منطق الحوار “العُمري”.. السبيل الأمثل لتجاوز أزمة “حوار الحضارات”

image_pdf

المنطق العُمري يفرضه الواقع اليوم لاعتبارات أهمها سهولة الاتصال والتواصل، فالتكنولوجيا المتطورة تتيح إمكانية إفاضة المجالس بين الدول كلها، وتحقيقُ مبدأ التعارف على أساس الحوار العالمي أضحى سهلا ميسرا أكثر من ذي قبل. ثم لاعتبار آخر، وهو أنه في الزمن السابق كان الآخر المعني بالتحاور هو القريب منك، ومن تبلغه الدعوة بالوسائل التقليدية؛ من بعثات، ورسل، وكتب، وما إليه، فكانت دائرة الحوار آنذاك لا تضم إلا من كان على هذه الشاكلة، وما كان نائي الدار بعيدها، ولا تتيسر الوسائل المتاحة لبلوغه، فما كانت هذه الدائرة تضمه. أما اليوم، فكل من انتمى لهذا الكون أصبح قريبا، قريب الدار كان أو نائيها، وما يحدث في غرب الأرض يعلمه أهل شرقها، وما يقع جنوبها يصل إلى أهل شمالها، فكل طرف أسهمت التكنولوجيا المتطورة في ربطه بعلاقات مع الأطراف الأخرى من بني جنسه، وأضحى منطق المصالح الدولي القائم على الحوار والعلاقات هو المعيار المحتكم إليه في الحكم على قرب الدار وبعدها، لا معيار المسافة، وميزان بُعد الشقة وقربها.

وهكذا قسم هذا المنطق دول المجتمع الإنساني إلى صديقة وغير صديقة، فالتي لم يشملها الحوار مع دول أخرى مفض بالضرورة إلى كونها غير صديقة، والتي شملها الحوار مفض إلى كونها كذلك، فبالتالي كان هذا المنطق في الحوار منفذا لجلب المفاسد بعد أن كان في الأصل بابا لدرئها، وذلك لما يترتب على ذا الحوار المحصور بين فئات من الناس دون غيرهم من زرع بوادر الإقصاء الممنهج، وإثارة دوافع الحقد والغل في النفوس، ولو كانت على دين واحد، أو متكلمة بلسان واحد. ألم يكن هذا المنطق سببا في كثير من الحروب التاريخية؟ ألم يكن ذلك من أهم دوافع اندلاع الحرب العالمية الثانية بعد أن هدأت الأولى، وأسفرت عن تحالفات قومية في العالم سرعان ما اندلعت الحرب بينها من جديد؟ أليس هذا هو السبب نفسه فيما يقع اليوم من حروب في شتى بقاع العالم؟ لا بد إذن أن يكون المنطق الدولي في الحوار منطقا عُمريا، بما يتيحه من فلسفة دبلوماسية في تأطير العلاقات بين الدول، وما يحققه من مصلحة كونية، وما يدفعه من مفاسد متوقعة.

إن هذا المنطق بحق هو المناسب لا غيره لهذه المرحلة المتقدمة من التاريخ الإنساني، وإعماله يكون بدءا من الذات ثم إلى العالم، فلذا كان ضرورة إنسانية قبل أن يكون مطلبا حضاريا.

  • الحوار العمري، ضرورة إنسانية

بعد أن تحقق في النفوس ضرورة بدل الحوار وإحلاله محل الحرب في فض النزاعات، وتأكدت نجاعته كحل من الحلول التوفيقية في الخصومات، أصبح النظر إليه كقيمة في تحقيق التعارف والتعريف أمرا ملحا، بحيث تكون الرؤية من خلاله إلى الاختلاف كإثراء وإغناء للمجتمع الإنساني، ولن يتأتى ذلك إلا إن كان ذا الحوار مؤسسا على الرؤية العمرية المستلة من وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كلمته الجامعة، والتي استقل الإمام الطبري بإيرادها في كتابه التاريخ كما نصه: ” عن عبد الله بن عباس أن عمر قال لناس من قريش: بلغني أنكم تتخذون مجالس، لا يجلس اثنان معا حتى يقال: من صحابة فلان؟ من جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس، وايم الله إن هذا لسريع في دينكم، سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم، ولكأني بمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقساما، أفيضوا مجالسكم بينكم، وتجالسوا معا، فإنه أدوم لألفتكم، وأهيب لكم في الناس. اللهم ملوني ومللتهم، وأحسست من نفسي وأحسوا مني، ولا أدري بأينا يكون الكون، وقد أعلم أن لهم قبيلا منهم، فاقبضني إليك[1].

فهذا النص البليغ من الفاروق يحمل بين أثنائه من العبر والعظات الشيء الكثير، وهو وإن كان سبب وقوعه محصورا في أناس من قريش، إلا أن معناه قد أضحى منصرفا على المجتمعات، وما المجتمعات إلا أفراد من الناس، فلذا توقع عمر بن الخطاب إن اعتاد هؤلاء الطريق الذي وجدهم عليه في نهج الحوار، وكان ذلك ديدنهم، أن يجر على الدعوة وبال التشرذم والتقسيم. هذا النهج المبني على سؤال: من جلساء فلان؟ من صحابة فلان؟، بحيث أصبح هذا السؤال عندهم عادة، فلا يجالس الرجل إلا من اعتاد الجلوس معه، ولا يحاور إلا من ألف التحاور معه، فأسفرت هذه الطريقة في الحوار عن تكتلات سرعان ما تكون سببا غير مباشر في إثارة الشحناء بين الناس، وهو الأمر الذي جاء الإسلام ليغيره من شرائع الجاهلية، فلذا قال عمر بن الخطاب: “حتى تحوميت المجالس”، أي أضحى الناس تتحكم فيهم حمية الألفة والاجتماع لمجلس دون آخر، وتأخذهم الأنفة والغيرة على بعضهم، ولا شك أن هذه الأسباب -وإن كانت في الظاهر بسيطة-، فإنها في ميزان الحروب لا تكون كذلك، بل وكما قال الأول:

كُلُّ المصَائبِ مَبْدَأُهَا مِنَ النَّظَرِ *** وَمُعْظَمُ النَّارِ من مُستَصْغِرِ الشَّرَرِ[2]

وقال آخر[3]:

كَبِيْرُ الشَّرِّ أوَّلُــهُ صَغِيْرٌ *** كذَاكَ الحَرْبُ يَقْدُمُها الكَــلَامُ

كَبِيْرُ الشَّرِّ يَبْدُو مِنْ صَغِيْرٍ *** وِمنْ مُسْتَصــغَرِ الشَّرَرِ الوُقُودُ

ثم يستطرد عمر رضي الله عنه في ذكر أسباب إنكاره عليهم، وهي -حسب منطوق الأثر- قسمان: أسباب آنية أو حالية، وأسباب متوقعة أو مآلية.

أما الأولى، فقد خشي عمر بن الخطاب أن يكون هذا النهج الحواري المنقسم سببا في سرعة التفرق والتشرذم في دينهم، فيصيرون شيعا لا يرى الواحد إلا رأي شيعته وفرقته، ويعد ما عداه باطلا، ما سيسفر عن اختلافٍ سرعان ما سيهلكون بسببه أفرادا وجماعات. أما الأسباب المتوقعة فهو نشوء أجيال لا تأخذ من الإسلام إلا ما كان من آراء أهلها وقبيلها، ويعدون غيرها من الباطل الواجب رده ودحضه، فيتحول الدين إلى آراء تؤخذ، وأخرى ترد بعد أن كان دينا واحدا. وقد لا يبعد أن ينشأ الابن على حب من كان والده يحاوره ويجالسه، وبغض من لم يكن منتسبا إلى دائرة تلك المحاورة والمجالسة. فماذا كان المقترح العمري لإعادة النهج السديد للحوار؟

إنه الكلمة البليغة الجامعة المانعة “أفيضوا مجالسكم بينكم”، أي: اجعلوا مجالس محاوراتكم منتشرة بينكم، تسع القليل منكم والكثير، ولا تخصوها بأطراف دون أخرى، بل انثروها بينكم، وذلك لأن كل ما كان في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إلا عن تفرق أو كثرة كما قال ابن منظور[4]، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله أخذ ذرية آدم من ظهره، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفة، فقال: هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار”[5]. ويتأكد هذا المعنى بما أردفه عمر بن الخطاب في وصيته قائلا: “وتجالسوا معا”، لما في ذلك من جلب مصحة الألفة ودرء مفسدة النفور، فلذا قال: “فإنه أدوم لألفتكم”، ثم ذكر ثمرة أخرى تجنى من وراء إفاضة المجالس وتوسيع دائرة الحوار، وهي قوله: “وأهيب لكم في الناس”، من المهابة، وهي الإجلال والمخافة[6]؛ يريد بذلك أن يبين ما يتأتى من وراء الألفة التي تجنى من إفاضة المجالس، وتوسيع الحوار، وهي قوة الجماعة التي تزرع المهابة في النفوس، وتدفع الضرر المتوقع من الأعداء، ويدل لذلك قوله سبحانه: ﴿وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ﴾[7].

إنا نجد لهذه الوصايا العمرية أدلة من نصوص الوحي وشاهد التاريخ، فما كان عمر لينثرها إلا بعد أن سمع ما يدل عليها من الوحي، وبعد أن رأى آثارها في الواقع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمنه. ويمكن التأصيل لهذا المنطق العمري في الحوار بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:”إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه”[8]. فهذا الحديث أصل في الباب، وتعيين العدد فيه ليس بمراد، وإنما الغاية تبيين وجه كراهية المناجاة بين البعض وإلغاء البعض الآخر، فلذا قال المازري في شرحه للحديث: “كذلك الجماعة عندنا لا يَتَنَاجَونَ دون الواحد لوجود العلّة في ذلك، لأنّه قد يقع في نفسه أنّ الحديث عنه بما يكره، وأنّه لم يَرَوه أهلا لإطلاعه على ما هم عليه، ويجوز إذا شاركه جماعة لأنّه يزول الحزن عنه بالمشاركَة”[9].

إن تنزيل الحوار وفق الرؤية العمرية لها أثرها البليغ في تكوين الإنسان المؤثر في الحضارة، فكلما كان الإنسان منفتحا على بني جنسه، لا يضع في محاورتهم حواجز أو معايير، ينتقي منهم وينتخب من يجعله لنفسه محاورا،  كلما كان أسرع في جلب مصالحه ودفع مفاسده، وكلما كان منغلقا على نفسه، كلما قل طموحه، وضاق أفقه، وإن حدث وأن ألجأته الضرورة إلى لقاء ما لم يألفه، أو محاورة ما لم يعتده، أضحى كالدخيل لا يأْلف ولا يُؤلف، فلا هو بمستعد لسماع المخالف، ولا رغب في النقاش، لا يرى إلا رأيه، فيضيق بسبب ذلك أفقه، “ويتسع نطاق هواه، وحينئذ لا يفيده علمه وإن سولت له نفسه أنه يستفيد منه، ولا بالأولى يفيد غيره،.. فيحرم نفسه من تقويم أفعاله وتهذيب أخلاقه، فتقوى دواعي الاستئثار في نفسه، وتضعف دواعي التعاون فيها، وحينئذ لا يصلحه عمله وإن توهم أنه يصلح به، ولا بالأولى يصلح غيره”[10].

إن منطق الحوار العمري لا يتيسر تحصيله إلا من باب التدرج، فالإنسان مطالب أن يجعله منهج حياة، وهكذا نرى الله عزوجل لا يجعل الإنسان محصلا درجة البر بالوالدين مثلا إلا أن يكون بارا بهما معا، فلو كان مقاطعا لأحدهما لكان عاقا، كما أن التسوية بين الأبناء مطلب إسلامي محض، وحق من حقوقهم، فما وفاه من أقبل على بعض أبنائه بالحوار ولين الكلام، وكان ديدنه الإعراض عن البعض الآخر، لحديث: “سووا بين أولادكم في العطية، كما تحبون أن يسووا بينكم في البر”[11].

ثم تتسع دائرة هذا المنطق الحواري لتسع الإنسان في محيطه ومجتمعه، ويترسخ عنده التعامل به في حله وترحاله، حتى يصير له كالفطرة لا يحتاج إلى تكلفه وتطلبه. فلو آنست المجتمعات من نفسها أن تتمثل هذه المقاربة التشاركية في الحوار بين مكوناتها أولا، لكان ذلك منطلقا لبناء حوار دولي حضاري، إلا أن عدم شيوعه فيها بهذا النهج المتقدم سلفا، أسفر عن مخاوف بين مكوناته السياسية والثقافية والمجتمعية، ففي البلدان العربية مثلا “أشار استطلاع للرأي أن  %59 من المستجوبين لديهم مخاوف من الحركات العلمانية، و%52 منهم لديهم مخاوف من الحركات الإسلامية السياسية”[12]، وكل ذلك نابع من غياب ثقافة الحوار العمري في هذه الأوساط العربية، وبغير هذه المقاربة التشاركية التكاملية، لا يمكن لهاته الدول مفردة كانت أو مجتمعة أن تنخرط في حوارات أخرى خارجية، بله أن تقود العالم إلى حوار حضاري متكامل.

  • الحوار العمري، من الحضارة الإسلامية إلى الحضارة العالمية

لما كان العنف ظاهرة مستشرية في شتى بقاع العالم، اقتضى علاجها أن يكون حلا شموليا، فالعالم كله مطالب بالانخراط الفعلي في مسيرة العلاج تلك، ومن أهم طرقه التحالف الفكري الحضاري، والانخراط في الحوار العالمي، لاستجماع البدائل السلمية، والمقاربات التشاركية المعينة على السلم، ونبذ العنف والكراهية.

هذا ولما كانت الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، وكان من خصائصها الصلاحية لكل زمان ومكان، فقد أسهمت بنصوصها ومقاصدها في تشريع أحكام التعارف العالمي، وما بلوغ الحضارة الإسلامية في فترة من فترات التاريخ مكانة متميزة بين سائر بلدان العالم، إلا تأكيد على نجاعة هذه الحلول الإسلامية المنبع في تجاوز المحن والخلافات إلى تأليف القلوب والتقريب بين الحضارات. ولعل الصيغة العمرية في الحوار، كما تم بسطها وتحريرها آنفا، من أوكد الحلول المناسبة لهذه المرحلة من التاريخ، فقد “زاد من ضرورة الأخذ به كأسلوب مرغوب فيه للتعاطي مع الأزمات بكل أشكالها، تطور وسائل الإعلام، والتواصل، وانفتاح الأبواب على مصراعيها أمام تدفق المعلومات، وتمازج الحضارات والثقافات، فغدا العالم قرية واحدة، تصبح وتمسي على إيقاع متسارع من المواجهات العنيفة، والأزمات الشائكة”[13].

غير أن هذه الثقافة الحوارية وإن كانت منبعثة من أصول إسلامية، فإنها من حيث التطبيق والتنزيل تكاد تكون مغيبة عند مسلمي هذا الزمان، حاضرة عند غيرهم من الغربيين – على الأقل داخليا-، ومرد ذلك أسباب كثيرة، منها:

  • غياب الرؤية النقدية في الحوار العربي الإسلامي، فمن أساسيات الحوار الناجح أن يخضع لنقد ذاتي أولا، وهو مطلب إسلامي في التكوين الفكري للإنسان كما في الآية: ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾[14]، وفي آية أخرى: ﴿فَبَشِّرۡ عِبَادِ ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ﴾[15]، فما يميز المسلم أنه يدخل في حوار بمنطق الناقد، لا يتلقى من خلاله الكلام دون تمحيص، بل يستمع فيأخذ من الكلام ما هو أفيد وأحسن للإنسانية، سواء صدر منه أو كان من غيره. فهذا الشرط النقدي في الحوار يقود مكونات المجتمع إلى تنمية القواسم المشتركة وتحرير محل النزاع بينهم الأمر، الذي سيفضي بالضرورة إلى حوار ناجح قائم على التفاهم لا الخصام، والتوافق لا التخالف، وكما قال الباحث زهير سوكاح:”فالحوار النقدي الداخلي بمثابة شرط حضاري لا بد منه في أفق حوار عالمي بين الحضارات”[16]. فهذه الرؤية غائبة كما أسلفت في كثير من المجتمعات المسلمة، حاضرة في المجتمعات الغربية إلا أن حضورها ذاك متمركز على الذات الغربية لا يتجاوزه الى غيرها، وذلك بسبب النظرة العدمية الى الآخر، خاصة الآخر المسلم، فعلم أن هذه الرؤية الغربية قاصرة في الميزان العُمري، لعدم مناسبتها لمقصد الإعمار الكوني، ولتعذر حصول البناء الحضاري بموجبها.
  • تعثر الديمقراطية في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، وهيمنة بعض الآراء الاستبدادية التي تنزع الى العنف في كل حالة وقع فيها الاختلاف بين مكوناتها المجتمعية، كل ذلك جعل الرؤية العمرية في الحوار داخل هذه المجتمعات غائبة، بحيث تراه تهديدا لوجودها واستمرارها. بينما أدى تنامي الديمقراطية في البلدان الغربية إلى انفتاح سائر مكوناتها على الحوار، ولم تكن تنظر إليه كتهديد، بل تراه تنمية لها وإثراء وبناء، وعلى ذا الأساس اعتبر الباحث زهير سوكاح “مجالات وأنشطة الحوار في الغرب أكثر تطورا وتقدما عما هي عليه في المنطقة العربية والإسلامية، نظرا لعراقة الممارسة الديمقراطية المتجذرة تاريخيا في هذه الدول”[17].

فلكي تستعيد الحضارة الإسلامية ريادتها في هذا الجانب، لا مناص لها من استلهام القيم المتضمنة في المنطق العمري في الحوار، ومقاصد الشريعة الإسلامية في الإعمار، فكلاهما كفيل بأن يرد زمام القيادة الى طالبيه، ضامن للم شمل الأسرة الإنسانية، وكف نائرة الحروب، وإقامة العلاقات الحضارية على أساس الحوار لا الصراع والخصام. أما الآخر (الغرب) فإنه وإن كان قد نجح في ترسيخ ثقافة الحوار الداخلي بين مكوناته، فإن النظرة الدونية التي ينظر بها الى المخالف له -خاصة على مستوى العقيدة- تمنعه من الانخراط الإيجابي في الحوار معه، وإن فعل فلا يكون الحوار إلا على شكل إملاءات، وإن لُبس لباس الحوار في الخارج. فعلى سبيل المثال استحضر أحد المستشرقين المنصفين وهو المستشرق الإنجليزي “مونتجومرى وات” W.Montgomery Watt)) -في معرض إنكاره للحوار المنغلق الصادر من الغرب-، ما حرره كاتب سويسري في خاتمة كتاب له وسم ب: “Dialogue with islu” موجها فيها النداء للمسلمين قائلا: “إننا نطلب منكم بشكل خاص جدا، نطلب منكم يا من تؤكدون بشدة القرابة القوية بين دينينا، أن لدى الغرب شيئا أكثر، وأفضل من ثقافتكم: إنه كلمة الحياة، رؤية مملكة الرب، وأمل لا نهائي، نعبر عنه بكلمة واحدة، وباسم واحد: إنه يسوع المسيح”، فعلق “مونتجومرى وات” على ذا الكلام باستنكار قائلا: “إن مثل هذا الكلام ليس حوارا بأي معنى من المعاني، وهذه العبارات لا تعني شيئا، ولا قيمة لها بالنسبة للمسلم الذي وصل إلى درجة عالية من التعليم..، إنه ببساطة سيجيب عن مثل هذه النداءات غير المجدية بأن لديه بالفعل كلمة الحياة ممثلة في القرآن الكريم، وأنه يعتقد أن إرادة الله ومشيئته هي التي تحقق العدالة على ظهر الأرض”[18].

فما كان على هذه الشاكلة من الحوار أبدا لن يبني حضارة، ولن يسهم في التعايش الذي تتغياه البشرية، وإنما الحوار ما كان قابلا للتطبيق بين مختلف الفئات، وأهله على درجة عالية من العقلانية والتفتح، وتقبل ما عند الآخر. فعلى هذا، لا بد أن تسلك الدعوة هذا السبيل، وترسخ منطق الحوار العمري في نفوس المخاطبين، لتيسير مد ما تبقى من الجسور بين الحضارات، والإسهام في البناء الحضاري الكوني الراشد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  – الطبري، تاريخ الرسل والملوك: 4/ 214

[2]  – البصيري، أبيات مختارة، (مطابع الحميضي، الطبعة الأولى، 1422هـ/2001م)، ص59

[3]  – لا يعرف لها قائل، وهي من بحر الوافر. ينظر: الدر الفريد وبيت القصيد: 8/ 441.

[4]  – لسان العرب، مادة فيض.

[5]  – الطبراني، المعجم الكبير، من اسمه هشام بن حكيم، حديث رقم: 434. قال الهيثمي: “إسناد الطبراني حسن”. ينظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 7/ 186.

[6]  – الصحاح، مادة هيب.

[7]  – سورة الأنفال: 46

[8]  – صحيح مسلم، كتاب السلام، تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث، حديث رقم: 37 (2184)

[9]  – المازري، المعلم بفوائد مسلم، تحقيق: محمد الشاذلي النيفر، (تونس: الدار التونسية للنشر، الطبعة الثانية، 1988)، ج3 ص153.

[10]  – طه عبد الرحمن، حوارات من أجل المستقبل، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2011م)، ص7

[11]  – الطحاوي، شرح مشكل الآثار، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، (بيروت: مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1415هـ/1494م)، باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ذكره النعمان بن بشير، عنه من نحله أبيه إياه شيئا، حديث رقم: 5073

[12]  – من حوار الحضارات إلى حضارات الحوار: 141

[13]  – ثقافة الحوار في الإسلام: 5

[14]  – سورة ص:29

[15]  -سورة الزمر: 17

[16]  – من حوار الحضارات إلى حضارات الحوار: 132

[17]  – من حوار الحضارات إلى حضارات الحوار: 132

[18]  – مونتجومرى وات، الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر، ترجمة: عبد الرحمن الشيخ، (مصر: طبعة القاهرة، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م)، ص 227-228.
___________
*المصدر: مركز أفكار للدراسات والأبحاث.

جديدنا