العلوم الإنسانية ورهان الموضوعية

image_pdf

قراءة في الأسس المنهجية للوضعية وتأثيرها على العلوم الإنسانية

نبذة مختصرة:

يسعى هذا البحث الى الوقوف على الأسس المنهجية للوضعية وتأثيرها على ميدان العلوم الإنسانية، وذلك من خلال الوقوف على دوافع قيام المنهج الوضعي والمسوغات التاريخية التي دفعت بالمبشرين به الى القول بصلاحيته المطلقة وإلغاء كل أنماط التفكير الأخرى بما فيها “الدين”. والهدف من وراء ذلك هو علمنة الأفكار وتهيئ الأذهان لتقبل الفكر الوضعي. فكل شيء خاضع للتجربة، لقد أصبحت “المادة” – في ظل المنهج الوضعي – مرجعا لكل حقيقة كيفما كانت سواء بيولوجية أو سيكولوجية أو سوسيولوجية..، ومن ثم الإيمان بأنه لا يوجد غيبيات أو تجاوز للنظام الطبيعي. فالطبيعة تحوي داخلها كل القوانين التي تتحكم فيها وكل ما تحتاج إليه لتفسرها، فهي علة ذاتها…، مكتفية بذاتها، وهي واجبة الوجود. لذا فنحن نحاول من خلال هذا البحث أن نتلمس هذه التأثيرات المنهجية على مسارات البحث في ميدان العلوم الإنسانية.

الكلمات المفتاحية: الوضعية، المنهج، المادة، العلوم اإلنسانية، الحقيقة العلمية.

مقدمة

منذ تأسيس الحداثة وميلاد نمط المجتمع الصناعي، أقام الفكر الفلسفي علاقة نقدية مع الميراث الثقافي الديني في طبعته اللاهوتية الكنسية، ونادى ب”دين الإنسانية” بديلا عن التصورات اللاهوتية للوضع البشري، ومن ثم فقد تم التأسيس لبدائل تصورية تحاول التخلص من التفسير الديني للوضع البشري وإقامة تفسير فلسفي /علمي بديلا عنه.

نحن إذن، أمام تصور جديد للكون والانسان، تصور يضاهي الدين أو لنقل منظومة فكرية جديدة منتشية بذاتها ضد منظومة فكرية تصارع من أجل البقاء، وفي جو كهذا مليء بالانتصارات النظرية والعملية وتحقيق حلم الانسان بالسيطرة على الطبيعة، برز سؤال السيطرة من جديد، لكن هذه المرة سيكون محوره الانسان نفسه. من هنا يأتي تأسيس كونت للسوسيولوجيا، لأنه من خلالها يمكن السيطرة على الانسان وتحقيق وعي علمي بالوجود البشري.

وفي مناخ القطائع الابستمولوجيا صدح “أوجست كونت “بقانون المراحل الثلاث” معلنا بذلك عن الحتمية التطورية التي أدت به الى القول بالحتمية المنهجية. وإذ تم التركيز في هذه الورقة على مرحلة التأسيس فإن ذلك يتم عن وعي وقصدية، باعتبار أن هذه “الفلسفة هي التي شكلت الأسس المنهجية للعلوم الإنسانية”، وخاصة الشكل الذي انتهت اليه مع مرحلة القرن التاسع عشر الذي شكل منعطفا ايديولوجياً مهماً حدد مستقبل هذه العلوم في الغرب، وامتد أثره بشكل فعّال نحو الأطراف الأخرى من باب التبعية. ولا بد أن نذكّر هنا بأن الأسس المنهجية – كما تبلورت في الغرب – هي التي شكّلت مجموع الأدبيات المتعلقة بالعلوم الإنسانية على صعيد الثقافة المغربية.[1]

وكون هذه العلوم لا زالت فتية وفي طريق النمو فإن الوقوف عند الأسس المنهجية ونقدها أضحى ضرورة في ظل أزمة المنهج الذي لازمتها منذ الولادة. فما هي إذن دوافع قيام المنهج الوضعي؟ وما هي الأسس والمرتكزات التي اعتمدتها الوضعية لتأسيس منهج بديل عن المنهج اللاهوتي؟ وإذا كان الوضعيون جعلوا من “المادة” مرتكزهم الأساس في بناء المنهج العلمي، فهل يصلح هذا المنهج لدراسة كل الظواهر؟ ثم ما مكانة الحقيقة في العلوم الإنسانية في مقارنتها مع العلوم الدقيقة؟

المبحث الأول: دوافع قيام المنهج الوضعي كبديل عن المنهج اللاهوتي الميتافيزيقي

يقول “إميل بوترو” في مطلع كتابه “العلم والدين في الفلسفة المعاصرة” “لم يكن الدين عند قدماء اليونان في صراع مع العلم بالمعنى الذي نقصده من العلم اليوم، أي مجموع المعارف الوضعية التي حصلها الانسان، بل كان في نزاع مع الفلسفة وهي التأويل العقلي للعالم والحياة، أو لمعتقدات الناس الموروثة”[2].

إن كتاب: “العلم والدين في الفلسفة المعاصرة” يحاول تشريح هذه المقولة التي يمكن اعتبارها محور النقاش حول موضوع الصراع بين العلم والدين. إنه صراع حقيقي أدى إلى انتصار المنهج العلمي واقصاء المنهج اللاهوتي الميتافيزيقي من مجالات الحياة وحصره داخل جدران المعابد، وابعاده كليا من مجال النظر العقلي إلى مجال الوجدان والأحاسيس.إذن، فما هي الدوافع والعوامل التي عمقت من هذا الصراع القديم الجديد؟ وهل المشكل في الدين أم في توظيف الدين؟

  1. دواعي قيام النهج الوضعي:

تكلم الباحثون كثيرا في مسألة دواعي ظهور المنهج الوضعي وأرجعوا ذلك الى مجموعة من الأسباب والدوافع، نجملها في النقط الآتية:

– أ – أسلوب التفكير اللاهوتي الذي انتهجته الكنيسة

كان تفكير الكنيسة موغلا في التجريد الميتافيزيقي ويتجه صوب تجريم كل تيار يغرّد خارج السرب، فمن يفكر خارج نسق الكنيسة يواجه بالقمع والاضطهاد ويتهم بالزندقة والهرطقة. إن هذا الأسلوب في التفكير يعتبر من الحوافز القوية التي شجعت المفكرين الأحرار على معاداة النهج الكنسي، وقد تحمل هذا الثقل التيار الإصلاحي الحر الذي نحا في البداية نحو تنقية الفكر اللاهوتي من الشوائب التي علقت به، وخلص الى نتيجة لقيت استحسانا من طرف المفكرين والباحثين، مضمونها يؤكد على أن كل دين لا تقبله الطبيعة والعقل هو دين باطل، أو ما سمي ب”دين الطبيعة” أو “دين العقل”. وكان من فرسان هذه الدعوة كل من اسبينوزا وليبنتز وسان سيمون…، فقد اتّهم هذا الأخير”البَابَا” وكنيسته بممارسة البدع والهرطقات… كما اتّهم أيضا التعليم الذي تقدمه الكنيسة بأنه تعليم فاسد، واتهم رجال الدين بالجهل وعدم معرفتهم بدينهم الحق[3].

– ب – التقديس العقلي للكلمة المنقولة واضطهاد الأسلوب العلمي:

محور هذا الدافع يتجلى في اعتبار البابوية شخصية مقدسة. ومن هذا المنطلق ستحتكر الكنيسة مجال التفكير وتجريم كل تفكير مخالف للتقاليد البابوية، ومن ثم تحكيم النزعة النصية وتحكيم الكتاب المقدس في كل مجالات الحياة، وتأطير كل شيء ضمن النص المقدس ولو كان علميا بحتا، مما أحدث تضخما دينيا خطيرا أغلق كل منافذ التفكير الحر. إن هذا النمط الفكري اللاهوتي السائد هو ما أطلق عليه “برينتن كرين” في كتابه: “أفكار ورجال، قصة الفكر الغربي” التقديس العقلي للكلمة المنقولة.

– ج – تحالف اللاهوت والسياسة:

يشهد التاريخ أن تحالف اللاهوت والسياسة كان من أبشع التحالفات التي دمرت الانسان، وصورة الاضطهاد الذي تعرض له المفكرون الأحرار لا زالت عالقة في أذهان الناس، ولم تكن محاكم التفتيش سوى الجهاز التنفيذي لهذا التحالف الذي ظل مستهدفا من قبل الأحرار. فقد كان النظام اللاهوتي يقدم القوالب الفكرية التي يتحتم على الناس أن يصوغوا وفقها سلوكهم وأساليب تفكيرهم، وكان النظام السياسي “الاقطاعي” يقدم التغطية الأمنية اللازمة لتنفيذ أوامر الكنيسة[4].

إن هذا التحالف زاد من سلطة الكنيسة وأعطاها قوة تشريعية كبرى لتتدخل بذلك تدخلا قسرياً في كل شؤون الحياة العامة والخاصة، وفرضت نمطا دينيا في السياسة والاجتماع والتعليم والبحث العلمي…لكن قوة الأحرار تكمن في العزيمة من أجل مواجهة هذا التدخل اللامشروع، فثاروا باسم الإنسانية، وكانت حججهم قوية في مواجهة الكنيسة، يكفيهم حجة أن يبينوا للناس فظائع محاكم التفتيش.

– د – صدى المشرق ونموذجية قرطبة:

بينما كانت الكنيسة تفرض حصارا محكما على حركية التفكير والبحث العلمي، ظهرت حضارة جديدة في المشرق تمجد العلم والمعرفة وتوجههما نحو العمل، وهذه من البديهيات لأن منطق التاريخ لا يقبل الفراغ، والنموذج الأندلسي أصبح واضحا في ذهن الأحرار، فأدركوا أن لا سبيل إلى النهوض العلمي وتحقيق إنسانية الانسان إلا بتقويض مؤسسة الكنيسة، وقد سطر “سان سيمون” هذه الحقائق التاريخية وهو يتحدث عن التحول الثقافي الذي حدث في الغرب إذ يقول: “إن بداية انهيار هذا النظام في التفكير حدث مع إدخال العلوم “الوضعية” إلى أوروبا عن طريق العرب، وقد خلف ذلك بذرة هذه الثورة المهمة التي انتهت اليوم تماما…ويضيف، وفي ما يتعلق بنقد معارفنا الخاصة ومذاهبنا العامة فما كاد “العرب” يبدؤون إقامتهم في أجزاء أوروبا، حتى أنشأوا مدارس لتلقين العلوم التي تقوم على الملاحظة، وظهرت حماسة عامة وجهت كل العقول المتباينة في اتجاه النور الجديد، وأقيمت مدارس مشابهة في كل أوروبا الغربية، فأنشئت مراصد وقاعات للتاريخ الطبيعي في كل من إيطاليا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا”[5].

إن حركة التثاقف هذه أسهمت بشكل فعال في نهضة الشعوب الغربية من تخلفها الحضاري، فهل ستستفيد الشعوب العربية وطبقة الأحرار منهم من الحضارة المتقدمة التي أخذت بأسباب الاقلاع الحضاري؟  ومن ثم يبحثون في بنية التخلف والعمل على هدم هذه البنيات المستحكمة في القلوب والأذهان وفك ارتباطاتها مع الأنظمة السياسية المستبدة ؟

  • سيادة المذهب الوضعي

تمخض عن الصراع بين النظامين العتيق والناشئ، ظهور نظام فكري جديد الذي لقي ترحيبا واسعا في الأوساط الفكرية والعلمية والشعبية. فابتداء من عصر النهضة والغرب مسرح لصراع فكري رهيب تبادلت فيه الاتجاهات الأيديولوجية الأدوار، وكانت القضية الكبرى هي قضية إيجاد أسلوب حاسم في التفكير يقوم مقام النظام الفكري اللاهوتي القديم[6].

وقد نتج عن هذه الحركية ظهور سيادة “المذهب الوضعي” أسلوبا بديلا وحاسما، أي الانتقال من تقديس الكلمة المنقولة إلى تقديس العقل والايمان بقدرة هذا الأخير على فهم الكون واستيعابه، وتوجيه النقد للنظم السياسية والأخلاقية والدينية التي كانت سائدة، ويطرحون بديلا عنها وفق ما تفرضه المعايير العقلية وحدها، حتى سمي هذا العصر (القرن 18)، بعصر “السلب والهدم”. وأحداث الثورة الفرنسية (1789) شاهد على ذلك، فقد كانت السند الرسمي لتثبيت “المنهج الوضعي”، وقد صرح بذلك كونت عندما قال: “لولاها لما أمكن أن توجد نظرية التقدم ولما أمكن تبعاً لذلك، أن يوجد العلم الاجتماعي ولما أمكن بالتالي أن توجد الفلسفة الوضعية”[7].

رغم أن الوضعية تيار فكري ضخم يتصل منبعه بعصر النهضة، فإن “أوجست كونت” يعتبر ممثلا بارزا وأصيلا، لكونه دافع بشراسة عن المنهج الوضعي الذي ينبغي حسبه أن يحل محل النظام اللاهوتي السابق. ولهذا وجب على التفكير الفلسفي النظري في مبدأ القرن التاسع عشر أن يتجه أولا صوب المشاكل الدينية والاجتماعية، فالناس قد أخذوا يشعرون بتأثير العلوم الوضعية وتقدمها المستمر، وبالتالي فالخدمة التي ينتظرها “كونت” من الفلسفة هي أن تضع قواعد المجتمع الحديث على أسس عقلية[8].

من هذا المنطلق اعتقد “كونت” بأن مهمته ستكون مضاعفة: فمن جهة، عليه أن يحارب النظام اللاهوتي والميتافيزيقي، ومن جهة أخرى، عليه أن يضع البديل الوضعي “العلمي”، لينتهي إلى تلك النتيجة “المنطقية” و”الحتمية” وهي تعميم المنهج الوضعي الذي يقصي كل الاعتبارات اللاهوتية والميتافيزيقية التي انتهت صلاحيتهما وباتا منبوذين في الأوساط الشعبية، خاصة وأن روح الثورة تنادي بإعادة تأسيس مجتمع حديث على أنقاض المجتمع القديم. لكن ما فتئ ينبه إلى أن اصلاح المجتمع لا يأتي من فراغ أو من تنظيرات سياسية ميتافيزيقية، بل ينبغي الانصات الى الخبراء المختصين في دراسة المجتمع دراسة موضوعية، وهذه مهمة “السوسيولوجية” فهي رغم ولادتها المتأخرة فهي قادرة على أن تصبح علماً كباقي العلوم الوضعية، فإذا كان موضوع هذه الأخيرة هو الظاهرة الطبيعة، فإن موضوع السوسيولوجية هو الظاهرة الاجتماعية، ولا فرق بين الظاهرتين حسبه إلا في جزئيات طفيفة، لذا، فالمنهج الملائم لدراسة المجتمع هو “المنهج الوضعي”.

ورغم الانتقادات التي وجهت اليه فيما يخص المنهج الملائم لدراسة الظاهرة الإنسانية، الا أنه لم يلتفت اليها، فقد وضع نصب عينيه نموذجية العلوم الطبيعية التي انفلتت من قبضة الميتافيزيقا. فوجه اهتمامه نحو تحرير الدين والأخلاق والاجتماع…لتصبح لأول مرة في تاريخها علوماً “يقينية” تخضع للملاحظة والتجربة وكشف القوانين التي تخضع لها في سيرورتها وتطورها، تماما كما تم الكشف عن القوانين التي تخضع لها العلوم الطبيعية[9]. وهذا يعني أن “كونت” يريد توحيد التفكير الإنساني والقضاء بالتالي على “حالة الفوضى العقلية[10] التي تنشأ عن تعايش أنماط التفكير المتناقضة.

بذلك يكون”كونت” قد أقام صرح “الوضعية” كمذهب فلسفي واضح المعالم نظريا، ليسلم المشعل إلى تلميذه “إميل دوركايم” (1858-1917) الذي اشتغل بجد في ترجمة المنهج النظري الى واقع عبر التطبيق العملي. يقول “غاستونبوتول” في كتابه:”تاريخ علم الاجتماع” “إن عمل دوركايم يعتبر في الحقيقة أكبر مجهود مذهبي عمل على تحرير علم الاجتماع من اللاهوت والفلسفة والسياسة، وانه أراد في نهاية الامر أن يقلب الأدوار ويجد في الاجتماع التفسير الوحيد لعلم اللاهوت والفلسفة”[11].

نخلص إلى القول: بأن مهمة “كونت” تمثلت في علمنة الأفكار وتهيئ الأذهان لتقبل الفكر الوضعي، أما “دوركايم” فقد كانت مهمته أن يوجد الآلية المنهجية نفسها التي تقوم على ترجمة أفكار أستاذه ليراها واقعا في حياة الناس. إنه إيمان عميق منه بضرورة الذهاب بالمنهج الوضعي إلى أقصى حدوده. يقول في كتابه: Éducation et sociologie “إن العلم هو الذي أعد المفاهيم الأساسية التي تهيمن على تفكيرنا…وقبل أن تتكون العلوم كان الدين يقوم بنفس المهمة، لأن كل ميثولوجيا تشتمل على تصور مهيأ مبدئياً للإنسان والكون وقد كان العلم وارثاً للدين”. هكذا إذن، فمن الهيمنة اللاهوتية الى الهيمنة العلمية الوضعية، وحتى ترسخ هذه الأخير ثوابتها في كل المجالات أخذت وقتا طويلا، بطيئا ومعقدا، فقد “اصطدمت أولا بالعقلية الأسطورية والغيبية المسيطرة، ولم تستطع أن ترسخ أقدامها جيدا قبل أن تزحزح العقلية اللاعلمية (أو الماقبل علمية) عن مواقعها…فالانتصارات التي حققها الغرب بدءا من القرن السادس عشر، أي بدءا من “الثورة الكوبرنيكية” في مجال العلوم الفيزيائية والفلكية، هي التي أعطته الثقة بنفسه وجعلته يتجرأ على تحقيق التقدم في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية” [12]، لتكمل بذلك دائرة الهيمنة الوضعية. فما هي إذن الأسس المنهجية التي استند إليها الوضعيون في دراسة الظاهرة الإنسانية؟

– المحور الثاني: الأسس المنهجية للوضعية في دراسة الظاهرة الانسانية:

نظرا لكون العلوم الإنسانية آخر حلقة في دائرة “الوضعية”، كانت تبعيتها الإبستمولوجية للعلوم الفيزيائية أمرا مسلما به، ورغم محاولات الإفلات من هذه التبعية أكثر من مرة، إلا أن العلوم الطبيعية والفيزيائية ظلت نموذجاً أعلى يقف أمامها، ولا شك أن هذه التبعية كانت أكثر صلابة في عصر دوركايم والمرحلة الوضعية أو العلمية المتطرفة. أما الآن فقد أصبحت أقل حدة، نظرا لكون التقليد الأعمى ولّد أبحاثا فجّة ومتعسفة جدا في السابق. وبالتالي فينبغي على الباحث في العلوم الإنسانية أن يعرف كيف يستفيد من مناهج العلوم الطبيعية من دون أن يقلدها بشكل حرفي استعبادي، أي يستفيد منها بحذر وذكاء ومرونة[13].

1- الأسس المنهجية في دراسة الظاهرة الانسانية

من الواضح إذن، أن العلوم الإنسانية نظرا للولادة المتأخرة كانت تدرج ضمن نطاق الفلسفة أو الدين أكثر من العلم، لهذا كانت أكبر قضية شغلت تفكير “دوركايم” واستأثرت به في عديد من مؤلفاته هي قضية الأخلاق والتربية، وكيفية إخضاعها للدراسة “الواقعية” التي تقوم على أسس منهجية واضحة ترقى الى مستوى “الدقة العلمية” بعيدا عن تأملات الفلاسفة والمناهج الاستبطانية. فما هي إذن الأسس المنهجية التي اعتمدت في ميدان العلوم الإنسانية؟ وما تأثيرها في بناء “الحقيقةالعلمية“؟ نجمل هذه الأسس في النقط الآتية:

– أ- اعتبار الحس وحده مصدرا لبناء الحقيقة العلمية في العلوم الانسانية:

وهذا المنحى واضح من خلال التوجيهات المنهجية الدوركايمة، والمتصفح لكتابه “قواعد المنهج في علم الاجتماع” يدرك دلالة هذا الأساس، ومعناه اعتبار الحس السلطة المرجعية الوحيدة في بناء المنهج العلمي،ونفي كل مصدر معرفي خارج هذا الإطار.

– ب- اعتبار النموذج الطبيعي سلطة مرجعية للعلوم الإنسانية:

قلنا سابقا بأن التبعية الابستيمولوجية لنموذج العلوم الطبيعية من الأمور المسلم بها، باعتبارها النموذج الضامن لبلوغ نتائج يقينية وموضوعية، في سعي حثيث نحو تأكيد وحدة المنهج في التفكير بغض النظر عن الموضوع المدروس. وهذا المسعى رغم أهميته الا أن هناك ملاحظات نقدية كثيرة وجهت اليه من طرف النقاد والباحثين في العلوم الانسانية، ففي تعقيب للناقدة السوسيولوجية “مادلين غرافيتس” في كتابها: “مناهج العلوم الاجتماعية” تقول: “إن مطالبة الوضعيين بالنظام الأساسي للعلم في العلوم الاجتماعية معناه أن نفرض عليها بأن تكون موضوعية على نفس نمط العلوم الطبيعية، فقد أجهد “كونت” والوضعيون أنفسهم للمماثلة بين المجتمع والطبيعة، وذلك يلزم بأن نتعرف على المجتمع باعتباره خاضعاً للقوانين، ويلزم علماء الاجتماع أن يكشفوا عن هذه القوانين عن طريق ملاحظة حرة دون استحسان أو استهجان للظواهر السياسية وأن يروا فيها بصفة أساسية – كما هو في العلوم الأخرى – مجرد موضوع قابل للملاحظة”[14].

– ج- إخضاع الظواهر الإنسانية للتجريب:

وضعت العلوم الإنسانية نصب أعينها نموذج العلوم الطبيعية يلزمها تقليده، وكان هذا النموذج هو العلوم الفيزيائية التي تعتبر معيار “التحقق التجريبي” المعيار الوحيد في بناء الحقائق العلمية، وكان الهدف من هذا المسعى واضحا، وهو محاولة تحقيق العلمية في العلوم الإنسانية. لكن التفكير في تحقيق هذا الهدف كان ينبغي أن يأخذ في الاعتبار طبيعة الموضوع.

ومما ينبغي أن نشير إليه أيضا هو أن “المنهج الوضعي” يهدف بالدرجة الأولى إلى إقصاء التجريد والتأمل واستبدال ذلك بالملاحظة والتسجيل الدقيق للوقائع. ولا شك أن هذا المسعى في البحث سيقدم نتائج باهرة على مستوى بناء الحقيقة العلمية في باب الانسانيات، لكن “المنهج الوضعي” لا يلجأ الى التجربة باعتبارها أداة معرفية بقدر ما يهدف إلى سد الطريق أمام كل ما هو تأملي تجريدي. ففي كتابه: “عصر الأيديولوجية” يشير “هنري ايكن” الى أن تجريبية “كونت” وضعية، وهو يستعملها بوضوح وصرامة كأداة إيديولوجية لتهديم أغاليط التفكير غير العلمي بأجمعها، وكان يهدف كفيلسوف إلى غرس عقلية لا تفكر باصطلاحات غير علمية، وترفض قضايا اللاهوت التقليدي والميتافيزيقي بكل بساطة على أساس أنها غير علمية[15].

– د – شيئية الظواهر الإنسانية:

يكفي الباحث أن يرجع إلى كتاب “قواعد المنهج في علم الاجتماع” ليقف على الثوابت المنهجية التي سطرها إيميل دوركايم، وأهمها: شيئة الظواهر الاجتماعية. فهذه الأخيرة مستقلة عن الأفراد وخارجة عن ذواتنا ويجب أن تدرس على أنها “أشياء”.

وفي دفاعه عن هذه الشيئية للظواهر السوسيولوجية يقول: ” فما حقيقة الشيء في الواقع؟ إن الشيء يقابل الفكرة، بمعنى أن معرفتنا له تأتي من الخارج على حين أن معرفتنا بالفكرة تأتي من الداخل والشيء هو كل ما يصلح أن يكون مادة للمعرفة… إننا لا نقول في الواقع بأن الظواهر الاجتماعية أشياء مادية، ولكن نقول إنها جديرة بأن توصف بأنها كالظاهرة الطبيعية تماماً…ومعنى ان نعتبر الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء هو دراستها بنفس الطريقة التي تدرس بها الظواهر الطبيعية: أن تتحرر من كل فكرة سابقة حول هذه الظواهر، وأن تأتي معرفتنا بها من الخارج عن طريق الملاحظة والمشاهدة، وليس من الداخل عن طريق التأمل والاستبطان. وليس معنى أننا نعالج طائفة خاصة من الظواهر على أنها أشياء هو أننا ندخل هذه الظواهر في طائفة خاصة من الكائنات الطبيعية، بل معنى ذلك أننا نسلك حيالها مسلكا عقليا خالصا، أي أن نأخذ في دراستها وقد تمسكنا بهذا المبدأ الآتي: وهو أننا نجهل كل شيء عن حقيقتها وأننا لا نستطيع الكشف عن خواصها الذاتية وعن الأسباب المجهولة التي تخضع لها عن طريق الملاحظة الداخلية مهما بلغت هذه الطريقة مبلغا كبيرا من الدقة”[16].

يتبين من هذا القول؛ بأن هناك توجها واضحا نحو الهيمنة الوضعية في مقابل الهيمنة اللاهوتية. وإلا فما معنى تشييئ الظواهر الإنسانية؟ وما معنى التحرر من كل فكرة سابقة؟ أليس جعل الانسان تابعاً للمادة في كل شؤونه؟ ألم يعد الانسان أمام هذا الطرح مجرد آلة متحركة مستهلكة لا تفكر؟  ألم تسقط “الوضعية” في نفس “الأدلوجة”[17] اللاهوتية التي وقفت في وجهها؟ ألم يسقط دعاة “الوضعية” في الواحدية المطلقة عندما جعلوا الطبيعة/المادة مرجعاً؟ أليس هذا هجوما على الطبيعة البشرية عندما يساوي “المنهج الوضعي” بين الظاهرة الإنسانية والشيء؟فما هي إذن، مرجعية هذه الفلسفة التي تقصي الإله من الكون والحياة؟

2- مرجعية الفلسفة الوضعية:

لا ينكر أحد اليوم، سواء في الضفة الغربية الشمالية أو الضفة الشرقية الجنوبية، بأن هناك أزمة خانقة تعصف بالعالم، تولّدت عن صراع وهمي بين “الحقيقة” و “اللاحقيقة”. وأمام هذا الوضع المتأزم ظهرت أبحاث حاولت أن تتدارك الانسان من المستنقع الذي أوقعته فيه “الفلسفة الوضعية” مستخدمة مفاهيم جديدة دالة. وبالتالي أصبحنا نتكلم عن “الانسان ذي البعد الواحد” و”الانسان – النموذج” وغيرها من المفاهيم والتصورات التي تنذر بحجم الأخطار القادمة[18].

إن هذا الانقلاب في الترسانة المفاهيمية لا يمكن فهم فحواه دون الوقوف على خصوصيات “المنهج الوضعي” الذي جعل من “المادة” مرجعا لكل حقيقة كيفما كانت سواء بيولوجية أو سيكولوجية أو سوسيولوجية..، ففي كتابه “الفلسفة المادية وتفكيك الانسان” يقف الدكتور عبد الوهاب المسيري على هيمنة “المنهج الوضعي” الذي جعل من الطبيعة/المادة المرجع والضامن لكل حقيقة علمية. فالطبيعة كما يقول “المسيري” ليست هي الأحجار والأشجار والسحب والقمر، وإنما هي كيان يتسم ببعض الصفات الأساسية وتشكل في مجموعها أساس الفلسفة الوضعية المادية التي يمكن تلخيصها في النقط الآتية[19]:

-الإيمان بوحدة الطبيعة: أي الإيمان بأن الطبيعة شاملة لا انقطاع فيها ولا فراغات، فهي الكل المتصل وما عداها مجرد جزء ناقص، فهي لا تتحمل وجود أي مسافات أو ثغرات أو ثنائيات.

-الإيمان بقانونية الطبيعة: أي لكل علة سبب، فالطبيعة إذن، شيء منتظم متسق مع نفسه، فكل سبب يؤدي إلى النتيجة نفسها في كل زمان ومكان.

– الإيمان بأن الطبيعة بأسرها خاضعة لقوانين واحدة: أي قوانين ثابتة منتظمة صارمة حتمية مطردة وآلية، وبأنها كذلك رياضية واضحة، ولهذا فهي لا تقبل أي خصوصيات.

– الإيمان بأنه لا يوجد غائية في العالم المادي: بمعنى أن الطبيعة قوة متعينة لا تكترث بالخصوصية ولا بالتفرد أو بالظاهرة الإنسانية ولا بالإنسان الفرد أو باتجاهاته ورغباته. ذلك لأن الانسان ليس له مكانة خاصة في الكون، فهو لا يختلف في تركيبه عن بقية الكائنات. والانسان الفرد أو الجزء يذوب في الكل ذوبان الذرات فيها.

– الإيمان بأنه لا يوجد غيبيات أو تجاوز للنظام الطبيعي: بمعنى أن الطبيعة تحوي داخلها كل القوانين التي تتحكم فيها وكل ما تحتاج إليه لتفسرها، فهي علة ذاتها، توجد في ذاتها، مكتفية بذاتها، وهي واجبة الوجود.

يتبين إذن من هذه المرتكزات أن “الوضعية” لا تقبل سوى “المادة”[20] باعتبارها الشرط الوحيد للحياة سواء كانت طبيعية أو بشرية. وكلمة “المادة” – كما يقول “المسيري” – قد تبدو لأول وهلة كلمة واضحة، لكن الأمر أبعد، فالشيء المادي هو الشيء الذي كل صفاته مادية: حجمه، كثافته، لونه، سرعته، صلابته، كمية الشحنة الكهربائية التي يحملها، سرعة دورانه، درجة حرارته، مكان الجسم في الزمان والمكان…الخ. فالصفات المادية هي التي يتعامل معها علم الطبيعة (الفيزياء). فالمادة ليس لها أي سمة من سمات العقل: الغاية، الوعي، القصد، الرغبة، الأغراض والأهداف، الاتجاه، الذكاء، الإرادة، المحاولة، الادراك…الخ[21].

إذا كان “علم الطبيعةّ” لا يتعامل إلا مع الصفات المادية، وأن “الانسان” أهم ميزة تميزه هي: “العقل” وسمات هذا الأخير مجاوزة إن لم نقل مفارقة للمادة، فهل يمكن بالتالي جعل الظاهرة الإنسانية مثل الظاهرة الطبيعية ودراستها كما تدرس الأولى بنفس المنهج والآليات والقوانين؟

– المحور الثاني: ملاحظات نقدية حول النظرية التشييئية

إن التساؤل أعلاه يدفعنا إلى أن نقف ولو باقتضاب مع الملاحظات النقدية التي وجهت إلى”النظرية التشييئية[22]  التي اعتبرت الانسان وما يدور في فلكه أو ما يصدر عنه من سلوك وأفعال ضمن إطار المادة، وهي كما رأينا هجمة شرسة على “الطبيعة البشرية”، فالعلم كما يقول هايدجر لا يفكرLa science ne pense pas) ( بمعنى أن “العلم يكتشف المخترعات ويتقدم من دون أن يفكر فعلياً بما يفعله أو من دون أن يحيط بمغزى اكتشافه ودلالاتها البعيدة”[23].هذا في العلم الطبيعي واضح وجلي لأن الموضوع المدروس منفصل تمام الانفصال عن الدارس، لكن المسألة أعقد عندما يتعلق الأمر بالعلوم الإنسانية، فالحقيقة العلمية المستخلصة من دراسة الظاهرة الإنسانية تختلف جذريا عنها في العلوم الدقيقة. فتطبيق الدراسة الكمية والاحصائية الشكلانية على المجال الطبيعي لا يطرح أية مشكلة، في حين أن تطبيقها على المجال الإنساني يطرح أكثر من مشكلة. فالإنسان إنسان حي مليء بالحساسية والشعور، فكيف إذن يحق لنا أن ندرسه بطريقة شكلانية وتجريدية باردة من أجل استخراج القوانين العامة التي تتحكم به وبسلوكه[24]. من هنا نتساءل؛ ألسنا عندما نختزل الانسان إلى مجرد عناصر أولية كالمادة الطبيعية نقتل أغلى ما فيه من سمات مميزة إذ نشرحه بهذه الطريقة؟

  • في الفرق بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية:

انطلاقا من خصوصية “الظاهرة الإنسانية” و”مركزية الانسان” في الكون وقدرته على التجاوز، لاحظ كثير من العلماء في الشرق والغرب أن هناك اختلافات جذرية بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية، نجملها في عشرة مقابل عشرة على الشكل الآتي[25]:

الظاهرة الطبيعية:الظاهرة الإنسانية:
1-مكوَّنة من عدد محدود نسبياً من العناصر التي تتميز ببعض الخصائص البسيطة، بمعنى يمكن تجزيئها. بالإضافة الى وجودها داخل شبكة من العلاقات الواضحة والبسيطة نوعاً، والتي يمكن رصدها.1- مكوَّنة من عدد غير محدود تقريبا من العناصر التي تتميز بقدر عال من التركيب، ويستحيل تفتيتها، لأن العناصر مترابطة بشكل غير مفهوم لنا. وحينما يفصل الجزء عن الكل، فإن الكل يتغير تماماً ويفقد الجزء معناه. بالإضافة الى وجودها داخل شبكة من علاقات متشابكة متداخلة بعضها غير ظاهر ولا يمكن ملاحظته.
2- تنشأ الظواهر الطبيعية عن علل يسهل تحديدها وحصرها، ويسهل بالتالي تحديد أثر كل علة في حدوثها وتحديد هذا الأثر تحديداً رياضياً.2- يصعب في الظاهرة الإنسانية تحديد وحصر كل أسبابها، وقد تعرف بعض الأسباب لا كلها، ولكن الأسباب قد تكون في العادة متداخلة متشابكة، ولذا يتعذر في كثير من الحالات حصرها وتحديد نصيب كل منها في توجيه الظاهرة التي ندرسها.
3- الظاهرة الطبيعية وحدة متكررة تَطَّرد على غرار واحد وبغير استثناء: إن وجدت الأسباب ظهرت النتيجة. ومن ثم، فالتجربة تجرى على عينة ثم يعمم الحكم.3- الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تطَّرد، لأن كل إنسان حالة متفردة، ولذا نجد أن التعميمات، حتى بعد الوصول اليها، تظل تعميمات قاصرة ومحدودة ومنفتحة تتطلب التعديل في أثناء عملية التطبيق من حالة إلى أخرى.
4- الظاهرة الطبيعية ليست لها إرادة حرة ولا وعي ولا ذاكرة ولا ضمير ولا شعور ولا أنساق رمزية تسقطها على الواقع وتدركه من خلالها، فهي خاضعة لقوانين موضوعية(برانية) تحركها.  4- الظاهرة الإنسانية على خلاف هذا، ذلك لأن الانسان يتسم بحرية الإرادة التي تتدخل في سير الظواهر الإنسانية، كما أن الانسان له وعي يسقطه على ما حوله وعلى ذاته فيؤثر هذا في سلوكه. والانسان له ذاكرة تجعله يسقط تجارب الماضي على الحاضر والمستقبل، كما أن نمو هذه الذاكرة يغير من وعيه بواقعه. وضمير الانسان يجعله يتصرف أحيانا بوعي غير منطقي، كما أن الأنساق الرمزية للإنسان تجعله يلون الواقع البراني بألوان جوانية.
5- الظواهر الطبيعية ينم مظهرها عن مخبرها، ويدل عليه دلالة تامة بسبب ما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي شامل يوحّد بينهما فيجعل الظاهرة الطبيعية كلا مصمتاً تحكمه من الداخل والخارج قوانين بالغة الدقة لا يمكنها الفكاك منها، ولهاذا تنجح الملاحظة الحسية والملاحظة العقلية في استيعابها كلها.5- الظواهر الإنسانية ظاهرها غير باطنها (بسبب فعاليات الضمير والأحلام والرموز) ولذا فإن ما يصدق على الظاهر لا يصدق على الباطن. وحتى الآن لم يتمكن العلم من أن يلاحظ بشكل مباشر التجربة الداخلية للإنسان بعواطفه المكبوتة وأحلامه الممكنة أو المستحيلة.
6- لا يوجد مكون شخصي أو ثقافي أو تراثي في الظاهرة الطبيعية، فهي لا شخصية لها، مجردة من الزمان والمكان تجردها من الوعي والذاكرة والإرادة.6- المكون الشخصي والثقافي والذاتي مكوّن أساسي في بنية الظاهرة الإنسانية. والثقافة ليست شيئاً واحداً وإنما هي ثقافات مختلفة، وكذا الشخصيات الإنسانية.
7- معدل تحول الظاهرة الطبيعية يكاد يكون منعدماً (من وجهة نظر إنسانية)، فهو يتم على مقياس كوني، كما أن ما يلحق بها من تغير يتبع نمط برنامج محدد، ولذا فإن الظواهر الطبيعية في الماضي لا تختلف في أساسياتها عنها في الحاضر، ويمكن دراسة الماضي من خلال دراسة الحاضر.7- معدل التغير في الظواهر الإنسانية أسرع بكثير ويتم على مقياس تاريخي، وما يطرأ عليها من تغير قد يتبع أنماط مسبقة، ولكنه قد ينسلخ عنها. وعالم الدراسات الاجتماعية لا يستطيع أن يرى أو يسمع أو يلمس الظواهر الإنسانية التي وقعت في الماضي، ولذا فهو يدركها عن طريق تقارير الآخرين الذين يلونون تقاريرهم برؤيتهم، فكأن الواقعة الإنسانية في ذاتها تفقد إلى الأبد فور وقوعها.
8- بعد دراسة الظواهر الطبيعية والوصول إلى قوانين عامة، يمكن التثبت من وجودها بالرجوع إلى الواقع. ولأن الواقع الطبيعي لا يتغير كثيرا، فإن القانون العام له شرعية كاملة عبر الزمان والمكان.8- بعد راسة الظواهر الإنسانية يصل الانسان إلى تعميمات، فإن هو حاول تطبيقها على مواقف إنسانية جديدة فإنه سيكتشف أن المواقف الجديدة تحتوي على عناصر جديدة ومكونات خاصة، إذ من غير الممكن أن يحدث في الميادين الاجتماعية ظرفان متعادلان تماماً، ومتكافئان من جميع النواحي.
9- لا تتأثر الظواهر الطبيعية بالتجارب التي تجرى عليها سلباً أو إيجاباً، كما أن القوانين العامة التي يجردها الباحث والنبوءات التي يطلقها لن تؤثر في اتجاهات مثل هذه الظواهر، فهي خاضعة تماما للبرنامج الطبيعي.9- تتأثر العناصر الإنسانية بالتجربة التي قد تجرى عليها، فالأفراد موضوع البحث يحولون من سلوكهم (بوعي أو بدونه) لوجودهم تحت الملاحظة، ففي إمكانهم أن يحاولوا إرضاء صاحب التجربة أو يقوضوا من نتائجه. كما أن النبوءات التي يطلقها الباحث قد تزيد من وعي الفاعل الإنساني وتغير من سلوكه.
10- يمكن للباحث الذي يدرس الظاهرة الطبيعية أن يتجرد إلى حد كبير من أهوائه ومصالحه، لأن استجابته للظاهرة الطبيعية وللقوانين الطبيعية يصعب أن تكون استجابة شخصية أو أيديولوجية أو إنسانية، ولذا يمكن للباحث أن يصل إلى حد كبير من الموضوعية.10-أما الباحث الذي يدرس الظاهرة الإنسانية فلا يمكنه إلا أن يستجيب بعواطفه وكيانه وتحيزاته، ومن خلال قيمه الأخلاقية ومنظوماته الجمالية والرمزية، ولذا يصعب عليه التجرد من أهوائه ومصالحه وقيمه التي تعوقه في كثير من الأحيان عن الوصول إلى الموضوعية الصارمة.

بيّن إذن، من خلال هذه المقارنة بين الظاهرة الطبيعية والإنسانية، أن هناك تعسفا واضحاً في تطبيق المنهج الوضعي على كل الظواهر بما فيها الإنسانية. فالنظرية التشييئية تصلح تماما في الظاهرة الطبيعية، فهي لا عقل ولا إرادة لعناصرها، ومظهرها ينم عن مخبرها، أحادية النسق…الخ، لذا يمكن ملاحظتها عن طريق الحواس والعقل، وبالتالي تصبح جاهزة للتجريب المخبري في فصل تام بين ذات الباحث وموضوع بحثه. في حين يصعب تطبيق ذلك على موضوع الظاهرة الإنسانية، بوصفها ظواهر عنصرها الأساسي هو الانسان، وهذا الأخير يمتلك عقلا وإرادة، وهو “كائن اجتماعي بطبعه” كما يقول “ابن خلدون”، “كائن رامز” حسب ارنست كاسيرر، “كائن مفكر مبدع عاقل” كما عبر عن ذلك ديكارت، “كائن أخلاقي” كما ذهب إلى ذلك “طه عبد الرحمان” وغيره من فلاسفة الأخلاق.

إن الانسان كائن معقد، تعبت الأقلام في تحديد ماهيته. إنه عصي عن التعريف، لذا فأي دراسة للظواهر المرتبطة به أشد الارتباط ينبغي أن تراعي هذا التعقيد الذي يتسم به. من هذا المنطلق اكتشف الكثير من علماء الغرب والشرق سذاجة الرؤية التجريبية الوضعية، التي تصر على الحقائق الصلبة وعلى السببية الصلبة والمطلقة، والتي ذهبت إلى أن قوانين التاريخ والمجتمع الانسانيين تشبه قوانين الطبيعة (بالمعنى الساذج لفكرة القانون العلمي) وحاولت اكتشاف هذه القوانين وصباغتها بطريقة “علمية” دقيقة كمية، وأصر هؤلاء العلماء الذين رفضوا مثل هذه الرؤية الساذجة على ضرورة التمييز بين العلوم الإنسانية والطبيعية، وعلى ضرورة رفض فكرة وحدة العلوم وواحديتها.

إن العلوم التي تدعي أنها إنسانية وتدور في نطاق المرجعية المادية الكامنة تنطلق من الايمان بأنه لا توجد عناصر إنسانية مستقرة أو طبيعة بشرية ثابتة خاصة، فما يوجد هو ممارسات وعقائد لا ينتظمها إطار. وانطلاقا من مفهوم وحدة العلوم يبدأ تأسيس علوم طبيعية تستبعد الجوهر الإنساني ومفهوم الطبيعة البشرية. ومما لا شك فيه فإذا أراد الانسان أن يبني جسرا فإنه لا بد أن يعرف طبيعة المواد التي سيبني بها هذا الجسر، وطريقة تنظيمها وتركيبها وخواصها…الخ، ومن دون هذه المعرفة، لا يمكن أن يدعي الانسان أنه على “علم” بالجسر، ولتأسيس علم الحيوان، مثلا، لا بد أن نعرف نطاق هذا العلم من خلال تعريف الحيوان في مقابل الانسان والنبات، وحتى في العلوم غير الدقيقة، مثل النقد الأدبي وتاريخ الفنون، لا بد أن تتم الإجابة عن سؤال ما الأدب؟ والسؤال الذي لا بد أن نطرحه هو: هل يمكن تأسيس علوم إنسانية دون معرفة الإنسان؟ هذا ما حدث بالفعل في العلوم الإنسانية الغربية إذ اختفت فيها الإشارات إلى “الطبيعة البشرية” تماما، ولا يمكن الحوار إلا من خلال المؤشرات الكمية والجداول والقرائن المادية المباشرة[26].

إن محور هذا النقد الابيستمولوجي ينطلق من مسلّمة أساسية منطوقها: إن التقليد الأعمى والعبودية المطلقة للعلوم الطبيعية، ولّد أبحاثاً فجّة ومتعسفة جدا في السابق، وعلى الباحث في العلوم الإنسانية أن يعرف كيف يستفيد من مناهج العلوم الطبيعة. بمعنى أن نتعامل معها بحذر ومرونة. وعليه، فمعيار الموضوعية التي تنشده العلوم الدقيقة وترفعه مبدأ صارماً (أي فصل الذات عن الموضوع)، يصعب تطبيقه بنفس الصرامة العلمية عندما يتعلق الأمر بمجال الانسانيات.

  • اشكال الموضوعية في العلوم الإنسانية:

ما من شك اليوم في أن التفكير العلمي ينتج الحقائق ويصوغ القوانين والنظريات، وفق منهج علمي صارم لا يقبل الأهواء والعواطف. ومن أهداف هذا المنهج مساعدة الانسان في اكتشاف نظام الكون وفهم قوانين الطبيعة من أجل السيطرة عليها. هذا ما دفع بالمنظرين في العلوم الإنسانية الى طرح سؤال السيطرة في حقل الانسانيات على غرار الطبيعيات، لسبب بسيط وهو أن التفكير اللاهوتي والميتافيزيقي أثبتا أنهما عاجزين عن ذلك، وأنهما غير مؤهلين لقيادة المستقبل. لذلك، وجب الابتعاد عنهما وتقليد “المنهج الوضعي” الذي من خلاله يمكننا فهم العالم الذي نعيش فيه والتغلب على مشكله والزيادة من قدرته، وبخاصة في تفسير الظروف والأحداث والتنبؤ بها ومن ثم ضبطها.

إنه إذن، مسعى واضح نحو توحيد العلوم، ضمن تصور واضح للعلم وهو المعرفة المنظمة التي تدور حول موضوع معين وتقوم على منهج محدد، وتؤدي إلى نتائج وقوانين متطابقة، ومن ثم فلا بد لهذه المعارف والمعلومات والحقائق أن تكون منظمة ومنسقة، وأن يتم التوصل إليها عن طريق تفكير علمي منظم يستند إلى الموضوعية والابتعاد عن الذاتية[27]. بمعنى أن الابستمولوجيا الوضعية تفترض أن هناك حقيقة موضوعية “خارج ذهن الباحث”، وأن بالإمكان الكشف عنها على يد الباحثين الموضوعيين غير المتأثرين بالأحكام القيمية، من خلال استعمال طرق البحث الموضوعية القابلة للتكرار[28].

هذا التوجه في البحث الذي خطط له المنظرون الأوائل والمتأثرون بالطابع الامبريقي لم يسلم من النقد، فالباحث في العلوم الإنسانية مهما حاول أن يتجرّد من ذاتيته فإنه يسقط رغما عنه فيها. من هذا المنطلق فالباحثون في العلوم الإنسانية يكادون يجمعون على أن أهم العوائق التي تعترض هذه العلوم في سعيها إلى تحقيق الموضوعية العلمية تكمن في العوامل الذاتية والشخصية، والانتماءات الإيديولوجية أو الدينية أو العرقية التي تشكل مجموع القيم التي يدين بها الباحث، والتي تتحكم في مجموع العمليات الفكرية والعقلية التي يقوم بها، وتوجهه نحو اختيارات لا تكون في كثير من الأحيان علمية موضوعية، في تأثير واضح للمواقف التي يتبناها الباحث على نتائجه بشكل صارم، إلى درجة أن النقاد أعلنوا صراحة أن الموضوعية الكاملة في العلوم الإنسانية مستحيلة التحقق، وأنه من العبث أن نتوقع منها أن تقدم إجماعاً أو اتفاقاً حول الوقائع وتفسيراتها[29].وهذا يدل على أن الموضوعية في مجال العلوم الإنسانية لا تعني تجريد الباحث من ذاتيته تماما وإبعاد الفعل الإنساني بالمطلق، كما ذهب إلى ذلك التيار الوضعي، وإنما التحليل الموضوعي يعني عند “المنظور التأويلي أن “لا يتم إلا بحضور المعنى لدى الفاعلين وتأويلها، وحضور ذات الباحث كونه جزءا من عملية البحث، فهذا الأخير عملية تفاعلية تحتاج إلى دينامية الباحث بقدر دينامية موضوع البحث في العلوم الإنسانية. ف”المنظور التأويلي” لا يقتنع بأن الحقيقة الإنسانية موجودة “خارجاً” منتظرةً اكتشافها وقياسها، بل يرى أنها حقيقة علائقية وشخصية/ذاتية، وأنها تتولّد أثناء العملية البحثية. ولا يفترض أن يكون الباحث ملتزما بالحياد و”موضوعياً”، بل أن يكون مساهماً مساهمة إيجابية في بناء المعرفة الوصفية، الاستكشافية والمفسرة في نفس الوقت. وبالمثل فإن قيمة البحث لا تعتمد على ما إذا كان قابلا للتكرار من عدمه، بل تعتمد على مدى ما يقدمه إلى معرفتنا الأساسية في موضوع معين[30].

إن الموضوعية التي رفعتها “الوضعية” رهاناً لها لم يلبث أن اكتشف النقاد أنها شعار تبريري وراءه هدف واضح وهو الهيمنة الوضعية على كل مفاصل الحياة، وهو توجه إيديولوجي واضح المعالم أثبتته الدراسات السوسيولوجية السابقة التي سخرت لخدمة الأهداف السياسية والقومية والطبقية والاستعمارية، نضرب مثالا على ذلك الدراسات الوصفية “الكلونيالية” التي قام بها “ميشوبلير” و”منتانيي” و”موريس موليرياس” حول المغرب تمهيدا لاستعماره وفرض الهيمنة عليه.

لعله اتضح مما سبق أن “رهان الموضوعية” في باب العلوم الإنسانية فشل في تحقيق مسعاه، مما يعني أن التخلص نهائيا من الذاتية أمر متعذر. ومن ثم فإن المشكلة التي ينبغي طرحها للنقاش والتداول حولها هو مكانة الحقيقة في كل من العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.

إذن، من هنا يمكن القول: إن بناء الحقيقة العلمية في مجال العلوم الدقيقة يختلف عنها في باب العلوم الإنسانية، مما سيؤدي إلى تعدد المناهج والاتجاهات النظرية في دراسة الظاهرة الإنسانية، وتعدد المناهج يعني تعدد الحقائق. فهل هذا التعدد إيجابي أم سلبي؟ وما هي إذن، مكانة الحقيقة في هذه العلوم؟

على سبيل الختم:

اعتدنا كقراء أن نقرأ خواتم الدراسات والبحوث كونها زبدة عمل الباحث. لكن هذه الخاتمة ستشد انتباهنا نحو نقطة غاية في الأهمية ستدفعنا إلى مزيد من البحث والتدقيق في مجالات البحوث الإنسانية والعمل من ثم على تطويرها وملاءمتها مع مجتمعات الدراسة. وانطلاقا من هذه الإشارة سنركز على مكانة هذه العلوم المعرفية ودرجة موثوقيتها من الناحية الابستيمولوجية. أو بتعبير آخر؛ مكانة “الحقيقة” في “العلوم الإنسانية“. فهذه الأخيرة منذ ولادتها والمتخصصون يتجادلون حول حقائقها، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا، فالمسألة لم تحسم بعد.

ونحن إذ نتناول هذه النقطة ونضيئها في هذه الخاتمة، فإننا ننطلق من استفزاز معرفي أشار إليه “جيل غاستون غرانجي”[31] في إحدى حواراته بقوله: “لم نتوصل بعد إلى بلورة المكانة الخاصة بعلوم الانسان والتي تحظى بالإجماع. صحيح أننا توصّلنا إلى معلومات ومعارف عديدة من طراز علمي في ما يخص دراسة الانسان، ولكننا لا نستطيع أن نتحدث عن العلوم الإنسانية بشكل راسخ وواثق من نفسه حتى الآن”[32]. وشهادة “جرانجي” لا تصدر من فراغ أو تطفل معرفي، فالرجل أفنى حياته باحثا ومحاضرا ومؤلفا في “ابستمولوجيا العلوم”. وهذا يؤكد مقولة “أزمة المنهج في العلوم الإنسانية”، فإذا أخذنا “الحقل السوسيولوجي” كأهم حقل في ميدان العلوم الإنسانية، نجد عالم الاجتماع الأمريكي “ألفن جولدنر” (Alvin Ward Gouldner) يؤشر على هذه الأزمة في عنوان لافت لكتابه العمدة “الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي“، وعلى طول صفات الكتاب (747) يحاول تشريح هذه الأزمة، بحيث يرى أن مداخل هذه الأزمة يمكن إرجاعها إلى العواطف الشخصية  للمنظرين الاجتماعيين، وبناء على ذلك يعتقد جولدنر أنه لكى ‏نفهم التنظير الاجتماعي الحديث فإنه من الضروري أن يتجه علماء الاجتماع إلى دراسة ذواتهم وتأملها، مثلما يسعون إلى دراسة ‏البشر الآخرين في المجتمع، وهو بهذا يقدم مدخلاً معرفيا جديداً لفهم التنظير الاجتماعي من خلال دعوته إلى علوم ‏إنسانية قادرة على تأمل ذاتها[33].‏

وقد دعا “جولدنر” في أحد فصول كتابه المذكور أعلاه إلى تأسيس “علم الاجتماع لعلم الاجتماع“، وهي دعوة وجيهة لمعالجة الأزمة التي سقط فيها هذا الحقل. وأهمية هذا العلم الجديد تكمن في الإجابة عن أسئلة متعلقة بعلم الاجتماع وعلماء الاجتماع أنفسهم، من قبيل؛ ما هو عِلْم الاجتماع؟ وماذا يدرس هذا العلم بالضبط؟ وما سبب تحول علماء الاجتماع من نظرية إلى أخرى؟ وهل للضغوط والفرص التي تمنح لهم تأثير على مسار بحوثهم؟ وهل تعدد الحقائق الناتجة عن تضارب النظريات السوسيولوجية مصدر غنى أم مصدر ضعف وقلق وإزعاج؟ ثم من هو عالم الاجتماع؟

لا شك أن هذه الأسئلة ملفتة للنظر، وقد نجد لها إجابات مبسطة في الكتب التعليمية، لكن المسألة أعقد مما نتصور، فعلماء الاجتماع حسب “جولدنر” يقدمون الإجابة الآتية، حول سؤال مثلا من هو عالم الاجتماع؟ فيقولون بأنه “الانسان الذي يدرس حياة الجماعة، ويقوم بفحص وجود الانسان في المجتمع، ويقوم بإجراء البحوث حول العلاقات الإنسانية المتبادلة. فهذه الإجابة في تصور “جولدنر” تشبه إجابة رجل الشرطة الذي عليه أن يصف دوره حينما يقول بأنه يقبض على المجرمين، أو مثل رجل الأعمال حينما يقول بأنه يصنع الصابون. أو مثل القسيس حينما يصف دوره فيقول بأنه يقيم قداساً لمجموعة من البشر، أو مثل عضو الكونجرس الذي يصف دوره فيقول بأنه يوافق على القوانين”[34].

ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يؤشر كما أشرنا في متن هذه الورقة إلى أن الانسان أعقد مما يتصور والظواهر الملتصقة به ظواهر تحمل في طياتها أنفاس هذا الانسان. وبالتالي حسب العديد من الباحثين فإن اعتماد المنهج الوصفي في دراسة الظاهرة الإنسانية أدى إلى نتائج مشبعة بالعبق الأيديولوجي.

إن هذا التوجه المنهجي الصارم المبني على فكرة “الموضعة”، اعتبره العديد من النقاد قصورا منهجيا. وهذا النقص لم يكن نتيجة خطأ في التحليل أو نقص في المعلومات، بقدر ما هو تعبير عن أزمة في الأسس المنهجية التي انطلق منها “المنهج الوضعي”، تلك الأسس التي لا تستوعب إلا نوعاً من الظواهر هي تلك التي تكون قابلة للإدراك الحسي، بيد أن الانسان من حيث هو مجموع تفاعلات نفسية وبيولوجية وقيمية وعلائقية متشابكة لا يمكن اختزاله أبداً في جانبه السلوكي الحسي فقط، ومن ثم الدخول في تفسيرات تعسفية لإخضاع الأبعاد الأخرى لنفس المقاييس المادية[35].

السؤال الذي يطرح في هذا الصدد، ما مكانة الحقيقة في العلوم الدقيقة في مقارنتها بعلوم الانسان؟ ألم تعدّل العلوم الدقيقة من مناهجها لتتلاءم مع الظواهر المنفلتة من الملاحظة والقياس؟

يمكن القول: إن حقائق الانسان لا تقاس كما تقاس حقائق الأشياء المادية، ومع ذلك فهذه الأخيرة عدّلت من مناهجها حتى تتلاءم والظواهر المستعصية عن القياس الكمي، فاسحة المجال إلى “الخيال العلمي” و”العقلانية العلمية المبدعة” و”حوار العقل والتجربة”…الخ، هكذا إذن، حتى في مجال العلوم الدقيقة لا يمكن الحديث عن الحقيقة المطلقة والموضوعية الصارمة بالمفهوم التقليدي القائل بأن الظاهرة مستقلة عن مدرِكها، فما هو ملاحظ اليوم أمام التقدم العلمي هو أن مهمة العالِم لم تعد تتحدد في أن ينقل إلينا الظاهرة كما هي موجودة في الواقع، بل إن ذاته وأدوات القياس التي يعتمد عليها تتدخل في تحديد علاقات معينة بين الأداة وما يقاس. بمعنى أنه حتى في العلوم الدقيقة ينبغي إعادة النظر في مفهوم الحقيقة، فهذه الأخيرة ليس نهائية ومطلقة بل أصبحت في العلم المعاصر قابلة للتعديل والتحسين كلما اقتضى الأمر ذلك، فحقيقة “نيوتن” و”اينشتاين” عالم الميكانيك والفيزياء مختلفتان. يقول “غاستون غرانجي” مدعّماً هذا الطرح؛ “في العلم – بالمفهوم المعاصر للكلمة – لا توجد إلا حقائق مؤقتة وجزئية.  والآن إذا ما نظرنا في علوم الانسان وجدنا أنها تعيش الحالة نفسها. وإذا ما بحثنا في العلوم الإنسانية عن حقائق مطلقة، فإن ذلك يعني استبدال فكرة العلم بالأيديولوجيا الدوغمائية قليلا أو كثيراً. وعندئذ نخرج من مجال العلم لكي ندخل في مجال “الحقائق المطلقة” التي يدافع عنها الناس حتى درجة القتل”[36].

بناء عليه، فإذا كانت العلوم الدقيقة تراجع مناهجها باستمرار وتخضعها لملاءمة الظاهرة المدروسة، فإن العلوم الإنسانية أولى بهذه المراجعة نظرا لخصوصية الظاهرة الإنسانية. وبالتالي فبناء الحقيقة في العلوم الإنسانية يحتاج الى مرونة الباحث وعدم التعصب، حتى لا يسقط في الأيديولوجية، لأن هناك مسافة ضئيلة بين حقيقة العلم وحقيقة الإيدلوجية، وإذا شئنا التمييز بينهما نجمل ذلك على الشكل الآتي:

حقيقة الإيدلوجيةحقيقة العلم
– الأيديولوجيا عقيدة تهدف قبل كل شيء إلى الحث على الانخراط في الممارسة والعمل. – الأيديولوجي يهدف الى تأطير عقلية الناس وتجييشهم، كونه يعرف النتيجة التي يريد الوصول اليها، موظفاً في ذلك التبرير والتزييف والوهم والادماج.– العلم ليس عقيدة ولا يهدف إلى السيطرة والسلطة ما لم يتحول الى أيديولوجيا. – العالم الباحث لا يهدف إلى التجييش والحشد، لأنه لا يعرف النتيجة التي سيتوصل إليها بشكل مسبق. إنه مأخوذ بلعبة الاكتشاف السحرية والجذابة، والممتعة في آن معا.

إذن هناك مسارين مختلفين في بناء الحقيقة في مجال الإنسانيات، فكون الأيديولوجي يستخدم الحجج والبراهين من أجل الاقناع، فإن الباحث في مجال العلوم الإنسانية ملتزم بقضاياه لكنه مدرك تمام الادراك أن بناء الحقيقة يتطلب منه صرامة علمية وفق منهج أو مناهج لأن غايته نبيلة، فمنطق العلم – أياً كان هذا العلم – يأبى التزييف والتزوير لأنه مكشوف لا محالة. ولنا في تاريخ العلم ما يثبت صحة هذا القول.

خلاصات موجزة للاستثمار:

من بين اهم النتائج الموجزة التي توصلنا إليها ضمن هذا البحث نذكر الآتي:

– تعتبر العلوم الإنسانية حديثة الولادة في مقارنتها مع العلوم الدقيقة التي ترسخ منهجها بفضل وضوح موضوعها، من ثم فالحقائق الناتجة عنها يقينية وواضحة قابلة للقياس ويمكن تعميمها.

– نظرا للولادة المتأخرة للعلوم الإنسانية فإن حقائقها جاءت مربكة نظرا لعدم وضوح المنهج الذي اعتمدته في البحث

– إن تبعية العلوم الإنسانية للمنهج الوضعي جعلها أسيرة الموضوعية والشيئية التي تنفلت منها الظاهرة الإنسانية.

– إن “النظرية التشييئية” نظرة اختزالية كونها اعتمدت الحس مصرا وحيدا للمعرفة الإنسانية محاولة بذلك إحداث قطيعة تامة بين الذات والموضوع في دراسة الظاهرة الإنسانية.

-إن دعاة “الوضعية” جعلوا من “المادة” مرجعا لكل حقيقة كيفما كانت سواء بيولوجية أو سيكولوجية أو سوسيولوجية..

– لفهم إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية لا بد من الرجوع إلى الأسس المنهجية التي انطلقت منها هذه العلوم.

– رغم المجهودات التي قام بها الوضعيون من أجل تحرير العلوم الإنسانية من تبعيتها للأفكار الفلسفية والميتافيزيقية وإلحاقها بالعلوم الطبيعية الا أنها لم تستطع تحقيق الموضوعية الصارمة التي رفعتها شعارا نظرا لتداخل الذات والموضوع في دراسة الظاهرة الإنسانية.

– إن الخلفيات الفلسفية والفكرية التي انطلق منها دعاة “المنهج الوضعي” أزاحتهم عن فكرة العلمية ومن ثم السقوط في براثين الايديولجيا، في صراع واضح مع الأفكار اللاهوتية. مما أدى بنا إلى القول بأن الوضعية مذهب كباقي المذاهب المهيمنة. إذن؛ فمن “الهيمنة اللاهوتية إلى الهيمنة الوضعية”.

– إن نمذجية العلوم الطبيعية في مجال علوم الانسان أدى الى خلق نقاش فكري ومنهجي واسع وفتح أفاق ورهانات أمام هذه العلوم، نظرا لكون الانسان يحمل قيما وأفكارا متشابكة مع الموضوع المدروس، وبالتالي يصعب تطبيق النظرية التشييئية عليه.

– هذه الخلاصة أدت الى تعدد الرؤى والتصورات حول كيفية دراسة الظاهرة الإنسانية، ظهرت على إثرها مدارس تحاول وضع هذه العلوم ضمن سياقها التاريخي والفكري الذي يلائم دراسة الانسان كونه مركز هذا الكون. وهي المحاولات التي قامت بها العديد من المدارس مثل “مدرسة فرانكفورت” و”مدرسة شيكاغو” وهو دليل على وعي الباحثين في العلوم الإنسانية بالمهمة الشاقة الموكولة إليهم من أجل إيجاد منهج يتلاءم وخصوصية الظواهر الإنسانية.

  • لائحة المراجع:
  • أمزيان محمد، منهج البحث الاجتماعي؛ بين النظرية والتجربة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة، ط، 4 ، 2008.
  • إميل بوترو، العلم والدين في الفلسفة المعاصرة، ت، فؤاد الأهوان، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، 1973.
  • بريل ليفي، فلسفة أوجيست كونت، ترجمة، محمود قاسم والسيد محمد بدوي، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، د. ت.
  • صالح هاشم، مخاضات الحداثة التنويرية، القطيعة الابستمولوجية في الفكر والحياة، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 2008.
  • دوركايم إيميل، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمود قاسم، والسيد محمد بدوي، القاهرة، دار المعرفة الجامعية، 1988.
  • العروي عبد الله ،مفهوم الأيديولوجيا، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط، 8، 2012.
  • الباهي حسان، جدل العق والأخلاق في العلم، افريقيا الشرق، 2009، د ط، .
  • المسيري عبد الوهاب، الفلسفة المادية وتفكيك الانسان، دار الفكر، سورية،  ط، 1، 2002.
  • جولدنر ألفن، الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي، ترجمة، على ليلة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط، 2004.
  • هاشم صالح، حوار مع جيل غاستونغرانجي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد، 50-51، 1988.
  • سعيد جاسم الأسدي، أخلاقيات البحث العلمي في العلوم الإنسانية والتربوية والاجتماعية، مؤسسة وارث الثقافية، العراق، ط، 2، 2008.
  • هس-بيبرشارلين وليفي باتريشيا، البحوث الكيفية في العلوم الاجتماعية، ترجمة، هناء الجوهري، مراجعة محمد الجوهري، المركز القومي للترجمة، مصر، ط، 1، 2011.
  • بوعزة الطيب، الفلسفة الوضعية والدين، مؤسسة مومنون بلا حدود.

http://www.mominoun.com/


[1] أمزيان محمد، منهج البحث االجتماعي؛ بين النظرية والتجربة، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، الولايات المتحدة، ط، 4، ص، 14-15.

[2]إميل بوترو، العلم والدين في الفلسفة المعاصرة، ت، فؤاد الأهوان، القاهرة، الهيئة المصرية للكتاب، 1973، ص، 9.

[3] أمزيان محمد، المرجع السابق، ص، 26

[4] نفس المرجع، ص، 29.

[5] نقلا عن أمزيان محمد، المرجع السابق، ص، 30.

[6] المرجع السابق، ص، 31.

[7]بريل ليفي، فلسفة أوجيست كونت، ترجمة، محمود قاسم والسيد محمد بدوي، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، د. ت، ص، 2 بعد مقدمة المترجم.

[8]بريل ليفي، نفس المرجع، ص، 3.

[9]أمزيان محمد، مرجع سابق، ص، 37.

[10]استخدم “كونت” هذا العبارة للدلالة على المناخ الذي كان مسيطرا على فرنسا في أعقاب الثورة الفرنسية، فقد ظهرت مشكلات إصلاح المجتمع وإعادة تنظيمه بعد الثورة الفرنسية. وأرجع “كونت” “حالة الفوضى” التي يعيش فيها المجتمع – ليست راجعة فقط إلى أسباب سياسية بل هي كذلك راجعة – إلى أسباب عقلية، أو إلى طرق التفكير. فالمجتمع لكي يستمر ويتقدم ليس في حاجة إلى انسجام في المصالح المادية والمنافع المتبادلة فحسب بل في حاجة كذلك إلى اتفاق عقلي. ولقد كانت الفوضى في رأيه راجعة إلى وجود أسلوبين متناقضين في التفكير: أولا: التفكير العقلي والذي من خلاله يتم تناول الظواهر الكونية والطبيعية والبيولوجية. وثانيا: التفكير الديني الميتافيزيقي الذي يتناول الظواهر التي تتعلق بالإنسان والمجتمع. ولقد أدت هذه “حالة الفوضى العقلية” هذه إلى فساد في الأخلاق والسلوك، وللقضاء على هذه الفوضى عرض “كونت” “الفلسفة الوضعية” كبديل.

[11] نقلا عن أمزيان محمد، مرجع سابق، ص، 38.

[12] صالح هاشم، مخاضات الحداثة التنويرية، القطيعة الابستمولوجية في الفكر والحياة، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 2008، ص، 167.

[13] نفس المرجع، ص، 169.

[14] نقلا عن أمزيان محمد، مرجع سابق، ص، 40.

[15]نفس المرجع السابق، ص، 42.

[16]دوركايم إيميل، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة محمود قاسم، والسيد محمد بدوي، القاهرة، دار المعرفة الجامعية، 1988، د ط، ص، 23-24.

[17]إن مفهوم “الأدلوجة” مرتبط بمجال وبعلة وبوظيفة، ويقود حتما الى نظرية ويخلق نوعا من التفكير. وتستعمل كقناع أو كأحكام ورؤى ومقولات مرجعية للكون والحياة. ويستخدمها العروي كمرادف لمفهوم الأديولوجية.فالفكر الأدلوجي يتعارض مع الفكر الموضوعي حسب العروي. وتشتغل حسب “بول ريكور” من خلال ثلاثة وظائف أساسية: التبرير والتزييف والادماج. من هنا يمكن أن ندرج “الوضعية” كإيديولوجية. فهي مذهب فكري يريد حشر الانسان والطبيعة ضمن رؤية واحدية اختزالية.  (العروي عبد الله ،مفهوم الأيديولوجيا، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط، 8، 2012، ص، 13-14)

[18] الباهي حسان، جدل العق والأخلاق في العلم، افريقيا الشرق، 2009، د ط، ص، 255.

[19]المسيري عبد الوهاب، الفلسفة المادية وتفكيك الانسان، دار الفكر، سورية،  ط، 1، 2002، ص، 15-16.

[20]تطلق “المادة” عند ديكارت في مقابل الروح. و”المادة “ما به يتكوّن الشيء كالرخام الذي يصنع منه التمثال. نستخدمها في هذا البحث في مقابل كل ما هو روحي أو ميتافيزيقي. فهي السند المركزي “للفلسفة الوضعية”.

[21]المسيري ع الوهاب، نفس المرجع، ص، 17.

[22]نقصد بالنظرية التشييئية تلك الرؤية المنهجية التي توجّه الباحث أثناء دراسته للظاهرة الإنسانية، كون هذه الأخيرة مثلها مثل الظاهرة الطبيعية سواء بسواء، وهي رؤية كما أسلفنا تندرج ضمن توجه فلسفي وضعي الذي يعتبر “المادة” مرجعا، وابعاد كل ما هو ميتافيزيقي أو لاهوتي..

[23] صالح هاشم، مرجع سابق، ص، 347.

[24]نفس المرجع، ص، 353.

[25]المسيري ع الوهاب، مرجع سابق، ص، 42-46.

[26] المسيري عبد الوهاب، مرجع سابق، ص، 52-65.

[27]سعيد جاسم الأسدي، أخلاقيات البحث العلمي في العلوم الإنسانية والتربوية والاجتماعية، مؤسسة وارث الثقافية، العراق، ط، 2، 2008، ص،1.

[28]هس-بيبرشارلين وليفي باتريشيا، البحوث الكيفية في العلوم الاجتماعية، ترجمة، هناء الجوهري، مراجعة محمد الجوهري، المركز القومي للترجمة، مصر، ط، 1، 2011، ص، 54.

[29]أمزيان محمد، مرجع سابق، ص، 338-339.

[30]هس-بيبرشارلين وليفي باتريشيا، مرجع سابق، ص، 55.

[31]فيلسوف فرنسي وأستاذ في كوليج دو فرانس (Collège de France). من مؤلفاته: Essai d’une philosophie du style (1969), La Vérification (1992), Le Probable, le possible et le virtuel (1995) et L’Irrationnel (1998).

[32]هاشم صالح، حوار مع جيل غاستون غرانجي، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد، 50-51، 1988، ص، 118.

[33]جولدنر ألفن، الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي، ترجمة، على ليلة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط، 2004، ص،745.

[34]جولدنر ألفن، مرجع سابق، ص، 73-74.

[35]أمزيان محمد، مرجع سابق، ص، 64.

[36]صالح هاشم، مرجع سابق، ص، 355.
_____________

سعيد السلماني / باحث في العلوم الإنسانية مدرس الفلسفة بالثانوية العامة لدى وزارة التربية الوطنية المغربية.

جديدنا