الاستشراق المضاد؛ نقد الغرب من داخل الغرب في فكر سيد حسين نصر

image_pdf

تقصد هذه الورقة الوقوف على توجهات الفيلسوف الإسلامي المعاصر سيد حسين نصر حيال الحضارة الغربية الحديثة لجهة احتدامها مع الإسلام. وقد ارتأينا لبسط هذه التوجهات جلاء أربعة مرتكزات تؤلف بمجموعها خصوصية تجربته داخل البيئة الغربية. ومن أجل هذه الغاية سعينا إلى إجراء تطبيق معرفي لهذه التجربة من خلال فَرَضية مستحدثة أقمناها تحت عنوان “الإستشراق المضاد،” وهو ما يقابل مفهوم الاستشراق الكلاسيكي على نحو التضاد والمواجهة. أو ما يصح أن نطلق عليه “الاستغراب من داخل البيئة الحضارية الغربية نفسها”. أما المرتكزات التي ستنبني عليها الفَرَضية المشار اليها فهي التالية:

أ-معاينة خصوصية تجربة سيد حسين نصر الفكرية انطلاقاً من والمكان الذي تتموضع فيه.

ب-متاخمة سيرورة تفكيره والمحطات الأساسية التي قطعها مذ حط رَحْلَه في أميركا بعيداً عن موطنه الأول  إيران.

ج- تحرّي اختباراته المعرفية وتحديداً مساجلاته للقيم الغربية في مجالات الإيمان والإلحاد والعلمنة والنزاعات الكولونيالية في الثقافة والفكر.

د-حفظُه للأصل الذي منه جاء، ديناً وثقافة وهوية حضارية.

كلمات مفتاحية: الاستشراق المضاد – الاستغراب من داخل – العقل الأدنى – حقيقة التوحيد –

1-التعرُّف على الغريب

في رحلته الإستشراقية المضادة سيمضي سيد حسين نصر ليستمع الى خطبة الغرب بالدرس والمعاينة والقراءة النقدية، وذلك ليقين منه، ان مقتضى وعي الذات يُحصَّلُ من خلال التعرف على آخر حضاري بات بين ظهرانيه. لدى قراءة متأنِّية لأعماله النقدية سنجده يستحث الخطى من أجل أن يقف على مكنون الحداثة ومعارفها. فهو يعلم بحكم معايشته لأطوارها المتأخرة، أن الحداثةَ لغةٌ ينبغي له أن يحيط بها، وانها ومنطقُ حياةٍ من قبل ان تكون بنياناً حضارياً. وبالتالي فإن لغة الغرب -هي في المآل الأخير- عقلُ أهل الغرب، وكل ما ينكشف عن ميولهم وغرائزهم وأهوائهم. على أساس هذا الفهم الأولي قَصَد حسين نصر ليعاين ما ظهر من أفعالها وما استتر من معاثرها. ولذا فإن أكثر ما تناهى الينا من مجهوداته التنظيرية، كان استقراء الأصول الانطولوجية التي منها نشأت ثقافة الغرب وممارساته الحضارية.

كانت المهمة بالنسبة اليه شاقة ولمَّا تزل. لكنه استشعر ان كل تعرُّف على أمرٍ ما بتمامه، مقتضاه الصبر والقراءة المتأنية. ذلك بأن المرء -كما يقول أبو حامد الغزالي -لا يفلح بالوقوف على فساد أو صحة علم من العلوم ما لم يقف على منتهى ذلك العلم.

سوف يأخذ سيد حسين نصر بهذه المسلّمة وهو يجول محاريب الحداثة وقيمها. ولمَّا هاجر الى أمكنتها القصية في اختباراتها والتباساتها ومطارحها الغامضة والمعقدة- لم يهجر أرض المنشأ. فلقد ظل على دربة الأهل مسلماً مؤمناً، فلم تأخذه فتنة الحداثة بسحر صنائعها وسطوة مفاهيمها. وسيأتي الوقت ليبين لنا كيف سيكون للنشأة الأولى وتربيته الدينية المكانة الحاسمة في تشكيل منهجه الجامع بين ضدين: منهج الوحي ومنهج الدليل العقلي.

ولمَّا كان لكل منهج جغرافيته فإن جغرافية التفكير عنده تقع في أصل المنهج الذي ابتنى منه حسين نصر وعليه نظامه الفكري. أخذه القدر من الجغرافيا الحضارية الإيرانية المكتظة بميتافيزيقا ممتدة في التاريخ، الى جغرافيا انكلوساكسونية شاء ساكنوها ان يُقرأ تاريخ البشرية الحديث طبقاً لمراسيمها الوضعية. لقد كان عليه أن يعيش نفسه ويعيش الآخر الغريب في الآن عينه. ان يتفكَّر في العيشين معاً، ويستخرج من وحدة المعايشة مسلكاً يليق بمتحيِّز الى إسلام أُرسل نبيه رحمة للعالمين. لمَّا ألَّف كتابه المعروف “قلب الإسلام” بدا كما لو انه يحمل هذا القلب كهدية للكل. للبيئة الجديدة التي حلَّ فيها. ولأنه الفكر عنده قضية رسالية فقد حرص على خطاب متعدد الاستهداف. لأولئك الذين اعرضوا عن الوحي واستمسكوا بذكاء العقل المحض، إلى الذين أنكروا على الإسلام وحيانيته، وكذلك لأهل الاستشراق الذين طغوا في تحرياتهم عن الإسلام والشرق إلى الحد الذي غدت فيه معارفهم أدنى إلى إيديولوجية إمبريالية خالصة. وكذلك الى الذين جمعوا العقل الى الوحي ممن عُدُّوا في المنطقة الوسطى بين العلمنة والإيمان، وفتحوا باب التعرُّف على الإسلام بمنهج هو أقرب إلى الليبرالية المحدثة منه إلى روح الوحي.

2-مرتكزاته المنهجيّة

حتى يستظهر ما كتبه على نفسه، سيأخذ حسين نصر بمنهجية مركبة على أربعة خطوط متوازية ومتلازمة في الوقت عينه:

الخط الأول: تحصين الذات. وهو مسار يتآلف فيه ضربان معرفيان: ضربٌ انطولوجي عنوانه العام تعميق الإيمان برسالة التوحيد وفقاً لمرجعية القرآن والسنة المعصومة، وضرب حضاري تاريخي مقتضاه الولاء للإسلام كعقيدة وحي، وللشرق كهوية حضارية. ولقد تعامل مع هذا الخط لا على نحو العصبية وإنكار الغير، وإنما في سياق التعريف التبيين والمناظرة.

الخط الثاني: التعرُّف على الغيريات، ولا سيما غيرية الغرب من خلال مواكبة تطوراتها العلمية والفكرية والثقافية والسياسية، وعبر ما تقدمه نُخبُها من معارف.

الخط الثالث: التعرّف على المناهج والسياسات التي اعتمدها الغرب حيال الشرق والمجتمعات الإسلامية على وجه الخصوص، وذلك بقصد جلاء الكثير من الحقائق وتبديد الأوهام التي استحلت تفكير شريحة واسعة من المثقفين المسلمين بسبب الاستشراق الكولونيالي ردحاً طويلاً من الزمن.

الخط الرابع: خط النقد، وهو ما نلحظه في أعماله على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: نقد قيم الفكر الغربي، ولا سيما لجهة آثارها ومؤثراتها المعرفية على الانتلجنسيا الإسلامية، وبيان آليات الاستغراب السلبي التي استولت على تفكيرها.

الوجه الثاني: نقد الغرب لذاته من خلال معاينة ما قدمه الفلاسفة والمفكرون وعلماء الاجتماع الغربيون ولا سيما لجهة نقد تاريخ العلمنة واستحضار سؤال الإيمان لرأب التصدعات.

الوجه الثالث: نقد فهم النخب المسلمة للغرب من حيث كونه فهماً مستتبعاً لمعارفه وقيمه، وهو ما نسميه بالاستغراب السلبي[1].

تبعاً للترتيب المنهجي المارِّ ذكره، يمكن تظهير أبرز العناصر التي تقوم عليها منظومته المعرفية فضلاً عن الموضوعات التي تأسست عليها:

أولاً: الدين والطبيعة: الإنسان في تاريخه الطويل تعايش مع الطبيعة فاستخدمها لمصالحه ولم يحاول تدميرها واستنفاد طاقاتها وثرواتها فالطبيعة كانت تمثل له مخلوق إلهي قدمها الله للبشر فكان ينظر لها نظرة قدسية وكان يعتبر نفسه جزءا من هذه الطبيعة التي يعيش فيها ومعها ولكن العلم الحديث جعل من الطبيعة كائناً ميتاً منفصلاً عن البشر فحاول تسخيرها والهيمنة الكاملة عليها واستخراج كل ثرواتها بل تدميرها وفناءها. هناك – إذن – حاجة ماسة لرؤية دينية تجاه الطبيعة للحفاظ عليها بوصفها أمانة من الله بأيدينا. وهذا يقودنا الى مفهوم الأمانة في القرآن الكريمكما في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً[2]ا (72)}.

ثانياً: ضرورة العلم المقدس: يقرر سيد حسين نصر ان النظر العلماني للوجود هو نظر مثلوم الى نصفين متباعدين. ما أدى بالإنسان الحديث الى فصام في إنسانيته وفراغ روحي وأخلاقي كان سبباً لحروب عالمية كبيرة لا نجد لها نظيراً في العالم القديم. العلوم الطبيعيّة تأثرت بهذه النظرة العلمانيّة وهي بحاجة الى مدها بطاقة روحية تجعلها موائمة للنظرة الشاملة للحياة. من هنا تتأتى ضرورة العلم المقدس الذي يقيم العلوم الطبيعية على أسس معرفيّة وفلسفيّة تجعلها غير مناهضة للرؤية الروحيّة تجاه الكون والحياة والإنسان[3].

ثالثاً: الوحي والتراث الإسلامي: يقصد حسين نصر من التراث کل المکونات التي تعود مرجعيتها الى الوحي المحمدي وانتشرت عبر التاريخ والحضارة الإسلامية. فالوحي عندما بدأ بالهبوط من السماء لم يتوقف بل استمر بعد النبي محمد(ص) عبر تجلياته وتطبيقاته في الحياة البشرية من فن وفلسفة وعرفان ولاهوت وغير ذلك. فالوحي هو كائن حي متصل بالسماء وينبوع للحاجة الروحية للإنسان في كل العصور. القرآن والسنة –كما يبين حسين نصر- يشكلان مصدراً غنياً ومتنوعاً لمجموعة واسعة من الأفكار والتقاليد والطقوس والفنون التي ظهرت في امتداد الحضارة الإسلامية.

رابعاً: الوحدة المتعالية للأديان: يفهم سيد حسين نصر التعددية الدينية بالمعنی الميتافيزيقي، أي أن هناك مبدأ إلهيًا واحدًا يتجلی بمظاهر متنوعة، وفي لغات متعددة، والحقيقة الإلهية المطلقة هي القاسم المشترك بينها جميعًا. وحدة الأديان تتحقق فقط علی مستوی الأمر المتعالي، أي في الله. ولهذا تسمّی هذه النظرية بأنّها “وحدة المتعالية للأديان”. وتجدر الإشارة في هذا الصدد الى انه على الرغم من اعتقاده بواحدية الأديان الوحيانية ووحدة مصدرها الإلهي، فإنه لا يغفل عنصر التمايز في ما بينها، ولا سيما لجهة عقيدة التوحيد. “فالدين الإسلامي ليس كالمسيحية التي تضع مرجعاً روحياً يقوم بتحديد إيمان الفرد، كما يحدث في الكنيسة الكاثوليكية الرومية، بل إن إيمان الفرد المسلم يرتبط بحجم شهادته بالتوحيد ويتعلق بمراتب الإيمان، فليس من حق أحد – سوى الله –  أن يُخرَج أحداً من الإيمان أو ان يُدخله فيه. وهذه القاعدة عامة في الإسلام، مع وجود استثناءات في التاريخ من قبيل مجموعات أو تيارات دينية سياسية أعطت لنفسها الحق في إبداء الرأي والنظر في أصل إيمان أفراد معينين أو مذهب خاص.[4] وبما أن الدين الإسلامي يؤكد على حقيقة الله الواحد في مقام الذات، يخاطب الانسان أيضاً انطلاقاً من حقيقته الذاتية، فلا يعتبر الإسلام الانسان موجوداً عاصياً ومذنباً حتى تكون الرسالة التي وصلت من السماء نذيراً ليكفِّر عن سيئاته ومعاصيه، بل ينظر اليه بوصفه موجوداً فطرياً مهماً احتجبت وتلوثت تلك الفطرة فيه نتيجة الغفلة والنسيان والذنوب: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[5]. إن المخاطب الحقيقي لرسالة الإسلام هو الفطرة، وليس تاريخ الانسان وهذه الرسالة بمثابة الدعوة لاستذكار المعرفة المغروسة في جوهر وجودنا، حتى من قبل أن نضع أقدامنا في هذا العالم[6]. يضيف: ان المعرفة المغروسة في أعماق نفوسنا، وبسبب أهمية تلك المعرفة في رسم السعادة الإنسانية فإن الإسلام خاطب الإنسان بوصفه صاحب عقل لا صاحب إرادة فقط. فإذا كان التمرد على الله وهو الذنب الأكبر عند المسيحية ناشئاً من الإرادة، فإن الغفلة تشكل الذنب الأكبر في الإسلام، والتي هي أساس التمرد والكفر والانزياح عن الصراط. فالغفلة معضلة جوهرية من أعتى نتائجها عدم قدرة العقل على تشخيص الطريق الذي رسمه الله للناس، ولأجل ذلك، كان الشرك أعظم الذنوب التي لا تُغتفر، وهو بعبارة أخرى يساوي إنكار التوحيد[7].

خامساً: نسبُه الى الحكمة الخالدة

حاول سيد حسين نصر أن يوفِّق بين إيمانه الراسخ بالرسالة الإسلامية الخاتمة، والرؤية الفلسفية لما عُرِف بمدرسة الحكمة الخالدة. ويذهب البعض إلى أن لم منهجية التفكير عند سيد حسين نصر أتخذت دورتها الكاملة حين تكاملت عقيدته الوحيانية وثقافته الإسلامية مع القواعد العامة لهذه المدرسة. تؤمن الحكمة الخالدة  بأن كل التقاليد الدينية على مرّ العصور هي مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة، وأن المعارف الدينية على اختلافها مستمدَّةٌ من جوهر واحد أو “دينٍ خالد”  Religio Perennis؛ فكل الأديان، بغضّ النظر عن سياقها الثقافي أو التاريخي، مجرد تفاسير أخرى لهذه الحقيقة الكلية المشتركة، كما أن اختلاف الكتب المقدسة لهذه الأديان وتعارضها، مردُّه إلى أن كل دين صيغ بشكل مختلف ليتناسب مع الاحتياجات الاجتماعية والعقلية والروحية للعصر الذي ظهر فيه، ما يجعل اختلافات الأديان عند أتباع هذه الفلسفة بمنزلة قشور (ظاهر) يمكن أن تنحى للوصول إلى اللباب (الباطن) [8].

يمثل هذه المدرسة عدد من المفكرين والفلاسفة المعاصرين مثل رينية جينوR. Guénon  وأناندا كوماراسوامي A.K.Coomaraswamy  وماركوبالليس  M.Pallisوتيتوس بوركار T.Burckhart ومارتن لينجزM.Lings ولورد نورثبيورنLord Northbourne وليوشايا L.Schay وهويتهولبيري W.N.Perry  وهوستن سميث H.Smith وفريذيوف شوان  F.Schuon. بالإضافة الى سيد حسين نصر[9].

تتحدث مدرسة الحكمة الخالدة عن التراث، وتؤمن بأن هناك تراثاً أوَّلانياً شكّل الكمال الروحي للإنسان، والموروث البصيري الذي تجلى عن الوحي مباشرة، في زمن تعانقت فيه الأرض والسماء. وقد انعكس التراث الأوَّلاني في أشكال التراثات المتأخرة التي ليست مجرد استمرار لأفقيته أو تاريخيته. وقد تميز كل تراث بأنه تنزيل رأسي من الأصل، حيث يهب الوحي كل تراث مركزه وعبقريته الروحية وحيويته وتفرده[10].

يقول فريذيوف شوان وهو أحد أهم منظِّري هذا التيار “إن الحكمة الخالدة وحدها من بين باقي الأمور خيرٌ بكاملها وبدون أدنى تحفظ، أما البرَّانِيّة مع كل تحديداتها الجليَّة فتشتمل دوماً على فقه “أهون الضررين” بسبب تساهلها الحتمي مع طبيعة الإنسان الجمعي، وبالتالي مع إمكانيات الإنسان العادي الروحيَّة والأخلاقيَّة والفطريَّة، ونقصد بالإنسان العادي الإنسان “الهابط “، فقد قال المسيح عليه السلام لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ. ومن وجهة النظر الواقعية بعيداً عن وجهة النظر التأمليَّة فإن البرانيَّة تضع الذكاء البحت بين قوسين، فيمكن القول إذا جاز التعبير إن الجوانيَّة تستبدل الذكاء بالعقيدة، والعقلنة المشروطة بالدين، وهو ما يعني أنها تؤكد الإرادة والانفعال. وتلك هي مهمتها وسبب وجودها، إلا أن تلك التحديدات هي سيف ذو حدين، وليست عواقبها إيجابيَّة بالكامل كما هي حال التحيزات الدينيَّة كلها. أما القول إن غموض البرانيَّة مرتبط بمشيئة ربانيَّة  فهو أمر صحيح”[11].

ومجمل القول، لا تنفصل فلسفة شوان عن الإطار الذي تتحدث فيه مدرسة الحكمة الخالدة، وتؤمن فيه بكل تراث إنساني أولاني، دون أن تركز على دين بعينه، وأن الإنسان جسد وروح، وهي على خلاف المدارس الفلسفية الحديثة والمعاصرة التي اختزلت الإنسان في الجسد تارة وفي النفس تارة أخرى، وفي كلتا الحالتين أضفت عليه المطلقية. وهذا الإطار الذي قدمنا فيه بإيجاز الخلفية الفكرية لمدرسة الحكمة الخالدة وعلاقة شوان بها يحدو بنا لتقديم تصور شوان المطلق والنسبي[12].

سادساً: الله هو الحقيقة الصانعة للحقائق

أفاد سيد حسين نصر الكثير من مطالعاته الثرية للتراث المعرفي والروحاني العالمي لذا ستكون هذه المطالعات احدى أهم روافده في تكوين المنهجية المركبة لتفكيره الميتافيزيقي. وعليه لم تكن ثقافته النقدية لدنيا الحداثة سوى ثمرة توليف ومصالحة بين الروحانية الإسلامية وروحانية البيئات التي نشأت في الغرب بسبب تهافت القيم الحديثة. في كتابه “الحاجة الى علم مقدس” يشير سيد حسين نصر الى ذلك فيقول: ان نظرية الإبستمولوجيا كمنهج للتعرف على الوجود تمكنت من اختزال حقيقة الوجود الى ما يدرك بالحواس فحسب. وكان من نتيجة تغير معنى الحقيقة، إنكار وجود الرب ومملكة الروح، ويكمن في أساس تضييع حقيقة الرب في الإنسان الحديث في حياته اليومية دور الفلسفة في اختزال معنى الحقيقة وعزل المصدرين التوأم للمعرفة الميتافيزيقية وهما الوحي والبصيرة، وبالتالي تحريم التجربة الروحية الباطنية التي تؤدى الى إدراك المستويات العليا في الوجود. فمفهوم “الله كحقيقة” يستعصي على منظور “الدنيا” التجريبي الذي يعيش فيه، وقد قبل بمواضعاته لاهياً او غير واعٍ.[13] ويمكن أن يقال – كما يبين حسين نصر – أن الانسان المعاصر لا يحتكم إلى مذهب كفؤ عن الله تعالى كحقيقة مطلقة بل حرم نفسه من فهم كفء للنسبية كستار على ضحالة معرفته أيضا، وهو يفهم المطلق بمصطلحات نسبية ويضفى على النسبية اطلاقاً في بعض المعاني، وينزع من الله صفة الحقيقة، ويفشل في معرفة ان العالم حقيقة جزئية فحسب فهو ستار يحجب ويكشف. لذلك يخاطب الصوفي الله تعالى بقوله “يا من أخفيت ذاتك بما هو دونك”. فإنه سبحانه ليس ذاتّاً متعالية فحسب، بل هو كذلك حقيقة كل ما يكون ومصدره، فهو ما وراء الوجود والوجود في آن، أي إنه الذات العلية التي كان الوجود أول تجلياتها، سواء أكان هو أم هي أو كل ما وراء الأسماء، وهو ماهية كل صور الحدوث، وهو الفرد الصمد الذي يعلو على كل مقولات الوجود. ولأن الله حقيقة فهو مطلقٌ ولا متناهٍ وخيرٌ وكاملٌ، ولا تشوبه نسبية في ذاته، ولا يمكن أن تكون الماهية الربانية الا مطلقة وواحدة، وتنتظم النسبية كل الأشياء الأخرى التي في مستوى أدنى من ماهية الله سبحانه لتؤكد أن الله واحد ومطلق، وتُصور ذاته بذاته، ويشاكل النظام الرباني النسبية في المعنى إذ تكون نسبية إلهية، أو تعددية مشمولة في النظام الرباني، ولا تصل هذه النسبية الى مقام الماهية الربانية، لأن الله سبحانه بماهيته واحد ومطلق، وحين نتحدث عن الله كحقيقة فهو حديث عن الله كمطلق[14].

3-فهم الغرب ونقد قيمه

رأی حسين نصر في الحداثة “جاهلية جديدة، يجب أن تحطّم فيها أصنام المدارس الباطلة”؛ وسنقرأ في أعماله الكثيرة مراجعات نقدية يقرر فيها أن الحداثة تتوكأ على المشاهدة والاختبار والتجريب؛ ولا تعير أهمية إلا للعقل الأداتي الجزئي الاستدلالي، الذي لا شأن له سوى الاستدلال طبق قواعد المنطق الصوري. الأهلية الوحيدة لهذا العقل هي أن يصبّ القضايا المتأتية عن المشاهدة والاختبار والتجربة الحسية الظاهرية في قوالب الاستدلالات المنطقية المنتجة، ويقدم نتائج جديدة. تتخذ الحداثة فيما يتصل بوجود الله تتخذ الحداثة منحى إنكارياً حيناً أو لاأدرياً حيناً آخر. مركزية الإنسان، هو أساس ميتافيزيقا الحداثة ويحتل فيها مكانة الله. لا يكف حسين نصر علی التنديد بالحداثة الغربية وهجاء مكاسبها. تلقاء ذلك يلح على أن الشرق هو رمز النور والعقل والمعنوية؛ والغرب مثال الظلام والانحطاط والمادية، وأن الإنسان الحديث صنع لنفسه عالمًا خاصًا بيده، هو عالم نسيان الله، والتمرد علی الله، وتفريغ المعرفة من مضمونها المقدس، والتضحية بمسؤولية الإنسان حيال الله لصالح حقوق الإنسان، وتدمير الطبيعة. وخلص نصر إلی أن خير العالم الجديد الحداثي عَرَضي، وشرّه ذاتي؛ أمّا خير عالم الماضي ما قبل الحداثي فهو ذاتي، وشرّه عرضي. وهو يقصد هنا الماضي الذي كان فيه الوحي المسيحي حاضراً ومؤثراً في الوجدان الغربي.

لكن كيف بدت وقائع التناظر بين الغرب والجغرافيا الحضارية الإسلامية في منظومة سيد حسين نصر؟

في مطالعاته وكتاباته المتعددة الحقول نجد أن التناظر في الغيرية  بين الحضارتين الإسلامية والغربية بدأت فعلياً في مستهل القرون الوسطى واستمرّت حتّى عصر النهضة. في تلك الحقبة طرأت تغييرات أساسية، من جملتها أنّ الإسلام مع كونه غيراً بالنسبة إلى الغرب، فقد استمرّ في إطار تحوُّلٍ تجسّدَ في تضاؤل الاحترام الذي كان يكنّه الغربيون للإسلام وعلومه وحضارته إبّان القرون الوسطى، بل يمكن القول إنّ هذا الاحترام والتقدير قد اندثر إلى حدٍّ ما. وعلى خلاف ما يقوله أصحاب النزعة التجديدية، فإنّ القرون الوسطى لا يمكن اعتبارها عهداً لطغيان الكراهية الغربية للإسلام وانتشارها على نطاق واسع، بل إنّ عصر النهضة هو المرتكز الأساسي في هذا المضمار[15]. بعد عصر النهضة انطلق عهد جديد تمثّل في الاستعمار والفتوحات الغربية التي اجتاحت العالم بأسره، فظهرت إثر ذلك النظرة الغربية الاستعلائية على سائر المجتمعات والحضارات، حيث اعتبر المستعمرون أنّ مصطلح (حضارة) مقتصر عليهم لا غير. كأنّ الحضارة كلمة ذات معنى أحادي لا نظير له في معاجم التاريخ والمستقبل، لكونهم أخضعوا العباد لسلطتهم واستعمروا بلادهم. فالحضارة بمعناها العامّ والخاصّ لا تعني ـ حسب زعمهم ـ إلا الحضارة الغربية التي طفت إلى السطح في هذه الفترة الزمنية. ومن المؤسف أنّنا اليوم نجد الشرقيين في مختلف توجّهاتهم الدينية والمذهبية ـ مسلمين وغير مسلمين ـ قد انصاعوا للنزعة الغربية وتأثّروا بما لقّنهم به المستعمرون بشكل مباشر أو غير مباشر في شتّى مراحل حياتهم، لذلك حينما يريدون الثناء على أخلاق شخص وتقييم طباعه الشخصية المحمودة فإنّهم يصفونه بـ (المتحضّر)، وبطبيعة الحال فإنّ المتبادر من ذلك في الأذهان هو أمرٌ واحدٌ لا غير، ألا وهو اتّصافه بالمبادئ التي تطرحها الثقافة الغربية من داعي تصوّر أنّها الحضارة الوحيدة في الوجود[16].

في هذا الصدد يلاحظ سيد حسين نصر ان فكرة التقريب بين الأديان تعدّ أمراً منطقياً لدى كلّ من يريد الخير للبشرية لأنّ الدين متجذّر في صميم الحضارات. ويذكر انه قبل أكثر من خمسين عاماً وحينما كان طالباً يدرس الدكتوراه في جامعة هارفرد الأميركية، وإلى يومنا هذا، شارك في الكثير من المؤتمرات والندوات التي تناولت أطراف البحث والتحليل حول الفلسفة والأديان، وخلال تجربته الطويلة أدرك أنّ النزعة التي سادت بين الشعوب الغربية إبان العقود الثلاثة الماضية بغية تأجيج الخلافات وترويج الضغينة بين الإسلام والغرب، لم تتمكّن من محو الرغبة التي تكتنف أذهان الكثيرين في التقريب وتحقيق فهم مشترك بين الأديان والحضارات. وعلى سبيل المثال فإن كلّ هذه الدعايات المعادية للإسلام والمساعي المشبوهة لترويج فكرة الإسلاموفوبيا لم تكن ناجعةً بوجه، بل تمخّضت عن نتائج معكوسة لكوننا نشهد اليوم تنامي نزعة الباحثين والطلاب في مختلف المعاهد والجامعات ومراكز البحث العلمي نحو دراسة وتحليل الأديان غير الديانتين اليهودية والمسيحية، حيث سلّطت الضوء على الدراسات الإسلامية بشكلٍ ملحوظٍ. الكثير من المراكز الجامعية الوازنة في الولايات المتحدة الأميركية تولي أهمية كبيرة لدراسة الأديان، وأمّا الجامعات التي فيها كلّيات خاصّة بالأديان، فالجميع يشهد بأنّ الأقسام المتخصصة بالدراسات الإسلامية هي الأكثر نشاطاً ورونقاً من غيرها، لدرجة أنّ الميزانية المالية للعديد من الأقسام الأخرى في الجامعات الأميركية يتمّ توفيرها اعتماداً على قسم الدراسات الإسلامية لأنّ الطلاب يفضّلون هذه الدراسات إلى حدٍّ كبيرٍ كما أنّهم يتمتّعون باستقلالٍ في الكثير من المراكز العلمية[17].

لذا تحظى الدراسات الإسلامية اليوم بأهمية كبيرة في العالم الغربي وتتمّ متابعتها بغاية الجدّية، وحينما تطرأ أحداث مناهضة للإسلام من قبيل إنتاج فلم سينمائي يسيء للنبيّ الكريم(ص) لا ينبغي لها أن تجعلنا نتجاهل وجود آخرين في الغرب ممّن لديهم نيّة حسنة لكونهم سخّروا عشرات الأعوام من عمرهم لتعزيز أواصر الصلة والتلاحم بين الأديان وعلى رأسها الإسلام، حيث تمكّن بعضهم من تمهيد الأرضية المناسبة للحوار بين مختلف الحضارات. وبالطبع حتّى لو كانت هناك رؤية عدائية للإسلام لدى الكثير من المستشرقين، فهي ما زالت مترسّخة لدى البعض إلى عصرنا الراهن وتتجلّى في كلّ آونةٍ بمظهرٍ جديدٍ.

يساجل حسين نصر الغرب من مقام المستوعب للآليات الداخلية لطريقة عمل العقل الغربي في التعامل مع العلوم. فلقد وفق في نعت العالم الغربي المعاصر بالعلم الفاوستي مستعيراً بذلك عبارة الفيلسوف والشاعر الألماني غوته[18]. ذلك بأن العلم الفاوستي طبقاً لهذا النعت، يأتي برأيه نتيجة مقايضة الروح للشيطان من أجل اكتساب العلم الدنيوي والسيطرة عليه، ولهذا السبب عاث العلمُ فساداً بالنظرة المسيحية إلى الكون. ومع أنّه يظهر حيادياً، إلا أنّه في الواقع ليس كذلك لأنّ الناس تُفسِّره كنوعٍ من الفلسفة بحدِّ ذاته. بالتالي، فقد سيطرتْ النزعة العلمية على النظرة الكونية الغربية. وعلى الرغم من النجاحات الجزئية لتطبيقات هذا العلم بهيئة التكنولوجيا إلا أنّه راح يُدمِّر نسيجَ العالم والبيئة وكلّ شيء. أما الاعتقاد بأن العالم الإسلامي بإمكانه حيازة تلك القوّة من دون المقايضة مع الشيطان فهو وهم، وغير قابل للتحقق. يعود السبب الى ان مشروع العلم المعاصِر بأكمله يعتمدُ على إهمال البُعد الروحي في الطبيعة، أي إقصاء يد الله عن خلقه. من حصاد معايناته لحركة العقل الحداثي، سواء لجهة انشغالاته المنحصرة ضمن دائرة العقل العلماني أو في نقدياته اللاهوتية يؤكد حسين نصر ان حركة هذا العقل ظلت حبيسة العقل الدنيوي أو ما يمكن ان نسميه بـ”الميتافيزيقا المثلومة”. فحتّى ولو كان أحدُ العلماء متديِّناً –من الناحية الفلسفية- كما يقول -إلا أنّ البُعدَ الروحي لا يدخلُ في أيٍّ من ملاحظاته أو حساباته المادية ولا يتّصلُ بكيفيّة نظرته إلى دُنيا الطبيعة. بالتالي، في العلم المعاصِر، يتمُّ دراسة الدُنيا الطبيعية بشكلٍ مجرّد عن حقيقة الله[19].

بإزاء الميتافيزيقا المثلومة التي وقع العقل الغربي أسير معاثرها الانطولوجية وعيوبها التاريخية يرى سيد حسين نصر ان إخراج العالم من النزعة العلموية لا بد أن يمر عبر مجموعة من الإجراءات والمراجعات:

أولاً: أنّ ما ينبغي فعلُه كمفكِّرين وعلماء مسلمين هو الإعلان عن ضرورة صيانة النظرة الكونية الإسلامية في ما يتعلّق بالعلم والطبيعة وبغضِّ النظر عن النتائج الدنيوية.

ثانياً، مثلما تشعر بعض نخب الغرب بلزوم الدفاع عن البيئة في وجه الممارسات التكنولوجيّة المعاصِرة يرى نصر الى ضرورة حماية بيئتنا الدينية بالإضافة إلى البيئة الطبيعية.

ثالثاً، ينبغي فهم العلوم الغربيّة عبر دمجها في المنظور الإسلامي، وأن تكون هذه الخطوة في الطليعة وعلى تخوم العلوم، خصوصاً الفيزياء ومن ضمنها الفيزياء الكمية حيث يستطيع المسلمون إعادة تفسير ميكانيكيا الكمّ بطريقةٍ ميتافيزيقية.

رابعاً، ينبغي أن ننشئ قدر الإمكان – والكلام لنصر- جيوباً داخل العالم الإسلامي لضمان استمرارية وتطبيق التكنولوجيات البديلة التي تعتمدُ على الرؤية الإسلامية إلى الطبيعة والعلم، ومن ضمنها الطب، الصيدلة، الزراعة، وغيرها[20].

خامساً: الغرب في نظر سيد حسين نصر هو آخر حضاري بالنسبة للذات الحضارية المسلمة. وبهذا الاعتبار فإن كل ذات وآخر ينظران الى بعضهما كضدٍ او كنقيض تتفاوت مستويات ومراتب تعامل كل منها حيال نظيره. وهذه مسلّمه تأسيسية عند حسين نصر تفضي الى وجوب فهم الغرب بما هو آخر حضاري تتنوع رؤاه حيال الآخر. من أجل ذلك سيعكف على معاينة سوسيو-تاريخية هدفها بيان تنوع واختلاف الرؤى في المجتمعات الغربية. عليه راح يصنِّف التنوع الغربي حيال الإسلام والشرق ضمن الترتيب التالي[21]:

الصنف الأوّل: الغربيون الذين يعتقدون باضمحلال مستقبلهم الحضاري ويبحثون عن هوية حضارية جديدة يجدون فيها معنى الحياة وأصول الحقيقة، وهذا الأمر حسب اعتقادهم يجدونه في الحضارات الأخرى؛ وعلى هذا الأساس نجد النزعة إلى الأديان الأخرى سائدة اليوم بين المواطنين الغربيين في مختلف البلدان، حيث يعتنقون الإسلام أو يسلكون مسلكاً بوذياً أو ينخرطون ضمن مختلف الفرق والمذاهب الشرقية الأخرى كالهندوسية. وما هو مشهود اليوم في الولايات المتحدة الأميركية هو أنّ عدداً كبيراً من النساء البيض اللواتي ينحدرن من أصول أوروبية يخترن الإسلام ديناً، وهذا الأمر بكلّ تأكيد جدير بالاهتمام وليس من الصحيح الغفلة عنه بوجهٍ.

الصنف الثاني: الغربيون الذين يحترمون الحضارات الأخرى لكنّهم لا يرغبون بالإعراض عن الحضارة الغربية، فهؤلاء يحاولون إيجاد أواصر صداقة وتفاهم بين حضارتهم وسائر الحضارات. إنّهم اليهود والمسيحيون، ومعظمهم مثقّفون أو أعضاء في إدارة شؤون الكنائس بمختلف مشاربها الفكرية والعقائدية.

الصنف الثالث: الغربيون الذين يدعون إلى تنزيل الحوار في حيّز التطبيق وإجرائه في إطار عملي كي تلتقي الحضارات مع بعضها، إذ إنّهم يعتقدون بضرورة تبادل مختلف الرؤى الحضارية لكونه أمراً لا محيص منه. على الرغم من أنّ هؤلاء لا يبدون رغبتهم وميلهم إلى الحضارات الصينية واليابانية والهندية والإسلامية، لكنّهم على اعتقاد بعدم إمكانية العيش في منأى عنها نظراً لما تفرضه الظروف السياسية والاجتماعية التي تطغى على العالم المعاصر، وعلى هذا الأساس لا يجدون بدّاً من الحوار معها.

الصنف الرابع: الغربيون الذين ليست لديهم أيّة رغبةٍ بمدّ جسور الترابط مع أيّة حضارة أخرى، وهم متشدّدون للغاية بحيث إنّهم يكنّون العداء والضغينة لسائر الحضارات لدواعي وأسباب شتّى. وللأسف فإنّ هؤلاء يتزايدون يوماً بعد يوم بشكل متسارع ويحاولون تسخير الحوار كذريعة للاستيلاء على العالم غير الغربي.

الصنف الخامس: الأصوليون أصحاب النزعة الراديكالية المتطرّفة، وهم من الذين يعارضون الحضارات الأخرى، ويرفضونها جملةً وتفصيلاً لدرجة أنّهم لا يرتضون بالحوار أو التفاهم معها مهما كلّف الأمر وبالتالي يريدون الانفراد بالعالم لأنفسهم لا غير.

إذن، نستنتج ـ ممّا ذكر في التقسيم أعلاه ـ وجود رؤى مختلفة ومتباينة في العالم الغربي حول قضية الحوار بين الحضارات، لذلك لا يمكن البتّ بضرس قاطع بما يكتنف الحضارة الغربية من هواجس للتعامل مع الحضارات الأخرى وكيف ستنزّل الحوار أو الصراع حيّز التنفيذ ولا يمكن التنبّؤ بالطريقة الحتمية التي تتّبعها في التعامل مع سائر الحضارات. إنّ هذه الحضارة بمثابة عربةٍ تجرّها عدّة خيول ولكنّها لا تمتلك وجهة واحدة، فكلّ حصان يحاول السير نحو اتّجاه يختلف عن مسير رفيقه، والواقع هو وجود رؤية شمولية تطغى على الحضارة الغربية المعاصرة لكنّها على مشارف الاضمحلال والزوال[22].

 

4-التنظير للإسلام في ماهيته والغاية منه

منتهى ما بلغة المشروع المعرفي لسيد حسين نصر، هو التنظير لجوهر الدين ومقاصد الوحي، ومع ان تنظيراته لا تخلو بين الحين والآخر من الانفعال الهويَّاتي بحكم الاحتدام الحاصل بين الإسلام والغرب، إلا انه يبقى ذاك التنظير الذي يدرك صاحبه طبيعة الزمن الذي تعبره الإنسانية المعاصرة.

كانت القرون الأولى في العصر الإسلامي هي في الواقع مثال حيٌّ للعصر الذهبي في الحضارة الإسلامية، حيث ظهر علماء ومفكّرون وفقهاء ومتخصّصون على مختلف الأصعدة كابن سينا والبيروني، كما انطلقت حملة واسعة للحوار بينهم وبين سائر علماء ومفكّري الأديان والأمم الأخرى ممّا أثّر بشكل ملحوظ على تنامي العلوم الإسلامية ولا سيّما العلوم الفلسفية. هذه النقاشات والحوارات كانت تجري في رحاب الخيمة الإسلامية بين مختلف المذاهب والفرق التي انشعبت عن الإسلام بمرور الزمان، فانتعشت البحوث الفلسفية واتّخذت طابعاً جديداً وعمّت الفائدة، ومن ثمّ اتّسعت رقعة هذه البحوث العلمية لتخرج عن نطاق خيمة المسلمين لتتحول إلى حوار بين الإسلام والأديان الأخرى فتمّت طباعة كتب ورسائل كثيرة في هذا الصدد لتصبح فيما بعد مصادر علمية لدى غير المسلمين أيضاً، فشاعت بين اليهود والنصارى. كما تمّ تأليف العديد من الكتب في هذه الفترة حول مختلف الملل والنحل، ككتابي البغدادي والشهرستاني وكذلك التحقيق الذي دوّنه أبو ريحان البيروني حول الهند تحت عنوان (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)[23].

في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، كان الحوار مع أتباع الأديان الأخرى متعارفاً بين علمائنا، ففي العهد الصفوي كتب بعض القساوسة النصارى مواضيع تثير الشكوك والترديد حول مصداقية الشريعة الإسلامية، ومن ثمّ أرسلوها إلى مدينة أصفهان عن طريق الهند، فتصدّى السيّد أحمد العلوي ـ تلميذ العالم الشهير (ميرداماد) ـ  للردّ عليها ونقض ما ورد فيها ضمن كتاب خاصّ دوّنه في هذا الصدد. ونحن بصفتنا من أتباع مذهب أهل البيتD فمن الضروري لنا عدم الغفلة عن تاريخنا الزاهي بالحوار والتعامل مع أتباع سائر الأديان والمذاهب، فالتاريخ ينقل لنا كيف أنّ أئمّتنا
المعصومينD كانوا يجالسونهم ويتناولون معهم أطراف الحديث حول مختلف المواضيع العلمية والدينية.

الذين يعيشون خارج نطاق العالم الغربي يكتنفهم إحساس مترسّخ في أنفسهم بأنّ الحوار المطروح في الغرب اليوم والذي يدعونا للانخراط فيه، يبدو وكأنّه حوار مخادع يكيد للمسلمين كي يقعوا في حبائله ويخسروا النقاش لصالح دعاة التغرّب والحداثة. لكنّ الواقع خلاف هذا التصوّر تماماً، إذ لو تجرّد الإنسان من عقدة الشعور بالنقص وتمسّك بالأصول والقيم التي يؤمن بها وشمّر عن ساعديه للدفاع عن حضارته وثقافته بثقة وطمأنينة؛ سوف لا ينتابه أيّ قلق أو اضطراب وبالتالي فإنّه لا يمكن أن يشعر بالخشية من الحوار مع روّاد الحضارات الأخرى والدعاة إليها، وبكلّ تأكيد سوف لا يعارض ذلك مطلقاً. بطبيعة الحال لو كان هذا الحوار منْبنياً على قواعد عقلية معتبرة عارية عن النزعات الشخصية والفئوية، فلا ينبغي للمسلمين أبداً الخشية منه لثقتهم بتعاليمهم وأهدافهم السامية، وغاية ما في الأمر أنّهم لو وصلوا إلى طريق مسدود مع الطرف الآخر وعجزوا عن إقناعه بما لديهم من مفاهيم يعتقدون بصحّتها ورجحانها على غيرها، عليهم حينئذٍ أن يتلوا قوله عزّ وجلّ : ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين ) ومن ثمّ ينسحبون من الحوار ليقينهم بعدم نجاعته حينئذٍ.

المهمة التنظيرية التي أخذ بها سيد حسين نصر وراح تتاخم ما هو ظاهر ومستتر في حياة الجماعة الحضارية الإسلامية، وجلاء ما يحيطها من لَبْسٍ واشتباه. وجرياً على هذا التوصيف، فقد جرت مهمته في اتجاهين متوازيين: انطولوجي وتاريخي. الاتجاه الأول يقصد التعرف على الوجود الاصيل، والثاني ينبغي فهم ظهورات هذا الوجود في الزمان والمكان. فالتلازم بين الاتجاهين هو شأن أصيل وجوهري في الجهود التي يبذلها الفكر الانساني للتعرف على العالم وفهم حقائقه المعلنة والمستترة. من أجل ذلك حقّ التفكر بهما معاً وذلك خلافاً لما درج عليه الفصل الجائر الذي اقترفته الفلسفة الأولى وامتداداتها المعاصرة بين الظواهر ومناشئها الأصلية. بهذا المعنى يتغيَّا التنظير النفاذ الى الطبقات المستترة في تحولات التاريخ الإسلامي المعاصر لاستكشاف أسباب ظهورها. وهو ما يفترض متاخمة المبدأ الذي بسببه ولدت الأحداث من الأفكار، والأفكار من الأحداث، ثم ليتاخم ما لا يتناهى التفكُّر فيه. ولذا فإن مهمة مركبة كهذه تستحثّ على السير نحو فتوحات فكرية تملأ مناطق الفراغ في الحيز الحضاري الذي تنشط فيه، مثلما تسهم في تخصيب فعاليات التفكير على نطاق الحضارة الإنسانية ككل[24].

مهمة التنظير التي رمى اليها حسين نصر هي إذن، ضربٌ من مبادرة تراهن على اجتياز ما هو مألوف من أسئلة شغلت مجتمعاتنا الإسلامية زمناً طويلاً. وعليه فإن أصل التفكير بتنظير موقعية الإنسان المسلم يشير الى الاستعداد والقابلية لفتوحات مستأنفة في فضاء الفكر الإسلامي المعاصر ومشاغله. وهنا يكمن البعد الخلاَّق للمهمة التنظيرية بما هي فلسفة عمل تتوجه بالدرجة الأولى نحو المسلم كوجود وهوية وفعالية حضارية، ثم تنخرط في قلب الحدث لتتعرف إليه بالتجربة والمعاينة الميدانية. في أثناء هذه الرحلة الشاقة لا ينبغي لحامل مهمة التنظير ادعاء القدرة على الإحاطة الناجزة بالموضوعات الداخلة في مجال عمله. فلو أفلح مرة في الكشف عن غامض فكري ما، أو أمكن له جلاء مسألة كانت عصية على الفهم، فلا ينبغي له أن تأخذه فتنة الإنجاز، بل عليه ان يمضي ليعاين أعماق القضية من أجل أن يستبْين حقائق لا تزال قيد الاحتجاب. فالمنظِّر الساعي للعثور على حاضرية الذات المسلمة يدرك أن ذاته المفكِّرة قادرة على الفعل والإيجاد متى غادرت أنانيتها وتكاملت بمتَّحدِها الحضاري. حالذاك لا تعود هذه الذات حبيسة القلق والتشظي وانعدام اليقين، ولا يعود السؤال بالنسبة اليها مطروحاً لمجرد السؤال، وإنما ذاك السؤال الذي تسألُه ذاتٌ مسؤولة تنظر وتتدبَّر[25].

لمَّا وقف عددٌ من نقاد الحداثة في الغرب أمام ظاهرة الكسل الفكري راحوا ينبِّهون الى ضرورة التعامل مع التنظير كواجب فلسفي وأخلاقي في الآن عينه. كان هوسرل يقول في هذا الصدد: ان من واجب أي شخص لو أراد أن يصير فيلسوفاً أو مفكراً أن ينعطف ولو مرة واحدة في حياته على ذاته. وفي داخل ذاته عليه ان يحاول قلب كل المعارف المقبولة، ويسعى الى معاودة بنائها، بحث تغدو الفلسفة – عنده – مسألة شخصيّة تسير به نحو ما هو كوني[26].

ولو توخينا إحاطة اجمالية بالأركان المفترضة التي ارتكزت إليها منظومة سيد حسين نصر، فسيكون لنا أن نشير الى أربعة:

الأول: ركن التوصيف والاستقراء، ومؤداه السعي الى الاعتناء بفهم الأسباب التاريخية التي أوجبت الخلل الحضاري، وأسست لجدليات التقدّم والتأخّر، مع ما ترتب على ذلك من أطروحات فكرية وثقافية وإيديولوجية أدت الى تغييب الوعي المطابق لماهية المشرقي والمسلم وهويته الحضارية.

الثاني: ركن السؤال المؤسس، ومقتضاه متّصل بما مرَّ معنا من كلام في شأنه. فلئن استوى النظر الى الواقع كما هو، انفتح السبيل إلى هذا السؤال، وتيسّرت عملية توليد الاسئلة المنسجمة مع طبيعته المؤسّسة لاستنهاض حضاري إسلامي جديد.

الثالث: ركن الإجابة المتماهية مع السؤال المؤسِّس ومقتضاها انجاز مقترحات وخطوط هادية إلى الغايات المفترضة.

الرابع: ركن النقد، ومقتضاه التلازم الوطيد بين العقلاني والأخلاقي، بحيث تصبح المتاخمة النقدية لكل فكره أو حدث مشروطة بالتدبّر والتخلُّق، الأمر الذي يفضي الى معرفة الذات وإدراك حدود عملها، في مقابل معرفة الآخر من دون تعدِّي حدوده وامتهان كرامته الإنسانية.

إذا كان تنظير الإسلام في الجغرافيا الغربية هو بعين نفسه غاية تأسيسية في منظومة سيد حسين نصر، فبديهي ان يجري البحث عن سؤال مؤسِّسٍ يكون من طبيعته وسلالته. والسؤال المؤسِّس الذي عمل حسين نصر على تفعيله في سياق استشراق المضاد، هو ذاك الذي يختزن قابلية المتاخمة العميقة للحقيقة الانطولوجية للإسلام، فضلاً عن فهم هوية المسلمين التاريخية ومنزلتها في الحضارة الإنسانية المعاصرة. ومن البيِّن ان الرجل ما كان له أن يتطلع إلى سؤال يؤسس ويفتح على بدء جديد من التفكير، إلا لقصورٍ المّ بأحوال النخب المسلمة وحال دون نجاتها من سحر الحداثة الفائضة وسطوتها. فالأسئلة الناشئةَ من هذه الخطبة أخذت مساحة واسعة من تفكير هذه النخب على مدى قرن كامل، ولذا تحولت هذه الأسئلة إلى ظاهرة لفظية غير مجدية بحكم تبعيتها لقيم الحداثة الغربية وعجزها عن استيلاد سؤالها الخاص.

وكما سنلاحظ فإن أحكام السؤال المؤسِّس في مشروع سيد حسين نصر ليست متعلقة فقط بخيرية الفكرة وما تنطوي عليه من مقاصد فاضلة، وإنما أيضاً بملاحظة شرط حضورها الزماني والمكاني الذي نشأت فيه. ذلك بأن حقَّانية كل استفهام عن مجهول ما، تعود الى المطابقة والتناسب بين لحظة طرح السؤال واللحظة التي تظهر فيه الإجابة عن ذلك المجهول. من أجل ذلك كان لهذه المرتبة من السؤال ان تحظى عنده بمكانة أصيلة سواء في مشاغله الميتافيزيقية، أو في اهتمامه بفلسفة التاريخ. ومن المنطقي والحال هذه أن يدرك بحكم كونه صاحب سؤال مؤسس أن تحويل الفكرة الى حدث هو أمرٌ غير مرهون فقط برغبة السائل والميقات الذي يحدِّده لتلقي الجواب، وإنما أيضاً الى ما تقرره روح التاريخ المحكومة بالأسباب. فلكي يكتمل السؤال النقدي بما هو سؤال مؤسِّس في نقد البنية الحضارية للغرب، سيكون على سائله أن يبذل جهداً مضنياً للعثور على ما يؤسِّس لآفاق الفكر وما يوقظ التاريخ من كسلِهِ ووهنه، وكذلك ما يحمل على التساؤل عما يحتجب أو يتعذّر فهمه.

سوف يتضح لنا مثل هذا السياق حين يعرب سيد حسين عن ألمه الشديد حيال الطريقة التي يتعامل فيها المسلمون مع النزعة العدائية للإسلام في المجتمعات الغربية. كما لو أنه يشير هنا إلى تغافلهم عن السؤال الأساسي الذي يبحث عن الأسباب العميقة لنشوء هذه النزعة. ولو تحرَّينا لوجدنا أن هذه النزعة تمتد إلى أعماق التاريخ الغربي بدءاً من المواجهات اللاَّهوتية والعقدية ضد الاسلام مروراً بالحملات الصليبية والبعثات الاستشراقية التي أعقبتها وصولاً الى الحقبة الكولونيالية الحديثة.

رحلة حسين نصر الطويلة في فضاء الاستشراق المضاد لم تلقِ أوزارها بعد. فبعد كتابه المعروف “قلب الإسلام” الذي أعادة فيه السجال الى مبتدأه الأنطولوجي مع الغرب العلماني، ها هو يواصل المكابدة في الفضاء نفسه ولكن  اليوم على نحو أشد تعقيداً مما سلف.

 

[1] – محمود حيدر- منهجية التفكير عند سيد حسين نصر- محاضرة ألقيت في سياق حلقات فكرية نظمها معهد المعارف الحكمية في بيروت بتاريخ 14-3-2019.

[2] – سورة الأحزاب – الآية 72.

[3] – سيد حسين نصر – الحاجة الى علم مقدس- ترجمة: حمادة أحمد علي – عمر نور الدين – دار نيوبوك للنشر والتوزيع- القاهرة – 2013- ص 21.

[4] – سيد حسين نصر – قلب الإسلام: القيم الخالد من أجل الإنسانية – ترجمة: داخل الحمداني – مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي – بيروت 2009 – ص 13.

[5] – سورة التين: الآية 4.

[6] – “قلب الإسلام” – المصدر نفسه – ص 15.

[7] – المصدر نفسه – ص 14.

[8] – فيصل بن علي الكاملي – الحكمة الخالدة وحقيقة المشترك الإنساني- جريدة البيان – الإمارات العربية المتحدة – في 16-7-2012.

[9] – انظر: حمادة أحمد علي – المطلق النسبي وغيرية الموجود – دراسة في هوية الميتافيزيقا عند فريذيوف شوان- فصلية “الاستغراب”- العدد العاشر- شتاء 2018.

[10]-Ibid: p30.

[11] – Frithjof Schuon: To Have a Center،World Wisdom Books، 1990،p62

[12] – حمادة أحمد علي – مصدر سبق ذكره.

[13] – أنظر: سيد حسين نصر- الحاجة الى علم مقدس- مصدر سبقت الإشارة إليه- ص 23.

[14] – الحاجة الى علم مقدس – المصدر نفسه – ص 25.

[15] – حوار مع البروفسور سيد حسين نصر أجراه معه الباحث أحمد زارع – راجع فصلية “الاستغراب” العدد الأول – السنة الأولى – خريف 2015.

[16] – المصدر نفلسه.

[17] – سيد حسين نصر – المصدر نفسه.

[18] – سيد حسين نصر – في سياق مناظرة مشتركة مع المفكر الهندي مظفر إقبال نظمت في نيويورك خلال جلستين بين شباط – آذار 2003- راجع: فصلية “الاستغراب” العدد الثالث عشر- خريف 2018.

[19] مناظرة سيد حسين نصر مع مظفر إقبال – المصدر السابق.

[20] – المصدر نفسه.

[21] – حوار مع الفيلسوف سيد حسين نصر – فصلية الاستغراب – العدد الأول – السنة الأولى – بيروت – خريف 2015 – مصدر سبق ذكره.

[22] – حوار مع الفيلسوف سيد حسين نصر- المصدر نفسه.

[23] – الفيلسوف سيد حسين نصر- مصدر سبقت الإشارة إليه.

[24] – المصدر نفسه.

[25] – المصدر نفسه.

[26] (هوسرل – تأملات ديكارتيه – مدخل الى الظاهراتية – تعريب إسماعيل حسن – دار المعارف – القاهرة – مصر 1970 – ص 28).
__________

*محمود حيدر/ مفكر وباحث في الفلسفة- لبنان.

جديدنا