طوباوية اليسار الجديد “الشباب الحالم بالتغيير”

image_pdf

من الخطأ إلحاق اليسار الجديد بالتبعية السياسية والإيديولوجية المذيّلة بالشيوعية والماركسية، فاليسار الجديد ليس حزباً أو حركة أو طبقة اجتماعية، فـاليسار عمل مفتوح، والماركسية مذهب أو نظام مغلق. دخل اليسار الجديد ــ الفضاء التداولي، بعد انتفاضة الطلاب في مايو / أيار 1968 في فرنسا، وقد قادت هذه الانتفاضة مجموعات يسارية غير شيوعية، تنتمي الى طبقات اجتماعية ميسورة نسبياً ومرفهة في حياتها اليومية([1]).

أطلقت كلمة اليسار الجديد New Left على الحركة الشبابية التي ظهرت في غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في أواخر خمسينيات القرن العشرين المنصرم لتمييزها عن الاتجاهات اليسارية التقليدية السابقة عليها. حيث وصلت ذروة تطورها واشتهار نفوذها في أواخر الستينيات وتدنت أحوالها في السبعينيات، ويجزم زعماؤها أن الطبقة العاملة قد أذعنت لعملية التحول إلى البرجوازية، ولم تعد قوة ثورية هامة، وإن على المفكرين الراديكاليين أن يوفروا القوة الثورية الجديدة الدافعة لتغيير الواقع الاجتماعي([2]). وعلى الرغم من اختلاف الرؤية الإيديولوجية لليسار الجديد عن اليسار القديم كلياً، إلا أنهما يشتركان في روحهما العامة التي تستهدف تغيير المجتمع القائم([3]).

يرى معظم المفكرين السياسيين والاجتماعيين أن اليسار الجديد ليس تنظيماً واحداً، بل هو عبارة عن جماعات متنوعة بعضها محلي وبعضها قومي وبعضها الآخر مؤقت تماماً، والآخر دائم. وأنصاره في غالب الأمر من الشباب الراديكالي الجامعي والغير جامعي، يتصف بأنه ديمقراطي تحرري، ومعارض يعاني كثيراً من القلق إلى جانب أنه ليس معادياً للشيوعية، ويهتم هذا الشباب بإحداث تغيرات متنوعة في النظام السياسي والاجتماعي من خلال السلوك المباشر الذي يعتمد على الاحتجاجات والمظاهرات والمقاطعة، والعصيان المدني، كما أنه يتبنى في أشد صوره تطرفاً وسيلة العنف الفيزيقي([4]). ويسعى أيضاً نحو تغيير القيم الثقافية، من خلال محاولته لإيجاد قيم أخرى بديلة تمثلت في اهتمامه بأدوار الفنانين وعملهم، باعتقاده أن عملهم يتضمن نقداً حاداً للقيم التقليدية السائدة. وينبثق أيضاً اهتمامه بالفن والجوانب الجمالية بصورة عامة في إيمانه بأن ما يحتاج إليه المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت قدراً كبيراً من التغيير الثقافي أكثر من التغيير المادي([5]). بهذا نجد أن شباب اليسار الجديد يعبّر عن جماعة مجال تنحصر جل مسلماتها الأساسية في نحو التطلع إلى بناء جديد من العواطف والواقع الشخصي الذي يتضمن الحرية ورفض الحروب، والتأكيد على التلقائية والكرامة والابتكار والمساواة. بعكس ما هو سائد في المجتمعات الغربية وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية”([6])، تاريخياً يرتبط اليسار الجديد بالحركات الاجتماعية*، تماماً كما يرتبط بحركة النقد الاجتماعي الواسعة النطاق للنظام الرأسمالي. فقد ربط اليسار الجديد نفسه بحركات الاحتجاج الاجتماعي: حركة الزنوج، وحركة الطلبة، وحركة السلام. حيث أصبحت حركة النقد التي قادها زعماء اليسار الجديد ومعاصروه بمثابة المحرك والمساند لهذه الحركات الاجتماعية([7]). بالإضافة إلى توجيه اهتماماته نحو العديد من القضايا الاجتماعية، التي تعدت حدود كونها قضية دفاع عن فئة معينة، عبر النشاط الملحوظ الذي أبداه العديد من اليساريين الجدد في مجال حقوق الإنسان وحقوق الحيوان وحماية البيئة وحرية الرأي والتعبير، فمثلت تلك الاهتمامات والتوجهات بمجملها تحدياً ورفضاً واضحاً للبناء الاجتماعي القائم، وللنظرية الاجتماعية التي تدعم وتساند هذا البناء المزيف. مما أدى إلى انبثاق قوى الصراع الكامنة في قلب هذا البناء، التي تسعى النظرية جاهدةً من خلال ارتباطها بمشكلة النظام نحو محاصرتها وتضييق الخناق عليها.

أما فكرياً ” فقد تطورت الأفكار الاجتماعية النقدية لليسار الجديد في العالم الغربية وبالأخص أمريكا في ستينيات القرن الماضي بتأثير من الماركسية الجديدة التي تبنت كتابات ماركس المبكرة ذات الطابع الإنساني”([8])، حيث صاحب ظهوره ظهور حركة فكرية ذات طابع نقدي تهدف إلى نقد البناء الاجتماعي الغربي وما يعانيه من مشاكل، بالإضافة إلى نقد البناء النظري السوسيولوجي، تعبيراً منها عن رفضها لكل ممارسات المجتمع الرأسمالي وما يرتبط به من إيديولوجيات ونظريات.

بمعنى آخر يمكن لنا القول إن مهام النقاد في تلك الحركة هو التنظير النقدي للكشف عن المشكلات التي يعاني منها البناء الاجتماعي تمهيداً لربطها بالإطار العام والشامل لهذا البناء، وللكشف عن القوى الفاعلة التي تتحكم فيه، بالإضافة إلى تقديم ” أساليب عملية لتغيير المجتمع إلى الصورة المثلى التي توصل إليها من خلال تحليل الأوضاع القائمة”([9]). بينما نجد أن من مهام الحركات الاجتماعية هو محاولة تغيير البناء الاجتماعي بالاستناد إلى التنظير النقدي عن طريق ممارسة كافة أشكال الضغوط في سبيل تغييره. بهذا نجد أن وحدة الفكر والممارسة قد تحققت تحت مظلة اليسار الجديد الذي يعبّر عن مظاهر الصراع الفكري والبنائي في المجتمعات الرأسمالية الغربية.

يعتبر كلاً من رايت ميلز Wright Mills وهربرت ماركيوز Herbert Marcuse من أهم منظري اليسار الجديد في منتصف ستينيات القرن الماضي. اللذان يعتبران بمثابة الأب الروحي لحركات اليسار الجديد، وبالأخص حركة الطلبة عام 1968 التي ” استقت جزءً كبيراً من قوامها وممارستها الراديكالية من فكرهما باعتبارهم الأعضاء البارزين من المستويات العليا للرئاسة الأكاديمية “([10]). فقد وضح لنا الفكر السوسيولوجي لميلز كيفية التعامل مع النظريات السياسية الليبرالية، والديمقراطية بالمنظور النقدي الذي لا يكتفي بالاقتصار على الفكر السياسي باعتباره نظرية بل يتعدى ذلك إلى الفحص السوسيولوجي لكيفية عمل النظرية السياسية في الواقع، والشروط الاجتماعية والاقتصادية التي تمارس في إطارها الديمقراطية الحديثة([11]). وذلك من خلال نتاجه الفكري الذي تجسد  بأهم كتبه منها: صفوة القوة The Power Elite عام 1956، والخيال السوسيولوجي The sociological Imagination عام  1959، ” حيث قدم ميلز فيهما تحليلات نظرية نقدية لفتت أنظار الكثير من الباحثين آنذاك نحو الإيديولوجية الامبريالية السائدة في المجتمع الأمريكي، وسعيها نحو الحفاظ على الوضع الراهن، كما حاول ميلز أيضاً الكشف عن مظاهر الوعي الزائف بين أفراد المجتمع الناجم عن تسلط الصفوة السياسية في ممارسة السلطة واتخاذ القرارات ” ([12]).

أما ماركيوز فقد عكست آراؤه قدرة فائقة على استيعاب أحداث العصر، حيث استطاع من خلالها تأمل الأبنية الفكرية بهدف محاولة تغييرها، وبالتالي تغيير المجتمع ذاته. حيث صاغ في كتابه ” الإنسان ذو البعد الواحد ” عام 1960 فلسفة اليسار الجديد، فأنتج أفكار نقدية بالغة الأهمية سعى من خلالها إلى كشف ممارسات ومفرزات العقل الأداتي (العقلانية التقنية)* في المجتمع الصناعي المتقدم وانعكاساتها السلبية على الإنسان داخل ذلك المجتمع، كما انتقد العقل الأداتي وما آلت إليه الحداثة الغربية الرأسمالية أو الاشتراكية عبر التطورات الاقتصادية والتكنولوجية التي شيئت كل شيء حتى الإنسان، لذلك يعتبر مفهوم الإنسان ذو البعد الواحد من أهم المفاهيم التي حللها وناقشها ماركيوز، ويعني ” الإنسان البسيط غير المركب “، فالإنسان ذو البعـد الواحد هو نتاج المجتمع الحديث، وهو نفسه مجتمع ذو بعد واحد يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية والواحدية المادية، وشعاره بسيط هو التقدم العلمي والصناعي والمادي وتعظيم الإنتاجية المادية وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك، بحيث تهيمن على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تطبّق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتدرك الواقع من خلال نماذج ” كمية – رياضية ” وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه وترشّده وتنمطه وتشيؤه وتوظفه لتحقيق الأهداف التي حددتها([13]).

أما عن اتجاهه النظري والمنهجي فقد تمثل في رفضه السلبي للمجتمع القمعي القائم، من خلال الثورة عليه للتأكيد على الدور الثوري والحاسم للعقل، في حياة الإنسان الاجتماعية، ولتجنب النظر إلى المجتمع الإنساني نظرة ذات بعد واحد. وتتلخص وجهة نظره في آلية تغيير الواقع والثورة عليه، بضرورة التأكيد على الانفصال عن النظام القائم وتبني قيم مضادة له، من خلال العنف الذي تقوم به جماعات تُدعى بالجماعات الخارجة على النظام، والتي تضم الطلبة، والزنوج، والفقراء، والفئات الهامشية في المجتمع. لأنه رفض الفعل الثوري والنضالي الذي ستقوده البروليتاريا في عملية التحول إلى ما بعد الرأسمالية المتسلطة، لعدم إيمانه بقدرتها على القيام بهذه العملية، لأنها لم تعد القوة الاجتماعية الصالحة للقيام بدورها التاريخي في الإطاحة بالنظام الرأسمالي([14]).

وفي النهاية يمكننا بأن اليسار الجديد ” هو حركة نفي للعالم، إنه يمثل قوة بناءة ترفض العالم من أجل تغييره. ويرتبط رفض العالم من أجل تغييره إلى الأفضل بتصور فكري أو يوتوبيا معينة يعملون على تخطيها وتحويلها إلى واقع. كما أن اليسار يرغب دائماً في التقدم، ويتوق إلى أن يسيطر الإنسان على مصيره، وهو ينظر إلى نفسه على أنه منتصر في النهاية وينظر إلى البرنامج الذي يطرحه على أنه نفس الشيء الذي تأمل في تحقيقه الإنسانية على مر الزمن “([15]). إذن اليسار الجديد، يُعنى بـالحرية، والمدنية، والتخيّل، والاختلاف، والثورة، من دون اعتقاد دوغمائي (الجمود الفكري) بالشيوعية والماركسية، وبذلك فهو نفي لعالم قائم بإثبات عالم ممكن جديد يكمن اعتباره مجموعة من الشباب الرافض للواقع الاجتماعي والحالم بالتغيير مع غياب قدرة الفاعل التاريخ على تنفيذ عملية التغيير الاجتماعي بذلك يمكن لنا توصيفه بأنه اتجاه طوباوي حالماً بواقع أفضل في ظل رأسمالية شرسة استطاعت استيعاب كل حركة مقاومة لها يمكن أن تهدد طموحها اللا محدود في السيطرة والتحكم تحقيقاً لأهدافها وغاياتها في البقاء والاستمرار وجني الأرباح.


[1] – عباس عبد جاسم: هكذا أفهم اليسار الجديد، مجلة القدس العربي، لندن، 24 – مايو – 2020.

[2] – عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء:7، 1994، ص)412).

[3] – أحمد زايد: علم الاجتماع ( النظريات الكلاسيكية والنقدية )، دار المعارف، القاهرة، 1984، ص( 210).

[4] – أحمد سليمان أبو زيد: نظرية علم الاجتماع والنقد الراديكالي، جامعة الإسكندرية، الإسكندرية، 1994، ص( 140-141) .

[5] – ألفن جولدنر: الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي، ترجمة وتقديم: علي ليلة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، العدد:667، ط1، 2004، ص(595).

[6] – عبد الرازق جلبي وآخرون: نظرية علم الاجتماع ( الاتجاهات الحديثة والمعاصرة )، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2006، ص(328).    

* إن ظهور اليسار الجديد تزامن مع ظهور وتفجر قوى الحركات الاجتماعية Social Movements الرافضة لسياسات وإيديولوجيات الغرب، الساعية إلى تحليل هياكل السلطة الرأسمالية الحديثة، في مختلف المجالات لتوضيح التناقضات بغية تحديد المهمة الرئيسية لهذه الحركات، فعلى سبيل المثال ترى هذه القوى أن الأحزاب الليبرالية والديمقراطية الساعية إلى الإصلاح والرفاه الاجتماعي في معالجة، مشاكل وقضايا المرأة فقد فشلت في تحقيق هذه المهمة، ناهيك عن إخفاقها أيضاً في الحد من مشاكل الفقر والتفاوت الاجتماعي، فعلى العكس تماماً هناك ازدياد مطرد للنزعة الاستهلاكية الثقافية الجديدة، وأيضاً هناك ازدياد واسع لأشكال السيطرة والاغتراب. فالدولة نفسها قد أصبحت هي التكنوقراطية وشرعيتها تبقى على نحو متزايد عرضة للتساؤل، لذا نجد أن اليسار الجديد حاول أن يتبنى أغلب هذه الحركات. لمزيد من القراءة والاطلاع انظر:

– Geoff Andrews, Richard Cockett: New Left, New Wright and Beyond – Taking the Sixties Seriously, Macmillan Press LTD, London, 1999, p.(74).

[7] – أحمد زايد: علم الاجتماع ( النظريات الكلاسيكية والنقدية )، مرجع سبق ذكره، ص(211).

[8] – Doyle Paul Johnson: Contemporary Sociological Theory – An Integrated Multi-Level Approach, Texas Tech University, 2008, p. (577).

[9] – سمير نعيم أحمد: النظرية في علم الاجتماع ( دراسة نقدية )، دار هاني للطباعة والنشر، القاهرة، 2006، ص(271).

[10] – توم بوتومور: علم الاجتماع من منظور اجتماعي نقدي، ترجمة: عادل الهواري، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1985، ص(260).

[11] – أشرف منصور: النقد المعاصر للفكر السياسي الليبرالي، تقديم: مهدي بندق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الكتاب الأول، 2003، ص(61-62 ).

[12] – عبد الرازق جلبي وآخرون: نظرية علم الاجتماع ( الاتجاهات الحديثة والمعاصرة )، مرجع سبق ذكره، ص (334-335).

* نوع من التفكير في المجتمع الصناعي الحديث يصفه ماركيوز بالتفكير ذي البعد الواحد، يتضح ذلك من خلال التفكير العلمي والتقني المعبر عنه في الوضعية والبراغماتية، وعليه فإن العقل الأداتي هو منطق في التفكير وأسلوب في رؤية العالم. ويرى لوكاش أن المستوى الاقتصادي للمجتمع الرأسمالي منظم بطريقة تجعل العلاقات بين البشر تبدو كما لو أنها علاقات بين أشياء، وأن نظرة البشر لأنفسهم ولغيرهم تغدو كنظرتهم للأشياء المادية، وأن العالم الاجتماعي أصبح يبدو كما لو أنه (طبيعة ثانية)  إلى جانب العالم الطبيعي الأصلي، وأصبح كالطبيعة نفسها غير قابل للتغيير ومستقلاً عن أفعالنا.

[13] – لمزيد من الاطلاع انظر: حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020، ص(47-52).

[14] – المرجع السابق، ص(123-124).

[15] – أحمد زايد: علم الاجتماع ( النظريات الكلاسيكية والنقدية )، مرجع سبق ذكره، ص(209-210).
_________
د. حسام الدين فياض/الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.

جديدنا