إشكاليات تجديد الخطاب الديني بين النص وتحليل القصد  

image_pdf

مقدمة :-

إن الدستور الإسلامي الذي صاغ هذه الأمة بمنهاج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، صاغها لما يؤهلها لقيادة البشرية، ومن أجل هذه الغاية الحكيمة ربى الإسلام الأمة على مبدأ لا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا إهمال، لتكون محبوبة في طريقة هديها وفي سلوكها وخطابها فتكون بحق خير أمة أخرجت للناس، قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة، 143)

وهذه الوسطية في المنهج الإسلامي جعلته يتميز بالدعوة إلى التوازن في الأمور كلها، توازن بين الروح والمادة، وبين الدنيا والآخرة، وبين الثوابت والمتغيرات وبين الأصالة والمعاصرة وبين النظرية والتطبيق في القول والعمل، على اعتبار أن النظرية هي ثمرة القول الذي يحتمل الصواب والخطأ، والعلم حقائق تكشف حقيقة الإنسان والحياة والكون.

لذلك كان التوازن أساس الخطاب الديني على مر العصور، فكان الأمر الإلهي بالابتعاد عن اللغو الذي لا نفع فيه في قوله تعالى:(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)(المؤمنون، 1-3)، وكان الأمر للملائكة بتسجيل كل ما يقول الإنسان، فقال تعالى: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد)(ق، 18) وكان الإلزام قبول الحق والكلام السديد فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)(الأحزاب، 70).

لماذا الخطاب الديني؟

الخطاب الديني ليس مجرد كلمات تلقى، وعبارات متداولة على مر العصور الغاية منها الاشهار، وانما هو رسالة ذات مضمون فكري وديني واجتماعي له اهدافه وغايته ودلالاته المؤثرة على الفكر الانساني باعث عن التشكل في الفعل الانساني لدى الشخص المخاطب الافراد المخاطبين. حيث يعني الخطاب هو كل نطق او كتابة تحمل وجهة نظر معينة ومحددة من الشخص المتكلم بها او الكاتب للخطبة من حيث فرضها نية التأثير على السامع او القارئ للخطبة من حيث الاهتمام بالظروف والملابسات التي تمت بها وصيغت منها.

إن المنهج التربوي الإسلامي بواقعيته لا يكلف الإنسان أكثر من طاقته وما جبل عليه، فهو كائن معرض للخطأ والصواب، والزلل والابتعاد عن الحق، وعليه كان دعاة المثالية بعيدون نسبياً عن الواقع، يحلقون في ملكوتها دون النزول إلى أرض الواقع وهذا ما نهى عنه الدين الإسلامي الصحيح.

ولقد ورد في أدبيات التربية بعض المواقف التي تظهر المثالية في التعبد، مثل أن أحدهم لم يضحك قط، وآخر أحرق يده بعد أن مست يد امرأة، وغير ذلك وهذا ما لا يظهر إلا نتائج سلبية في مسيرة الفكر التربوي الإسلامي، وفي مضمون الخطاب الديني، كما أنها تؤدي إلى :

  1. صد الناس عن الالتزام بتعاليم الإسلام (دين اليسر)، لما رأوا من صعوبته وعسره.
  2. اتهام الدعاة بعدم الثقة والتطرف والغلو على أساس أن مثل هذه النصوص مستحيلة التطبيق في الواقع المعاصر.

– وجب الخطاب الديني لأن الإسلام لا يحصر نفسه في إعداد المواطن الصالح في بلده أو وطنه، إنما يسعى لتحقيق هدف أسمى من ذلك وأشمل، وهو إعداد الإنسان الصالح، الإنسان على إطلاقه في كل زمان ومكان، حيث إنسانية الدين الإسلامي الحنيف تذوب فيه القومية و اللغوية والوطنية والحزبية والطائفية والمذهبية ويطغى فيها التعامل الإنساني على الأفكار المروجة للعنف والكراهية بين البشر، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْۚ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات، 13)

– وجب الخطاب الديني الداعي إلى الوسطية والاعتدال بعيداً عما طرأ على الفكر التربوي الإسلامي من أيديولوجيات ومسميات تخدم جماعات بعينها، دون النظر إلى مدلولات النصوص والاقتصار على التأول والتفسير القصدي.

– وجب الخطاب الديني لأنه يمكن الإنسان من تحقيق الأهداف التي خلق لأجلها، القائمة على القوانين الربانية العادلة وعمارة الأرض، حيث إنه في الأصل يقوم على النصوص الشرعية والاستدلال الصحيح وهو أفضل طريقة يمكن للأفراد والدول استعمالها لعلاج جميع الانحرافات التي تعاني منها المجتمعات اليوم سواء كانت هذه الانحرافات عقدية ام فكرية.

وقبل الحديث باستفاضة عن مفهوم الخطاب الديني واستراتيجيات تفكيكه وجب الحديث عن الأزمة في  لغة الخطاب الديني، خاصة بعد أن أصبح يشار بأصابع الاتهام لها بالتطرف والغلو، إلى الحد الذي أبرز ما يسمى بــــ(الإسلاموفوبيا)، وظهر وظهور الصورة النمطية المشوهة للعرب والمسلمين في أوروبا خاصة، إلى الحد الذي دأب فيه الإعلام الغربي على الخلط بين الإسلام و بعض التصرفات الإرهابية، وتعمد الإساءة للإسلام والتركيز على فكرة الخوف من الإسلام، وإلقاء الرعب في قلوب الأوروبيين من كل ما هو إسلامي من خلال عناوين الصحف والرسومات الكاريكاتيرية .

أزمة النظام اللغوي الديني :-

بعيداً عن فحوى النصوص الدينية المستخدمة من قبل المسؤولين عن الدعوة أو الموظفين في إطار العمل والرسالة الدينية، نجد أنه في الفترة الأخيرة، وبعد انتشار مصطلح (الإسلام السياسي) أن نسق اللغة الدينية أصبح يكرر لاعتبارات سيسيولوجية مرتبطة بإثبات النص الذي لم يختلف عليه، أو إظهار التدين أو التفقه في علوم الدين، وهي لغة تظهر على أيدي بعض المنتجين لهذه اللغة وكأنها لغة أعطيت لمرة واحدة لا يجوز الخروج على تفسيرهم لها بغض النظر عن السياق الذي ذكرت فيه خالصاً لوجه الله أم لاعتبارات تخدم مصلحة معينة.

ومن ناحية أخرى فإن تكرار اللغة بتجوير مردودها، بتكرار الديني وتراجع الدنيوي، يمثل صورة من صور غياب الثقة في أصحاب اللغة بقدرتهم على ربط الديني بالدنيوي، وضعف القدرة على النفاذ والإقناع، وحيازة احترام القارئ أو السامع أو المشاهد بعدما وجد التناقض ما بين اللغة والسلوك.

ولعل واحدة من النظريات التفكيكية للغة الدينية ترى أن بعض الفئات القريبة من السلطة التي تحاول إتقان اللغة الدينية وتدعيم مدخلاتها على المستوى الاجتماعي والسياسي بالمفردات ذات العلاقة لإعطاء لغة التجربة والمعاش والحياة اليومية بعداً علوياً على الرابطة السرية بينهم وبين المقدس من القيم والعقائد، وهو ما يعكس نزعة عارمة للأمل في الخلاص من البؤس اليومي وشروره، ورغبة في التخلص من دنس التقصير اليومي، دون تقديم أي حلول ذات طابع ديني/ دنيوي.

وتذهب نظرية الاتصال والتواصل اللغوي إلى أبعد من ذلك باعتبار أن الخطاب الديني يمثل دلالات تسكن في مساحات ومناطق متداخلة في بنية الوعي واللاوعي الجمعي، وتوقظ الإدراكات والقيم التي تدنسها الحياة اليومية وقد استغلتها بعض الخطابات الديكتاتورية في إفشال مشاريع فكرية جديدة تنادي بالتجديد، متهمة إياها بالتفكير والخروج عن النص المقدس.

ماذا نقصد بالخطاب الديني وتحليله؟

أثار مفهوم الخطاب الديني إشكاليات مختلفة، وقد توصلت النظريات التفكيكية إلى تصورات عامة لمفهوم الخطاب يدخل في نطاقه كل الأقوال المسموعة والمكتوبة والرموز والعبارات بل وأساليب السلوك، باعتبار أن المجتمع ذاته يفهم على أنه نص Text يخضع لنفس أساليب تحليل الخطاب وقد امتد المعنى لمفهوم الخطاب الديني ليشمل العلوم الاجتماعية بوصفه طريقة منظمة للتفكير، ليصبح في النهاية مرادفاً لمفهوم المدخل النظري أو أسلوب التناول بحيث لا يعبر فقط عن النصوص والكلام، وإنما يعبر أيضاً عن الرؤية ووجهة النظر وتجدر الإشارة إلى أن الخطاب الديني حسب التعريف السابق يتسع مجالات عديدة، ويضيف من وجهة نظر الباحث إلى أربعة مستويات، هي :-

الأول: الخطاب الديني الرسمي الذي تنتجه المؤسسات الدينية الرسمية كوزارة الأوقاف، أو الذي تنتجه نخبة دينية محسوبة على الجهات الرسمية ولها تأثير واسع في القراء والمستمعين.

الثاني: الخطاب الديني الذي ينتج في المساجد، وهو متنوع يخضع لاجتهادات الدعاة في كثير من الأحيان، رغم أنه ينبع من المؤسسة الرسمية.

الثالث: الخطاب الديني الذي ينتج عن الأحزاب والتنظيمات السياسية وهي متنوعة حسب المرجعية السياسية في كثير من الأحيان، رغم أن أصل النشأة ديني .

الرابع: الخطاب الديني كما تجسد في حياة الناس اليومية وكما يعبر عنه الحديث اليومي للأفراد في تفاعلاتهم الاجتماعية.

وهناك معنيين للخطاب الديني، أحداهما عام والآخر خاص، فالأول: أن الخطاب الديني هو كل سلوك أو تصرف يكون الباعث عليه الانتماء إلى دين معين. سواء أكان خطاباً مسموعاً أو مكتوباً أو كان ممارسة عملية، والثاني: أن الخطاب الديني يراد به ما يصدر عن رجال الدين من أقوال أو نصائح أو مواقف سياسية من قضايا العصر ويكون مستندهم فيها إلى الدين الذي يدينون به. وهذا الإطلاق أخص من الذي قبله، وأقرب للمعنى اللغوي.

ينحصر المعنى في مجمل التعريفات حول السعي لنشر دين الله عقيدة وشريعة وأخلاقاً، ومعاملات وبذل الوسع في ذلك، لتعليم الناس ما ينفعهم في الدارين وبذل أقصى الجهد والطاقة من اجل خدمة هذا الدين الحنيف وامتثالا لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

لقد نشأ مفهوم الخطاب في مجال اللغويات، لكنه انتقل إلى ميدان العلوم الاجتماعية مثل الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع والتحليل النفسي  والعلوم السياسية، الأمر الذي حول المفهوم إلى مفهوم محوري في الدراسات المعاصرة، يفرض من خلاله كل حقل معرفي مسلماته وإشكالاته، مما أضفي عليه سمة النسبية والاختلاف الشديدين، فبينما يطبق البعض مفهوم الخطاب ليقتصر على مجرد أساليب الكلام، يوسعه البعض الآخر ليجعله مرادفاً للنظام الاجتماعي برمته حيث يصير كل شيء خطاباً فإن تحليل الخطاب لا ينظر إلى الكلام أو النص الذي يتم تحليله بوصفه موضوعاً قابلاً للاستقراء، ولكنه موضوع ذو علاقات وتشابكات ودلالات ورموز ومعاني تضمر في داخلها هدفاً أو أكثر ولها مرجعيات أو مصادر يشتق منها.

وبذلك فإن تحليل الخطاب لا يتبنى اتجاهاً نظرياً معنياً، ولا يرتبط بإطار معرفي، وإنما ينطلق من استراتيجيات ذات أفق مفتوح تستدعي أساليب تحليلية موضوعية، ومن هذه الاستراتيجيات: –

  1. استراتيجية تفكيك النص/ من خلال رفض أو نقد المعنى الظاهر له، وافتراض وجود عالم مفتوح من المعاني، وكذلك رفض التفسيرات المتميزة لمعنى دون الآخر، حيث يتحرر قارئ النص من سلطة الإطار ويغوص في داخله باحثاً عن المعاني والدلالات.
  2. استراتيجية نقد النص/ وهي التي تنطلق من أساس أن الذين ينتجون النصوص يدخلون إلى اللغة وهم محملين باستعدادات مختلفة، ويحملون في ذاكرتهم موروثاً سياسياً وأيديولوجياً بمعنى أن النقد في هذه الاستراتيجية لا يستند إلى النص فقط بل يمتد إلى المكونات المرتبطة ببنية النص كاللغة والكاتب والظرف الاجتماعي والثقافي الذي يتشكل فيه النص.
  3. استراتيجية التأويل/ تحليل الخطاب لا يخرج عن كونه تأويلاً للنصوص يحتمل الصواب والخطأ، وعليه فإن الالتقاء بين النص والمحلل ضمن هذه الاستراتيجية هو التقاء ذاتي، أو بمعنى آخر أن معايير الصدق والثبات في تحليل الخطاب تكون ذاتية تعتمد على قوة الحجة ونقاء الهدف.
  4. استراتيجية تحليل القصد/ نعني بالقصد توجه العقل نحو قصد معين ونحو تأكيد معنى معين وهي تعكس المخططات العقلية للمتحدث أو لكاتب النص وتوقعات تجاه المستمعين أو الملتقين، حيث تصنف المقاصد المتصلة بالخطاب في ضوء العمليات العرفية إلى أربعة مقاصد، هي:-
  5. التوجه بالخطاب لنوعية معينة من المستمعين أو المتلقين، ويقصد أن الملتقين يجب أن يدركوا قصده .
  6. أن تتجه المتحدث أو الكاتب نحو نصح الآخرين عن طريق التكرار أو مناقشة فكرة بقصد لفت الأنظار تجاه قصده.
  7. أن يتجه المتحدث أو الكاتب نحو صياغة عبارات تلخص فكرته أو اعتقاده والتأكيد عليها باستمرار .
  8. أن يحاول الكاتب أو المتحدث أن يستثير عاطفة مستمعيه ووجدانهم، مع الاعتقاد أن هذه الإثارة للعواطف سوف تجعل المستمعين والمتلقين يدركون المقاصد.

إن  هذه الاستراتيجيات التحليلية التي يوفرها منهج تحليل الخطاب، تساعد القارئ أو المتلقي على تحديد وجهة هذا الخطاب ومقاصده، بما يظهر الوجه الحقيقي، ويميز بين ما يجب أن يكون ، وما يحاول البعض إيجاده.

إشكاليات الخطاب الديني :-

إن فتنة التطرف والعنف والجنوح، واستباحة الدماء، وفتاوى التحليل والتحريم والتنكير من أعظم الفتن التي ابتليت بها الأمة الإسلامية منذ زمن الصحابة –رضي الله عنهم- وإلى يومنا هذا ولا يكاد يمر زمان إلا وطلت هذه الفتنة على أمة محمد، لتصيب النسيج المجتمعي وتشكيك غير المسلمين بالدين.

فالتطرف هو مجاوزة حد الاعتدال والوسطية، إفراطاً حيث الغلو والتشديد، أو تفريطاً حيث التهاون والركون إلى الدنيا، وهو فكر يخالف القيم الروحية والأخلاقية والحضارية للمجتمع، ويخالف المنطق والتفكير السليم، ولا يحترم حقوق الآخرين، وهو ما أخذته به الكثير من الجماعات لتمرير مشاريع أو أفكار معينة ذات طابع مقصدي، موظفة اللغة الدينية كأساس لإثارة وجدان المتلقين وإقناعهم بالفكرة، لكن الحقيقة تكمن في أن الدين الإسلامي بعيد كل البعد عن أي مظهر من مظاهر التطرف وما جاء إلا ليحاربه.

وقد أظهر الفساد في الخطاب، أو تزويره العديد من المصطلحات التي أثرت على النسيج المجتمعي الواحد، وأفسدت العلاقة مع غير المسلمين والجهل بحقوقهم واستباحة دماءهم.

ولعل المتابع لمجريات الأحداث، ودلالات النصوص يستطيع أن يستنبط العديد من إشكاليات الخطاب الديني المنحرف والذي تتحدد أسبابه في :-

  1. عدم التفقه في الدين وأخذ الأمور بظواهرها وإصدار الأحكام دون بحث تمحيص، إلى الحد الذي قد تصل فيه الجرأة عند البعض إلى إصدار الأحكام بالتفكير من نظرة سطحية وفهم ضحل للآيات والأحاديث والأخذ بالجزئيات وإغفال القواعد الكلية أو الأخذ بالمشتبهات وترك المحكمات .
  2. الفساد العقدي/ حيث إن أساس الخطاب الديني المنحرف هو التخلف في العقيدة والمنهج الديني الصحيح، ولم يعد يدرك المسلمون حقيقة كلمة التوحيد التي ينطقون بها .
  3. الخلط بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر/ هذا الخلط الذي ينتج عما وقع به الناس في القديم والحاضر، مما جرهم إلى الحكم على بعض الناس بالكفر، متوهمين أن مرتكب الكبيرة كافر كفراً يخرجه من الملة.
  4. التأويلات الخاطئة لآراء العلماء وأفكار المفكرين المسلمين المعاصرين/ فعندما تؤخذ أقوال العلماء على ظاهرها، وتؤول بعيدة كل البعد عن الصواب نتيجة نقص العلم السني الصحيح والتفقه في الدين، تظهر الكثير من البدع المحدثة في شكل أفراد وجماعات، يعبر عنها بلغة دينية وخطاب مزور يثير الجدل.
  5. أخذ العلم الشرعي بدون مشايخ/ حيث إن الاعتماد في أخذ العلم الشرعي من الكتب يعد من أكثر مشكلات العصر الحالي وأهم أسباب البدع الناتجة عن انحرافات العقيدة، وقد يكون التسليم بمعصومية بعض المشايخ أيضاً سبباً مهماً في الزلل والخطأ.
  6. الكبت السياسي وازدواجية المعايير في مشاريع الحريات/ فقد يعاني بعض الشباب اليوم من الاضطهاد، خاصة المتهمين بالقضايا المعاصرة ومشاريع التحرر الوطني، فيناقشون الكثير من القضايا ذات الصلة من منظور حزبي أو تنظيمي، وينتهون بمناقشتهم إلى من لا يحكم بما أنزل الله فهو كافر، وأن من لا يطبق تعاليم الإسلام من الحكام بحذافيرها فهو كافر وإن صلى صام وقبل استكمال أسباب إشكاليات الخطاب الديني، وجب التنويه إلى نقطة مهمة أثرت على صورة الإسلام والمسلمين في بلاد غير المسلمين، وأورثت ما يسمى بالاسلاموفوبيا بعد تركيز الإعلام الغربي على بعض الخطابات الدينية التي أثارت قضية أثر التطرف في أصل العلاقة مع غير المسلمين وهناك وجب الإشارة إلى أن الإسلام قد دعا إلى التعايش السلمي مع الآخرين ، إلا أن بعض من أساءوا فهم النصوص قد تبنى أفكاراً متطرفة محاولاً فرض رؤيته ونظرته من خلال الخطاب الديني، حيث يرى أن أصل العلاقة مع غير المسلمين هو الحرب، وأن الكفر على مبيحة لقتل المسالمين من غير المسلمين، وأنه لا حق لهم في حرية الاعتقاد أو المواطنة، ولا تجوز تهنئتهم ومجاملتهم في مناسباتهم، وينطلقون من خلال هذه النظرة إلى التطرف والغلو.

وعودة إلى الأسباب المؤدية إلى انحراف الخطاب الديني من بعض من أخذوا على عاتقهم الحساب والمساءلة، يمكن القول أن ألمر ليس يسيراً أو سهلاً في تحمل الفتاوى، فالخطاب الذي قد لا يلقى له بالاً قد يصل إلى أقصى بقاع الأرض، وعلى ذلك ، وعطفاً على ما سبق فإن أهم أسباب انحراف الخطاب الديني :-

  • الفهم الغائب للسنن الكونية والتاريخية/ وهي السنن التي تؤدي إلى صعود الأمم أو هبوطها، ولا تحابي أحداً مسلماً كان أم غير مسلم، حيث يجهل البعض سنتين كونيتين مهمتين: سنة التدرج في الخلق والتشريع، وسنة الأجل المسمى لكل شيء .
  • الانحراف السلوكي/الوجداني/ فقد يمارس البعض خطاباً موظفاً فيه اللغة الدينية لكنه يعاني فيه من:
  • العزلة عن المجتمع لاعتقاده بفساده وضرورة مفاصلته .
  • الطاعة العمياء للقيادات الدينية التي تتزعمهم، فيكون لهم فتاواهم الخاصة التي يحرمون فيها ما أحل الله .
  • الادعاء بأن جماعتهم هي جماعة المسلمين وما سواهم غير ذلك .
  • طمس الطاقات العلمية لغير المنتمين لجماعاتهم.
  • غلبة الواقع السياسي على الحياة العامة/ إن إنكار التجديد للخطاب الديني، يجعل الدولة بين خيارين، الأول: الجمود ويعني ذلك الإطاحة بحق الحياة وسحقها في عصر تكتنفه الديناميكية الثائرة من كل جهة، الثاني: الذوبان ويعني الإطاحة بحق الدين والشريعة والتراث .

وعليه فإن محاولة الدولة علاج التطرف في الخطاب الديني يجب ألا ينطلق من تنافس سياسي ولا من كيل الاتهامات على ممارسة بمحاولات قلب نظام الحكم، وتسيس كل الأنظمة المكونة للدولة اجتماعياً واقتصادياً.

يجمع فقهاء الدين، الداعين للوسطية على أن الخطاب الديني القويم بريء من كل مظاهر الغلو والتطرف، وأصله السماحة والوسطية، وإن كان من مظاهر عامة في المجتمعات العربية والإسلامية تسيء للخطاب الديني فهي ناجمة عن أزمة سوء الفهم، التي أهم أسبابها :

  1. إتباع الأهواء واتهم النيات بتفسير الكلام المنقول عن أشخاص بناء على ما في الأذهان.
  2. مرض القلب والمتمثل في الحسد والغل والحقد والجشع وحب الظهور على حساب طهارة النفس والدين.
  3. سوء الظن بالآخرين وهو امتلاء القلب بالظنون بالناس حتى يطغ على اللسان والجوارح بخطاب ديني يفسد ما أسس له الدين والمخلصين له .
  4. سوء الاستماع للكلام والنقل السيئ له، فبعض طلبة العلم ممن يمارسون الخطابة لا ينبهون القلب على معاني المسموع، فينقلون ما سمعوا في غير موضع معناه .
  5. الاعتماد على الإشاعات في تصنيف الناس، ولصق التهم بهم وإصدار الأحكام بناءاً على ما ينقله المغتابون الذين يفسرون أقوال الناس وتصرفاتهم حسب أهوائهم الذاتية .

ما يجب أن يكون عليه الخطاب الديني:-

إن تجديد الخطاب الديني ليس مجرد ترف فكري عارض، بل هو صورة من صور تغيير المنكر والأمر بالمعروف له مقاصد عليا يهدف لها، منها : حماية الضروريات الكبرى، وحفظ الأمن والاستقرار وحفظ دماء المسلمين وصيانة الأنفس. وعليه فإن كل ما يخل بالضروريات والمصالح العليا ليس من التجديد في شيء.

إن تقاعس العلماء، وتهاونهم في الحفاظ على أصالة الخطاب الديني والحفاظ على مصادره، يعطي الفرصة للجهلاء أن يتصدروا منابر الفتوى بحجة التغيير والإصلاح، فيضلون ويضلون، بهذا وجب التجديد في مضمون الخطاب وشكله بعدما انصرف جزء كبير من الخطاب خلال السنوات السابقة إلى الكفاح والتعبئة بحكم ظروف و الصراع بين الأمة وأعدائها فطغى الخطاب الجهادي على الخطاب الأساسي (خطاب الهداية) وطغى فهم العديد من الحركات الإسلامية على مفهوم الكيانية المسلمة في العالم لينصب بالويل على العالمين دون تمييز بين مؤيد ومحارب .

ولهذا كان من الواجب أن تتوافر جملة من الشروط فيمن يوكل إليهم مهمة الخطاب الديني، كي لا يساء فهمه ويدخل الأمة كلها ويلات لسان لا يعلم . ومن هذه الشروط :

  1.  الإخلاص / وهو أن يكون القصد من القول والفعل ابتغاء وجه الله، لأن بالإخلاص تتضح النية ويكون أصل الخطاب ربانياً داعياً للهداية .
  2. العلم/ فالعلماء العاقلون الدارسون للنصوص أكثر فقهاً من غيرهم، فيكونوا قادرين على توجيه الخطاب بما يخدم الأمة  وتحسين صورة الإسلام والمسلمين ويواجه أصحاب النوايا السيئة .
  3. العمل بالعلم/ أصل العمل الصالح في الإسلام هو القدوة لذا ينبغي على من يمارسون الخطاب الديني أن يعملوا بما يعلموا كي يكونوا أسوة للناس، وإلا فلن يكون لخطابهم تأثير في النفوس .
  4. الغيرة على الحق/ فالغيرة خلق فاصل يقوم على النجدة والعدل والذي يغار على الحق يكره أن يتعدى الإنسان على حرمة غيره ز
  5. الشفقة على الخلق/ فالفظاظة والغلظة تنفر منها القلوب وتشمئز منها النفوس، وعليه فإن من يمارس الخطاب الديني وجب عليه أن يكون هيناً ليناً حليماً على الناس، يتحمل أذاهم ولا يستعجل الحكم عليهم أو تخوينهم أو تكفيرهم .

وحول مضمون الخطاب الديني الواجب تجديده في عملية ممتدة تأخذ في عين الاعتبار أزمة التربية والإسلامية وما طالها من انحراف النخب الفكرية وسطوة الحداثة الأوروبية على المجتمعات الإسلامية، كان من اللازم ألا يخلو من :

  • التزام الفكر الوسطي المعتدل، والنظرة الشمولية لنصوص الشريعة وأحكامها القائم على الموازنة بين ظواهر النصوص ومقاصدها وبين المباني والمعاني وفقاً لميزان الشرع والظروف الحياتية الحديثة.
  • توسيع الأفق في النظر والتأمل والوقوف على منطق التشريع في الحكم على الأشياء، بعيداً عن الأهواء والأجندات الحزبية والطائفية .
  • الوقوف على سماحة الشريعة الإسلامية ويسرها، وإدراك القيم العليا التي بها ، والتأكيد على قيمة الحوار وعلاج التشويهات المعرفية بالحجة والإقناع، لأن البدي عن ذلك سيكون تداول الأفكار المتطرفة .
  • إتباع قاعدة المعذرة والتعاون، بمعنى التعاون على ما اتفق عليه، وأن يعذر بعضنا البعض فيما نختلف فيه.
  • إتباع منهج التوازن بين احترام مكانة الأشخاص والتقيد بقدسية المبادئ، وعن تعذر الجمع بين الأمرين يكون التحيز للشريعة، ولأن بعض المتطرفين في الخطاب الديني يلتزمون فتاوى أشخاص بعينهم، ويعدون ما خالف هذه الفتاوى خطأ محضاً.
  • التأكيد على فداحة الأضرار المترتبة على التطرف والإرهاب والاعتداء على الأنفس والممتلكات، وزعزعة الأمن والاستقرار وترويع الآمنين وتعطيل المصالح العامة.

إن للخطاب الديني المعتدل دور كبير في محاربة الأفكار الهدامة الداعية الى الاخلال بالأمن والسلم المجتمعي حيث إن الأمن مطلب لبقاء البشرية ومطلب للبناء وتعمير الأرض ودوره للنهوض بمجتمع متزن من خلال اصلاح مناهج التعليم بتأصيل العلوم والمعارف الطبيعية، وبتقديم القدوة الصالحة في الخطاب الديني بمختلف أنواعه من قيادات لها كارزمة، وبإدخال الوسائط الحديثة في تقديم الخطاب، وبحث الأذكياء على الخطابة وبمعالجة الخطاب الديني بالفكر وليس بالعنف.

المراجع :-

  1. أبو زيد، نصر (2003): نقد الخطاب الديني، مكتبة مدبولي، القاهرة.
  2. حجاب، محمد (2004): تجديد الخطاب الديني في ضوء الواقع المعاصر، دار العجر للنشر والتوزيع، القاهرة.
  3. الحدادي، علي (2005): الغلو ومظاهره في الحياة المعاصرة، دار المناهج، القاهرة.
  4. زيدان، أحمد(2007): صورة من الخطاب الديني المعاصر، مكتبة الأسرة، الهيمنة المصرية للكتاب، القاهرة.
  5. الشمري، ثائر (2005): الوسطية في العقيدة الإسلامية، دار الكتب العلمية، بيروت
  6. عبد الفتاح، نبيل(1993): عقل الأزمة- تأملات نقدية في ثقافة العنف والغرائز، دار سشات للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة .
  7. عبد الفتاح، نبيل(2003): سياسات الأديان-الصراعات وضرورات الإصلاح، دار ميريت، القاهرة.
    _________________________
    *د. محمود عبد المجيد عساف.

جديدنا