جبران في مشهديه السيري والإبداعي؛ قراءة في قاموس جبران

image_pdf

-1-

في كتابه /قاموس جبران، الصادر عن دار الساقي  2008/للكاتب والروائي اللبناني اسكندر نجار. يتناول الكاتب سيرة جبران من زوايا مختلفة محاولا ربط عناصرها ونسجها من خلال علاقات جبران المختلفة مع أصدقائه ومعارفه والأمكنة التي عاش فيها والروافد والكتب التي تأثَّر بها ونهل منها من جانب، ومن جانبٍ آخر، يحاول أن يفكَّ  بعض أسرار جبران ورموزه على مستوى الإبداع /الكتابة .لكي تكون الصورة في النهاية مكتملة جامعة للمشهدين السيري والإبداعي لدى جبران خليل جبران .

في فاتحة الكتاب ينبِّهنا الكاتب إلى أن عمله ليس  (قاموسا حصريا للموضوعات أو السيرة أو المفاهيم الخاصة بالكاتب أو معانيه الملغزة. بل قاموس انتقائي يتطرق إلى كل هذه الأمور .وقد أرفقناه في معظم الأحيان برسوم وصور فوتوغرافيه  تجعل الوجوه أكثر ألفة وبرسائل ووثائق نادرة أو غير منشورة  من قبل وتلقي الضوء على شخصية جبران الملتبسة )(1)

دون مراعاة للترتيب الأبجدي كما يقول، فيبدأ بشخصية الشاعر إيليا أبو ماضي وتيمة  الأجنحة ودلالتها في كتابات جبران ورسوماته، ونعتقد أنه كان من الأولى أن يبدأ أولا بتتبع تاريخ جبران الشخصي من ميلاده ونشأته في بشري، ودراسته وهجرته إلى أمريكا وحتى وفاته ثم يتتبع مسار علاقاته  مع  الشخصيات من أولها حتى آخرها ويكون هذا المسار السيري بالتوازي مع الإبداعي حتي  يكون القارئ يسير في طريق واضح .

 ليس بحاجة أن يرجع للمصادر ودون أن يرهق نفسه بتتبع المسارات / في التاريخ والجغرافيا للأشخاص والأحداث والأفكار الواردة في متن الكتاب. وحتى ينتظم البناء العام للكتاب في غاية وخطة محددة بدقة، وتكون  الخطوات في  “الغابة الجبرانية ”  بعبارة خالد غسان “تسلك بنا الطريق إلى مسالك النهر”.  

يرى اسكندر نجار،  أن جبران تأثر بجلال الدين الرومي وأخذ عنه فكرة الأجنحة ووظفها في أدبه ورسمه ورغم أن جبران لا يذكر جلال الدين الرومي  مع المتصوفة والفلاسفة الإسلاميين الذين يحظون  بتقديره وإجلاله  والذين رسمهم بريشته،  كإبن  الفارض والغزالي وابن سينا وابن خلدون …. مع  ذالك من الوارد أن يكون قرأ لجلال الدين الرومي وقد يكون استعار منه رمزية الناي الذي وظَّفه في  قصيدة المواكب .

كما استعار  من المرجعية الإسلامية الكثير من الدلالات، من ذالك  تصديره  لبعض نصوصه بآيات من القرآن الكريم .

 ومن الجائز أن يكون اسم المصطفى في النبي  تأثّرا بالرسول محمد  صلى الله عليه وسلم  ذالك ان عيسى عليه السلام لايعرف بهذا الاسم .ولفظ المصطفى يمكن  أن يكون نتيجة تأثر جبران بالسياق العربي الإسلامي.

-2-

من المفاهيم والرؤى الجبرانية التي تعرض لرمزيتها الكاتب

الأجنحة .البحر / الذات الإلهية  المجنحة  /الريح /الشمس /الوحدة /الغابة / الولادة / /الناي /العاصفة / الطبيعة / التقمص /التصوف. وقد تحدث بإيجاز  عن ما تعنيه رمزيتها في الأدب الجبراني . ومع ذلك هناك الكثير من الكلمات والمفاهيم التي تنتسج في كتابات جبران ويكررها كثيرا  وتشكل بحقلها الدلالي مع أخري القاموس الجبراني  لم  يتطرق إليها الكاتب  من هذه الكلمات. الكلية /الروح الكلي / النغمة . الناموس .الحق .الأبدية .القطرة .الأم . .ابنة النفس والمحبة .شعاع النور . .النار الخالدة ./البحر الأعظم /آلهة الأرض / الأقنعة السبعة .الذوات السبع/الضباب /اللاشيء/الوصيفات السبع /المرات السبع /المجاعة الروحية /العاقلة /الناموس الأبدي /الجوهر المطلق /الذات الجبارة .

 وغيرها من الكلمات الكثيرة التي يستخدمها جبران في قاموسه، وهي كلمات بعضها مستوحى من الكتاب المقدس وبعضها من الثقافات الغربية وبعضها من الشعر العربي والتراث الإسلامي، وتعني الكثير لجبران، فمن خلالها يشيد معماره وينسج نصوصه.

  والذي قرأ جبران يدرك هذا المعنى، ذلك أن جبران يهتم بشكل كتابته جيدا وغالبا ما يركز في نحته  لكلماته/ في قاموسه  على مثل هذه الكلمات وعلى التقابلات والثنائيات في أسلوبه مثل /دمعة وإبتسامة ./الليل /النهار /الحق  والباطل /الله والشيطان /البحر/ والصحراء / في تشكيلة جبرانية .تراعي جرس الكلمة وإيقاعها الموسيقي ومعناها ومبناها، بالإضافة إلى إفتتانه بالبعد التصويري، كونه رساما .وعنده أنَّ  الرسم شعر صامت والشعر رسم ناطق كما يقول  بترارك.

   وغالبا مايرسم جبران في نصوصه رسما لا يقل جمالا وروعة عن رسمه بريشته يقول في نص الريح: ( أيتها الريح، تمرّين آنًا مترنّحة فرحة، وآونة متأوّهة نادبة، فنسمعك ولا نشاهدك، ونشعر بك ولا نراك، فكأنّك بحر من الحبّ يغمر أرواحنا ولا يغرقها، ويتلاعب بأفئدتنا وهي ساكنة. تتصاعدين مع الروابي وتنخفضين مع الأودية وتنبسطين مع السهول والمروج. ففي تصاعدك عزم، وفي انخفاضك رقّة، وفي انبساطك رشاقة، فكأنّك مليك رؤوف يتساهل مع الضعفاء الساقطين ويترفّع مع الأقوياء المتشامخين.

وفي الخريف تنوحين في الأودية فتبكي لنواحك الأشجار، وفي الشتاء تثورين بشدّة فتثور معك الطبيعة بأسرها، وفي الربيع تعتلّين وتضعفين ولضعفك تستفيق الحقول، وفي الصيف تتوارين وراء نقاب السكون فتخالك ميتًا قتلته سهام الشمس ثمّ كفَّنته بحرارتها)  (دمعة وابتسامة ).

ذلك لأن جبران رسام وشاعر  عبقري يعرف جيدا كيف ينضِّد كلماته . فيكسوها تيجان  المبنى ويسكنها  في  قصور المعاني  الفخمة.

وهو بهذا المنحى  لا ينفصل لديه الرسم عن الكلمة وقد تناول هذا البعد من أدبه الباحث سمير السالمي في كتابه القيِّم : “شعرية  جبران؛ المستمر بين الشعري والفني “.

الأعلام والشخصيات  التي أوردها اسكندر نجار  في كتابه جلها  ممن ربطتهم علاقات أو صداقات أو لقاء ات أو معرفة  مع جبران .في لبنان أو المهجر . ومعظم الأحداث  تلامس حياة الكاتب، وقد ذكر بعضها  بعض  من الباحثين  والدارسين “الجبرانيين  المهتمّين بأدب جبران الخالد .

-3-

لم يتطرق الكاتب للثورة الجبرانية  في الأدب العربي  ولم يفصل في  سياقها التاريخي ومدى تأثيرها في الأدب العربي، خصوصا وأن بعض الدارسين يرى أنَّ الأجنحة المتكسرة من أولى الروايات العربية، وأن جبران رائد الشعر المنثور والرومانتيكية، وله الريادة في القصة والمثل والشذرة .

استوقفني ما كتب  الكاتب  عن ميخائيل نعيمه أقرب أصدقاء جبران وما أثير حول كتاب/جبران خليل جبران، ورأيي أن  نعيمة  كان يحسد جبران على مجده الأدبي  الذي جاوز السماء .ولسنا بحاجة أن نذكر  بكتاب طنسي زكا (  بين نعيمة وجبران ) وما ساقه من أقوال وجيهة وأدلَّة مقنعة، وما كتبه الدارسون في الموضوع .فالذي يقرأ سيرة ميخائيل نعيمة  التي رواها في كتابه /سبعون /بأجزائه الثلاثة يبدو له جليا أن ما كتبه في كتابه عن سيرة جبران خليل جبران فيه ما فيه .ذلك أن نعيمة في سيرته، لا يذكر جبران إلا مرتين وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أنه يحسد جبران، وكأنه لم يعرفه غير ساعة أو يوم!

قاموس جبران إضافة قيمة للدراسات الجبرانية، ومحاولة تفكيكية للرمزية الجبرانية؛ المقنَّعة بأقنعة ثقافية متعدِّدة  فلسفية، ودينية، وأسطورية لكاتب جبراني القلب والهوى .يعرف جبران جيدا، وله معه  صحبة طويلة تشهد لها كتبه :جبران خليل جبران وأوراق جبرانية. 

هوامش:  

1/قاموس جبران /اسكندر نجار /دار الساقي .ترجمة ماري طوق .الطبعة الأولي .2008/ص  5.
_________
*حمود ولد سليمان / “غيم الصحراء”.

جديدنا