كازنتزاكيس؛ فيلسوف الحريَّة وصانع ملحمة العدالة

image_pdf

في السادس والعشرين من شهر أكتوبر عام 1975 رحل الكاتب اليوناني ” نيقوس كازنتزاكيس ” بعد أنَّ حول ذاكرته إلى نهر إبداعي يفيض في كافة أرجاء العالم.. وعلى شاهد مقبرته في جزيرة كريت لخَّص كازنتزاكيس فلسفته وإبداعه في كلماته الخالدة ” لا أهاب شيئاً، لا أطمع في شيء، إنني إنسان حر “.

في خلال حياته التي تجاوزت السبعين عاماً كرّس كازنتزاكيس طاقته للإبداع والعطاء الثقافي المتعدِّد الروافد، وكتب الرواية والمسرحية والقصيدة والمقالات الفلسفية، وقام بترجمة روائع الفكر العالمي مثل الكوميديا الإلهية لدانتي وفاوست لجيته، ونظم الشعر الغنائي والملحمي وعلى غرار رائعة هوميروس كتب كازنتزاكيس ملحمة ( الأوديسا ).

وحلَّقت أعماله في فضاء الأدب العالمي كواحد من أهم الكتَّاب في القرن العشرين، ووقف إلى جوار كبار الروائيين من أمثال تولستوي وديستوفسكي وديكنز وغيرهم  من أصحاب الإبداعات الملحمية الرائعة. شرع كازنتزاكيس في كتابة الرواية في مرحلة متقدِّمة من عمره، ومن أهم أعماله الروائية “المسيح يصلب من جديد “، و” الحرية أو الموت “، و” زوربا اليوناني “، و” الإخوة الأعداء ” وغيرها من الأعمال التي ترجمت إلى معظم لغات العالم، ووضعت كازنتزاكيس في مصاف كبار الروائيين في العالم. 

تضمَّنت رواياته نبوءات متعدِّدة بكافة أشكال الصراعات العرقية والتمزُّق الإنساني الذي شهده العالم في نهاية القرن العشرين، وهيمنت على الكاتب فكرة البعث والتحريض من أجل تأكيد الهوية القومية اليونانية واستقلالها، كما خاطب الإنسانية كلها بضرورة الانتصار للحق والعدالة، وعلى لسان أحد شخوصه يقول : ” تكلَّم واحتجَّ فلست بسائمة وإنما أنت إنسان فاسأل.. فهكذا يكون الإنسان كائناً حياً يتكلم ويعترض ويسأل “.

وقد دفع كازنتزاكيس بالعديد من الشخوص الروائية التي ما زالت راسخة في ذاكرة القراء من مختلف الجنسيات، فرغم ما حملته تلك الشخوص من خصائص يونانية، إلا أنها فاضت بمشاعرها لتكون شخوصاً إنسانية شاملة، تتماس مع وجدان الإنسان باختلاف هويته وموطنه، وبذلك مثلت الشخوص نماذج حية لصورة إنسان هذا القرن مثل شخصية “زوربا اليوناني ” في الرواية التي تحمل نفس الاسم، وشخصية الكابتن ميخايليس في الرواية الملحمية ” الحرية أو الموت”، وقد أبرزت تلك الشخوص قدرة كازنتزاكيس وتمكنه من الأسلوب الروائي الذي تفرد به، وصاغ به حياة مترامية الأطراف تلامس أعماق التاريخ القديم وتلقي بزخمها على واقع النصف الأول من القرن العشرين.

عمق التاريخ

ومنذ مولده في البلقان عام 1885 عاش كازنتزاكيس سنوات صباه وشبابه، وتفتح وجدانه على إيمان ديني عميق ورومانسية غامرة، تحولت فيما بعد إلى قيمة إنسانية تخلَّلت أعماله الأدبية، تكرّس للعدل والحب والنقاء، وكان للظرف التاريخي الذي عاشته اليونان في القرن  التاسع عشر أثره البالغ في تشكيل وعيه وإدراكه للمخاطر التي تحاصر حضارة بلاده الممتدة في عمق التاريخ، ووجد أن ما يحمله الواقع من تناقضات وصراعات يتناقض مع إيمانه بالمثل والأخلاقيات الواجبة لحياة البشر، ومن ثم آثر الفتى العزلة في داخل صومعة في دير جبل أثوسي كتعبير عن الرفض لشرور العالم، ورغبة روحه الشفافة في التخلص من الأدران التي علقت بها في الحياة خارج الصومعة. وبعد سنوات خرج من عزلته، ليفيض على الإنسانية بخواطره الملهمة وإبداعاته التي تدفقت لتلامس وجدان الإنسان أينما كان، وينجح في أن يصنع من جزيرة كريت عالماً رحباً تتلاقح فيه الأزمنة ويؤكد البشر وجودهم في تلك الرقعة الصغيرة من العالم، وكأنها موطن البشر في صراعهم وجدلهم المستمر منذ بداية الحياة على الأرض وحتى الزمن القادم. ولم يكن يتحقق ذلك لكاتب لم يعرف الارتحال والاحتكاك بثقافات أخرى وتجارب إنسانية عديدة، وهذا ما فعله كازنتزاكيس الذي عاش ثنائية العزلة والخروج إلى رحابة العالم.. وقد اجتمعت له عناصر الثقافة الموسوعية، ونهل من خلال قراءاته في عيون الأدب والفلسفة، والعلوم المختلفة، ولم تقتصر دراسته للفلسفة في جامعة أثينا، بل سافر إلى فرنسا ودرس القانون، ثم ارتحل إلى بلاد أوروبا وآسيا وأفريقيا، ودرس العقائد الشرقية لسنوات طويلة، وكتب في أدب الرحلات مثل كتابه الهام “رحلة إلى مصر ( الوادي وسيناء ) ” يتحدث من خلاله عن مشاهداته المثيرة.

ويقول كازنتزاكيس عن الإنسان المصري :” إنه صرخة ألم بحت.. ألف من دون الأزهار جميعها زهرة الصبار، وعشق حكمة الصبر ولحنه خلف قناع الوداعة.أستطيع تمييز ذلك الوجه الحزين المكافح”.

 كان التنقل والارتحال الدائم سمة من سمات كازنتزاكيس والجناح الأقوى الذي شكل ثقافته وعبقريته، وتعددت رحلاته إلى أرجاء الدنيا من شرقها إلى غربها، ويكفي أنه قد بدأ ارتحاله في العاشرة من عمره، وحتى السبعين ؛ حيث أقام في باريس وسويسرا وألمانيا وفيينا وإيطاليا بين عامي 1918، 1926، ثم سافر إلى فلسطين ثم قبرص فأسبانيا ومصر خلال عامي 1926، 1927، ثم ذهب إلى الاتحاد السوفييتي واليابان والصين وبريطانيا، ثم تنقل بين إيطاليا وسويسرا وإقليم الألزاس. وبعد مرضه في عينه اليمنى، أقام للعلاج في فيينا قبل وفاته بعام واحد حتى اشتد عليه المرض وعاد مرة أخرى إلى موطنه في جزيرة كريت، ولكن المنية وافته في إحدى مستشفيات النمسا.

جوائز

حاز كازنتزاكيس على العديد من الجوائز من أهمها جائزة نوبل وجائزة السلام السوفيتية وجوائز من بلدان عديدة، ولكن الجائزة الأهم التي وفت مكانة الكاتب العبقري هي الترجمة الدائمة لأعماله وإقبال الإنسان في مختلف أرجاء العالم على النهل من إبداعاته وإدراك قيمة ما قدمه وثراء تلك المؤلفات. اتسعت حياته لتستوعب المشاهدات والتصاوير المختلفة لحياة البشر من الشرق إلى الغرب، وتحولت مؤلفاته إلى موسوعة عالمية وتاريخية فريدة. وارتوى من أنهار العالم ووطئت قدماه الوديان والصحاري وشوارع المدن وحواريها الضيقة، لذلك حاز على المواطنة العالمية، ولم يختلف على إبداعه النقاد والباحثون الذين أجمعوا على مكانة نيقوس كازنتزاكيس كأهمّ الكتاب الملحميين في هذا القرن، وكإبن للإنسانية بأسرها؛ لأنه آثر الخروج من عزلة الصوامع إلى معانقة عذابات وآلام البشر والحضّ على النضال والكفاح من أجل الحرية والحق والعدل.

ومازالت إبداعات كازنتزاكيس حاضرة في الثقافة الإنسانية وملهمة للضمير العالمي بنبذ الشرور والصراعات، وإعلاء الجوهر الثمين لمغزى الحياة.

….
د. خالد محمد غازي.

جديدنا