من التنوير إلى التربية على التنوير في الفلسفة الكانطية

image_pdf

” أعني بالحكمة: النظر في الأشياء بما تقتضيه طبيعة البرهان”. ابن رشد

1- مقدمة:

يبلغ الإبداع الفلسفي ذروته عند كانط في تناوله العبقري لمسألة التنوير المتوجة بندائه الإنساني وهو تناول تَوّجَهُ بدعوته الإنسانيّة إلى تحرير العقول من وطأة الظلام وإخراجها إلى عالم النور. فالتنوير قد يشكل الحالة التي انطلقت فيها فلسفة كانط من عقالها المثالي لتأخذ مكانها ودورها في بوتقة التفاعل مع الإنسان ضمن أكثر عوامل وجوده خطرا وظلما وقهرا. وينطلق كانط على هذا النّحو ليواجه الظلام القروسطي ويدعوَ إلى تحرير الإنسان من ربقة الأوهام والأساطير العمياء التي نُسجت لتدمير العقول ووضع الكائنات الإنسانية في أغلال العبودية والإكراه.

ويمثّل التنوير الكانطي بحيويّته الفكرية وومضاته الفلسفية أجمل ما قدمه كانط للإنسان والإنسانية في مجال التربية والبيداغوجيا، وهو التنوير الذي يعلن فيه ثورته العارمة ضد الجهل المؤسس للعبودية الإنسانية ويبدأ حربه الكونية ضد الجهل والخوف والجُبن والعبودية والإكراه داعيا إلى تحرير الإنسان وتحطيم أوثانه العقلية وأوهامه الأسطورية وتدمير خرافات القصور والعجز وهدم مشاعر الدونية. وعلى هذا النحو تأخذ رسالة كانط التنويرية صورة نداء يدعو فيه الإنسان إلى النّضال من أجل حريته وكرامته المسلوبة، والعودة إلى مرابع الحياة الإنسانية بقوة العقل ووميض الإحساس بالحرية والقدرة على اكتناه العالم بالعقل والعقلانية.

فالتنوير، كما يراه كانط، حالة ذهنية وقّادة، يدكّ فيها الإنسان جدران الأوهام، ويدمر عبرها أركان الوصاية على العقل بوصفه الجوهر الإنساني في الإنسان. إنها -وفقاً لمنظوره – الوضعية التي يخرج فيها الإنسان من دائرة الخرافات والأوهام، ليحطم كل أشكال العطالة الذهنية والجمود ويكسر أصفاد الوصاية على العقل. وفي هذا كله تأكيد لسيادة العقل الّذي لا سلطان فوق سلطانه؛ ولذا، غالبا ما اقترن مفهوم العقلانية في فلسفة كانط بمفهوم النور أو التنوير حضورا وغيابا. وضمن توجهات هذه المعادلة التنويرية الكانطية، يكون حضور العقل حضوراً للتنوير وغيابه حضوراً للجهل والظلام. وإنّه لمن المعروف من النّاحية التّاريخيّة أن حضور العقل والعقلانية كان في أصل كل حضارة وتقدّم، إذ كان العقل، وما ينتجه من حكمة وعلم وبرهان، هو أداة الإنسان لفهم الكون والإفادة الواعية من الطبيعة؛ بما يحقق الغايات الإنسانية النبيلة. فالعقلانية التنويرية هي التي منحت الإنسان القدرة على التحرر من غوائل الطبيعة والانتصار على كل أشكال الضعف والقصور لبناء الحضارة الإنسانيّة[1].

لقد أطلق المؤرخون على العصر الوسيط في الغرب عصر الظلام وأحيانا عصر الظلمات لأنه العصر الذي هزم فيه العقل وانتصرت الخرافات والأوهام التيولوجيّة من مختلف الاتّجاهات. ثم جاء عصر الأنوار في القرن الثامن عشر ليسجل العقل الغربي انتصاره الكبير على الأساطير والخرافات والأوهام، فانتصر الإنسان الغربي على الوهم وتأكّدت النّزعة الإنسانية، فتشكلت الحضارة على ركائز العلم والمعرفة، وأصبح الإنسان هو السيد المطاع في الكون، إذ أخضع الطبيعة لمقولات العقل والعلم، وشيّد ممالكه الحضارية علما ومعرفة وقوة وأنسنة.

وعندما نعكف ملياً على تأمّل الأحداث في القرن الثامن عشر، ولاسيما عصر التنوير تحديدا، يمكن أن نرى جليّا الكيفية التي انطلق بها العقل ليحطم أصفاد العبودية، وليُعدّ العالم الغربي لأعظم حضارة عرفتها الإنسانية في العصور الحديثة. هذا التاريخ -بما ينطوي عليه من أحداث وفعاليات وآليات اشتغال-يُطلعنا على الطّريقة التي تنتصر بها الحضارة وينبثق فيها النور من قلب الظلام. كما يعلّمنا أسباب التقدم والازدهار، ويعلّمنا أيضا أن غياب العقل يرمز إلى غياب الحرية، وأن غياب الحرية يعني موتا شاملا لكلّ ما يبعث الحياة في قيم الحق والعدل والخير والجمال.

ومن خضمّ هذا العصر يطل علينا الفيلسوف الألماني كانط حاملا مشعل التنوير والعقلانية النقدية مشفوعا بإيمانه المطلق بقدرة العقل الإنساني على تبديد الظلام وهزم الأوهام وتحطيم الأصنام الفكرية القائمة. وقد توج مشروعه التنويري وأخصبه بالنزعة الأخلاقية الغائية ترسيخا للفضيلة في الحركة الحضارية لمستقبل المجتمعات الإنسانية. واستطاع كانط أن يغدو بفضل جهوده الفكرية العبقرية في هذا الميدان رمزا للنقد ومنارة للتنوير في عصر التنوير. واستطاع كانط بتأثيره الكبير أن يصوغ شعار اعصر التنوير بقوله المشهور: أيها الإنسان أعمل عقلك “كن شجاعا واستخدم عقلك بنفسك! “. أيها الإنسان احمل معولك وحطم به سُجف الظلام لتجعل الكون من حولك منيرا مستنيرا …. أيها الإنسان أعمل عقلك واستخدمه بشجاعة، فأنت به قادر على تحطيم الأوثان والأصنام.

2- مفهوم التنوير:

يعد التنوير مفهوما مركزيا في الفلسفة الكانطية، وقد لا نبالغ في القول إن فلسفة كانط تتميز بوصفها فلسفة تنويرية في معظم تجلياتها. ومن يتأمل مقوّمات هذه الفلسفة يجدْ بوضوح تامّ أن التنوير الكانطي يستند إلى أربع ركائز هي: العقل والعقلانية، والنقد بنزعته النقدية، والحرية بطبيعتها الفطرية، والثورة المنفتحة على مظاهر الحياة والوجود، وهذه هي مفردات التنوير في الفلسفة الكانطية. حتى إنّنا لو نزعنا من فلسفته أيا من هذه المفاهيم الأربعة لسقطت وصارت ركاما هامدا لا حياة فيه. وهنا يمكننا القول، بناء على مفاهيم التنوير الأربعة، إنّ فلسفة كانط فلسفة تنويرية في مبتدئها ومنتهاها، في مجملها وتمامها. فلا يستقيم مفهوم التنوير في أي توجه فكري ما لم يشتمل على ركائزه المتمثلة في العقل والنقد والحرية والثورة. إذ لا يمكن أن نتحدث عن تنوير لا يكون عقلانيا وثوريا ونقديا وحرا في آن معا.

وقد أجمع النقاد على أن فلسفة كانط إبحار عقلي مستمرّ، وحركة نقدية هادرة بالحرية والإيمان بالنقد كصورة حيّة للوجود الإنساني الفاعل تاريخيا. ولا يمكننا أن نهمل ضمن هذه المرتكزات الغائية الأخلاقية التي وضعها كانط في أعلى مرتبة من مراتب السمو الأخلاقي للإنسان.

ومن يتمّعن منهجيّا في فلسفة كانط وأعماله المتعاقبة سيجدها على صورة لوحة عقلية نقدية أخلاقية مضاءة بوهج التنوير المستمر. وعلى هذه الصورة تكللت أعماله بمفاهيم النقد والعقل والأخلاق والحرية بدءا من نقد العقل المحض مرورا بنقد العقل العملي ونقد ملكة الحكم وميتافيزيقيا الأخلاق والسلام الدائم وفي مقالته الشهيرة “ما هو التنوير؟”. وباختصار تشكل فلسفة كانط فيضا تنويريا بكل المعاني وبكل المقاييس حتى إنّه لُقّب بفيلسوف النقد العقل والعقلانية تارة، وبفيلسوف الواجب تارة أخرى، وقد حلق في فضاء الفكر التنويري، حتى سُمّي برائد التنوير الأول في القرن الثامن عشر متقدما بذلك على معاصريه ونظرائه أمثال فولتير وجان جاك روسو وديفيد هيوم ومونتسكيو وبوفون ودنيس ديدرو.

وكان “الهدف الرئيسي الذي سعى عصر التنوير إلى تحقيقه هو وضع “فلسفة جماهيرية “تكون بديلا لفلسفة الطبقة الأرستقراطيّة المحافظة، وتهيئة الأذهان لتغيير الأنظمة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي باتت لا تتلاءم مع روح العصر، وكان محورها الأساسي هو فكرة التقدم الإنساني الذي ينبثق من قدرة العقل البشري على السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان والمجتمع البشري” [2]. وكان “من نتائج عصر التنوير احترام العقل ومناهضة التفكير الميتافيزيقي، انطلاقا من أن العقل البشري هو المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة”[3].

3- ما التنوير؟

يأخذنا البحث في مفهوم التنوير إلى القرن الثامن عشر، ويضعنا على مشارف الضواحي الباريسية التي شكلت معقلا حيويا لعصر التنوير (Age of Enlightenment) (Époque de la lumieres)[4] وحركته الفطرية. فالزمن هو القرن الثامن عشر، والمكان هو باريس، والحركة هي حركة التنوير، ومن أبرز روادها

ديكارت، و كانط، وهوبز، وسبينوزا، ومونتسكيو، وفولتير، ورسو ،وهيوم، وديدرو، وجون لوك، وهم يشكلون تخاصبا فكريا تواشج فيه الأدب مع الفلسفة، وتخضبت الفلسفة بالعلوم التجريبية، وتكاملت مختلف فروع الفكر والفلسفة والأدب في إنتاج هذا العصر الذي سقطت فيه سلطة الكنيسة البطرياركية، وتقوضت أركان الثقافة الدينية القائمة على الأوهام والأساطير. ولم يكن لكانط، فيلسوف العقل والنقد، أن يتخلف عن ركب هذا العصر، بل تسنم ذروته واعتلى مجده وأضاءه بقبسه، وذلك إلى حدّ ارتباط اسم كانط بالتنوير، فأصبح رمزا من رموزه ورائدا من كبار رواده. وقد تجلت أعماله متلوّنة بفكر التّنوير الّذي يقوم على أركان العقلانية والنقد والإيمان المطلق بالحرية.

ومع أن معظم الباحثين يركزون، في تقفي مفهوم التنوير في الفلسفة الكانطية، على مقالته المشهورة “ما التنوير؟”(Was ist Aufklärung?)[5]، التي نشرت في مجلة برلين الشهيرة (Berlinische Monatsschrift) في عام 1984، فإن الحقيقة أن هذه المقالة لم تكن إلا قبسا من توهجات إبداعاته التنويرية، وقد لا نبالغ، كما أسلفنا، إذا وصفنا فلسفته بالفلسفة التنويرية، لأن كل ما جاء به كانط يقع في دائرة التنوير العقلي بأركانه الأربعة آنفة الذكر التي تتكامل في توليد أرقى فلسفة تنويرية وأعظمها في التاريخ الحديث.

وتأتي مقالة كانط: “ما التنوير؟” (What is enlightenment) [6]إجابة مقنعة عن سؤال طرحه يوهان فريدريك تسولنر Johann Friedrich Zöllner في مجلة برلين ذائعة الصيت في عدد ديسمبر 1783، وقد جاء سؤاله في سياق موضوع دافع فيه عن الزواج الديني الكنسي. وكان تسولنز يريد إثارة حفيظة المدافعين عن التنوير ناعتا إياهم بأقبح العبارات والألفاظ. وهذا هو السبب الذي جعل كانط ينبري للردّ على تسولنز في مقاله هذا.

يتناول كانط في مقالته هذه مفهوم التنوير، ويتوسّع في وصف معالمه وتحديد سماته ويرسم لنا تكويناته الهندسية بمقياس الواقع الاجتماعي القائم في عصره. ويخالف كانط فلسفته العميقة المتعالية وأسلوبه المعقّد، فيتبسّط في أسلوب كتابته كي يكون في متناول عامة الناس وبسطائهم، داعيا إياهم إلى التحرر من ربقة الأفكار الكنسية الظلامية السائدة في عصره ورفض كل أشكال الظلم والعبودية والإكراه من منطلق الإيمان بالعقل والقدرة على صنع المصير.

يبدأ كانط رسالته بتعريف التنوير بقوله الشهير: “إن بلوغ الأنوار هو خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه، والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد الغير. وإن المرء نفسه مسؤول عن حالة القصور هذه عندما يكون السبب في ذلك ليس نقصا في العقل، بل نقصا في الحزم والشجاعة في استعماله دون إرشاد الغير. تجرّأ على أن تعرف! كن جريئا في استعمال عقلك أنت! ذاك شعار الأنوار[7]. وقد وجّه كانط نداءه التنويري داعيا الناس – عامة الناس – إلى كسر طوق الوصاية والانطلاق إلى رحاب الحرية قائلاً لهم: أيها الناس استخدموا عقولكم! لتكن لكم الجرأة على استخدامها، لقد زودكم الله بنعمة العقل كي تستخدموه لا لكي تلغوه، أيها النّاس لا تستسلموا للكسل والجبن والخوف، لا تسلسوا القياد لأوصيائكم وسادتكم الموهومين، ولا تقبلوا شيئا قبل إخضاعه لعمل العقل وقضاء التفكير وقوة التأمل النقدي وملكة البحث والنظر([8]).

ويتّضح، في هذا المقام، أنّ كانط يفكك معنى التنوير ويقدمه في صورة شديدة الوضوح وضمن رؤية لا يكتنفها الغموض. فالتنوير يتضاد كليا مع مفهوم العبودية والقصور والإحساس بالضعف والعجز والاستسلام، وهي أركان الثقافة الظلامية المدمرة للعقل والإنسان.

ويمضي كانط في تحديد مسارات هذا التنوير مستكشفا أغواره وتجاويفه ضمن تصور تفكيكي يضعه في وسط الضياء، فيقول كاشفا عن سببين رئيسين للسقوط في الظلام: “إن الخمول والجبن هما السببان اللذان يفسران وجود عدد كبير من الناس قد حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من قيادة غريبة [عنهم]، لكنهم ظلوا قصّرا طوال حياتهم عن رضى منهم، حتى ليسهل على غيرهم فرض الوصاية عليهم. وما أسهل أن يبقى المرء قاصراً. فإذا كان لدي كتاب يحتل عندي مكان الفكر، وقائد يعوض الوعي فيّ، وطبيب يقرر لي برنامج تغذيتي، الخ… فلا حاجة لي في أن أحمّل نفسي عناء [البحث]، ولا حاجة لي في أن أفكر ما دمت قادرا على دفع الثمن لكي يقبل الآخرون على هذه المشقة المملة[9].

ويصف لنا كانط كيف يؤدّي الأوصياء – المنتمون إلى الطبقة الاجتماعية التي تهيمن وتسود – ولا سيّما طبقة الكهان والملاك والحكام والسياسيين المتنفذين، دورهم في تدمير الوعي ونشر الجهل وإحكام السيطرة على العقول كي يبقى التابعون لهم في حظائر العبودية والإكراه كالأنعام لا يحركون ساكنا، فيقول:

“إن الأغلبية الكبيرة من الناس [بما في ذلك الجنس اللطيف إجمالا] تعتبر تلك الخطوة نحو الرشد عظيمة الخطر، فضلا عن أنها أمر مرهق. ويساعدهم على القبول بحالة القصور هذه، أولئك الأوصياء الذين آلوا على أنفسهم ممارسة سلطة لا تطال على الإنسانية. فبعد أن أطبقوا [سجن] البلاهة على قطعانهم وعملوا على مراقبة هذه المخلوقات الهادئة مراقبة دقيقة، حتى لا تسمح لنفسها بالمجاسرة على أدنى خطوة خارج الحقل الذي حشرت فيه، أظهروا لها الخطر الذي يهددها إن هي غامرت بالخروج وحدها”[10].

ويقرر كانط أن الشعب قاصر يعيش تحت نير الوصاية، وعقله مستلب من قبل الأوصياء. الذين يمارسون كل أشكال القمع ضد العقل والحريات المدنية، ويفرضون نمطا من العبودية الذهنية والعقلية على أتباعهم. وقد كان حَريّا بهؤلاء أن يقوموا بتنوير الشعب وترقيته نحو الأنوار، ولكنهم على العكس من ذلك تماما”يخضعون الشعب ويقيدونه، يخضعونه لتقنية التدجين والاستعباد.”([11]). وبعد أن يدفع الأوصياء بقطيعهم إلى هذه الدرجة من الغباء، يحتاطون بعناية كي لا تجرؤ هذه المخلوقات الضعيفة على أن تخطو خطوة واحدة للخروج من الإسطبل الذي حجزوها داخله، وهكذا فإنهم يطلعونها على الخطر التي يتهددها إن هي حاولت المغامرة وحدها خارج الإسطبل. لكن هذا الخطر في الحقيقة ليس كبيرا إلى هذا الحد، لأنها ستتعلم المشي في النهاية”([12]).

وهنا ينبري كانط ليؤكد للمقهورين المصابين بداء الطاعة، والمدجنين بأسوار القهر والعبودية، أنهم قادرون على كسر طوق العبودية والجمود إن هم أرادوا فعلا أن يكونوا أحرارا، وإن هم اتخذوا قرارهم في إعادة الاعتبار لعقولهم وآمنوا بالحرية كمبدأ للكينونة الإنسانيّة والوجود الأخلاقي. ولا يتردّد كانط عن دعوتهم لممارسة الحرية العقلية والاعتماد على ما أودعه الله فيهم من قدرة على تقرير مصيرهم الحرّ والخروج إلى عالم الحرية والإحساس النبيل بحريتهم وإنسانيتهم. لقد كان يصرخ دائما بصوته المدوي: أيها الناس استخدموا عقولكم، مارسوا حريتكم، حطموا أغلال الوصاية، تشجعوا وبادروا وانطلقوا إلى رحاب الحرية والعقلانية، فأنتم أهل لذلك والطّبيعة قد منحتكم هذا الحق الأبدي في امتلاك حريتكم وإنسانيتكم.. وقد بيّن لهؤلاء الناس جميعا أنهم قد يتعثرون في البداية، ولكنهم سيتعلمون كيف يسدّدون خطاهم الحرة في عالم لا يكون فيها الإنسان إنسانا ما لم يتحمل مسؤولية الحرية والتفكير العقلاني. ومع ذلك يؤكد كانط صعوبة الانطلاق على دروب الحرية لأنّ الناس الأتباع قد اعتادوا على تجرع كأس الذل وغرقوا في أوحال العبودية واستسلموا لجلاّديهم وفقدوا إحساسهم الكريم بالحرية والاستقلال، وذلك كله تحت تأثير الضربات الموجعة لأوصيائهم الّذين نصّبوا أنفسهم عليهم بغير وجه حقّ.

ويرى كانط أن الخروج من أسر الوصاية ووضعية الاغتراب المفروضة على الشعب يحمل في ثناياه تحديات كثيرة ومصيرية. ولا يكون الحل إلا شموليا يتحرك بقوة الجماهير وتنظيمهم، إذ أنه “لمن العسير على أي شخص بمفرده الإفلات من حالة القصور التي كادت أن تصبح طبيعية فيه، إذ صار يرتاح إليها، غير قادر في هذه الفترة على استخدام فكره الخاص، وقد حرم من فرصة المحاولة. فالمؤسسات والصيغ [الجامدة]، أي تلك الآلات المختصة باستعمال العقل، أو بتعبير أدق، باستعمال سيئ للمواهب الطبيعية هي الجلاجل التي علقت على أرجل القاصرين، في حالة القصور التي ما زالت قائمة. وحتى إذا تخلص أحدهم من هذه الجلاجل فهو لا يستطيع القيام إلا بقفزة غير واثقة من فوق أصغر الأخاديد، لأنه لم يتعود بعد على تحريك ساقيه بحرية. لذلك فإن قلة من الناس توصلت من خلال إعمال ذهنهم الخاص إلى الانعتاق من حالة القصور والقدرة على السير بخطوة ثابتة[13] .

وهذه الصورة التي يقدمها كانط حول طبيعة القصور العقلي كنتيجة للوصاية ما زالت حالة قائمة في كل المجتمعات العبودية، وهي حالة راسخة في مجتمعاتنا التي تستسلم فيها غالبية الناس إلى نسق من الأفكار والتصورات العبودية التي تمنعهم من الانطلاق على دروب الحرية. فالاستمرار في قمع العقل ومنع التفكير وتكريس حالة القصور يولّد في الإنسان سلوكا عبوديا، ويرسّخ فيه سيكولوجية الطاعة والإذعان والإحساس بالقصور وفقدان القيمة الذاتية أمام الأوصياء الّذين يمارسون دورهم القمعي بصورة شعورية ولاشعورية، رمزية مباشرة وغير مباشرة، ضمن سلسلة من الأفاعيل والممارسات الذهنية والدوغماتية التي تؤدي في النهاية إلى إسقاط كل مظاهر القدرة على التأمل والتفكير عند الإنسان، فيتحول إلى مجرد عبد قاصر يغمره الإحساس بالضعف والقصور والمهانة. فالعادة، كما يقول أرسطو، طبيعة ثانية. ومن اعتاد العزوف عن التفكير فإن القصور العقلي سيصبح متلازمة تسم وجوده وتدفعه إلى تكثيف مستمر لشعور الضعف والقصور والخمول والكسل العقلي إلى الدرجة التي يفقد فيها الإنسان أنبل ما وهبته إياه الطّبيعة أي كرامة العقل والتفكير، وهي مزايا وجوده الآدمي.

ويستفيض كانط في توصيف زمن الوصاية على العقل ويحدد المنهجية التي يعتمدها الأوصياء في تعطيله ومنعه من الانطلاق كي لا يشكل قوة معرفية مضادة للعبودية والإكراه، أو كي لا يشكل خطرا يهدد سطوة الأوصياء ويقوض سلطتهم المطلقة، فيقول واصفا واقع الحال في زمنه: “إني أسمع الآن من كل صوب هذا النداء: لا تفكر! فالضابط يقول: لا تفكر، بل قم بالمناورات!» موظف المالية يقول: «لا تفكر بل ادفع!». والكاهن يقول: لا تفكر، بل آمن!»[14]. (ولا يوجد في العالم إلا سيد واحد[15]، يقول: فكر قدر ما تشاء وفي كل ما تشاء، إنما أطع!»)[16]. وقد أدى فعل الطاعة العمياء وممارستها المستمرة من قبل الناس دوره في تدمير العقول وإشاعة الأوهام وترسيخ العبودية وتكريس الجهل الذي يشكل قوة الأوصياء في السيطرة على عقول البشر ومصدر هيمنتهم ونفوذهم.

وإذا كانت الطاعة المطلقة منبت الجهل، وفيها يكمن مقتل العقل، فإن الحرية تشكل المطلب الأساسي لكل فعل تنويري. ومن منطلق الأهمية القصوى التي يسبغها على للحرية، ما انفك كانط ينادي بها ويدعو إليها في السّرّ والعلن بوصفها النقطة التي يتحرك فيها فعل التنوير. فالعقل الإنساني يحتاج إلى مناخ الحرية كي يكون قادرا على ممارسة دوره المعرفي والقيام بفعله التنويري. وقد أهاب بالناس أن ينطلقوا نحو الحرية، فأطلق صرخته المدوية التي ما زالت تهدر في كل زمن عبودي “أيها الإنسان أعمل عقلك “، وأصبحت صرخته هذه شعارا لعصر التنوير ،وما زالت تدوي في كل واد مظلم شعارا للحرية ورمزا للتنوير.

ويقول كانط في هذا السّياق حول مطلب الحرية محددا منهجيته وصيغتها المطلوبة: “يجب أن يكون الاستعمال العمومي للعقل دائما حرا، وهو وحده قادر على نشر الأنوار بين الناس، وقد يكون الاستعمال الخاصّ في العديد من الحالات محدودا بشكل صارم، إلاّ أنّ ذلك لا يعوق تقدم الأنوار. وأقصد بالاستعمال العمومي من قبل المرء لعقله هو، أنه يستعمل عقله بوصفه عالما أمام الجمهور بأكمله الذي هو عالم القراء. وأسمى استعمالا خاصا ذلك الاستعمال للعقل، المسموح به للمرء في ممارسة المسؤولية أو الوظيفة التي أسندت إليه بوصفه مواطنا”[17].

وعلى هذه الصورة التي يقدمها كانط تأخذ الحرية مسارا واضحا، وتسير على هدي ضوابط محددة، وهذا يعني أنّ الحرية التي ينادي بها كانط ليست حرية فجة عمياء منفلتة من عقالها بل هي حرية تتحرك ضمن ضوابط التنوير وفي مسار الغايات الإنسانية للمجتمع. فالحرية هنا ليست نوعا من الفوضى بل هي حرية الرأي والفكر التي تسعى إلى الارتقاء بالعقل والمجتمع وترسيخ الطاقة التنويرية فيه. ويضرب كانط أمثلة حية للتّمييز ما بين الحرية الوظيفية والحرية المتعلقة بالشأن العام كي لا تدبّ الفوضى، وينعدم الأمن، وتسقط الضوابط الاجتماعية للحياة، فالحرية هي فعل منضبط هادئ وهادف وأخلاقي، وهذه الحرية لا تكون إلا بمدى قدرتها على تطوير الوعي وترسيخ التنوير بوصفه غاية اجتماعية.

ويقول كانط في شروط التمييز بين الحرية والفوضى: “وهكذا يكون من الخطر الشديد أن يسعى ضابط تلقى أمرا من رئيسه إلى المماحكة بصوت عال أثناء الخدمة في شرعية هذا الأمر أو فائدته؛ وإنما عليه أن يطيع” [18]. ولكن ليس من المشروع أن يمنع، بصفته عالما، من إبداء ملاحظات حول الأخطاء المرتكبة في شن الحرب، ومن عرضها على جمهوره ليحكم في شأنها. وليس بوسع المواطن الامتناع عن تسديد الضرائب التي هو مدين بها، بل إن نقدا لاذعا لهذه الضرائب، إن كان عليه أن يدفعها، يمكن حتى معاقبته بوصفه فضيحة (من شأنها أن تسبب حالات من العصيان المدني)”[19]. وهذا يعني أن الحرية الكانطية لا تعني رفض الامتثال إلى الضوابط الاجتماعية الضرورية للحياة مثل طاعة ضابط الشرطة، وخضوع الموظف لتعاليم المؤسسة وأوامر رؤسائه، لأن الحرية في هذا المجال تعني الفوضى والعدمية الاجتماعية. ولذلك فإنّ الحرية التي ينادي بها كانط ليست فوضوبة تسعى إلى تقويض المجتمع بل تسعى إلى تطويره وتنميته ضمن ضوابط الحرية الإنسانية القائمة على مبدأ التنوير والتحرير.

ويتابع كانط تناوله لشروط الحرية التنويرية التي لا تتناقض مع ما يقتضيه الواجب ومتطلبات المواطنة، فيقول:” إن الشخص نفسه لا يتصرف ضد واجبه كمواطن إن عبر علنا، بوصفه عالما، عن أفكاره المناهضة لقبح هذه الضرائب، وحتى لافتقارها إلى المشروعية. والكاهن أيضا ملزم بالتوجه إلى تلاميذه في التعليم الديني وإلى رعيته وفق شعار الكنيسة التي يخدمها، لأنه قد عين بموجب هذا الشرط. ولكنّه، بصفته عالما، له كامل الحرية، بل ويمتلك الأهلية في أن يبلغ الجمهور كل أفكاره حول عيوب هذا الشعار -بعد التروي فيها ومتابعتها عن حسن نية، وأن يبلغه أيضا مقترحاته بهدف تنظيم أفضل للشؤون الدينية والكنسية[20].

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن مفهوم التنوير الكانطي يختلف عن مفهوم التنوير السائد في زمنه فيما يتعلق بالدين، فالحركة التنويرية بصورة عامة كانت حركة مضادة لكل أشكال الفكر الديني ومختلف المؤسسات الدينية القائمة وكان الصراع مستعرا وحادّا بين الكنيسة ورواد التنوير. وعلى خلاف هذه الصورة كان التنوير الكانطي مسالما في علاقته بالدين، إذ لم يكن مفهوم التنوير عند كانط مضادا للإيمان الديني بل كان نوعا من التنوير المتسامح مع الإيمان والمتصالح مع العقائد الإيمانية، وقد عرف بعبارته المشهورة التي يحدد فيها طبيعة العلاقة بين فلسفته والإيمان، إذ يقول في كتابه الدين في حدود العقل: “يبدأ الإيمان عندنا على أطراف حدود العقل، ويقصد أن للعقل مجاله الذي يقع تحت سلطته وما يفوق قدرته يكون حقلا للإيمان. فالإيمان لا ينبع من مطالب العقل بل من مطالب الروح الحدسية الإيمانية. وقد شهر عنه قوله المعروف: “لقد أوقفت العقل عند حدوده كي أتيح المجال للإيمان”. وهذه المصالحة بين العقل والإيمان لا تعني أبدا المصالحة مع الكنيسة بوصفها مؤسسات دينية، لأن كانط قد رفض بالمطلق المؤسسات الدينية ورفض طقوسها ورجالها، ورفض أيضا الخضوع لتعاليمها الدوغماتية. كما أنه دعا الناس إلى رفض وصاية رجال الدين ورفض تعاليمهم وأساطيرهم التي تقوم بتدمير العقل وملكة التفكير عند الإنسان وتهدف إلى وضع الإنسان في دائرة الجهل والظلام كي يتم وضعه في قفص العبودية وفي دائرة الاغتراب.

4- هل نعيش عصر التنوير؟

يتساءل كانط، بعد أن يحدد تصوره للتنوير، عن وضعية التنوير في زمنه، فيقول: وإذا سُئلنا بعد كل هذا: “هل نحن نعيش الآن قرناً مستنيرا؟” فإن إجابتي تكون على النحو التالي: “لا. لأننا في الواقع [نعيش] قرناً يسير نحو الاستنارة”، فنحن لا نزال في مرحلة تفتقر إلى عناصر كثيرة أخرى تحمل الناس إلى حالة تمكنهم من ممارسة تفكيرهم الخاص في الأمور الدينية بإحكام وقدرة ودون نجدة الآخرين”[21].

ويتابع كانط قوله: “ومع ذلك، نملك دلائل أكيدة على أن أمامهم (أي الناس) اليوم مجالا مفتوحا لكي يعملوا في هذا الاتجاه، وأن العوائق التي تحول دون تعميم الأنوار أو الخروج من حالة القصور التي هم مسؤولون عنها تتقلص شيئا فشيئا. ومن هذه الزاوية، فإن هذا العصر هو عصر يسير نحو الأنوار”[22].

 ويدلّ هذا الموقف على أن كانط كان متفائلا جدا بحركة التنوير التي أنتجها عصره، وكيف لا يكون هذا التفاؤل حاضرا في وعي الفيلسوف وهو يرى بأمّ عينيه كيف بدأ التفكير العقلاني يتغلغل في وعي المسحوقين ويتحرك في عقولهم وينير ظلمات قلوبهم؟ وقد شاهد كيف يمضي رجال الفكر والثقافة في عصره قُدُما في مجال نشر الفكر التنويري ومهاجمة الأنساق الفكرية الظلامية؟ وقد كان يقدّر عاليا جهود الملك فريدريك الأكبر الذي وفّر أجواء الحرية في ألمانيا. وما كان يحدث في فرنسا كان يبشر بتحطيم أركان الظلام الكنسي والإقطاعي الذي كان سائدا في عصره. وهذا الإيمان بمستقبل التنوير لا ينفصل أبدا عن الروح المتفائلة لفلسفته التي ترى بأن الإنسانية تتحرك بقوة هائلة نحو تحقيق كمالها وسلامها، وما التنوير إلا خطوة من خطوات السير في هذا الاتجاه نحو الفضيلة القائمة على العقلانية والحرية والكرامة الإنسانية.

ولا يخفي كانط إعجابه الشديد بالسياسية التنويرية لفريديريك الثاني، ولا يتردّد في المبالغة في مدحه. وهو يستحق ذلك تماما، فيقول مؤكدا على تفاؤله العظيم بالتنوير وحركته المستقبلية:”إن هذا القرن هو قرن الاستنارة وقرن [الملك] فريدريك. فالأمير (= فريديرك) الذي لا يتأفف عن التصريح بأن من واجبه أن لا يأمر بشيء في الأمور الدينية، وأنه يترك للناس كامل الحرية في ذلك، والذي يَعرِض عن لفظة التسامح المتعالية، يبقى هو نفسه مستنيراً: فهو يستحق، إذن، إجلال معاصريه واعتراف الأجيال المقبلة [بجميله]، لأنه أول من أخرج الجنس البشري من حالة القصور، من وجهة نظر إدارية على الأقل، وترك لكل [شخص] الحرية في استعمال عقله الخاص في أمور العقيدة[23].

ومما لا شك فيه أن كانط يلمح بقوة إلى دور الحاكم المستنير في دفع عجلة التنوير والانتقال بالمجتمع إلى أفضل مستويات كماله الإنساني، ويرى أن تفاعل الفكر التنويري مع السّياسات التنويرية أمر مهم جدا في حركة تطور المجتمعات الإنسانية نحو غايات اكتمالها وازدهارها.

5- التربية على التنوير:

لا يمكن للتربية أن تنفصل عن التنوير في فلسفة كانط، كما لا يمكن للتربية أن تكون إلا تربية تنويرية في مشروعه التربوي. وقد أخذ كانط بعين الاعتبار دائما أن تجسيد فلسفته لا يمكن أن يتحقق إلا بالفعل البيداغوجيّ الذي يضفي الحياة على الأفكار الفلسفية المجردة. وهنا أيضا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن التنوير يمثل بالنّسبة إلى كانط نسقا من القيم الأخلاقية الحيويّة التي لا تكتمل إلا بالتربية الأخلاقية على نحو كلي.

فالتنوير لن يكون تنويرا حقيقيا ما لم يترسّخ في الأذهان ويصبح قوة فكرية تحرك الناس نحو غاياتهم الإنسانية الحرة وتحررهم من قيود الوصاية وتخرجهم من دائرة الانغلاق الذهني والإحساس بالعجز والقصور.

وتهدف التّربية على التّنوير إلى إنشاء الإنسان الحرّ العاقل المشدود إلى غاية، وتزويده بملكة النّقد استنادا إلى مرتكزات الفضيلة الأخلاقية. وعلى هذا النحو تسعى التربية على التنوير إلى أن تكون تربية على العقلانية وتربية على الحرية وتربية على الإحساس بالقيمة الأخلاقية الغائية للإنسان. وتحتاج مثل هذه التربية التنويرية إلى طاقة تربوية هائلة يجب أن تبدأ من مرحلة الطفولة حتى مرحلة الكهولة. وهي تربية من أجل الإنسان ضمن مسارات الغائية الإنسانية.

 وقد أعلن كانط بصراحة وثقة عن وجود تلازم جوهري بين التربية والتنوير ،إذ يقول: وبالفعل، فالأنوار (Einsicht) تتوقف على التربية، كما أن التربية تتوقف بدورها على الأنوار. [24]. ثم يؤكد لاحقا أن التربية على التنوير أمر دونه صعوبات جمة عندما يتعلق الأمر بالتنوير في العصر برمته، يقول: “إرساء الأنوار لدى بعض الذوات هو أمر سهل يكفي البدء به في وقت مبكر بتعويد الأذهان الناشئة على مثل هذا التفكير. ولكن إنارة عصر من العصور تتطلب وقتا طويلا جدا، إذ توجد عوائق كثيرة تمنع هذا النمط من جهة وتجعله أكثر صعوبة من جهة أخرى”[25].

فالتربية العقلانية الحرة، بدءا من مرحلة الطفولة، ضرورة تنويرية، وهي بدورتها الزمنية تمهد للتنوير في العصر كلّه. وهنا تبرز منظومات من العوامل الاجتماعية والسياسية التي يفرضها الأوصياء منعا لوضعية التنوير التي تشكل خطرا على وجودهم في مركز الهيمنة والسيطرة.

ومن يتأملْ في دروس كانط سيجد أنه اعتمد كليا على منطق التنوير، فعمل على تفعيل طاقات العقل بين طلابه وأشياعه: وهذا ما اتبعه في إلقاء محاضراته التنويرية، إذ كان يرفض التلقين رفضا قطعيا ويمنع طلابه من تدوين محاضراته، وكان يردد دائما بصيغة الأمر والواجب قوله لطلابه: “فكر لنفسك وأبحث بنفسك، قف على قدميك. إني لا أعلمك فلسفة الفلاسفة، لكني أريد أن أعلمك كيف تتفلسف“. وهو عين المنهج التنويري الذي يتجلى في بيداغوجيا كانط العقلانية.

وقد لمس رونيه أوبير (René Hubert) [26] هذه الروح التربوية التنويرية في فلسفة كانط وأدرك معانيها وتوجهاتها، فقال: “إن التربية ارتبطت بالتنوير عند كانط، لأن بلوغ الإنسان لحظة الأنوار لا يتوقف على إرادته فحسب، بل إن هذه النتيجة تتوقف على نوعية التربية التي تلقاها الإنسان (…) والتربية التي يدعو إليها كانط لا تهتم ولا تتعلق بفرد واحد وإنما تتعلق بتربية الإنسانية جمعاء، لأنه كان يدعو دائما إلى تأسيس نظرية كونية تتضمن أبعادا قيمية إنسانية ]وهذا يعني[ أن التربية التي يدعو إليها كانط أخلاقية بالدرجة الأولى، إنه يؤكد على أن هدف التربية التي يجب أن نقدمها للإنسان ينبغي أن تكون أصيلة للوصول إلى مستوى الحياة الروحية و حفاظه على القيم الإنسانية الكبرى” [27].

ويعني هذا أيضا “أن بلوغ الإنسان لحظة الأنوار الحق أمر لا يتوقف على إرادته الخاصة فحسب، بل إنّه مسار تربوي طويل، والتربية هنا ليست مجهودًا فرديًا خاصًا، ولا تتوجه للفرد وحده، بل يتعلق الأمر بتربية تهم الإنسانية جمعاء[28]. وهذه التربية التنويرية “تتجلى في ضرورة تحرير العقل من كل أنواع القصور التي يعانيها، لهذا يعتبر كانط أن الأنوار ليست لحظة زمانية متجسدة بعينها، ولا هي بعقيدة يتوجب اعتناقها، إنها مسار تربوي طويل لا حدود له، إنه لا يعرف النهاية”[29].

فالتربية التنويرية التي يتطلبها عصر التنوير تحتاج إلى جهود كبيرة جدا والطريق إليها محفوف بالأخطار. وهي “ليست مجرد خطوات بسيطة يكفل اتباعها بلوغ الغاية المرجوة سريعًا، لأن ما تنشده ليس شيئًا سهلاً، إنها سيرورة طويلة تبتغي الوصول إلى لحظة “الأخلاقية” الّتي يتحرّر فيها الإنسان من كل الانفعالات والدوافع الذاتية أولاً، ومن كل السّلط الخارجية ثانيًا، ويصبح حرًا، فلا يخضع لأيّ سلطة عدا سلطة إرادته الطيّبة، إنها سعي إلى الكمال الأخلاقي الذي لا يمكن للأفراد تحقيقه بسهولة ويسر” [30]. وهنا يمكننا استقراء هذا العمق الأخلاقيّ للتربية التنويرية عند كانط، فالأخلاق عنده يجب أن توجّه بصورة مسبّقة مسار التربية التنويرية وتؤطّر حركتها، لأن الأخلاق، بما تنطوي عليه من قيم، تشكل الغاية الكونية التي يتوجّب على النوع الإنساني أن يحقّقها بوصفه نوعا لا بوصفه تراكما لا نهائيا من الأفراد والجماعات. ومن هذا المنطلق، يؤكّد كانط مرارا أن “التربية التنويرية تأخذ مسارها التقدمي عبر الزمن من خلال التفاعل المتضاعف بين الأجيال المتلاحقة، إذ يقوم كل جيل “بنقل مكتسباته وإرثه الفكري والفني والعلمي والحضاري إلى الجيل الذي يليه، وهذا الأخير يتلقاه ويضيف إليه مكتسبات جديدة، والأجيال اللاحقة تكون أكثر قدرة على إرساء تربية إنسانية ترمي إلى تقدم وتطور النوع الإنساني كله نحو نموذج الكمال” [31]. وهذا هو المنطلق الأخلاقي والغائي للتريبة التي يريدها كانط أن تكون: تربية تنويرية غائية تسعى إلى تحرير الإنسان والإنسانية من كل الشوائب التي تقف في مسار الكمال الغائي للإنسان.

لقد أفاض كانط في التعريف بالتربية التنويرية في نصوصه الخاصة بالتربية ولا سيّما في كتابه الشهير “في التربية” (On Education)، إذ يظهر هذا الأمر في حديثه المشوّق عن العلاقة بين التربية والترويض. فالإنسان في منحاه التربوي إما أن يروض ويوجه ويعلم آليا، وإما أن ينور تنويرا حقيقيا، ومع أن الترويض يكون في الأصل للكلاب والخيول، فإن الإنسان يمكن أيضا أن يروض، ولكنه يعلن بأن التربية لا تتم بالترويض: فالمهم قبل كل شيء أن يتعلم الأطفال كيف يفكرون([32]). فالترويض قد يكون لحظة أولية في التربية، ولكن المهم هو التربية التي لا تقوم في جوهرها إلا على التنوير هذا التنوير الذي “يعني هنا تمكين الفرد من التفكير العقلاني واستخدام عقله ورفض الوصاية الفكرية، وتمكينه من الإحساس بالحرية في مجال الفكر وفي مجال العمل. وينطوي ذلك العمل على تحصين عقل الطفل ضد الأوهام والديماغوجيات التي يفرضها سدنة العقائد والدوغمائيات المتصلبة.

وغالبا ما يستفيض كانط في تحديد المسار الغائي للتّربية التنويرية، فيرى مثلا “أن مسلسل التطور التاريخي الذي أطلقته الطبيعة لا يعرف النهاية إلا ببلوغ الإنسانية إلى مرحلة الكمال الأخلاقي، وهذا لن يتأتى إلا بانتزاع العقل ذاته من كل أشكال الوصاية الخارجية التي ما زال يقبل البقاء فيها”[33].

لقد مارست الطبيعة وصايتها على الإنسان عبر تاريخ مديد، ففرضت عليه الخضوع لمطالب الغريزة، ولجموح النوازع الطبيعية. ولكنها، استطاعت رغم ذلك، أن تزوّده بالاستعداد الفطري للتفكير والتأمل، وأدى ذلك إلى ولادة العقل الإنساني وتطوره مع تدرجات الزمن “ومع ظهور العقل ارتفعت وصاية الطبيعة عن الإنسان وتركته يتحمل مسؤوليته التي تتجلى في توظيفه للتربية فاعلا تاريخيا في تطوير الإمكانيات العقلية وتمكينه من السيطرة على الضرورة الطبيعية، ومن ثم مكنته في النهاية من القدرة على الاندماج في نسق مجتمعات مدنية يحكمها ضوء العقل والإرادة الحرة الغائية. ومن الواضح تماما أن كانط يعتقد بوجود قوّة سامية خفية – ربما هي القدرة الإلهية – توجه حركة الكون والتاريخ الإنسانيّ نحو الكمال الذي لا يتم إلا بفعل الإنسان وإرادته عبر عملية تربوية ترتفع بالأجيال الصّاعدة إلى مراتب النضج والكمال في دورة الزمان وحركة الأيام.

 يرى كان – في سياق عصره وزمنه – أن التنوير ما زال في بداياته الأولى. وفعلا، فإنّ الطريق مازال، إلى اليوم، طويلا من أجل ترسيخ هذا التنوير الذي لا يتم بسهولة وعفوية، وكان كثيرا ما يصرّح بقوله: إنّنا نعيش عصرًا يتميز بالانضباط والثقافة والحضارة، لكننا لا نعيش عصرًا يتسم بالخلقية والاستنارة، والوصول إلى هذه الغاية أمر محفوف بالمخاطر والصعب. لأن المجتمعات الإنسانية لم تصل في زمنه إلى غاية التنوير، وهذا يعني أنها تعيش مرحلة حرجة يتطلب فيها الفعل التنويري إطلاق العقل وتمكينه من كسر الحصار الذي يمارسه الأوصياء عليه وامتلاك حرية التفكير العمومي. وقد بدا له أن هذا التنوير بدأ يتحقق تدريجيا. ولكن ما تزال تحديات الخوف والقلق والجبن تعيق مسارات التربية التنويرية. ويتصدر هذه العوائقَ الخوفُ من الحرية وغيابُ الإحساس بالقدرة على تحمل المسؤولية التاريخية للعقل والخشية من نتائج الحرية [34].

6- أين نحن العرب من سؤال التنوير:

والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه، في ضوء التنوير الكانطي، هو: أين نحن العرب اليوم من سؤال التنوير؟ وأين نحن من عصر الأنوار؟ وما الدور الذي قام به المفكرون العرب لإخراج العقل العربي والإنسان من دائرة انحباساته الحضارية إلى عالم النور والجمال؟

تنتابنا، في حقيقة الأمر، حالة من الشعور بالأسى عندما تأخذنا المؤشرات الإحصائية العالمية، الموظفة عادة لقياس مدى تقدم الأمم وتحضرها، إلى استحضار مقدار التّخلّف الذي تعيشه أمتنا العربية في مختلف مستويات الحياة المادّية والرمزية. فالمجتمعات العربية تصنف وفقاً لهذه المؤشرات، من بين أكثر المجتمعات الإنسانية تخلفاً وجهلاً وعسكرةً وتسلطاً ودمويةً واستبداداً وغرقاً في مستنقعات الظلام. وتأتي الدّول العربيّة دائما في أدنى سلم التحضر الإنساني من حيث التعليم والإبداع والبحث العلمي والتصنيع والديمقراطية وحقوق الإنسان!

إنها صورة صادمة حقاً، عندما نتأمل في مدى غياب العقل والنقد والتنوير والعقلانية عن العقلية العربية، وفي درجة انحسار العلم وتراجع المعرفة العلمية والنظرة العقلانية إلى الوجود. وتكون هذه الصورة أكثر بشاعة ومأساوية عندما نتأمل في مستوى الانحدار الأخلاقي والقيمي، وفي مستويات انتشار الفساد والرشوة والتسلط والظلم والخرافة والأوهام والتعصب والتسلط والطائفية والحروب الدموية والانقسام، وغياب حقوق الإنسان، وتغييب حقوق المرأة والطفل، إنه عالم متخلف، بنيوي التخلف بامتياز[35].

 وقد بذل المفكرون والباحثون العرب جهدا في الكشف عن عوامل هذا التخلف الأسطوري الذي تعيشه الأمة اليوم، وأجمعت غالبيتهم على أن غياب العقل وتغييبه من أبرز عوامل تخلف هذه الأمة، وأكثرها أهمية وخطورة. وقد بين كثير منهم أن هذا التّخلّف يتم تحت تأثير استبداد سياسي، يقوم على محاصرة العقل والعقلانية؛ بتغييب كل أشكال الحرية والديمقراطية، وإخضاع المواطنين لحالة من الاستبداد الوجودي الشامل.

وفي مواجهة هذه الوضعية المتردية حاول المفكرون والمصلحون العرب، منذ عصر النهضة حتى اليوم، اختراق جدار الظلام الحضاري للأمة، وإزالة العتمة الوجودية التي لحقت بها. ومما يؤسف له أن المساعي التنويرية لهؤلاء المفكرين التنويريين لم تؤت أكلها، كما كان يأمل أصحابها. ويعود هذا الإخفاق إلى جملة من العوامل الموضوعية والتاريخية التي حالت دون نهوض هذه الأمة وتحضرها، كما حالت دون تأسيس الحالة التنويرية العامة في المجتمعات العربية، على غرار الحالة التي شهدتها أوروبا في القرن الثامن عشر. إذ بقي الفكر التنويري – لدى العرب – سجين النّخب، ولم يتحوّل إلى حالة تنويرية جماهيرية فاعلة في العالم العربي.

ومن نتائج هذه الوضعيّة بقاءُ الجماهير العربية تحت سيطرة الغرائز والعواطف والميول البدائية المناوئة بطبيعتها لكل أشكال العقلانية والتنوير. وكانت القوى الظلامية أكثر قدرة على تدمير ركائز التنوير، وحجب أضوائه، ومحاصرة مريديه، وتجريدهم من القدرة على التأثير حضاريا في الحياة والمجتمع.

وبمرور الزمن، وبفعل هذه العزلة التنويرية، تكاثفت في المجتمع عقلية سحرية خرافية ظلامية رسّخت الإيمان بكلّ أشكال الخرافة والأساطير، لتتحول إلى عقلية عمياء يَسِمُها الانصياع والاتِّباع والخضوع والقبول الصاغر لكل النّوازع التقليدية التي تفرضها نصوص وتعاليم مفرغة تماما من جدواها، لا تسندها أدلة أو براهين مقبولة، ولترسِّخ ثقافة جماهيرية استلابية، بنيوية التخلف، تعادي كل توجّه منطقي عقلاني.

ومن الغريب أن هذه الموجات الاغترابية التّسطيحيّة استطاعت أن تجد طريقها إلى فئات الأكاديميين البارعين في حمل الشهادات العلمية العالية وتكديسها. حتى إنك لَتُذْهل عندما تجد أن الجوهر في ثقافة الأكاديميين قد لا يختلف كثيراً عن ثقافة العامة، ولا سيّما في مدى قبولها لمختلف أشكال وأنماط التفكير الخرافي الأسطوري النصي المنغلق على الأصول الذي فرض نفسه في عقولهم كمقدسات غير قابلة للنقد والنقض والتحليل. ويظلّ هذا دليلاً على أن الإنتاج الثقافي التربوي ما زال يعمل بقوة على إنتاج أجيال تُصمّم على الخضوع لشكليات النص، والتناغم مع مستويات عالية من الانصياع التلقائي المبرمج، وإضفاء الطابع القدسي على كل ما تعلموه من خرافات ونصوص وتعاليم وأوهام وأساطير[36].

في مواجهة هذا الواقع الفكري العربي المأزوم المفعم بكل دلالات التخلف ومؤشرات السّقوط، ما زالت فئة واسعة من المثقفين تحمل شعلة التنوير والضياء، وفي قلب هذه العتمة الوجودية التي خيمت على صدر الأمة بدأت الشموع الثقافية المضيئة تتلألأ هنا وهناك، إذ انبرت طائفة كبيرة من المفكرين – من كل الاختصاصات والمشارب العلمية والفكرية – للعمل بصمت وصبر وإيمان وعمق وتُؤَدَةٍ من أجل تشكيل حزمة هائلة من الضوء قادرة على تبديد الظلام الذي تعيشه الأمة [37].

ومما لا شك فيه أن الساحة الفكرية العربية تضمّ عددا كبيرا من المفكرين التنويريين الراغبين في عملية البناء الحضاري للأمة، ولكنّ تفرقهم وتشرذمهم في الأنحاء، كان، وما زال، يضعف مسيرتهم التنويرية، ويقلل من فعلهم في الحضارة والتّاريخ، وهم اليوم في أمس الحاجة إلى تشكيل طليعة رياديّة قادرة على ممارسة الدور الحضاري المنشود في مجالي النقد والتنوير.

نعم، نحن بحاجة إلى صواعق النور والتّنوير لتبديد ظلام التخلّف وكسر جموده وتحطيم تصلّبه، نعم نحن بحاجة إلى “بروموثيوس” عربي جديد على صورة نخبة فكرية قادرة على تحطيم أصنام التخلّف وحمل شعلة الحق والخير والجمال، وتعيد لنا إنسانيتنا المهدورة. نعم، نحن بحاجة إلى نخبة فكرية شابّة جديدة تأتي بنور المحبة والسلام والعقلانية إلى أوطاننا المقهورة. بل كم نحتاج إلى عمالقة من المفكّرين الجدد الحاملين لإرثنا النّيّر، والمواصلين لما بدأه أمثال الجاحظ والمتنبيّ والمعرّي والتّوحيدي وابن عربي وجلال الدين الرومي، وابن خلدون، وابن رشد…كم نحتاج إلى عقول وقلوب عامرة بالحبّ والسلام والبحث عن الحقيقة أمثال غاليلو غاليلي وفولتير وغرامشي ونيوتن وبورديو وجاك لاكان… نحتاج إلى جيل من المفكرين الجدد الذين يملكون القدرة اللاّزمة على تغيير المصير، والانطلاق قدما نحو عالم النور والحياة.

والسؤال الكبير هو: كيف يمكن لأمّة أنهكها التخلّف وأعماها التّخبّط في الظّلام أن تنجب من جديد أمثال هؤلاء العظماء المتنوّرين القادرين على النهوض بالأمة؟ والإجابة عن هذا السؤال تكمن في تاريخ الحضارة الذي يعلّمنا بأنّه يمكن للأمة التي تمضي في رحلة التّحضّر وتنطلق في مسار التّنوير أن تهتدي إلى النور، وتفجره قوةً هائلةً في قلب العتمة ودهاليز الظلام، يمكن للشعوب أن تحوّل الجحيم إلى رياض وجنان، والقحطَ إلى ربيع مزهر، والضعفَ إلى قوة صمّاء، والهزائمَ إلى انتصارات مؤزّرة. وتلك هي حالة الألمان عندما يجيبون عن السّؤال: لماذا بلدكم جميل وعظيم؟ فيقولون: إننا خرجنا من الحرب لنتعلّم كيفية دفن الثّارات، ونجعل من بلادنا وطناً حدوده السماء.. تعلّمنا أن نتجاوز عصر البكاء على الأطلال، وأن نبني فوق أنقاض الحروب، وأن نبدّل الثكنات بناطحات السحاب[38].

ومن أجل هذه الغاية علينا أن نعمل دون توقف على استئصال الشّرور والسلبيات التي تسكن في عالمنا الثقافيّ من تعصب وحقد وكراهية وتغييب للعقل غيرها، وأن نحزم هذه الشرور كلها ونعيدها من جديد من حيث أتت، فنغلق عليها القمقم الّذي كان يحويها. وعلى النقيض من هذا الصندوق الموحش علينا أن نصنع صندوقا شهرزاديا يمتلئ بالأمل والحب والسلام والإيمان بالعقل والمستقبل وعشق العلم والمعرفة، والعمل على أنسنة الوجود والارتقاء بالإنسان إلى مرتبة الإنسانية. علينا أن نطلق هذه الخيرات العظيمة لتملأ الدنيا حبا وسلاما ونورا وحضارة.

في أفق هذا الأمل الكبير بالأنسنة الجديدة نرى بأنّ عددا كبيرا من المثقفين والمفكرين يعملون اليوم بصمت وعمق وهدوء في فضاء جديد واعد من أجل بناء ثقافة جديدة، وهم يمثّلون الأمل والحبّ والسلام، ويعزفون على قيثارة حب حضارية تصدح في أرجاء الدّنيا، ولابدّ لأنغامها الوجودية الرائعة أن تغلب في يوم من الأيام لتملأ الكون حبّا وسلاما وإيمانا بالعقل والإنسان، لا بد لأنغامها أن تطارد شياطين الكراهية، وكلّ الشرور الثقافية التي يبثّها الرّاقصون على إيقاعات الثقافة السّوداء التي تملأ الكون قبحا وشرورا.

نعم. هناك من يقرع أجراس السلام والمحبة في ربوع أوطاننا، وقد تستطيع هذه الأجراس يوما أن توقظ العقل العربي من سباته، فيتفجّرَ عطاءً، وينهض من جديد لينفض عن نفسه غبار الموت ويتطهّر بالنور من أدران الظلام. وستكون المهمّة بلا شكّ صعبة وشاقّة على الأجيال المتعاقبة من المفكّرين والمؤمنين بقدرة الأمة على النهوض، ومع ذلك يحدونا أمل كبير، مستلهمين في ذلك عبارة كانط المأثورة: “علينا أن نعمل وكأن الشيء الذي لا يمكن أن يكون يجب أن يكون “، نعم يجب علينا ألا نستكين وألا نهدأ، وأن نعمل بصمت وقوة من أجل الغاية الحضارية السامية: النهوض والتحضّر إيمانا بالحقّ والخير وإنسانية الإنسان.

وما يبشّر بالأمل اليوم أن نخبا ثقافية متزايدة قد رفعت مشاعلها المضيئة في أعماق العتمة تريد تبديد دياجير الظلام وكسر أسوار الجهل والتخلف والعدمية الثقافية. وهذه النخب تشعل شموع الضياء في ثقافة أثقلت فيها الظلال السوداء وارتسمت بؤسا وقهرا. وقد انتشرت كثير من المواقع الفكرية والثقافية التي قررت خوض هذه المعركة النّبيلة ضد الجهل والتخلف..

7- خاتمة – مشعل التنوير:

الاستنارة والتنوير كلمتان مضيئتان في فكر كانط وازنتان في فلسفته. لقد أراد كانط للتنوير أن يدك ركائز العبودية وأن يحرر عقل الإنسان وروحه سعيا إلى استعادة إنسانيته المستلبة المقهورة.

لقد حظيت أفكار كانط التنويرية بتقدير العالم، ولطالما وُصف بأنه فيلسوف التنوير بحق وامتياز. وإذا كان الفلاسفة الغربيّون قد أشادوا بمملكة كانط التنويرية فإن هذا التقدير قد وجد نظيره في الفلسفة العربية. ويعد عبد الرحمن بدوي من كبار المفكرين العرب الذين أشادوا بعظمة الدور التنويري الّذي اضطلع به كانط في تاريخ الفكر الإنساني، إذ يقول: “أما عن كانط، فمن الواضح أنه كان قمة نزعة التنوير، وبداية انطلاقة جديدة في تاريخ الفكر الفلسفي. لقد آمن بالعقل واستقلاله عن كل سلطة خارجه، وقرر أن العقل الإنساني لا يعترف بقاض آخر غير العقل نفسه.) ولكنه في الوقت نفسه وضع لمقدرة العقل على المعرفة حدودا يجب عليه ألا يتعداها. ومن هنا كان اهتمامه الأكبر ببيان هذه الحدود، حتى يضمن للعقل داخل نطاقها السيادة المطلقةللإنسان، صاحب هذا العقل المطلق الهيمنة في ميدانه، ينبغي عليه أن يسعی لتوطيد سلطان العقل، وأن يحكم العقل في كل ما يصدر عنه من أفعال، وما يستشعره من عواطف وإحساس: أعني في الأخلاق، والسياسة، والدين، وتذوق الجمال”[39]. وتأسيسا على هذه الرؤية رسخ مفهوم الواجب، والأمر المطلق في الأخلاق، وكانت الحرية والاستقلال والسلام الدائم والعدل المطلق في السياسة، والتحرر العقلي الخالص من قيود الرسوم والطقوس في الدين، والمعيار الصارم في تحديد الجميل في علم الجمال و نزعته العقلية النقدية مع تجاوز التوكيدية من ناحية، والشك من ناحية أخرى، فصار عبر كليهما: فإن أكّد، أكّد في حدود التجربة الممكنة وداخل نطاق العمل، وإن شكّ، شكّ فيما يتجاوز هذا النطاق وأبقى على ما هو في داخله. ومنهجه العقليّ الصارم لا يستثني شيئا، اللهم إلا أمرين اقتضاهما العقل العملي، وهما خلود النفس ووجود الله”[40].

وليس لدينا ما هو أبلغ من الخاتمة التي وضعها كانط في نهاية مقاله حول سؤال التنوير، إذ يقول: “لقد ركزتُ اهتمامي في بحثي حول حلول عصر الاستنارة، على ذلك النوع [من الاستنارة] الذي يحرر الناس من حالة القصور التي يبقون هم المسؤولون عليها، ووقفتُ على المسائل الدينية، ذلك لأنه لا مصلحة لحكامنا، في ما يخص الفنون والعلوم، في أن يقوموا بدور الأوصياء. ثم أن حالة القصور هذه [الدينية] التي تناولتُها، هي الأكثر ضرراً والأدهى خزياً”[41].

ويبدو لنا أن في خاتمة كانط إشارة قوية إلى رجال الدين بوصفهم الأوصياء، وهم بذلك يشكلون جند الظلام والعبودية والقهر. وهو يحملهم مسؤولية تدمير العقل والعقلانية وتكبيل عقول الناس بالأوهام وكسر جنوحهم الطبيعي نحو الحرية والكرامة. وفي خاتمته لوم شديد للحكام الذي يؤازرون رجال الدين في فرض الوصاية على عقول الناس، ويرى أن هذه الوصاية ليست في مصلحة البلاد والعباد. وقد آمن بقوة أنه لا خطر على رئيس الدولة الذي يشجع الاستنارة ويسمح لرعاياه باستخدام علني لعقولهم حتى يقدموا للعاَلم ما أنتجوه من أفكار. وهو بذلك يقدم إشادة تاريخية بالملك فريدريك الذي أطلق عنان الحرية في زمنه “[42]. وفي هذا السياق يرى كانط أن حصول الشعب على حرياته المدنية سيكون أمرا فاعلا في تاريخ التقدم الإنساني.

ولا بد لنا، في هذا السياق، من القول إنّ كانط كان متفائلا جدا بقدر التنوير الإنساني وهيمنته في العالم، ومما لا شكّ فيه أن الدول الأوروبية قد قطعت أشواطا واسعة في مسيرة التنوير، وأن الحياة الدستورية قد تحققت. وقد ترافق ذلك بالحضور الكبير لحقوق الإنسان في مختلف صيغها الإنسانية. ومع ذلك، فإن هذا التنوير المنتظر يظلّ بعيد المنال في معظم دول العالم التي ما زالت شعوبها تئن تحت كل أشكال القهر السياسي والاجتماعي والثقافي.

وما أشبه كانط اليوم بالبطل الإغريقي “بروميثيوس” (Προμηθεύς Δεσμώτης)[43] سارق النار من الآلهة ومهديها إلى البشر. وإذا كان برومبثوس قد سرق النار من الآلهة وأودعها البشر، فإنّ كانط لم يتردد في أن يخطف النور ويمنحه لأبناء الإنسانية من أجل هدايتهم وتحريرهم من ريقة العبودية والقهر. وإذا كان الأثينيون قد حملوا الخواتم ليتذكروا على الدوام منقذهم بروميثيوس، فإن كانط يستحق منا جميعا أن نضع رسمه شعارا لتنوير العقول ورمزا للحرية في العالم المعاصر.

مراجع البحث  وهوامشه:


[1] – علي أسعد وطفة، كلمات مضيئة في التنوير، مركز نقد وتنوير، 2 ديسمبر، 2020. https://tanwair.com/archives/8638

[2] – السعدية دنكير، مفهوم التنوير على ضوء مقالة ايمانويل كانط ما التنوير؟ نقد وتنوير، 16 فبراير 2018. https://tanwair.com/archives/4950

[3] – السعدية دنكير، مفهوم التنوير على ضوء مقالة، المرجع السابق.

[4] – يشير مصطلح عصر التنوير (Age of Enlightenment) إلى حركة فكرية أدبية وفلسفية وعلمية عقلانية دافعت عن العقلانية ومبادئها، وقد كرس رواد التنوير أمثال فولتير وجان جاك روسو وديفيد هيوم ومونتسكيو وبوفون ودنيس ديدرو جهودهم الفكرية في عقلنة الوعي ونقد الثقافات الظلامية، وسعت هذه الحركة إلى تحرير المجتمعات الغريبة من سلطة الكنيسة ورجال الدين وتحطيم مختلف التقاليد الثقافية الظلامية القديمة وتفكيك المعتقدات البطرياركية الكنسية التي كانت تسود آنذاك، وتمثلت مهمة أصحاب التنوير في الانتقال بالمجتمع ثقافيا وفكريا من عصر الظلمات إلى عصر النور والتنوير حيث يسود العقل وتنهض العقلانية، وكان شعار أصحاب هذه الحركة أن العقل هو سيد الأحكام وأنه لا سلطة على العقل إلا العقل نفسه. وقد شكلت هذه الحركة أساسا وإطارا للثورة الفرنسية ومن ثم للثورة الأمريكية وحركات التحرر في أمريكا اللاتينية.

[5] – Immanual Kant, Réponse à la question: Qu’est-ce que les Lumières? trad. Jean-François Poirier et Françoise Proust, GF, Flammarion, 1991.

 

[7] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص : تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟ تعريب محمود بن جماعة، دار محمد علي للنشر / ط 1، تونس،. 2005 ، ص 85.

[8]– E.Kant, ,Traite de pedagogie, Hachette, paris,1981 PP. 97-99.

[9] – إيمانويل كانط، ما هو عصر التنوير؟ ترجمة: يوسف الصدِّيق، مجلة الكرمل، العدد 13، 1984. http://www.maaber.org/issue_january09/perenial_ethics1.htm

[10] – إيمانويل كانط، ما هو عصر التنوير؟  المرجع السابق .

[11]محمد بوبكري ، التربية والحرية: من أجل رؤية فلسفية للفعل البيداغوجي، إفريقيا الشرق، مارس 1997، ص33.

[12]محمد بوبكري ، التربية والحرية المرجع السابق، ص33.

[13] – إيمانويل كانط، ما هو عصر التنوير؟، مرجع سابق.

[14] – إيمانويل كانط، ثلاث “نصوص : تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ما التوجه في التفكير؟  مرجع سابق، ص 87.

[15] – المقصود هو «فريدريك الثاني» (1712-1786) الملقب بـ فريدريك الأكبر» وكان نموذج «المستبد المستنير» كما تصوره مفكرو القرن الثامن عشر. وقد تحولت مدينة برلين في عهد فريديريك إلى عاصمة تنويرية تكاد توازي باريس عاصمة الأنوار، وقد شهدت المدينة في زمنه حركة ثقافية تنويرية متوهجة وتحولت إلى موطن للحرية الفكرية فاستقطبت نخبا من كبار الفلاسفة والمفكرين الذين قصدوها من كل الأنحاء. وغالبا ما كان يشار إلى فريدريك الأكبر بوصفه”الملك الفيلسوف” لما عرف عنه من إيمانه العميق بالتنوير وفكر الأنوار، وقد هيأ المناخ للحرية الفكرية وأطلق الحريات العامة التي كان يراها ضرورية للشعب. ويعرف عنه تسامحه الديني على خلاف أسلافه من الملوك وأخلافه من الحكام، ويعرف عنه أنه لم يكن متدينا وكان يقف ضد الدوغمائية المسيحية. وقد عرف عنه صداقته بفيلسوف التنوير الفرنسي وقد أوكل إليه مراجعة كتابه الموسوم ضد الكلفانية: “ضد الكلفانية”. ونحن نعتقد أن المناخ الحرّ والتسامح الفكري الذي أتاحه فريديريك الأكبر كان له أكبر الأثر في تمكين عبقرية كانط من التدفق في مختلف مناحي النقد والتنوير والإبداع الفلسفي ولولا هذا المناخ لما استطاع كانط أن ينشر أيا من أعماله النقدية في ذلك الزمان. والدليل على ذلك أن كانط قد واجه تحديّا صعبا بعد وفاة فريديريك الأكبر وتولي خليفته الحكم من بعده.

[16] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص : تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ، مرجع سابق، ص 88.

[17] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص : تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ مرجع سابق، ص 88.

[18] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص : تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ، مرجع سابق، ص 89.

[19] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص : تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ، مرجع سابق، ص 89.

[20] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص : تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟ ، مرجع سابق، ص 89.

[21] – إيمانويل كانط، ما هو عصر التنوير؟ مرجع سابق.

[22] – إيمانويل كانط، إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص : تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟  مرجع سابق ، ص 92.

[23] – إيمانويل كانط، ما هو عصر التنوير؟ مرجع سابق.

[24] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص : تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟  مرجع سابق ، ص 17.

[25] – إيمانويل كانط، ثلاثة نصوص : تأملات في التربية، ما هي الأنوار؟  مرجع سابق ، ص 17.

[26] – رونيه أوبير (René Hubert) ‏ فيلسوف فرنسي، ولد في 22 يوليو 1885وتوفي في 13 أكتوبر 1954.

[27] – روني أوبير، التربية العامة، ترجمة عبد الله الدايم، ط -7، دار العلم للملايين، بيروت، 1991، ص 2

[28]عاصم منادي إدريسي، فلسفة التربية في عصر الأنوار، الأوان، الأوان، الأحد 22 كانون الثاني (يناير) 2012. http://maaber.org/issue_february12/spotlights4.htm

[29]عاصم منادي إدريسي، فلسفة التربية في عصر الأنوار، المرجع السابق ,

[30]عاصم منادي إدريسي، فلسفة التربية في عصر الأنوار، المرجع السابق ,

[31]عاصم منادي إدريسي، فلسفة التربية في عصر الأنوار، ، المرجع السابق ,

[32] عبد الرحمن بدوي: فلسفة الدين والتربية عند كنت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980، ص 123.

[33]عاصم منادي إدريسي، فلسفة التربية في عصر الأنوار، المرجع السابق  

[34]عاصم منادي إدريسي، فلسفة التربية في عصر الأنوار ،المرجع السابق ,

[35] – علي أسعد وطفة، شعلة التنوير في زمن عربي مظلم، أنفاس، 11 شباط/فبراير 2018. http://bitly.ws/oDjc

[36] – علي أسعد وطفة، شعلة التنوير في زمن عربي مظلم، المرجع السابق .

[37] – علي أسعد وطفة، شعلة التنوير في زمن عربي مظلم، المرجع السابق .

[38] – علي أسعد وطفة، شعلة التنوير في زمن عربي مظلم،  المرجع السابق .

[39] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980، ص 167.

[40] – عبد الرحمن بدوي، فلسفة الدين والتربية عند كانط، المرجع السابق ،  ص ص 167- 168.

[41] – إيمانويل كانط، ما هو عصر التنوير؟ ترجمة: يوسف الصدِّيق،  مرجع سابق

[42] – إيمانويل كانط، ما هو عصر التنوير؟  مرجع سابق .  

[43] – بروميثيوس – (Prometheus) – سارق النار – بطل أسطوري إغريقي وأحد الآلهة الجبابرة في الميثولوجيا الإغريقية، و أوكل إليه زيوس كبير الآلهة مهمة خلق المخلوقات الأرضية، فخلق الحيوانات كلها وأعطاها المميزات، حتى إذا جاء ليخلق الإنسان لم يجد له صفة غير صفة الآلهة فخلقه على هيئتها فأثار بذلك غضب الآلهة عليه، و كان محباً للبشر رؤوفاً بهم، و إذ حرمتهم الآلهة من النار، قام برومثيوس بسرقة النار من الآلهة وأعطاها لهم. فعاقبه زيوس بأن ربطه إلى صخرة، ثم أطلق عليه عُقابا أو رخا اسمه “إثون”، يأكل كبده في النهار ويقوم زيوس بتجديدها في الليل. في النهاية قام هيراكليس بتحريره، وعاد إلى أوليمبوس. ويرى الإغريق في هذه الأسطورة أن قيام بروميثيوس بتقديم النار للبشر كدليل على كونه من المساهمين في الحضارة الإنسانية. في التقليد الكلاسيكي الغربي، أصبح بروميثيوس الشخصية الممثلة للكفاح البشري ضد الظلم والقهر والعبودية وغدا رمزا من رموز الدعوة إلى المعرفة والتنوير.
__________
*د. علي أسعد وطفة/ كلية التربية – جامعة الكويت.

جديدنا