الخيال المعرفي وبناء صورة جديدة لثورة 1919

image_pdf

تاريخيًّا، وكما هو معروف؛ قدَّمت ثورة 1919 مصر للمصريين؛ فاكتشفوا مصر المقاومة، واكتشفوا الذات المصريَّة، وبدأوا مرحلة جديدة في تاريخهم قوامها أين هم من محيطهم العربي؟ وأين هم من العالم؟ وتساءلوا لماذا تأخرت بلدهم؟ وما هي أسباب التقدُّم التي يجب أن يأخذوا بها؟

كانت السنوات من 1919 إلى 1924م سنوات حراك حملت متغيرات كبيرة في رؤية المصريين لكل شيء، وصعد معها جيل جديد على أكتاف جيل سابق حمل لواء الوطنيَّة والذود عن الوطن، من هنا كانت هذه الثورة ثورة غير تقليديَّة تمحورت حول تشريح الواقع للوصول إلى مشكلاته والقفز عليها للمستقبل، فبزغت نزعة حداثيَّة وطنيَّة من حماسٍ شعبي عارم وزخم سياسي وفكري قدمًا ما يكن أن نسمّيه مشروع شعب للوطن. هنا لا بد أن نؤطِّر ثورة  1919 إلى وعي، حركة، فكر.

فالوعي؛ هو حالة موقف تجلى في وعي المصريين بضرورة نيل استقلال بلدهم من المختل البريطاني، واختفى في إثر ذلك فكرة الولاء للدولة العثمانيَّة حتى قبل إلغاء الخلافة العثمانيَّة  المزعومة، وصعود تيار وطني تركي على حساب فكرة الجامعة الإسلاميَّة، والحراك: هو ضرورة اجتماعيَّة وسياسيَّة تتداخل فيها طبقات الشعب لصالح هدف وطني هو صالح لمصر، والفكر: بناء وتنظير هنا نقرأ في الصحافة المصريَّة آراء ونقاشات عميقة حول «مصر» حول أين ومن وإلى؟ أين هي مصر؟ ومن هم المصريين؟ وإلى أي مستقبل هم ذاهبون؟

هذه لحظة تاريخيَّة فارقة شكَّلت حزب الوفد الذي كانت أيدولوجيته مصر للمصريين، فهذا حزب جاء من عمق الحركة الوطنيَّة فجمع  في الماضي حول راية الوطنيَّة، فقد أدرك المصريون تأخرهم وتهديد المحتل لهم. ولذا كانت ثورة 1919م لم يكن لها ايدلوجيا فكريَّة بل بلورت اتجاها لفكر مصري معاصر، كانت تبحث عن الصالح الوطني في ظل وعي متنامي، كان المصريون لديهم أسلحة في معركة مع الانجليز الذين امتلكوا أحدث أسلحة القتال، هذه الأسلحة هي:

-طبقة متعلِّمة كانت الرعيل الأول للجامعة المصريَّة، فالمصريين شيدوا المدارس حكومة وأغنياء على نفقتهم واعتبروا العلم سلاحا، حتى أرسلوا ابنائهم على نفقتهم لأعرق الجامعات لإدراكهم أن العلم سلاح في معركة قادمة، وكان من هؤلاء محمد باشا محمود الذي ابتعثه والده لبريطانيا لتلقي العلم.

-كاريزما القيادة: لم يكن سعد زغلول وطنيا في لحظة الثورة، فقد كان ضمن من انضموا إلى أحمد عرابي، ورأى عبر قراءة عدد من الوثائق أن الحزب الوطني الحر الذي ضم أنصار الحركة العرابيَّة لم يحل إلا في العلن، وظل يعمل تحت الأرض، هذا ما نستطيع أن تقرأه في مشروعات عديدة حملت مقاومة ما لنفوذ المحتل، كمشروع الجامعة المصريَّة .. الخ، لذا حين قامت الثورة لم تكن لحظة عفويَّة، بل لحظة أعد لها جيدا في ضوء معطيات عصرها.

إن تجسيد ثورة 1919 أتى فيما سمي بالمقاومة بالاقتصاد، لذا صعدت دعوات مقاطعة المنتجات الانجليزيَّة وأثير تساؤلات حول السيطرة الاجنبيَّة على الاقتصاد الوطني، ثم برزت دعوات لتصنيع القطن في مصر بدلا من تصديره لبريطانيا خام، تبلور كل هذا بصورة جلية في عدد  من المشروعات كان أبرزها مشروع بنك مصر .

لم يكن لدى مصر جيش وطني بعد أن قام الانجليز بحل الجيش الوطني المصري عقب احتلالهم مصر 1882م، وابقوا على قوات رمزيَّة شرفيَّة، لذا  كان إحساس المصريين أنهم افتقدوا القوة الحربيَّة واضحا في حراكهم في ثورة 1919الذي كان في معظمه حراكا سلميا، من هنا أتت دعوات ضرورة بناء جيش وطني، لتتبلور هذه اللحظة لاحقا في معاهدة 1936م.

الاحتلال بقوة ظاهرة قديما في التاريخ، لكن حركات الاستقلال الوطني المنطلقة من الشعوب وبمبادرة منها كانت ظاهرة تاريخيَّة جديدة نسبيًّا، فكانت ثورة 1919، وهو ما بات واضحا من تحول القاهرة  لملجأ لعدد من الزعماء وحركات التحرر الوطني في أعقاب هذه الثورة.

هناك حراك ثقافي كان نتاج ثورة 1919م، تركز تارة في بعث الحضارة المصريَّة القديمة والاعتزاز بها، حتى شيد ضريح سعد زغلول على الطراز الفرعوني، أو في  محمود مختار المثال الذي أبدع تمثال نهضة مصر ليعبر عن رؤية المصريين للنهوض للمستقبل من ابتعاث الماضي، أو اعتزاز الجماعة الثقافي والعلميَّة باللغة الوطنيَّة (العربيَّة) فيسعون لإنشاء مجمع اللغة العربيَّة.

هنا نستحضر متن الثقافة المصريَّة في ذروة عطائها ورموزها في الفترة من 1919 إلى 1952م ، فهي لم تسعَ إلى رموز الماضي وحسب، بل أقامت حوارًا مع الماضي ليقدم طه حسين لاحقا كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، لتجيش عواطف ويشتد حماسهم مع أغاني سيد درويش فنان الشعب، لينتقل الغناء المصري نقلات مع بزوغ صناعة السينما مع محمد عبد الوهاب وليلي مراد وأم كلثوم وغيرهم.

هنا نرى مصر أخرى غير التي كانت قبل 1919م، فهذه ثورة لم تكن ذات تأثير سطحي بل عميق، كانت ثورة صريحة لها رموز واضحة، هذا ما جعل الملك فؤاد حين يعلن استقلال مصر في مارس 1922م، ليؤكد على استقلاليَّة القرار المصري، يأخذ بالتوازي قرارات رمزيَّة، فيغير العلم المصري إلى اللون الاخضر وليحذف العلم الاحمر الذي يرمز للتبعيَّة للدولة العثمانيَّة، ثم ليسارع ليتنازل عن بعض ممتلكاته وممتلكات أسرته في عدد من العواصم كلندن لتكون سفارات لمصر، ثم تتابع هذه السفارات في روسيا وفرنسا والولايات المتحدة.

إن تفكيك معطيات ومخرجات ثورة 1919 أمر جيد بإعادة تركيب هذه المعطيات وتحليل هذه المخرجات لنقد وإعادة بناء صورة هذه الثورة، فهي واحدة من أفضل تجارب الثورات في تاريخ مصر المعاصر، غابت عنها قوة مسلحة وطنيَّة تدعمها، لكن مخرجاتها بالرغم من ذلك كانت جيدة في ظل كونها ثورة سلميَّة.

________
*الدكتور خالد عزب.

جديدنا