“الطيب والشرير والفظّ” يرفعون قبعة التحيَّة

image_pdf

نعم هذا هو الفيلم الذي من أجل عينيه أقام الجيش الإسبانيّ مقبرة ضخمة تضمُّ أكثر من خمسة آلاف قبر؛ ليصوروا فيها مشهد النهاية .. وهو الفيلم الذي رغم مضي أكثر من خمسين عامًا على إنتاجه ما زال يحتفظ برونقه وشموخه وكبريائه، وما زال يحجز مقعدًا في قطار أفضل عشرة أفلام في التاريخ .. وهو الفيلم الذي ستستمع فيه إلى أشهر موسيقى فيلميَّة صُنعت على الإطلاق .. وهو الفيلم الذي سيطالعك بشخصياته الثلاث: الطيب والشرير والفظّ ليرفعوا لك قبعة رعاة البقر الشهيرة تحيَّة اللقاء. وبعد ردّ التحية سنجلس هنا لنتعرف أجواء التاريخ الحقيقيَّة التي دارت فيها أحداث الفيلم في “الولايات المتحدة الأمريكيَّة” قديمًا، وأسلوب المخرج الفريد في صناعة فيلمه، وهؤلاء الشخصيات التي كان لها هذا الألَق اللامع.

اسم الفيلم “The Good, the Bad and the Ugly” تمَّ إصداره في عام 1966م بالألوان، وليس أبيض وأسود. والاسم الأصليّ إيطاليًّ، وفي الفيلم كثير من الشخصيات الفرعية تنطق بالإيطاليَّة (لذلك ستجد في النسخة الإنجليزيَّة عمليات دبلجة). قام بتأليفه عدد منهم “لوسيانو فنشنزوني”، “سكاربيلي”، و”سيرجيو ليوني”. وأخرجه الأخير مُنفردًا. وألَّف موسيقاه التي أصبحت أشهر موسيقى الأفلام إطلاقًا المؤلف الموسيقيّ الإيطاليّ “إنيو موريكوني”. وقام بالتمثيل كثيرون أهمهم: “كلينت إيستوود” وهو الطيب، “لي فان كلييف” وهو الشرير، “إيلي والاش” وهو الفظّ. وقد اخترت صفة “الفظّ” بدلاً عن “القبيح” المشهورة لأنها أدق تعبيرًا عن كينونة الشخصيَّة. والفيلم من نوعيَّة “أفلام الغرب” (الويسترن).

الفيلم يدور حول ظروف وأجواء الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة، وأحوال الغرب الأمريكيّ. ويعرض هذا من خلال قصَّة ثلاث شخصيات تلتقي في مغامرة قاتلة في هذه الصحراء القاحلة الممتدة إلى ما لا نهاية. ولكي نفهم جيدًا الفيلم وأحداثه وشخصياته يجب أن نلقي نظرة على “أمريكا” في منتصف القرن التاسع عشر.

كانت “الولايات المتحدة الأمريكيَّة” وقتها مختلفة تمامًا عمَّا نراه اليوم. فهذه الدولة الضخمة تكوَّنت من أجناس وأعراق كثيرة. وكانت تحت حُكم الكثير من الدول الأوربيَّة التي وضعتْ أياديها على القارة بعد اكتشافها. فهناك ولايات تابعة لإسبانيا، وأخرى لفرنسا، وأخرى لإنجلترا. وهناك الكثير من الصراعات حول هذه الدول على النفوذ. صراعات مع إنجلترا على الاستقلال، وصراعات مع المكسيك على الأراضي. وصراعات بين ولايات الشمال وولايات الجنوب. كل هذا غير بقيَّة الصراعات مع السكان الأصليين للقارة (المعروفين لدينا بالهنود الحُمر) والذين تمَّت إبادتهم لصالح إقامة الكيان الوليد.

ثم تبلورت السلطة بعد خوض حروب الاستقلال مع “إنجلترا”، وشراء الأراضي من “فرنسا” و”إسبانيا” وغيرهما في اتحادَين كبيرين: اتحاد الشمال ويستولي على الشرق، اتحاد الجنوب ومعه مناطق الغرب. وكان اتحاد الشمال ثريًّا حيث يعتمد على الصناعة والتجارة البحريَّة مع دول أوربا، وكان أكبر في الحجم وعدد السكان. وكان اتحاد الجنوب أضعف لاعتماده فقط على الزراعة. وبعد إنهاء الصراعات السابقة بدأ الطرفان سنوات طويلة من الاقتتال والحروب الأهليَّة من عام 1861: 1865م في سبيل سيطرة أحد الاتحادين على الآخر، وإقامة حكومة كليَّة شاملة لجميع الأراضي. راح ضحيتها أكثر من نصف مليون شخص. وانتهتْ لصالح الاتحاد الشماليّ. وكان من أهم أسباب الحرب هو “قضية العبيد” حيث تقوم جهات عديدة بخطف ملايين الأفارقة ليكونوا عبيدًا يعملون في زراعة وتعميرها الولايات الجنوبيَّة بدلاً من أن يعمل الأمريكيون أنفسهم هذه الأعمال الشاقة. في الوقت الذي كان الشمال يحاول الاعتماد على الآلة الصناعيَّة بدل العبيد، ويريد تحرير هؤلاء العبيد ومعاملتهم معاملة أفضل. وكذلك كان من أسباب الحرب اتجاه الشمال واتحاده ناحية الغرب الأمريكيّ لفرض سيادته.

في هذه الظروف، وفي آخر سنوات الحرب -تحديدًا- تظهر شخصياتنا. وهم:

الطيب: وهو يعمل “صائد جوائز”. وهذه المهنة كانت مشتهرة في تلك الأجواء. حيث يكون هناك رجال ذوو مهارة في ركوب الفرس واستخدام الأسلحة يقومون باجتلاب المجرمين الفارّين من الولايات، أو العبيد السود الذين يهربون من أسيادهم. نظير مقابل ماديّ متفق عليه. وهنا نلاحظ أن الطيب في الفيلم من عرق أوربيّ خالص، فهو أبيض البشرة وأشقر، ذو ملاحة واضحة. وهو شخصيَّة هادئة واقعيَّة، تمتاز بشيء من خفة الدم. نطالعها تدخن السيجار غالب الوقت. وهو الوجه الوحيد الذي سيتعرف عليه المشاهد؛ لأن الممثل “كلينت إيستوود” ما زال يصدر أفلامًا حتى اليوم مخرجًا وممثلاً، بل إن آخر أفلامه يتصدر ملصقها الدعائيّ.

الشرير: وهو يعمل في الظاهر ضابطًا في جيش الشمال. أما في الباطن فهو مجرم بكل معنى الكلمة، وقائد عصابة خاصة بها عدد من المجرمين. ونلاحظ أن ملامحه إسبانيَّة، ووجهه ذو انحناءات حادَّة، وتمتاز ملامحه العامة بالصرامة الشديدة. وهو مجرم ميت القلب، لا يخشى شيئًا. ودائمًا ما يقول: متى قبضتُ الثمن فلا بد أن أقتل. لا يتورع عن فعل أيّ شيء، ولا تهزُّه أيّة مشاعر.

الفظّ: وهو مجرم هارب من العدالة في أكثر من ولاية. وهو أطرف الشخصيَّات وأكثرها ثراءً. وهو من أصل أقرب لـ”المكسيك” و”أمريكا اللاتينيَّة”. ملامح وجهه دائريَّة، وتمتاز ببروز والفظاظة. وليست وحدها بل هو “فظّ” في كل شأنه. في تعامله، وفي أخلاقياته، وفي عشقه للمال وسعيه وراءه مهما كان الثمن. ورغم كل هذا هو من أصل طيِّب، وأخوه ذو شأن دينيّ. يكشف لنا الفيلم عن ملامح أخرى، وتحولات نفسيَّة كانت وراء امتهانه حياة الجريمة.

هذه شخصياتنا -دون كشف الكثير من ثرائها وتنوعها- تتصارع فيما بينها بهذه الصحراء الشاسعة على كنز يكتشفونه مصادفةً قد خبَّأتْه عصابات أخرى. فيسعون وراءه، ونسعى وراء الجميع لنشاهد اتفاقات، وانشقاقات، وخيانات، ومفارقات في الأحداث. وأمة تولد، وصراعات تنتهي، وظروف عصر مغاير عمَّا نراه الآن. كل هذا ستراه في الفيلم.

وقد امتاز الفيلم بتأليف جيِّد توفَّر عليه عدد من المؤلفين. وقد أفردوا مساحة ضخمة من زمن الفيلم الممتد لثلاث ساعات للتعريف بالشخصيات؛ لأنه فيلم شخصيات. وكذلك للتعريف ببيئتهم التي يعيشون فيها. وبعد هذا نسجوا خيوط حبكتهم لتبدأ الأحداث تنطلق. ولا تشعر من حديثي بأن الفيلم مُملّ؛ فإنَّ تأليف هذا الفيلم لا يكتمل من دون إخراجه الذي كان العامل الرئيس في توضيح كل شيء.

ولكنْ قد تطرح سؤالاً: هذه العناصر قد عرضتْ في أفلام كثيرة غيره؛ فلِمَ نال هذه المكانة في تاريخ السينما؟ قد يدهشك هذا بعض الوقت. لكنْ إنْ تمعنتَ سترَ:

  • أنك تفكر في هذا لأنَّك هنا والآن. لا في الستينيَّات، ومع رحلة المبدعين الأصليين. فقد مرَّت الصناعة السينمائيَّة بالكثير من التطورات بعده. وهذا الفيلم واحد من محركات التطور في السينما. وقد تمّ الاهتمام بصنع كل جزئيَّاته، وصوِّر في عدة دول أوربيَّة. وأنفق عليه الكثير من الأموال.
  • الفيلم قدَّم دفعةً هائلة لنوعيَّة أفلام الغرب (الويسترن) التي كانت قد بدأتْ قبله بسنوات كثيرة.
  • الفيلم له تأثير بالغ في كتابته وطريقة تأليفه والتفافات السيناريو، وتشابكاته، وتنوع شخصياته. للدرجة التي أصبح فيها ذا مركزيَّة في صناعة السينما.
  • الفيلم يمتاز بأسلوب إخراجيّ بالغ التميُّز (سيأتي ذكره).
  • الفيلم قدَّم أشهر موسيقى في تاريخ السينما. تميَّزت بالكثير من التنويعات على الجملة اللحنيَّة الرئيسيَّة. لدرجة ستدهشك عندما تسمعها، وستنبهر من مهارة صانعها.

وقد أنشأ الجيش الإسبانيّ مقبرة كاملة -كما سبق- لتصوير مشاهد النهاية. وفي عام 2017م صدر فيلم وثائقيّ يعرض لهذه القضيَّة اسمه “Sad Hill Unearthed” سترى فيه مكان المقبرة في وقتنا هذا وقد اندثر تمامًا وغطي بالرمال في إسبانيا.

وبالرغم من أن الفيلم قديم إلا أن نطاق الأخطاء والسذاجة التي سيتوقعها المشاهد -قبل المشاهدة- في الأفلام القديمة غير موجودة في هذا الفيلم. فمقدار السذاجة في الصناعة مقتصر على أصوات الضرب بالأيدي المبالغ فيه جدًّا وهذه كانت سمة العصر كله. وكذلك بعض “المكياج” غير الملائم أو الزائد عن الحدّ في بعض اللحظات. نعم هذا وحسب مقدار السذاجة في الفيلم. وسبب هذا هو عمل المخرج الممتاز، وأسلوبه.

امتاز المخرج “سيرجيو ليوني” بجودة الصنعة ومتانتها. وبأسلوب خاصّ قد يراه المشاهد الحديث بطيئًا بعض الشيء. لكنه ليس بُطئًا حقيقيًّا إنَّما كانت مُحاكاةً للشيء المصوَّر. الذي هو صحراء، ثم صحراء، ثم صحراء. أيْ أن المصوَّر كانت سمته الثبات؛ ولهذا جاء الإخراج على هذا النحو. والحركة كانت لشخصيَّات وحيوانات فقط.

وبالعموم أهمُّ خصائص المخرج في هذا الفيلم أحددها في الآتي:

  • الوضوح: فـ”ليوني” ليس من المخرجين الذين يصورون شيئًا لتفهم شيئًا آخر، أو يشيرون إشارات رمزيَّة غامضة لتلقي ضوءًا على أمر خفيّ من بعيد قد يفهمه بعض الجمهور ويغمض على الآخرين. لا إنه مخرج واضح المعالم والقسمات. غرضه الأساس في الفيلم هو التوضيح لا التلميح. نرى هذا في عرضه المستمر لمواقع الأحداث، وفي تركيز الكاميرا على ملامح الوجوه، وعلى ردود الأفعال، وعلى المبررات والدوافع حتى كأنَّه يصرِّح بها لكن بكلمات الصورة. ويشبه في هذا الروائيّ الشهير “تولستوي” في روايته الأشهر “الحرب والسلام” فهو واضح جدًّا لكنه فنيّ جدًّا.
  • التباين الشديد الذي يصنعه في الانتقال بين حجم اللقطة “بالغ الاتساع”، وحجم اللقطة “بالغ الضيق”. وقد أصرَّ على صنع هذا التباين الذي أعطى للصورة الفيلميَّة كثيرًا من الثراء البصريّ.
  • اللقطات البانوراميَّة: التي نترجمها بـ”اللقطات الاستعراضيَّة” وهي نوع من أنواع التصوير الفوتوجرافيّ الرئيسيَّة. وتتمثل في تصوير بالغ الاتساع يشمل جزءًا ضخمًا من بيئة التصوير؛ كمجموعة جبال، أو وديان، أو صحراء شاسعة. وتصنع عادةً -في الحديث- من دمج عدد من الصور سويًّا في صورة كُبرى.
  • الابتكار في زوايا التصوير وقد كان مبدعًا في التغيير بينها، وإدهاشنا بها.
  • استخدام الموسيقى في التعبير الدراميّ الفاعل. حيث الموسيقى ليست شيئًا يلعب حينما يحل الصمت، أو يأتي الترقُّب، بل هي جزء حقيقيّ من دراما العمل.

حقًّا سيستمتع المشاهد الكريم بحياة “الغرب الأمريكيّ”، وهؤلاء الراكبين على الخيول يطلقون الرصاص في كل مكان، وهذا البحث عن الأموال وما يصنعه في البشر، وهذه المغامرة التي يخوضها أصدقاؤنا المشاهير “الطيب والشرير والفظّ”.
__________
*عبد المنعم أديب.

جديدنا