاقي للإنسانية كما يتوهم كانط [27].

فالحياة وفق القانون الأخلاقي ستكون بمثابة الضمانة الحقيقية للسلام الإنساني، والقانون الأخلاقي -بحسب تعريف كانط- هو الفعل العادل الذي يسمح بالتعايش السلمّي الحرّ بين الناس على أساس القوانين الغائيّة الكليّة التي تضفي الشرعية الأخلاقية على هذا التعايش[28]. ومن هذا المنطلق تؤدي القوانين الأخلاقية هذه دورها الحيوي في تأصيل الحياة الأخلاقية بين الأمم والشعوب بالاستناد إلى الواجب والضمير الأخلاقي الإنساني الذي يضمن تحقيق شروط الحياة المدنية السلمية على المستوى العالمي.

ويمكن القول في هذا السياق: “إن دعوة كانط إلى تأسيس ما يسميه، مملكة الفضيلة، أو مملكة الله الأخلاقية على الأرض، لا تختلف عن دعوته إلى ما يسميه في كتابه: مشروع للسلام الدائم بـ “حلف الشعوب”. هذا الحلف هو فكرة، أو هدف يجب أن نأمل في تحقيقه، ويجب أن يمتد شيئاً فشيئاً إلى الدول جميعاً فتؤلف بذلك “جامعة أمم”، تنمو على الدوام حتى تشمل آخر الأمر شعوب الأرض جميعاً. وغاية هذا الحلف المحافظة على حرية الدول المتحالفة، وكبح جماح الأهواء التي تقود الإنسانية. إن غايته، بوجه عام، تحقيق السلام الدائم[29].

5- التجليات التربوية للسلام الكوني:

تبرز التربية في كلّ موقف، سواء أكان فلسفيّاً أم سياسيّاً، بوصفها القوة القادرة على تحويل التصورات الفكرية إلى حقيقة واقعية. فالسلام الكوني لا يمكن أن يتحقق عفو الخاطر عن طريق السياسات والمعاهدات، لأنّ السّلام كما أبنّا سابقا يخضع للاعتبارات الأخلاقية، والأخلاق لا تسري في عروق البشر بالضرورة الطبيعية، وإنما تحتاج إلى فعل تربوي يزرعها في الوجدان الإنساني، كي تتحول إلى قوة تغيير تأخذنا إلى مجتمع الفضيلة. فالأخلاق السلمية تحتاج إلى فعل تربويّ، لأن التربية وحدها هي التي تؤهل البشر وتنهض بهم إلى مستوى الفعل الأخلاقي الحاضن للسلام. وقد لاحظنا أن السلام يقوم على ركائز أخلاقية بالضرورة، ومثل هذه الأخلاق الأساسية للسلام تحتاج، كما أشرنا آنفاً، إلى فعل تربوي مستمر ودائم ينشد ترسيخ الفضيلة في النفوس والعقول والوجدان. ولا يمكننا أن نتخيل سلاماً لا يقوم على قيم التعاون والمحبة والإخاء والكرامة والإيمان بالقيمة الإنسانية، من منطلق أن الإنسان لا يمكن أن يكون إلاّ غاية كلية تنشدها الإنسانية في حركتها نحو المحبة والسلام. وهذا يعني أن هذه القيم الأخلاقية للسلام تحتاج إلى ممارسة تربوية بعيدة المدى، عميقة الأغوار، شاملة الأبعاد، تهدف إلى بناء الإنسان المؤمن بالسلام كقيمة إنسانية عليا. وهذه القيم الأخلاقية تشكل الضامن الحقيقي للسلام المنتظر كما يراه كانط ويؤمن بصيرورته.

فالتربية كما يراها كانط تشكل المنطلق الحيوي لتحقيق السلام والأمن في العالم، لأن السلام الأبدي يجب أن يتحقق في القلوب وينمو في النفوس ويكتمل في العقول قبل أن يكون على صورة حقيقة سياسية تتمثل في معاهدات واتفاقيات زائفة. ومن هذه الزاوية تأخذ التربية صورتها على أنها قوة فاعلة في تحقيق السلام الدائم. وذلك “لأن التربية هي التي تهيئ الأرضية الأخلاقية لكلّ فعل إنساني يعكس تحقيق الكمال الإنساني، فسعادة الإنسان ومن ورائها السعادة الإنسانية، ليستا عطايا إلهية، بل هما نتيجة العمل الإنساني، إنهما النتيجة المباشرة لكل تربية استندت إلى مبادئ الحق والخير والجمال، واتجهت إلى تنمية الاستعدادات الطبيعية الخلاقة في الإنسان”[30].. واستناداً إلى هذه الرؤية، يرى كانط أن مستقبل الإنسانية المشرق يرتبط جوهرياً بتربية إنسانية متكاملة تأخذ توجهاتها التدريجية تدريجيّاً عبر الزمن. ويعني هذا أن التربية الخلاقة قادرة على استكمال البعد الإنساني، وتحقيق السلام الدائم، بوصفه قوة أخلاقية، لا يخرج على رهان القيم الإنسانية السامية. ومن هذا المنطلق، يقول كانط: “يجب ألّا يُربّى الأطفال فقط بحسب الحالة النوع البشري الراهنة، بل بحسب الحالة الممكنة التي تكون أفضل منها في المستقبل، أي وفق فكرة الإنسانية وغايتها الكاملة[31]. وعلى هذا النحو تأخذ التربية مساراً واضحاً يهدف، ليس إلى خدمة الدولة، بل إلى تأصيل القيم الإنسانية والأخلاقية في الإنسان. وربما لا نجد مناصاً من القول: إنّ التربية المستقبلية يجب أن تكون في خدمة الإنسانية. ولا يكون ذلك إلاّ بالعمل التربوي من أجل تحقيق السلام الكلي والكوني.

ومن الواضح يقيناً أنه لا يمكن إقامة دولة جمهورية حرة قائمة على فكرة السلام من دون تنمية عميقة للشعور بالحرية والكرامة والإيمان بالسلام بين أفراد المجتمع. إذ يجب على التربية أن تؤدي دوراً حيوياً لا مناص منه في عملية بناء القيم السّامية القائمة على مبادئ الأخلاق الكانطية في مجال تحقيق الكمال الأخلاقيّ للإنسانية والإنسان. وعلى هذه الصورة يجب على التربية أن ترسخ قيم السلام والتسامح والإيمان بالإنسان بوصفه قيمة غائية كلية، ويجب أن يتأصّل حضور هذه القيم داخل الوعي وفي أعماق الوجدان الإنساني للمواطنين جميعاً في الدولة الحرة، وللمواطنين جميعهم في المجموعة الإنسانية أو في الاتحاد الدولي القائم على ركائز السلام.

وعلى هذا النّحو يرى كانط أن مسألة السلام العالمي لا يمكن أن تحقق جدواها وأن تتحول إلى فعل إنساني قائم في واقع الحياة السياسية بغير الممارسة التربوية بأبعادها الأخلاقية، “ذلك أن الأمل في سلام دائم وأبدي يسود العالم، ويستمر بصورة لانهائية مرهون كله بالتربية الأخلاقية، هذا من جهة، ومن أجل تكوين العقل النقدي، أي العقل الراشد المستنير، من جهة أخرى، بالنظر إلى أن تشريع السلام الدائم يقتضي الاحتكام إلى سلطان العقل، وأن تعيين هذا السلام هدف إنسانيّ نبيل يوجب -علاوة على ذلك- الإقرار بأخلاقيات التواصل بين الشعوب والدول حتى في حالة الحرب”[32].

6- مستقبل السلام بوصفه ضرورة كونية:

يعرب كانط عن إيمانه الراسخ بالمستقبل الإنساني، ويرى أن السلام سيتحقق من منطلق الضرورة التاريخية والطبيعية. ويبدو أن موقفه هذا يتناقض كثيراً مع آراء معظم المفكرين الذين يرون أن الدمار البشري يهدّد المستقبل الإنساني. فعلى خلاف هؤلاء جميعاً، يرى كانط أن السلام قدر ومصير إنساني. وهو ليس اختياراً إنسانياً في كل الأحوال، وستفرضه الطّبيعة في النهاية بتدبير العناية الإلهية النازعة إلى المحافظة على حياة البشر ومستقبلهم. وعلى هذا النحو يبدو أن كانط لا يستطيع الفصل بين الضرورة التاريخية والضرورة الطبيعية لتطور الحياة على الكوكب، فالتاريخ الاجتماعي للإنسان يرتبط عميقاً وجوهرياً بالتاريخ الطّبيعيّ للحياة على وجه الأرض. وإن لم يُرد الإنسان السلام، فإن إرادة الطبيعة ستعمل على تحقيق هذه الغاية الحيوية للوجود.

وربما لا يحق لنا ملامة كانط في هذا التوجه المتفائل، إذ لم يُقيّض له أن يشهد مآسي الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولم يشهد اكتشاف القنابل الذرية والكوارث النووية التي بدأت بقصف مروع لمدينتي هيروشيما (Hiroshima) وناغازاكي (Nagasaki) في اليابان[33]. ولم يتح له أن يعيش إلى اللحظة التي أصبحت فيها الأرض ممتلئة بمئات الأطنان من القنابل النووية التي تكفي لإبادة البشرية في ثوان، والقضاء على الحياة على ظهر الكوكب لآلاف السنين.

لقد أورد كانط في كتابه: “مشروع للسلام الدائم” أن السلام بين الأمم يأخذ مساره كحتمية تاريخية حتى وإن رفض البشر أنفسهم تحقيقه، وذلك لأن الصيرورة الطبيعية للحياة ستختاره لهم وتفرضه عليهم، وأن هذا السلام قادم لا محالة بحكم الضرورة الطبيعية للحياة. ويؤكد كانط هذه الصيرورة السلمية بقوله: “فإن الذي يعطينا هذا الضمان ليس شيئاً أقل من الفنانة العظيمة التي يطلق عليها اسم الطبيعة، فإن مجراها الميكانيكي (الآلي) ينطق جهاراً بأن غايتها أن تبسط على الناس، وبالرغم منهم، جناح الوفاق والوئام. لهذا أطلق عليها اسم القدر من جهة أنها اضطرار ناتج عن علة نجهل قوانین فعلها[34].

ويحاول كانط البحث في القوانين الطبيعية ليبرهن على وجود قوة خفية، ربما هي قوة إلهية، تقوم برعاية الحياة والمحافظة على توازنها. ومن مقتضيات هذه العناية الإلهية أنها لن تسمح للبشر بالاقتتال إلى ما لا نهاية. إنّ الطبيعة تسوقنا رغم أنوفنا لتحقيق السلام أو قد تأتي لتنجز السلم بدلا عن البشرية[35]. وهذا يعني بالنسبة إلى كانط أن الطبيعة تفرض حضورها في العقل الإنساني، وتملي عليه فريضة النزوع إلى السلام الأبدي، لأنها تريد تحقيق ذلك لعلة لا نعرفها بدقة وهي إرادة الحياة، وهذه الإرادة توجب علينا تحقيق السلام في نهاية الأمر شئنا أم أبينا ذلك[36]. ومع ذلك يقر كانط بأن هذا الفعل الطبيعي لا يتعارض مع حرية الإنسان في تقرير وجوب الحرب أو ضرورة السلام.

ويتابع كانط تأكيد رؤيته المتفائلة بمستقبل السلام، فيقول: “من الحق أن نقول هنا إن الطبيعة تريد بإرادة لا سبيل إلى معارضتها، أن يكون النصر آخر الأمر للحقّ، فما نقصر نحن عن أدائه، تتولى هي إنجازه، ولكن في كثير من العسر والإرهاق”[37]. ويبقى هذا التكهن مفارقاً للواقع، فالحرب لم تتوقف يوما على مدى التاريخ ولا توجد أيّة بوادر تنبئ بنهاية الحروب، لأن الحروب متلازمة بشرية فُرضت على الحياة، ربما منذ الأزل وإلى الأبد.

ويقول كانط: “إذا كان الله قد أعطى كل فرد جزءاً من السعادة، فليس بعطاء الإرادة الإلهية فقط نكون سعداء، بل يجب أن نجعل أنفسنا مستحقين للسعادة، فهذه هي الأخلاقية الحقة، والكمال الأخلاقي الأسمى أن نعمل من أجل السلام لنكون مستحقين للسلام”[38]. ففي نظر كانط السلام الدائم مهمة تتحقق رويداً رويداً، وإن كانت قد بدأت تتسارع أكثر فأكثر مثلما يذكر ذلك، بكل تفاؤل، في كتابه: (مشروع للسلام الدائم).

7 خاتمة:

ليس بوسع أحد من أهل الفكر والعلم أن ينكر أهمية الطروحات الأخلاقية لكانط في مجال السلم الدائم. ولا يسعنا أيضاً إلا الإقرار بعظمة الفكر الذي يطرحه في هذا الميدان وتألقه الجمالي والأخلاقي. وقد أثبت التاريخ قيمة أفكاره العظيمة، إذ تنادى المجتمع الدولي إلى عقد الندوات والمؤتمرات من أجل السّلام، ونال تصور كانط تقديره العظيم عندما استُلهِمَت أفكاره ومفاهيمه على الصّعيد الأمميّ. وكان الرئيس الأمريكي “وودرو ولسون (Woodrow Wilson) من أكثر المتحمسين لأفكار كانط السلمية. ويذكر بعض المؤرخين أن كتاب كانط كان دائم الحضور في مكتبه الرئاسي وشكّل جزءاً أساسياً من ثقافته السياسية، وقد بذل جهدا كبيراً في تضمين بند تأسيس عصبة الأمم في معاهدة فيرساي في باريس عام 1919. فكان إنشاء عصبة الأمم محور مبادئ ويلسون الأربعة عشر للسلام التي تحدث عنها في خطابه أمام الكونغرس الأمريكي. ويقر النقاد والمؤرخون في مجال العلاقات الدولية أن كانط كان أول من طرح في كتابه فكرة إيجاد اتحاد دولي أو رابطة دولية تقوم بالتحكيم في النزاعات بغية تعزيز المجتمع السلمي في أنحاء العالم، ما يمكِّن من فرض سلام دائم يلتزم به المجتمع الدّوليّ. وتبين الوقائع أنّ ميثاق عصبة الأمم وبنيته الحقوقية في تطابق شبه تامّ مع النصوص الأساسية والأفكار الرئيسة التي أودعها كانط كتابه المذكور.

أمّا في المستوى المعرفي فإن أفكار كانط في السلام الدائم شكلت قوة معرفية كبيرة استلهمها الكتاب بالنقد والتحليل والتطوير. وقد تطور الأمر إلى تشكيل تراث فكري إنساني حول السلام ومفاهيمه السياسية والفلسفية. ويرجح كثير من المفكرين أن المهاتما غاندي (Mahatma Gandhi)[39] (1869 – 1948) قد تأثر كثيراً بأفكار كانط السلمية، واستلهمها في بناء فلسفته التسامحية التي أصبحت نبراساً إنسانياً يُستضاء به في الفكر الإنساني السلمي والتسامحي.

وما تزال أفكار كانط السلمية تتردّد في كثير من الأعمال والدراسات العلمية. ويكفي أن نذكر على سبيل المثال، لا الحصر، اهتمام الفلاسفة اللاحقين له بآرائه السلمية، مثل هيغل وهابرماس وغيرهما من المفكرين الذين انكبوا على دراسة كانط، وتناول أفكاره السلمية بالنقد والفحص والتمحيص.

لقد أكّد كانط على المبادئ الأخلاقية للسلام الدائم بوصفها الدعائم الأساسية للمحافظة على الوجود الإنساني وحماية الإنسان من ويلات الحرب وكوارثها، وأن هذا السلام لا يمكن أن يتحقق إلاّ من خلال الترسيخ التربوي لهذه القيم والمعاني الإنسانية، مثل مبدأ الـحرية الذي يرسخ القيمة الإنسانية بوصفها غاية، ومبدأ الـمساواة الذي يمنح كل فرد في المجتمع الإنساني حقّ التساوي مع غيره بوصفه قيمة إنسانية، ومبدأ الاستقلال الذي يؤكد حرية الفرد في تقرير مصيره والمشاركة في تقرير مصير الإنسانية، ومبدأ المواطنة العالمية الذي يجعل من الفرد كائناً ينتمي إلى الإنسانية، وطنه المعمورة الّتي تحمله بين جناحيها، لتوفر له الأمن والطمأنينة.

ومن الطبيعي أن يكون لنظرية كانط في التربية العالمية تأثير لا نظير له، إذ شكلت رؤيته، في كتابه السلام العالمي، مصدر إلهام تربوي لولادة عدة نظريات تربوية تأخذنا إلى الاهتمام بالمصير الإنساني من خلال التربية العالمية. ومن أهم هذه الاتجاهات يُشار اليوم إلى تيارات تربوية عديدة مثل: التربية على المواطنة العالمية، والتربية على التسامح العالمي، والتربية على حقوق الإنسان، وغيرها من التوجهات التربوية المعاصرة التي انطلقت من التصورات الكانطية للسلام العالمي، ومن عقيدته السلمية التي تكاملت في صورة لوحة فكرية سياسية تربوية أخلاقية شاملة.

لقد آمن كانط إيمان اليقين بأن مصير الإنسانية يرتبط بتحقيق السلام، وأنّ السلام لا يتحقق بالمعاهدات والهُدَن ومباحثات السلام، بل يتحقق من خلال تأصيل فكرة السلام في العقول والنفوس. وهذا التأصيل لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال تربية عالمية عقلانية تبث في الإنسان هذه الروح السلمية التي تشكل الحصانة الأخلاقية لهذه القيمة الإنسانيّة السّامية.

واستطاع كانط بحسه الإنساني الفائق في كتابه الآنف الذكر أن يتصدى بقوة وحزم لعُتَاة الفكر العنصري، وأن يسقط أطروحاتهم الداعية إلى الحرب، أمثال هيغل وهينتغتون وفوكوياما وغيرهم. وقد حمّل الإنسان هذه المسؤولية التاريخية في تحقيق السلام والأمن. ومنحه مطلق ثقته، وآمن بقدرته على تحقيق المستحيلات، وذلك من منطلق إيمانه بإنسانية الإنسان وروحه العظيمة، ونتيجة لإحساسه بالأمل المتدفق في ذاته بالخلاص الشامل للإنسانية من ويلات الحرب والعمل على تشكيل مجتمع العدالة الإنسانية في ظل حكومة دولية ومؤسسات عالمية معنية بتحقيق الود والتسامح والسلام الأبدي. وبسبب ما تقدّم، فإنّ كانط يحوز مكانة بين المفكرين بوصفه قامة أخلاقية يندر مثيلها في مجال الإيمان بالإنسانية والإنسان، وقد استحق بجدارة في هذا الموقع أن يكون فيلسوف الإنسانية الذي حمل همّ الإنسان بما هو إنسان، ومنح الإنسانية إحساسه المتنامي بقدرتها على تجديد ذاتها، والانطلاق نحو المستقبل بسلام وأمان.

ومأتى هذه الثّقة الّتي منحها كانط للإنسانيّة والإنسان إيمانُه الرّاسخ بالعقل الإنساني الذي ينحو إلى تكريس السلام حفظاً للحياة والوجود الإنساني. ولا مراء في أنّ مثل هذه العقلانية التي أطلقها تقودنا إلى الإيمان بأهمية العمل على الربط بين الفعل السياسي والمبادئ السامية، وتأسيس الفعل السياسي على القيم الأخلاقية.

لقد أدرك كانط بحكمته العالية أن مثل هذا السلام الذي يريده لن يتحقق بسهولة. وأدرك بفطرته الفلسفية وعمق تأملاته العقلية أن هذا الأمر من الصّعاب، وأن فكرته عن السلام الأبديّ ستواجه ردود فعل معارضة كثيرة. وبالرغم من هذا التحدّي، فقد أعلن كانط أن الواقع يجب ألا يقطع عن المثال، فالسلام الأبديّ الذي يراه يتجلى على صورة مثال فكري سام، وليس هناك ما يمنع من تحقق المثل في أرض الواقع، وذلك لأن الحجج التجريبية لا تَنهض دليلا ضد مطالب العقل،”ولا يجوز لنا أن نستنتج من أن شيئاً لم ينجح حتى اليوم، أنه لن ينجح أبداً “. وإذن “فليس المهم هو أن نعرف هل السلام ممكن التحقق في أمد قريب أو بعيد، إنها “فكرة” وكفى، إنّها مثل أعلى معقول، ولا يجوز أن نقطع في أمره، فنقرر أنه مطابق للواقع أو غير مطابق له. وعلى هذا الأساس يصرح كانط بأنّ الفكرة المثالية لا تتحقق كلياً لأن المطلق لا يتجسد على نحو كامل أبداً[40].


هوامش المقالة ومراجعها

==================================

[1] -Sigmund FREUD, Moïse et le monothéisme, traduit par Anne Berman, Gallimard, Paris,1948, P 75.

[2] – إيمانويل كانط، مشروع السلم الدائم، ت: عثمان أمين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط 1، 1952، ص 9.

[3] – إيمانويل كانط، مشروع السلم الدائم، المرجع نفسه،ص 9.

[4] – إيمانويل كانط، مشروع السلم الدائم، المرجع نفسه، ص 8.

[5] – إيمانويل كانط، مشروع السلم الدائم، المرجع نفسه، ص 16.

[6] – إيمانويل كانط، مشروع السلم الدائم، المرجع نفسه، ص 25 -26.

[7] – عبد الله السيد ولد أباه، نظرية كانط في السلام الدائم: قراءة يورغن هابرماس، مجلة التفاهم المجلد 12، العدد 43 (31 مارس/آذار 2014)، صص 1-21. http://tafahom. om/index. php/nums/view/13/268

[8] –  Emmanuel Kant, vers la paix perpétuelle, que signifie s’orienter dans la pensée، qu’est – ce que les lumières? GF Flammarion 1991, pp 43-51

[9] – حنان مراد، قراءة في كتاب مشروع للسلام الدائم للفيلسوف “إيمانويل كانط”: الفكرة وحدود التطبيق، مركز تكامل للدراسات والأبحاث، 26 فبراير 2021. https://www. takamoul. org/?p=1768

[10]Immanuel Kant, Perpetual Peace and Other Essays, trans. Ted Humphrey (called “Essays”). Indianapolis: Hackett, 1983.

[11]سمير بلكفيف، نحو عالم أفضل: قراءة جديدة في مشروع السلام الدائم لـ “كانط”، 12 تموز/يوليو 2011. دار ناشري، https://www. nashiri. net/index. php/articles/politics-and-events/4868-2011-07-12-10-49-47-v15-4868

[12] – إيمانويل كانط، مشروع السلم الدائم، ص ص 25 -26. مرجع مذكور.

[13] – علّي عبّود مالك المحمداويّ، مثاليات التّعاقد وأثرها في الفلسفة المعاصرة: في قدرة الأطر الأخلاقيّة على تحقيق السّلم والتّعايش، مجلة لارك للفلسفة واللسانيات والعلوم، العدد 34، الإصدار 01-7) 2029. ص ص 269- 278. ص 270.

[14] – علّي عبّود مالك المحمداويّ مثاليات التّعاقد، المرجع نفسه، ص 270..

[15] – محمود سيد أحمد، مشروع كانط للسلام الدائم، مرجع مذكور، ص 52.

[16]سمير بلكفيف، نحو عالم أفضل، مرجع مذكور.

[17] – Immanuel Kant, Anthropologie du point de vue pragmatique trad, Alain Renaut Garnier -Flammarion, Paris, 1993.

[18] – ibid, Kant, Anthropologie du point de vue pragmatique P. 41.

[19] – عبد الله السيد ولد أباه، نظرية كانط في السلام الدائم، مرجع مذكور.

[20]سمير بلكفيف، نحو عالم أفضل، مرجع مذكور.

[21] – سعدو عبد الرزاق، ثقافة السلام عند كانط، مذكرة لنيل شهادة ماستر، جامعة مولاي الطاهر-كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية قسم العلوم الاجتماعية شعبة الفلسفة، الموسم الجامعي :2015 – 2016.. ص 25.

[22] – سعدو عبد الرزاق، ثقافة السلام عند كانط. المرجع نفسه، ص 37..

[23] – حنان مراد، قراءة في كتاب مشروع للسلام الدائم للفيلسوف كانط، مرجع مذكور.

[24] – محمود سيد أحمد، مشروع كانط للسلام الدائم، مرجع مذكور، ص 51.

[25] – حنان مراد، قراءة في كتاب مشروع للسلام الدائم للفيلسوف كانط، مرجع مذكور.

[26] – سعدو عبد الرزاق، ثقافة السلام عند كانط، مرجع مذكور، ص 42..

[27] – سعدو عبد الرزاق، ثقافة السلام عند كانط، مرجع مذكور.

[28] – عبد الله السيد ولد أباه، نظرية كانط في السلام الدائم. مرجع مذكور.

[29] – محمود سيد أحمد، مشروع كانط للسلام الدائم، مرجع مذكور، ص 51..

[30] – خضر حمايدي وأسماء بن الشيخ، كانط من التربية إلى السلام الدائم، مرجع مذكور .  ص 75.

[31] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص: تأملات في التربية، مرجع مذكور، ص 19.

[32]سمير بلكفيف، نحو عالم أفضل، مرجع مذكور.

[33] – في شهر أغسطس من عام 1945، في نهاية الحرب العالمية الثانية تعرضت مدينتا هيروشيما (Hiroshima) وناغازاكي (Nagasaki) اليابانيّتان لهجوم نووي شنته الولايات المتحدة الأمريكيّة.. وجاء هذا القصف بأمر من الرئيس الأمريكي هاري ترومان وذلك بعد رفض اليابان الاستسلام الكلي في الحرب دون قيد أو شروط. وأدى القصف إلى تدمير كامل شامل للمدينتين وإلى مقتل 140,000 شخص في هيروشيما، و80،000 في ناغازاكي.

[34] – إيمانويل كانط، مشروع السلم الدائم، مرجع مذكور، ص 65..

[35] – سعدو عبد الرزاق، ثقافة السلام عند كانط، مرجع مذكور، ص 39..

[36] – إيمانويل كانط، مشروع السلم الدائم.  مرجع مذكور، ص 76.

[37] – إيمانويل كانط، مشروع السلم الدائم ص 76. ص 79. مرجع مذكور.

[38] – سعدو عبد الرزاق، ثقافة السلام عند كانط، مرجع مذكور، ص 41..

[39] – موهانداس كرمشاند غاندي (2 أكتوبر 1869 – 30 يناير 1948): فيلسوف هندي بارز وصل إلى مستوى العالمية بأطروحاته السلمية والتسامحية. ويعد الزعيم الروحي لحركة الاستقلال في الهند عن بريطانيا. وقد عرف بنظريته القائمة على مقاومة الاستبداد والاستعمار بالعصيان المدني الشامل وبرفضه استخدام العنف المسلح بكل تسمياته وتجلياته. وقد أدى منهجه السلمي إلى استقلال الهند، وألهمت فلسفته السلمية كثيرا من حركات الحقوق المدنية والحرية في جميع أنحاء العالم. وقد عرف بلقبه المشهور “المهماتا غاندي” (Mahatma Gandhi) وتعني بالسنسكريتية “الروح العظيمة”، وهي تسمية تشريفية أطلقها عليه المفكر الهندي العظيم رابندراناث طاغور.

[40] – إيمانويل كانط، مشروع السلم الدائم، مرجع مذكور، ص 18..

_________________

*أ. د . علي أسعد وطفة/ كلية التربية – جامعة الكويت. 

جديدنا