كيف تستفيد السلفيَّة من التنوير؟

image_pdf

ظهرت السلفيَّة في منتصف القرن الثامن عشر كبيداغوجيا اجتماعيَّة تركِّز  بشدة على السلوك الشخصي للأفراد، ولا تكتفي بالتحقُّق المعرفي للإيمان، وتطمح إلى تهذيب المجتمع المأزوم والمهزوم عن طريق خطاب شعبوي توبيخي، يركِّز في جانبه الاعتقادي على أعمال القلب باعتبارها جزء أساسي من الإيمان الضروري لدخول الجنة، ولا يكتفي – كالأشعريَّة الرسميَّة لأهل السنة- بـ”التصديق” كشرط كافٍ لتحقُّق الإيمان. فالسلفيَّة أساسًا تقوم على اشتراط تحقُّق الإيمان في القلب، متمثِّلا في انضباط السلوك الفردي بطريقة “أرثوذكسيَّة”. ولذلك تقدح في إيمان الفرد باقترافه للمعصية ولا سيما الكبائر.(وهذا الفهم على عكس الاعتقاد الشائع أن جوهر السلفيَّة هو التركيز على الشكليات).

وتدَّعي السلفيَّة لنفسها هنا أنها قول “وسط” بين قول “الخوارج” أي التكفيريين الذين يقولون بتكفير العصاة من ناحية، وبين قول “المرجئة” (ويقصدون بهم عموم أهل السنة) من جهة أخرى والذين يميل رأيهم إلى “الإرجاء”، أي إرجاء الحكم على إيمان الشخص صاحب المعصية إلى الله، والاكتفاء في الحكم الدنيوي على إيمانه بعنصر “التصديق” فقط، وهو القول الأكثر مرونة و”تسامحا” بالمقاييس المعاصرة للتسامح.

فعلى حدّ قول السلفيين أنفسهم، فإنَّ السلفيَّة تقدح “فقط” في إيمان الشخص بارتكاب المعصية، ولا تذهب إلى حد تكفيره كما يفعل “الخوارج”، لكنها في نفس الوقت أشد تحفظا من القول الرسمي لأهل السنة في هذه المسألة.

وبذلك يظهر أن “الوسط” الذي تدَّعيه السلفيَّة لنفسها هو في الحقيقة  “تشدُّد” إذا ما قيس إلى قول المذهبيَّة الإسلاميَّة التقليديَّة (التي نسي الناس كيف يميزون بينها وبين السلفيَّة من فرط من ادَّعت السلفيَّة لنفسها الصواب وحصريَّة الحديث عن الإسلام طوال القرنين الماضيين)، وهو وإن كان نسبيًّا أقل حدّة من قول “التكفيريين” (أو الخوارج بتعبيرهم) إلا أنَّه في الحقيقة يقترب منه بشكل كبير وواضح، بل ويمكن القول إنه هو الذي أنتجه بهذا الاقتراب “الخطر” من حدود التكفير.

تنبع القضيَّة التي تتبنَّاها السلفيَّة أساسا من “ذمِّ الاختلاف”، وهي القضيَّة التي تركَّزت حولها أهم وأوائل كتاباتهم. والاختلاف المعني هنا هو الاختلاف في الدين بطبيعة الحال، والذي اتهمته السلفيَّة بالتسبُّب في الانبطاح الحضاري لمجتمعات المسلمين، وحمّلت المذهبيَّة الفقهيَّة والصوفيَّة وزره باعتبارها المنشئ الأساسي للـ”اختلاف”. فـ”التنوع” الذي طالما اعتبرته دوائر المعرفة الإسلاميَّة أحد أكبر ميزات التقليد المعرفي الإسلامي ما-قبل-الحديث، أدانته السلفيَّة بوصفه “اختلافا” في الدين، وليس “تنوّعا” في المناهج والآراء. واستهدفت السلفيَّة “توحيد” الأمّة حول مرتكز معرفي متجاوز للمذاهب، وعابر للتاريخ، وسهل التداول، ألا وهو “السنة”، ليس كما يفهمها الأصوليون من أهل السنَّة ضمن علومهم، ولكن كما عبرت عنها بشكل مباشر ممارسة الجيل الأول من المسلمين، وجيل أو اثنين على الأكثر من بعدهم، باعتبارها المعيار النموذجي للسلوك الفردي والاجتماعي (لاحظ التأكيد على مسألة الصوابيَّة الأرثوذوكسيَّة للسلوك الشخصي كما أشرت في بداية المقال) وبالتالي يمكن توظيفها في تجاوز “التعقيد” المعرفي الذي وصلت إليه المذاهب الفقهيَّة، والكلاميَّة، عند مجيء الاستعمار في القرن الثامن عشر، وكذلك التعقيد التنظيمي الذي وصلت إليه الطرق الصوفيَّة أثناء الفترة ذاتها.

وهنا، يجب على أولئك الذين يعتبرون السلفيَّة امتدادًا طبيعيا للتراث الإسلامي أن ينتبهوا إلى الموقف السلبي الذي تتبنَّاه السلفيَّة من كافة المناهج المعرفيَّة الإسلاميَّة في الفقه، والأصول، والكلام، والتصوُّف، (أي كل تراث الإسلام تقريبا). ولا يعترف السلفيون بشيء من تراث الإسلام المعرفي إلا علوم الحديث والكتابات الحنبليَّة التوجه، وكل ما عدا ذلك بالنسبة للفكرة السلفيَّة فهو من أبواب “الاختلاف المرذول” أو “القول في الدين بالهوى (أو العقل؟)” وهو الأمر المرذول بطبيعة الحال.

فليس صحيحا إذن أنَّ مواجهة السلفيَّة تقتضي مخاصمة التراث أو تجاوزه أو نفيه، فالسلفيون أنفسهم أشد خصوم التراث، وكل نفي له هو في الحقيقة لا يعدو أن يكون خدمة مجانيَّة للسلفيَّة (ومن هنا نفهم الخدمة المجانيَّة التي يقدِّمها التنوير السطحي للسلفيين من حيث يريد مجابهتهم). وإنما المقاربة الصحيحة للمسألة تكمن في إتاحة المجال للتراث ليواصل “تطوره الطبيعي” والذي لم يتوقَّف عنه طيلة قرون لم يقطعها إلا الاستعمار، الذي فرض على مجتمعات المسلمين حالة من الاغتراب عن الذات بفعل الهزيمة العسكريَّة والاقتصاديَّة والتقنيَّة، ومن ثم اتّهام التقليد المعرفي الاسلامي و”إغرابه”(alienization) واعتباره المسؤول الأول عن الهزيمة، وهو ما أدَّى إلى ظهور البدائل المقترحة للتراث، متمثِّلة في السلفيَّة من ناحية وتيار التنوير التغريبي من ناحيةٍ أخرى.

_______
*الدكتور يامن نوح.

جديدنا