التعايش الثقافي مدخل للسلم العالمي

image_pdf

إن من أهم القضايا التي تشغل عقول العلماء والمفكرين وتستقطب اهتمام المشتغلين بالدراسات المستقبلية والمهتمين بمصير الصدام الحضاري وتجلياته على مستقبل البشرية وما يطرحه من تحديات على جميع المستويات، تتخطى في معظمها  مجالات الفكر والرأي حول الصراع الثقافي والحضاري المتمثل  في تقبل الآخر المختلف والتعايش معه، إلى مجال أبعد يتعلق بمستقبل الإنسانية والسلم العالمي .

فحوار الثقافات كفكرة أصبحت بالضرورة تفرض نفسها وتحتل مكان الصدارة في قائمة الانشغالات لدى الدول والنخب الفكرية والسياسية والمؤسسات الدولية ومراكز البحوث المختلفة من وجهات نظر متعددة، تتداخل فيها أغلب التخصصات: الفلسفة، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والإعلام، والأنطروبولوجيا، والعلاقات الدولية، والتاريخ وعلم الأديان…. .

نظرا للتطور الكبير والمتسارع الذي يعرفه العالم، خاصة مع بزوغ شمس العولمة التي جعلت التبادل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي سلس ودائم وشامل وفي متناول الجميع، التي بفضلها تم الإعلان عن ثقافة إنسانية كونية ونظام عالمي واحد، له أبعاد عميقة تخترق الخصوصيات والهوية والحدود واللغة والدين،  وتقتحم الحواجز وتنفتح على الآخر المختلف عن الذات، وتراهن على مستقبل مشترك، فإننا نجد أنفسنا أمام ضرورة ملحة لبناء تصور جديد للعالم يقوم على أساس الثقافة الواحدة والمصير المشترك.

يحصل كثير من التضارب الفكري والمنهجي في التعامل مع الثقافة كمادة مستقلة عن الحضارة، فهناك الكثير من المفكرين والباحثين من وقعوا في الخلط بين الثقافة والحضارة نظرا للتقارب الكبير الحاصل بينهما من حيث أدوارهما في تحقيق التعايش مع الآخر ضمن أرضية مشتركة، والمساهمة في بناء مستقبل وحدوي  ثقافي وحضاري منسجم، رغم اختلاف وتعدد الروافد الثقافية والفكرية والحضارية عند المجتمعات والشعوب، فإذا ما أخدنا بعمق تلك المفاهيم فإننا ننطلق من الخاص إلى العام، أي من الحضارة التي تعكس الجزء المادي للثقافة إلى الثقافة الإنسانية العامة التي تجد طريقها لمشاركة الأفكار، والآراء المختلفة والعادات والتقاليد وكل ما يتعلق بالحياة العامة للإنسان.

إذا كان الغرض الأساسي من حوار الثقافات والحضارات والأديان هو التعايش ونبذ الخلاف، فينبغي أولا أن نقف على الدلالة اللغوية للتعايش التي هي الأصل في اشتقاق الاصطلاح كمدخل لبناء التصور الجديد، فبالرجوع إلى المعجم الوسيط نجد تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودة، وعايشه : عاش معه، والعيش معناه الحياة من المطعم والمشرب والدخل .[1] والتعايش في الاصطلاح يقصد به العيش المتبادل مع الآخرين القائم على المسالمة والمهادنة.

لا يستقيم لنا الأمر في الحديث عن حوار الثقافات كتصور جديد للعالم دون الإشارة لقواعد التعايش الذي يفرضه هذا المصطلح الجديد، والذي ابتدأ رواجه في الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية اللتين كانتا تقسمان العالم إلى معسكرين متناحرين لعقود طويلة ظل عنوانها العريض التشبع بإذكاء القومية والعرقية التي صعبت مهمة هذا التصور الجديد الذي يراهن على تحطيم  تحديات كبرى ثلاث، وهي :

المستوى الأول: سياسي إيديولوجي، يحمل معنى الحد من الصراع أو ترويض الخلاف العقائدي أو العمل على احتوائه، أو التحكم في إدارة هذا الصراع بما يفتح قنوات للاتصال وللتعامل الذي تقتضيه ضروريات الحياة .

المستوى الثاني: اقتصادي، يهدف إلى علاقات التعاون بين الحكومات والشعوب فيما له صلة بالمسائل القانونية والاقتصادية والتجارية، وكل ما له علاقة بضروريات الحياة الإنسانية من قريب أو بعيد .

المستوى الثالث: وهو الأهم، ديني، ثقافي، حضاري، يشمل تحديدا معنى للتعايش الحقيقي، والمراد به أن تلتقي إرادة الأديان السماوية والحضارات المختلفة والثقافات المتعددة، في العمل من أجل أن يسود الأمن والسلام العالم، وحتى تعيش الإنسانية في جو من الإخاء والتعاون على ما فيه الخير الذي يعم البشرية جمعاء من دون استثناء .[2]

وتذهب الموسوعة السياسية إلى أن أول من أطلق شعار التعايش السلمي بين المجتمعات ((peaciful coexistence، هو نيكيتا خروتشوف، الذي كان لا يعني به تراجع بلده  الاتحاد السوفياتي عن تحقيق أهدافه المعلنة، بقدر ما كان يعني به محاولته تحقيق تلك الأهداف بطريقة تنسجم مع مقتضيات التغيرات التي طرأت على المسرح الدولي، كوجود ما يعرف بتوازن الرعب، كما تذهب الموسوعة إلى أن الغرب يؤثر أن يكون المقصود بالتعايش هو ما يطلق عليه: ( عش ودع غيرك يعش أيضا)،[3] لكن هذا المفهوم لا يخلو من نبرة القوة والهيمنة  وفرض الرأي الواحد تبعا للمصالح السياسية للدول التي تعتبر أي وجود للطرف الآخر ومشاركته الحياة الجماعية اختراق للخصوصية وتهديد  للمصلحة العامة.

يمكننا أن نقول إن كل البدائل المطروحة التي تفتقر إلى الحوار المتكافئ والمتوازن والمسؤول، والقائم على تقبل الآخر المختلف ثقافة وحضارة، ستؤدي لا محالة إلى خلل في الكيان الإنساني و لا تخرج عن نظام الصراع والصدام ، واستفحال تدهور الأوضاع واضطراب الأحوال وسريان الفوضى في العالم مما سيجعل تحقيق الأمن والسلم العالمي أمرا صعب المنال.

فمن أجل بناء مستقبل إنساني آمن ومطمئن، وتجنب مظاهر العنصرية والتميز والخلاف ومنع اندلاع الحروب والنزاعات، ومن أجل أن يسود التعايش بين الأمم والشعوب على أساس العدل في المعاملة والمساواة في العلاقة بالمعنى الراقي للتعايش والتسامح، ينبغي جعل القضية المركزية التي تستحق أن تكون محورا أساسيا للتعاون الدولي المشترك من أجل إحلال السلام في العالم، وإبعاد خطر الصدام بين الثقافات والصراع بين الحضارات، و مد جسور التواصل الفعال بين الثقافات الشعبية والعالمية المختلفة، وتفعيل دور الحوار الأخلاقي القائم على الإيجابيات من الثقافات المشتركة، وتجنب السلبيات الثقافية المختلفة قدر المستطاع، وتعزيز دور التبادل الدبلوماسي الثقافي من خلال الاعتماد على الحوارات الثقافية في تجلياتها المتعددة، الدينية، والسياسية، والاقتصادية…

الهوامش

  • المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ،الجزء الثاني، دار الفكر ص: 639-640.
  • انظر الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، الإسلام والتعايش بين الأديان في أفق القرن 21، المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، الطبعة الثانية 2015، ص: 13.
  • الموسوعة السياسية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى ، بيروت، 1974، ص: 108.

_____
*يوسف محفوظ، كاتب وباحث في حوار الثقافات والتواصل الثقافي/ المغرب.

جديدنا