مراجعات في فكر مارتن هايدغر

image_pdf

لا يخلو حقل الفلسفة غير المفهومة الذي اختطه جورج هيغل الألماني من المتسابقين المميزين الآخرين السائرين على نهجه، ولكن في التاريخ التنافسي للفلاسفة الألمان المعقدين وغير المفهومين، يجب أن يبرز مارتن هايديجر  – حسب أي تقدير ومعيار – باعتباره المنتصر الأول دون منازع، إذ ليس هناك شيء ينافس تماماً تعقيد وبهاء نثر تحفته الفنية المتمثلة في كتابه الوجود والوقت الصادر في العام (1927) من حيث الضبابيات والمتاهات اللغوية والعدد الهائل من الكلمات الألمانية المعقدة التي صاغها المؤلف واجترحها واشتقها لغوياً ولم تكن موجودة في اللغة الألمانية من قبلها، ومن بينها (نسيان الوجود)، و(التَجَذُّر في الروح)، و(الدستور الأساسي).

في البداية، من المحتمل أن يكون الحال محيراً وربما مزعجاً عند مقاربة أعمال مارتن هايديجر الفلسفية، ولكن تدريجياً قد يشعر المرء بالألفة تجاه الأسلوب، ويفهم أن تحت سطحه الشئز المعقد الغريب بعض الحقائق البسيطة، وحتى في بعض الأحيان حقائق جوهرية صميمية تتعلق بمعنى حياتنا، وأمراض عصرنا، ومعنى الحرية، ومصادر قلقنا السرمدي في حيواتنا المعاصرة.

لقد وُلِد مارتن هايديجر في العام 1889 – وبقي في مختلف مناحي حياته – ألمانياً ريفياً قرويّاً، يحب التقاط الفطر، وأن يمشي في الريف، وأن يذهب إلى الفراش مبكراً. كان يكره التلفزيون، والطائرات، وموسيقى البوب الإيقاعية، ​​والأطعمة المصنعة. كان مارتن هايديجر سليل عائلة كاثوليكية فقيرة بسيطة، ولم يسطع نجمه فعلياً كأكاديمي وفيلسوف بارز إلا بعد نشر كتاب “الوجود والوقت”. لكنه ارتكب خطأً فادحاً حينما اعتقد أن أدولف هتلر صادق في خطابه النازي في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، إذ أعرب مارتن هايديجر عن أمله في أن يعيد النازيون النظام والكرامة إلى ألمانيا بعدما حل بها في عقابيل الحرب العالمية الأولى. ولكي يتلاءم مع مزاج العصر آنذاك وأزيز المهللين الكثر للنازية، فقد ألقى بعض الخطب النارية الداعمة للنازية، وحاول حظر الأكاديميين اليهود من جامعة فرايبورغ، حيث كان رئيس الجامعة. يمكن للمرء أن يغفر أو لا يغفر له هذه الفترة من انسياقه مع الجنون، والتي دفع ثمنها غالياً. بعد هزيمة ألمانيا في عام 1945، تم تسريحه ومُنع من التدريس حتى نهاية العقد. وعلى الرغم من ذلك وبشكل مثير للدهشة، استعاد مكانته الفكرية بسرعة فائقة، كما لو أن ذلك كان شهادة على جاذبية أفكاره لمتلقيها، على الرغم من أنه قضى جل وقته بعد الحرب في كوخ كان يملكه في الغابة، بعيداً عن الحضارة الحديثة، حتى وفاته في عام 1976.

طوال حياته الفكرية، كان مارتن هايديجر يسعى لإدراك سبل فكرية تمهد للعيش بحكمة أكبر. لقد أراد منا أن نكون أكثر شجاعة في مواجهة بعض الحقائق، وأن نعيش حياة أكثر ثراءً، وأكثر تفكيراً، وأكثر سعادة. لم تكن الفلسفة في نهجه عبارة عن ممارسة أكاديمية. لقد كانت بالنسبة له – كما كانت بالنسبة لليونانيين القدماء – مهنة روحية وشكلاً من أشكال العلاج العقلي والوجداني. لقد شخص الإنسان الحديث بأنه يعاني من عدد من أمراض العقل والوجدان والروح المعاصرة، ومنها الآتي:

1. لقد نسينا معنى الحياة الوجودي

إننا نعرف أننا أحياء من الناحية النظرية لكننا لسنا على اتصال يومي بشكل صحيح مع سر كينونتنا المحض، سر ما أطلق عليه هايديجر “الوجود”.

في بعض الأحيان يطرح سؤال غريب ملح نفسه على المراقب المدقق في لحظات فريدة، ربما في وقت متأخر من الليل، أو عندما نكون مرضى نعاني بمفردنا طوال اليوم، أو حينما نكون في لج الطبيعة التي لم يطلها بنو البشر، ومفاده: لماذا توجد الأشياء على النحو الذي تكون عليه، ولماذا نحن هنا وليس هناك، ولماذا يبدو العالم على هذا النحو، ولماذا هذه الشجرة أو ذاك المنزل بشكله الراهن وليس سواه. لالتقاط هذه اللحظات النادرة عندما تتذبذب علاقة الإدراك بالمحيط الطبيعي قليلاً أو كثيراً، يتحدث هايديجر – بأحرف كبيرة – عن سر الوجود. إن فلسفته بأكملها مكرسة لتجعلنا نقدر ونستجيب بشكل مناسب لهذا المفهوم التجريدي والمهم في آن معاً.

بالنسبة إلى هايديجر، فإن العالم الحديث عبارة عن آلة جهنمية مخصصة لصرف انتباهنا عن الطبيعة المذهلة الأساسية للوجود. إنه عالم يدفعنا باستمرار نحو المهام العملية، ويغمرنا بالمعلومات، ويقتل السكينة، ولا يريد أن يتركنا وشأننا لأن إدراك “سر الوجود” له أبعاده المخيفة؛ إذ أنه عند تلمسنا “سر الوجود” قد يسيطر علينا الخوف والقلق عندما نصبح على وعي بأن كل شيء بدا ضرورياً ومهماً للغاية من قبل، أو حتى طارئاً، هو بلا معنى جوهري، وبدون هدف حقيقي. فقد نتساءل لماذا نعمل في هذه الوظيفة بدلاً من تلك، ولماذا نحن في علاقة مع شخص بدلاً من شخص آخر، ولماذا لا نزال على قيد الحياة عندما كان يمكن بسهولة للغاية أن نكون موتى. في عالمنا المعاصر تم تصميم جزء كبير من الحياة اليومية للحفاظ على هذه الأسئلة الغريبة والمثيرة للإعجاب، والحاسمة في سياق يضطرنا إلى الإجابة عنها، وإشاحة بصرنا عن تكشف السؤال الأكثر أهمية والمتمثل في استكناه “سر الوجود”، والذي يفصح عن نفسه في المواجهة مع العدم الذي يقع على الجانب الآخر من الوجود الظرفي العابر الذي نحن جزء منه.

إن العدم في كل مكان؛ إنه يطاردنا، وسوف يبتلعنا في المآل الأخير، لكن – يصر هايديجر – أن الحياة لا تعاش بشكل جيد إلا عندما يأخذ المرء العدم والطبيعة الوجيزة للوجود في الحسبان، مثلما يفضي ضوء العشية الخافت الطريق إلى الظلام الدامس في نهاية المطاف.

2. كل الوجود متصل

إننا ننظر إلى العالم من خلال منظور مصالحنا الضيقة. وتلّون احتياجاتنا المهنية ما نوليه اهتماماً فعلياً ونقلق منه. إننا نعامل الآخرين والطبيعة باعتبارهما وسائل وأدوات وليس كغايات.

لكن في بعض الأحيان قد نتمكن من الخروج من مدارنا الضيق ونلقي نظرة أكثر موضوعية على علاقتنا ببقية الوجود. قد نشعر بما أطلق عليه هايديجر “وحدة الوجود”، من خلال الملاحظة – بطريقة لم نكن نعرفها سابقاً – أننا وهذه الدعسوقة، وتلك الصخرة، وهذه السحابة، وذاك الطير، وتلك الشجرة جميعنا موجودون الآن متحدين منصهرين بشكل أساسي من خلال الحقيقة الأساسية للوجود.

يثمن هايديجر هذه اللحظات – ويريد منا أن نستخدمها كنقطة انطلاق لشكل أعمق من الانفتاح العقلي والروحي، والتغلب على العزلة والأنانية، وتقدير أعمق للوقت القصير المتاح لنا قبل أن يستدمجنا العدم في خلائه.

3. ننسى أن نكون أحراراً

نحن كبشر – في صيغة هايديجر غير العادية – “يتم طرحنا في العالم” في بداية حياتنا في محيط اجتماعي محدد وضيق، محاط بمواقف صارمة، وتحيزات قديمة، وضروريات عملية ليست من صنعنا.

لقد أراد الفيلسوف مساعدتنا للتغلب على هذا الطرح القائم بقوة الأمر الواقع من خلال فهم زواياه المتعددة. برأيه يجب أن نهدف إلى فهم كينونتنا النفسية والاجتماعية والمهنية، ومن ثم الارتقاء بها إلى منظور أكثر شمولية.

عند القيام بذلك، فإننا سوف نقوم برحلة هايديجر الفكرية العقلية مرتحلين من التقليد والاصطناع إلى الأصالة. سوف نبدأ جوهرياً في العيش أحراراً.

ومع ذلك، فإننا في غالب الأحايين – بالنسبة لهايديجر – قد فشلنا بشكل مخيف في القيام بهذه المهمة الجوهرية. إننا نستسلم فقط إلى الوضع الاجتماعي والسطحي القائم بأن نكون ما أسماه هايديجر “ذواتهم – هم” بدلاً من “أنفسنا- نحن” الحقة المتحررة. إننا نتبع ما دعاه هايديجر الثرثرة التي نسمعها في الصحف، وعلى شاشات التلفزيون، وفي المدن الكبيرة التي يكره هايديجر أن يقضي فيها وقته.

وما قد يساعدنا على الابتعاد عن “ذواتهم – هم” هو التركيز الشديد بشكل مناسب على فنائنا القادم؛ وذلك يكون فحسب عندما ندرك أن الآخرين لا يستطيعون إنقاذنا من العدم، ولذلك يمكن أن يستقيم التوقف عن العيش من أجلهم؛ وأن نتوقف عن القلق كثيراً حول ما يعتقده الآخرون، وأن نكف عن التخلي عن نصيب الأسد من حياتنا وطاقاتنا لإقناع الأشخاص الذين لم يعجبوا بنا أبداً في المقام الأول. إن “القلق” المتمحور حول “العدم”، على الرغم من كمده وألمه الضمني والمعلن، يمكن أن ينقذنا. إن الوعي بكوننا في اتجاه الفناء هو الطريق إلى الحياة.

4. نتجاهل أن الآخرين كائنات حقة

بحسب هايديجر نتعامل في غالب الأحايين الوقت – وبشكل عفوي غير عاقل- مع الآخرين كمعدات؛ أي: كما لو أنهم أدوات للاستخدام والاستغلال، وليس كائنات حقة ذات كينونة خالصة.

ويكمن العلاج لهذه الأنانية في تأمل واستحضار الفنون الرفيعة. إنها الأعمال الفنية العظيمة التي سوف تساعدنا على مراجعة أنفسنا وسلوكاتنا العفوية وتدفعنا لنقدر الوجود المستقل للأشخاص الآخرين والكائنات الأخرى زرعاً وضرعاً.

قام هايديجر بتوضيح هذه الفكرة في سياق مناقشته للوحة الفنان فان جوخ لزوج من أحذية الفلاحين. في العادة، لا نولي اهتماماً كبيراً للأحذية؛ إنها مجرد جزء آخر من “المعدات” التي نحتاج إليها لتدبر أمرنا. ولكن عندما يتم تقديمها إلينا على قماش لوحة زيتية، فإننا نكون عُرضة لملاحظتها في ذاتها المستقلة القائمة بالفعل كما لو أن ذلك يتم لأول مرة.

قد يحدث نفس الشيء بالنسبة لنا عندما تواجهنا أجزاء أخرى من العالم الطبيعي بتشكيل وتصوير فنانين رائعين. بفضل الفن، سوف نشعر بنوع جديد من الألفة والقرب من الوجود الذي يقبع خارج أنفسنا.

الخلاصة

سوف يكون من المبالغة القول بأن مدلولات وأفكار هايديجر وأخلاقه واضحة وجلية دائماً. وعلى الرغم من ذلك، فإن منطوق قوله المشهر والمضمر ساحر بشكل فريد وحكيم وثاقب، على الرغم من الكلمات واللغة الاستثنائية المعقدة التي أدمن هايديجر استخدامها والتي تشير إلى الكثير مما نعرفه، ولكن ليس بالصورة التي يدفعنا هايديجر لاستبطانها عن ذاك الذي نعرفه من قبل عبر تذكيره وتلميحه لواجب النظر إلى اليومي والمعتاد بنهج ومنظار مختلف. إننا نعلم في صميم قلوبنا أنه قد حان الوقت كي نتغلب على الانسياق القطيعي مع ما جرت العادة عليه، وأننا يجب أن نكون أكثر وعياً بالعدم اليومي وذاك السرمدي الذي ينتظر أوان إطباقه على حيواتنا، وأننا ملزمون بالعمل للتفلت من براثن الثرثرة الاعتيادية ساعين تجاه الأصالة والوعي الحق بالوجود الكامن فينا ومن حولنا.

__________
*تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها الطبيب مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.

جديدنا