مرايا ريبر؛ قراءة في الحب وجود والوجود معرفة

image_pdf

 

بروح فلسفيَّة  ظمأى للمعرفة، تبحث عن المعنى وتتوق للمطلق  وتعانق الوجود؛ كل الوجود، وتبحث عن خلاص الإنسان في عالم تحكمه سلطة  الأقوياء،  وتتصارع فيه  العصبيات  العرقية والدينية  والمذهبية وتتناحر الأيديولوحيات، يصوغ ريبر العالم ويصهره في “الحب وجود والوجود معرفة “بفكر ورؤية شاعر مرهف الحس، مجبول على الشعر، وبالشعر وللشعر . واثقا  من طريقه وخطواته ولغته، إلى الينابيع.

“تحمله الجياد إلى أقصى ما يهفو إليه قلبه، وتقوده على الطريق الخصبة بوحي من الآلهات .. وتخترق به كل المدائن “(1).

على خطى بارمينيدس  “نبي الأنطولوجيا ” كما سمَّاه نيتشه، المعرفي الكبير يعلِّل الوجود، فيراه ذاتًا من ذاته و يحمله في كيانه، كدأب  أسلافه  الشعراء، كما قال الشاعر التونسي الخالد

أبدا يحمل الوجود بما فيه

كأن ليس للوجود زعيمه.

برؤاه الشعرية والفكرية سعيا نحو السعادة، مراهنا على أن الفكر الذي يعول عليه هو ذاك  الذي يقدِّم  “راحة كبرى للروح المتعبة ” (2).

في كتابه الجديد “الحب وجود والوجود معرفة”  يقدِّم  ريبر هبون رؤيته الفلسفية الفكرية  للعالم من خلال جدل  الحب وجود والوجود معرفة. ويستكمل مشروعه /الأدبي /الفكري / الذي أعلنه مع بداياته الشعرية. فيدعو  لتمجيد المعرفة والاحتكام لها وتنظيم المجتمع بشكل عقلاني وتكوين رابطة بشرية جامعة  لكل المعرفيين في العالم، ذلك أن المعرفة هي البديل عن  التعصب الديني والمذهبي والعرقي والإفلاس الأيديولوجي؛ إنها  الحالة الطبيعية التي تستطيع إن وجدت أن تتماشى مع الطبيعة الإنسانية في توافقٍ تام، ويراهن على المعرفة كسلاح  قوي له نجاعته في كل الأزمنة وعلى المعرفيين كبناة للعالم؛ فاعلين ومؤثرين في حركة التاريخ، ويدعو مع ماركس إلى التغيير  منتقدا الفلاسفة الذين وقفوا عند محاولة تأويل العالم وفهمه بدل تغييره بروح قريبة من الرؤية الصوفية والتي هي:”ليست انعكاسا مرآويا للواقع بل هي تجاوز له وتجاوز للوعي نفسه .إنها عملية خلق جديد لهذا الواقع “(3).

ومن خلال الحب ّوجود والوجود معرفة، تبدو ظلال هيجل وارفة للعيان  في الجدل الذي يرى  أن  العالم كله صيرورة، أي في حالة حركة وتغيّر وتحوُّل وتطوّر دائم.

وفي منطلقاته ورؤيته للتاريخ  والإحساس بالتاريخ وكأنَّه يردِّد مع هيجل أنّ ” تاريخ العالم ليس إلا تقدّم الوعي بالحرية ”  (4) واعتماده على مبدأ  “أنَّ كل ماهو واقعي فهو عقلي وكل ما هو عقلي فهو واقعي وهذا معناه أنّ ليس هناك شيء في الوجود لايقبل التفسير بالعقل ….. وأنَّ  الحركة في الكون وصيرورته خاضعة لقانون حتمي يتجه إلى أعلى مراتب التقدم، إلى قمة التطور، إلى تحقيق المطلق، أي تحقيق العقل الكلي (أو الفكرة أو الله ) في العالم وتحقيق العالم في العقل “(5).

ويدعو للدولة التي تقوم على التنظيم العقلاني للأخلاق والمؤسَّسات الاجتماعية، منتقدا الدولة الشمولية والتي هي قمعية استبدادية، وإحلال  السلطة المعرفية  محلّها على اعتبار أنها تختلف عن كل السلط الاستبدادية، الأسس والغايات والمنطلقات التي يعتمدها ريبر في كتابه متشعبه .ليست واضحة بشكل محدد وأحيانا يكرر نفس المقولات والأفكار التي  قالها سابقا؛ فهو ينتقد الإيديولوجيا  ويمجّدها وينتقد الدولة الشمولية ويقع في الشمولية عندما يمجد المعرفيين .وعنده أن الفكر هو الأساس وكذلك الصراع الثنائي ويدعو لجمهورية افلاطونية معرفيه.

المهاد الدلالي لـ “الحب وجود والوجود معرفة ” جعله الكاتب متناغمًا مع مهاد النظرية، الذي يتخذه موئلا لتأويل العالم وفهمه ..من جغرافيا الشرق الأوسط وتاريخه، وهويّاته وبالأخص القومية الكرديه المتواجدة بكردستان بين العراق وسوريا وتركيا وإيران .

يهفو ريبر إلى الحرية دائما ويتغنّى بها، والحريَّة التي ينشدها هي التي تتحقَّق بالمعرفة المطلقة معرفة الذات.

أنا ظامئ، وخطاي تهتف للمياه

تروح تنهل حكمة  الينبوع

أنا كالنبي المرتجى عطف الإله

أسير في درب بصبر يسوع

وأضيع عبر معالمي متدليا

كالموت أصهل متخما بالجوع.(6)

وبحسّ وجودي  يتّحد مع العالم  ويخاطب الكيان قائلا:

أدعو لإنسانية الإنسان أن

يحيا النقاء يضيء كل سواد

لم يفتح التاريخ يوما صدره

للعاشقين لغاية الإنجاد

بل كان دوما عابرا بمرارة

للضائعين وكان بالمرصاد

سيكلم الينبوع أعماق المدى

عن كل مأساة وكل جماد

عن قهرنا المسكون في نبضاتنا

وضياعنا بمتاهة الأوغاد

أنا ثورة للغارقين كآبة

أنا بلسم للعاشقين وهاد

سيكون ذاك العشق أعظم ثورة

تشدو لها الدنيا بكل عناد

إني نصير الحب في زمن الدجى

ومناهض لخرافة الأجداد

أدعو لمجتمع طبيعي الرؤى

فيه نحقق حلم كل مناد (7)

 

قدم ريبر” الحب وجود والوجود معرفة” في ثمانية فصول :

_العقل المعرفي الشرق أوسطي بمواجهة التجهيل.

_الإرادة المعرفية في مواجهة القمع.

_الإرادة المعرفية في مواجهة الإسلام السياسي.

_الاقتصاد في خدمة الوجود.

_المعرفيون في كوردستان الشمالية.

_المعرفيون وإشكالية الحرية.

_حرية الفكر المعرفي بمواجهة التجهيل الممنهج.

_حول الشرق الأوسط وسبل الحل.

 

في تمهيده حول الإحساس بالوجود أصل المعرفة أو العالم، يقول الكاتب “أول ما يعيه الكائن الحي إدراكه للوجود والإنسان يدرك ذاته من خلال الوجود فهو الأرضية التي ينشأ عليها المجتمع وفيها يستقي معاييره  ومثله من الرابط الأوحد الذي يربط الإنسان بالوجود قبل اكتساب الأشياء وهو إدراك الحب عبر نمو الإحساس ” (8)، ومن هذه العلاقة  القوية بين الكائن والوجود والتي تتطور لتتداخل فيها عوامل كثيرة أكثر من منشأها النفسي لتصبح وجودية وسياسية وتاريخية وثقافية .يسعى ريبر لإبراز الصراع الذي يخوضه المعرفيون في هذا الوجود، وفي علاقة الذات /الفرد بالمجتمع يحفر في تاريخه الذاتي في الفصل الأول /العقل المعرفي الشرق أوسطي بمواجهة القمع /مبرزا تشكلات الخراب والفظيع  في المنطقة الشرق أوسطية وفي الفصل الثاني يبين مدى قوة الإرادة المعرفية وكيفية مواجهة القمع، محللا أسباب الصراع  مراهنا على المعرفة في مختلف مساراتهاوفي أكثرها ذاتية /الكتابة الأدبية التي لا تغدو هروبا من الواقع وإنما تجاوزا له عبر الحلم والأمل والتأمل، وهو بهذا يسعى أكثر لإبراز أهمية الوعي الذاتي في كل فكرويصبح الموت والذي هو  مشكلة فلسفيه وجودية/فيزيائية، يصبح نضجا وسبرا لغور المعرفة باعتباره وعيا ذاتيا، الموت الشرق الأوسطي بين حضارات متعددة، وهو الموت الذي شكل وعي كلكامش الوجودي  بطعم مختلف، وبحساسية صراع الحضارات.

 

في الفصل الثالث /الإرادة المعرفية في مواجهة الإسلام السياسي، يتناول العنف في المنطقة ويرده إلى التطرف ويربط بين التطرف الإسلامي والقومية “المتعالية ” ورغم وجاهة ما يقدمه من حقائق،  مع ذلك أحيانا يتحامل  متناسيا حركة التاريخ وصيرورته ويحمل الدين وزر كل شيء، رغم أن هناك أسبابا كثيرة باعثة على الصراع، كاختلاف الحضارات والثقافات والاستعمار ومخلفاته والسعي والتنافس على الثروات في المنطقة، ثم إن الديانات في الشرق الأوسط  عديدة وليس الإسلام وحده هو الذي تدينه شعوب الشرق الأوسط فهناك المسيحية وغيرها والكاتب بالأساس يركز في انتقاده على العنف في الأسلام السياسي .ثم أن أسباب العنف كانت منذ احتلال اسرائيل للمنطقة العربية وقبل نشوء الجماعات الإسلامية بعقود من الزمن .

في فصل الاقتصاد في خدمة الوجود /يدعو الكاتب إلى الفكرة التي “تنتج الإبداع والجمال والخيرالذي لا ينضب وتنشد الحب الذي هو الممهد الأساسي لتبلور الفعل الإنساني الذي يعم فضله على الوجود بأسره نحو مذهب الاقتصاد في خدمة الوجود القوي الذي يساهم في إرساء الأمن والسلام “(9)، ويدعو إلى قيم المدينة الفاضلة عند افلاطون   ويدعوالمعرفيين إلى الاتحاد وتنظيم المجتمع بشكل عقلاني .

وفي الفصل الخامس والسادس ومن خلال صراع الهويات يدعو إلى تأكيد الذات مبرزا لأهمية الوعي الذاتي، ومن خلال جدل الحرية يدعو جميع المعرفيين إلى التحرر المعرفي والفكر المستنير لصناعة المصير.

في الفصلين الأخيرين /يقدم  الفكر المعرفي  في شموليته حلا وبديلا في مواجهة التعصب الديني والتطرف وفشل الأيديولوجيات وقمع الديكتاتوريات واستبداد السلط  فلا خلاص للإنسانية من الويلات والحروب والمجاعات والصراعات والعبودية والجهل إلا بالفكر المعرفي .

عبر” فرضية الحب وجود والوجود معرفة “يدعو  ريبر لمجتمع عضوي مترابط لايستغني أحده عن الآخر، ويحاول تطبيق مفاهيم فلسفية مجردة دون النظر في الاختلافات الكثيرة بين المجتمعات البشرية فهل من الممكن أن ندعو إلى جامعة بشرية وفق هذا التصور؟ وهل من الممكن أن تختفي كل الفروق بين الثقافات والديانات والشعوب؟ في إطار معرفي واحد يجمعها من الشرق إلى الغرب ؟وهل يمكن للمعرفيين أن يتحدوا في ظل  سلط لا تقيم وزنا لهم ؟ وفي مواجهة قوة أكبر منهم.

أخيرا نقول إن الكاتب وإن كان يفتقد لأسس صلبة في بناء نظريته، فإن ذلك لايقلل من أهمية كتابه  وحسبه أنه أشار إلى أبعاد كبرى مهمة جدا، واجتهد ثم إن مسارات كل الفكر الإنساني من بدء التاريخ إلى اليوم  كلها نظر وتأمل، يظل يتراكم ويتطور عبر الممارسة والتجربة إلى أن يصل إلى المبتغي المنشود.

في الحب وجود والوجود معرفة تتجاور كل الثقافات والأمم والجغرافيا والتاريخ، ويؤثث الحب كل الوجود، ويحظى المعرفيون الفاعلون المؤثرون في حركة التاريخ بالتقدير خصوصا الذين عاشوا مصائر تراجيدية سقراط والحلاج، وذلك لأن الكاتب يرى في التضحية سبيلا وغاية لا بد منها لتطور التاريخ وقيام الفكر المعرفي .

الحب وجود والوجود معرفة هكذا تكلم ريبر هبون، وأنا أقرأ الكتاب  لفت انتباهي قوة الانفعال الوجداني وإحساس المقموع  الذي يجعل الكتابة أحيانا لا واعية. وحدة النبرة الرسولية التي لا تفارق الكاتب حتى ليخاله المرء مثل زرادشت نيتشة رغم الاختلاف بينهما، هابطا عند سفح الجبل ممسكا عصاه، وعلى كتفه حيته ونسره مرددا عظاته على تلاميذه .

هكذا ريبر يبشر بالإنسان المعرفي ويتوق للمجتمع المعرفي حلم الإنسانيه  في مراياه الثلاث المتماهية /الحب /الوجود /المعرفة.

هوامش :

(1)-قصيدة بارمنيدس /ترجمة يوسف الصديق .دار الجنوب /تونس .ص 121.والأبيات المشار إليها:”هزتني الجياد تحملني إلى أقصى ما يهفو إليه قلبي.حين قادتني على الطريق الخصبة بوحي من الآلهات تمتد مخترقة المدائن كلها”.

(2)عزاء الفلسفة/بوئثيوس/ترجمة د /عادل مصطفي/رؤية للنشر. 2008.ص  126.

(3) مقالات في الأدب والفلسفة والتصوف/حميدي خميسي/دار الحكمة .ص .7

(4)مقدمة قصيرة جدا /هيجل /بيترسينجر/طبعة أولي.2015/مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة /ص38.

(5)تكوين العقل العربي /محمد عابد الجابري .مركز دراسات الوحدة العربية .ص.22و23.

(6)صرخات الضوء/ريبر هبون /ط أولي 2016.نون للنشر /حلب .سوريا .ص 38.

(7)صرخات الضوء/ ص .74و75.

(8) الحب وجود والوجود معرفة /ريبر هبون /لوتس للنشر الحر. 2021/ص 11.

(9)الحب وجود والوجود معرفة /ص 120.
_________
*حمود ولد سليمان /غيم الصحراء.

جديدنا