الإيديولوجيا النيوليبرالة وإنتاج القيم العالميَّة؛ أسئلة تخصّصيَّة في الفكر السياسي

image_pdf

جاءت هذه المساهمة في الحوارات التخصصيَّة، التي ينظِّمها المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجيَّة في إطار مشروع التأسيس لعلم الاستغراب، وتعزيزاً لاستراتيجيته المعرفيَّة والنقديَّة، والتي شارك فيها عدد من المفكّرين والأكاديميين المتخصّصين من العالمين العربي والإسلامي، وصدرت في كتابٍ جماعي من ثلاثة أجزاء.

وخُصِّصَ الجزء الثالث من السلسلة الحواريَّة التخصّصيَّة لتظهير رؤى وآراء نقديَّة لجمعٍ من المفكِّرين والباحثين المتخصّصين بالعلوم الإنسانيَّة، وكان لي شرف الإجابة على أسئلة “الفكر السياسي”، التي تمحورت حول المشكلات المعرفيَّة، التي تعصف بالحضارة الغربيَّة الحديثة على مختلف الصُعُد الفكريَّة والسوسيولوجيَّة والثقافيَّة. وذلك وفقاً لذات المنهج، الذي أخذه المركز في الجزءين السابقين، وشملت الاستغراب النقدي والاستشراق، التقنية، الميديا وعلم الإعلام، الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الغربي، الفكر الاقتصادي الغربي.

وأوضحت مقدَّمة الجزء الثالث أنَّ الأسئلة ارتبطت “بنقطة الجاذبيَّة، التي تشكّل محور غايتنا من هذه المحاورات، أي متاخمة المباني الكبرى للحياة الحضاريَّة في الغرب، وتناولها في التحليل والنقد في ضوء استراتيجيتنا الآيلة إلى الإسهام في التأسيس لعلم الاستغراب”، تذكيراً “بالمباني الإجماليَّة لهذه الاستراتيجيَّة، التي افتتحناها بالسؤال التالي: هل الاستغراب هو معرفتنا بالغرب، أم أنّه معرفة الغرب بنفسه، أم المعرفتين معاً؟ ونضيف: هل يندرج اهتمامنا بالاستغراب كميدان علمي مستحدث أملته ضرورات حضاريَّة، أم أنّه ضربٌ من انفعالٍ ارتداديٍ على ما اقترفه الاستشراق من جنايات وهو يتاخم مجتمعاتنا خلال أحقابه المتعاقبة؟”

وذهبت المقدَّمة إلى أنَّ “الإجابات المحتملة قد تتعدّى حدود وآفاق هذا التساؤل المركّب. فالاستفهام عمّا إذا كان الاستغراب يؤلّف مفهومًا حقيقيًا له واقعه أم أنّه مجرّد شائعة، هو استفهام مشروع. إذ حين تتحوّل مفردة «الاستغراب» من ملفوظ له منزلته في عالم اللغة، إلى مصطلح له حقله الدلالي المفترض يصبح العثور على تحديد دقيق للمصطلح ضرورة معرفيَّة.”

ويقول المحرِّر: “يتَّخذ هذا الحوار مع الباحث السوداني البروفسور الصادق الفقيه بُعده التنظيري من خلال الربط الوثيق بين النظريات السياسيَّة، التي شاعت في الغرب الحديث والتجربة في ميدان المواجهة مع الحركة االاستعماريَّة للجغرافيات العربيَّة والإسلاميَّة. وانطلاقاً من مشروعه الفكري، يُقارب البروفسور الفقيه جملة من القضايا الجوهريَّة، التي تتَّصل باتِّجاهات العقل الاستعماريَّة في أزمنة الحداثة بصيغتها المعولمة. نُشير إلى أن الفقيه كان قد شغل منصب الأمين العام لمنتدى الفكر العربي في الأردن، وهو أستاذ محاضر في عدد من الجامعات والمعاهد العلميَّة العربيَّة والدوليَّة”.

فإلى نص الحوار:

س- تأسيساً على مشروعكم المعرفي، كيف تنظرون، ولو بصورة مجملة، إلى التحولات، التي فرضتها العولمة النيوليبرالية على النظريات والمناهج السياسية في الفكر الغربي خصوصاً لناحية الاستباحة، والتي عصفت بمفهوم الدولة والسيادة الوطنية في نهاية القرن العشرين؟

ج- لا شك أن من أبرز التحولات، وأكثرها حساسية وخطورة، التي جلبتها العولمة بكل تصنيفاتها، هي أن الأيديولوجيات والقيم لم تعد مقيدة بالحدود الثقافية والجغرافية، والترويج لذلك بأنه أمر جيد لخلق القابليات لهذه التحولات، والتي بدأنا نكتشف، مع مرور الوقت، أنها ليست كما حملت لافتاتها البراقة. فقد عكفت، منذ العام 1992، في كتابة بحث مستفيض، أصله باللغة الإنجليزية: “Globalism: Media and Foreign Policy”، وترجمته لاحقاً، بعنوان: “أيديولوجية العولمة: الإعلام والسياسة الخارجية”، حاججت فيه بأن العولمة؛ مهما اكتست بحقائق صيرورة حركة التقارب الإنساني، ومسوح الاقتصاد، وتسارعت بآليات التقنية، فما هي إلا “أيديولوجية” يوجهها القصد الاستراتيجي لقوى الهيمنة، وأشبه بـ”حصان طروادة”، الذي سيحمل للعالم كل قيم الليبرالية الغربية، التي لم تستطع غرسها في السابق عبر الجيوش والاحتلال والاستعمار (رغم أن مفردة “الاستعمار” لها معنى إيجابي، لم يكن رديفاً لوضع الاحتلال ولا غايته، إلا أننا نستخدمه بما استقر عليه لحين أزاحة ما ترسب من أخطاء ترجمته غير المعرفية). فالعولمة، التي عناها عَالِم الاتصال “مارشال ماكلوهان” في خمسينيات القرن الماضي، في كتابيه “القرية الكونية” و”الوسائط وحواس الإنسان”، أدركت سعي الإنسان للتواصل باختصار الزمان والمكان، واحتفت بوسائل التقنية الاتصالية، وما يمكن أن تحققه من تقارب بين مسافات العالم المختلفة. لكن “اسم العولمة”، الذي يستخدم في الغرب الآن غالباً ما يكون للإشارة إلى “علاقات القوة والممارسات والتقنيات” معاً، التي تميز العالم المعاصر وساعدت في خلقه، كما قال “توني شيراتو وجين ويب” في كتابهما: “فهم العولمة”، الذي صدر عام 2003. رغم أن ما في الواقع، يؤشر على أن هذه الكلمات الثلاث؛ “القوة والممارسات والتقنيات” أقل دقة في الوصف عندما يتعلق الأمر بالمفهوم الشارح لـ”عمليات الأيديولوجيا” في أبعادها الإمبريالية العابرة للحدود والقيود، مُحَدِّثَة الناس ببزوغ عهد جديد من “التنوير” والحداثة المُسْتَوعِبة لجميع التنوع العالمي. إذ يشير “أرماند ماتيلارت” في كتابه “العولمة والتنوع الثقافي”، الصادر عام 2000، إلى أن مفردة “العولمة” هي إحدى “الكلمات المخادعة”، أو أنها أحد تلك المفاهيم الآلية، التي خرجت بمحمولاتها الليبرالية، وانداحت في كل مكان بتأثير ثورة الاتصالات. إذ شهدنا أنه سرعان ما نهض الفكر الليبرالي الغربي بتبنيها كأيديولوجية مساندة لمنطق هيمنته، ونشط في تجنيس منطق السوق بمحددات ثقافية رأسمالية، وفرض سمات التوحش الغربي كونياً، دون علم ومشاركة الكيانات العالمية الأخرى، الذين يُفترض أنهم صاروا عولميين. وتمادت آليات التنميط الحداثي في إشاعة قوالبها الثقافية، إلى الحد، الذي أصبح لا غنى عنها لإقامة التواصل بين الناس من مختلف الثقافات.

لقد بنيت حجتي الخاصة بما يقترب من هذا الفهم، وذلك بتبني الزعم بـ”أيديولوجية العولمة” لأن لها دوراً مهيمناً في التنظيم؛ الثقافي، والاجتماعي، والسياسي العالمي، وجهد مقصود في فك تشفير معنى العالم، وتنميطه بمناهج الليبرالية الغربية. أو هي، كما ادعى “جون بينون وديفيد دنكرلي”، في سياق مماثل، وبشكل عام، في كتابهما “مقدمة للعولمة”، الصادر عام 1997، أن “العولمة، في شكل واحد، أو آخر، تؤثر على حياة كل فرد على هذا الكوكب”، مع تفسيرهما أنه قد تكون للعولمة ما يبررها، إذا سَلَّمَنا أنها السمة المميزة للمجتمع البشري في بداية القرن الحادي والعشرين. ومن المؤكد أن الصراعات حول معانيها، سيستمر دون حسم، لأن ما تُخْفِيه أصولها، ومراميها، وتأثيراتها، سينتقص من كل محاولة تنزع لأن تُعطيها بُعداً إنسانياً جامعاً. وهذا ديدن الليبرالية؛ بوجهيها القديم والحديث، التي تتخفَّى دائماً وراء مفردات مُخادِعة، وتنزوي تحت عبارات فضفاضة، ويُرَوَّجُ لها بشعارات جذابة، دون أن يُشْرَك الآخرون في تحديد، أو رصد معانيها، أو تفسير مقاصدها. وغالباً ما يتم اللعب بشروحاتها من خلال مجموعة متنوعة من الحيل البارعة والطرق الناعمة، وذلك بضخ سيل مما يُظَنُّ أنه عطاءاتها في ما لا يُحصى من المواقع؛ مثل، المؤسسات الأكاديمية ووسائل الإعلام، ومسارح العرض وقنوات الترفيه، إلى شوارع مُدننا وشاشات غرفنا، وحتى من خلال برامج الشركات ومشروعات الحكومات. فقد صوروا لنا العولمة بأنها تعني الحرية، بسقوفاتها الليبرالية المفتوحة، رغم أن الكثيرين قد نَظروا إليها كسجن لثقافات العالم في إطار غربي حاكم، وصهر للقيم المختلفة في بوتقة الحداثة الليبرالية، أو حتى ما بعد الحداثة. ولأنه لا وجود لتعريف مباشر، أو مقبول على نطاق واسع، لـمصطلح العولمة، سواء في الاستخدام العام، أو في الكتابات الأكاديمية، بدا أن لكل فرد مصلحة في معنى خاص، ويتأثر به في الخطاب الثقافي والممارسات الاجتماعية. وإذا كان ثمة ما يتوجب رصده بوعي نقدي دقيق وشامل، فهو أنه بمثلما أثرت العولمة التقنية، بتسارعاتها المتعددة الآثار، تُحدث العولمة النيوليبرالية الآن، وعلى نحو أكثر فداحة، آثاراً مركبة على  شبكة الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وملحقاتها الاجتماعية، في بنية الدولة الوطنية عبر العالم. ورغم أن الفكر الغربي الحر هو، بطبيعة الحال، ليس على مستوى واحد من الإذعان لها، إلا أن ظهور طبقة من أوساطه، مساندة للسلطة الاقتصادية والسياسية الليبرالية اللاهثة للهيمنة، فاقم من آثار تمدد فوضاها؛ وهذا مبحث يستحق إفراد الدراسات الناظرة له، من قبل مراكز الفكر البحثي في العالم الإسلامي.

وإذا كان الحال كذلك، في الواقع المؤسسي والمجتمعي الغربي، من خلخلة للبني السياسية والاقتصادية التقليدية، فإن حال الاستباحة في الدول خارج منظومة الدول الكبرى؛ على تفاوت أوزانها الاقتصادية والسياسية، هو بالتأكيد أسوأ بكثير، ويبلغ مرحلة الخطر الماحق في دول العالم الثالث الهشة، التي تمثل بلادنا العربية والإسلامية جزءاً غير يسير منها. ورغم أن البعض من الدول يحاول التماسك بتسريع نهضته الاقتصادية؛ كالنمور الآسيوية مثلاً، إلا أنها في وضع مهتز، ويسمه التراجع المستمر، وتجابهها تحديات وجودية، بقدر كبير من عدم اليقين. وتتنزل عليها أزمات، وتتهددها اجتياحات تفوق إمكانياتها على الثبات، وعلى نحو غير مسبوق، لم تشهد شراسته حتى في أزمنة الاحتلال الغربي الكلاسيكي. إذ إن الدولة بمفهومها المؤسسي الوظيفي، المرتبط بموازنة المعادلة الفلسفية، الرابطة بين الروافع الاقتصادية والسياسية والتوافق الاجتماعي، ظلت غائبة عن مستوى الفكر النهضوي، منذ استقلال أغلبها. ولهذا مؤشرات عديدة، أبرزها تداعي مفاهيم السيادة الوطنية، التي لا يمثل القرار السياسي فيها الا مُخرجاً واحداً من جملة الأخطار، التي تطالها. ويحدث الارتهان تبعاً لحالة الاستتباع، التي لا يمثل النمط الاستهلاكي والاعتمادية الاقتصادية، للسياسات الغربية، إلا وجهاً واحداً من وجوه الأزمة الوجودية، التي تواجهها. واليقين عندي أنها ليست بحاجة لتتبع مناهج غيرها لتنجو بنفسها، وإنما يكفيها تماسك الجبهة الاجتماعية، المبنية على قاعدة قوة اقتصادية محققة للعدالة التنموية والحد من الكفاية، إن لم يكن الرفاه، الذي يؤمِّن صلابة الانتماء الوطني، ومن ثم سيادة الدولة قرارها المُحَقِّق لمصالحها الاستراتيجية. وإن يكن الفكر الغربي، الآن، بفعل العولمة النيوليبرالية، يجد نفسه في أزمة معرفية؛ حضارية، وأخلاقية، وحقوقية، فإن أوضاع الدول التابعة، تواجه مأزقاً عدمياً يؤشر على حتمية الزوال. وذلك بسبب هذا التولي عن إدراك مخاطر أنساق التطبيعات الفكرية والسياسية والاقتصادية، التي ترهن لها مواردها البشرية والمادية، وتتنازل عن ضوابط ميراثها الثقافي والاجتماعي، مما يُعَجِّل بعواقب هذا الزوال، يقول الحق، سبحانه وتعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)، محمد: 38. والإشارة هنا هي أن الأفكار، بغض النظر عما إذا كانت حداثية، أو ما بعد حداثية، لم تعد مقيدة بحدود وطنية، أو ثقافية، أو أخلاقية، وأصبحت أصولها الجغرافية أقل أهمية، ولم يعد من الممكن أن تقتصر الفكرة، التي يتم التعبير عنها في جزء من العالم على الجمهور المحلي، وإنما قد يكون لها عواقب غير متوقعة، أو وخيمة، على بعد آلاف الأميال، إذا تبناها الآخرون، أو توالوا معها، تاركين زمام أوطانهم بترك ميراثهم الثقافي، أو قيمهم الدينية الحارسة.

 

س- كيف تقاربون التحولات، التي طرأت على التفكير السياسي والإستراتيجي الغربي حيال المنطقة العربية بعد مرور أكثر من قرن على معاهدة سايكس-بيكو، خصوصاً بعد استيلاء أميركا على ميراث أوروبا الكولونيالي؟

ج- إن الأمر المثير للاهتمام، في رصد هذه التحولات، ليست الأفكار السياسية والاستراتيجية الباعثة، أو المُحَفِّزَة عليها وحدها، وإنما تموضع اللاعبين الجدد في الفضاء الإمبريالي، وتكريسهم لسلوك الهيمنة الاستعمارية القديم. بمعنى أن ما تمثله دولة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، اليوم من تَعَدٍّ على سيادة الآخرين، وخاصة حيال المنطقة العربية والعالم الإسلامي، وانتشارها عملياً في مساحات أوسع مما بلغته الحروب الصليبية، ومقارب لما احتلته الدول الأوربية الاستعمارية. فأمريكا تمثل اليوم آلة الحرب والصراعات، التي تبدو كأن لا نهاية لها، وتسعى للحفاظ على المصالح الغربية الاستعمارية المكتسبة، رغم أنها كانت تعلب دور النصير، لتقرير مصير الشعوب المُحْتَلَّة، كاستراتيجية ارتبط بمواقف توازنات القوى العالمية في ذلك الوقت، ولعوامل أخرى، استوجبت تحديد مستوى التطلع لوراثة أوربا، أو التدرج فيه، على ما في هذا الدور من تناقض جارح مع تاريخها الخاص، وطبيعة نشأتها، وموقفها من السكان الأصليين، وما حاق بالهنود الحمر، وحتى حربها الأهلية، التي عُدَّت أكبر الحروب دموية في التاريخ، كل ذلك ما كان ليؤهلها لذلك النوع من المواقف المبدئية البحتة. ولكنها أمريكا، التي استطاعت تجاوز شعارات “العزلة المجيدة”، والإدارات الإنسانية، منذ وودرو ويلسون، الذي لم يأت شبهاً منه إلا بعض جوانب إدارة الرئيس جيمي كارتر، والذي حاول تقييد مصالح أمريكا الخارجية بمسائل حقوق الإنسان. ولأولئك الذين يرغبون في معرفة المزيد عن أدوار أمريكا في الشرق الأوسط، فإن كتاب “طمس الشرق الأوسط: تاريخ الاضطراب الغربي في الأراضي العربية”، لمؤلفيه جيمس مكارتني ومولي سنكلير مكارتني، قادر على إخبارهم بالحقيقة العارية، لأنه يبدأ بدراسة سؤال طرحه العديد من المعلقين، منذ 11 سبتمبر 2001: “لماذا يكرهوننا؟”. ويقدم المؤلفان الخلفية الأساسية لفهم الشرق الأوسط اليوم من خلال أحداث التاريخ الطويل والدموي للتدخل الغربي في الأراضي العربية. وهما يبحثان بتفاصيل واضحة عن الأحداث الكبرى، التي شكلت المنطقة، بدءاً من الفرنسيين في الجزائر، والبريطانيين في مصر في القرن التاسع عشر، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والحرب المستمرة في العراق، وربط كل هذه الأمور معاً، ويرسمان صورة مزعجة ومؤلمة لحملة متواصلة من قبل القوى الغربية للسيطرة على المنطقة، بأي وسيلة ممكنة. ويشددان على التكلفة الإنسانية للسياسات الموضوعة للحفاظ على “المصالح الغربية”، أو باسم جلب الحضارة، أو الديمقراطية، أو الحرية إلى بلاد العرب والمسلمين. وفي رأيي أن هذا العمل سعى لتغيير الطريقة، التي يرى بها الغرب، والأمريكيون خاصة، الشرق الأوسط. وذلك بكشفه لما اكتنزته الأرشيفات الأمريكية والبريطانية حول ما كان يقرره السياسيون الغربيون وراء الأبواب المغلقة.

والسؤال الحارق، الذي طرحه المؤلفان جيمس ومولي مكارتني  عن: “لماذا” فعلوا ما فعلوا؟، مقابل “لماذا يكرهوننا؟”، وفي هذه المنطقة بالذات، يستدعي فحصاً بصيراً للتحولات الفلسفية وطبيعة الأفكار ونزعتها الاستعلائية. وقد لا يهم ما إذا كانت هذه الأفكار أصولية دينية، أو ليبرالية سياسية، أو محافظة اجتماعية، أو حتى رأسمالية اقتصادية، ولكن يلزم النظر إلى السهولة العملية، التي يتم بها تكييفها لخدمة كل  غرض مناقض لأسس القانون الدولي المرعية. ونشهد أن الكثير من المباديء، التي أفرزتها هذه الأفكار، يمكن القفز بها الآن من مكان إلى آخر، ويتم قسر الجميع على تبنيها، الأمر الذي ينقض عرى الروابط القائمة بين الدول، ويُحدِث خضات غير متوقعة في بنية النظام العالمي. إنها ليست، بأي حال من الأحوال، عمليات ذات نفع عام، وإنما هيمنة باتجاه واحد، مما يعني على الأرجح أن الوقت قد حان بالفعل لإعادة فحص كل الأفكار حول الإمبريالية الثقافية. ربما كان لدى إدوارد سعيد، قبل أكثر من 30 عاماً، وجهة نظر ناقدة، عَرَّت الكثير من اختلالات الفكر الغربي، لكن الصورة اليوم أكثر تعقيداً بكثير مما كانت عليه عندئذ. فقد بلغ الأمر حد التصريح بـ”نهاية التاريح”، وحتى أولئك، الذين ينظرون إلى العالم من منظور صدام الحضارات، من المحتمل أيضاً أن يصابوا بخيبة أمل، لأنه لم يعد من الممكن احتواء الأفكار والقيم الثقافية بشكل متجانس داخل الحدود الجغرافية. بدلاً من ذلك، تسعى بعض القوى في الولايات المتحدة إلى خلق صدام للأفكار في بوتقة واحدة عملاقة تغلي بأفكار “الفوضى الخلاقة” في تنور العولمة. والولايات المتحدة معنية بسبب قوتها، التي اغترت، ظناً، أن لا مثيل لها في التاريخ، وغياب أي ثقل موازن لها، بعد الانهيار الكبير للاتحاد السوفيتي عام 1989. بطبيعة الحال، سيجد الكثير من الناس، في عالمنا العربي والإسلامي، ذلك مخيفاً للغاية، لأنهم مستهدفون به قبل غيرهم. وقد يكونون على حق، وهم بالفعل كذلك، ولكن ما نخشاه أن يكون هذا الخوف مجرد شعور عابر على المدى القصير، ومن المحتمل أن يعتادوا عليه مع مرور الوقت، وفي النهاية قد نجد أنه أصبح من الصعب جداً على أي بلد عربي، أو إسلامي، منع أمريكا من احتكار مقدراته، أو انتهاك سيادته، وفقاً لأيديولوجية ليبرالية خالية من السمات الأكثر وضوحاً للعولمة، التي هي الحرية، فيما يظنون.

لهذا، أجد نفسي على توافق مع منطوق سؤالكم، أنه بعد مرور دورة قرنية كاملة على، “سايكس – بيكو”، وهي فترة قاتمة وصادمة؛ إذا قرئت في سياق طبيعة التحولات، التي حدثت في المنطقة العربية، من المهم مقاربة هذه التحولات، بما طرأ على الفكر السياسي والاستراتيجي الغربي حيالها، أي المنطقة العربية، مقرونة بسياقات ما بعد الكولونيالية، حيث يعتبر سؤالها تكميلياً، لإيضاح صورة التأثيرات على الأوضاع الوجودية للمنطقة، إذ تمثل “سايكس – بيكو” مرحلة تخطيط إجرائي للتجزئة، فيما تمثل القراءة فيما بعد الكولونيالية، إحدى الإحالات المهمة، التي تفسر خارطة التحولات العميقة في طبيعة العلاقات، التي طالت نسيج الهويات الجامعة لعناصر الكيان العربي؛ الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، ولا يمثل تشريح الجسد الجيو-سياسي في “سايكس – بيكو”، إلا أداة، لم يكن لها أن تكون ذات أثر، لو لم تعمل على الاشتغال الاستراتيجي، لتفتيت عوامل الوعي بالروابط الوجودية للمنطقة: الدين، الثقافة، اللغة، الميراث الحضاري المشترك، عبر إحلال استلابي ثقافي شامل، في نظم التعليم ومناهج كتابة، أو قراءة، التاريخ الجمعي، وأنماط التربية الفكرية. وهذا التخطيط التفكيكي الشامل، هو، الذي أنشأ حالة القابلية للاستعمار، كما أسماها المفكر مالك بن نبي، والقبول بالاحتلال، الذي سهل مهمة الفكر السياسي الاستراتيجي الغربي، في استزراع تابعيات سياسية، وثقافية واقتصادية، جعلت حالة التجزئة في المنطقة العربية واقعاً محمياً، وأداة مُهيِّئة، منذ زمن بعيد، لمستوىً من الهشاشة في البني العربية: السياسية والثقافية والمؤسسية. الأمر الذي جعل أخطر مغامرات التجريب الكولونيالي الغربي ينجح في ترسيم وزرع وطن سياسي للصهاينة، بموجب وعد بلفور 1917، وتحت ستار وطن قومي لليهود. فكان تشكيل الكيان الإسرائيلي، الذي بادرت الكولونيالية الاوربية بدفع  ثمن سوء تقديراته، قد حمل ارهاصات التحولات الكبرى، في موازين القوى السلطوية الدولية، بإحلال القطب القطب الأمريكي، لاعباً اخطبوطياً باطشاً. وقد شكّل ذلك، ضمن حزم سياسات؛ عسكرية وتكنولجية واقتصادية، أسوأ نواتج “سايكس – بيكو”، وما تلاها، من تغيرات وتأرجحات، في الفكر الاستراتيجي الغربي. فيما أصبح، في اللحظة الراهنة، ختم التطبيع مع الكيان الإسرائيلي هو آخر مظاهر غلبة آثار ما بعد الكولونيالية، التي دانت حصائدها للسطوة الأمريكية. فيما لم يبقَ للسائد من الفكر السياسي والاستراتيجي الأوربي، سوى مناورات اقتسام ميراث سياسي واقتصادي، في المنطقة العربية، محدود بسقف لا يتعدى، ولا يتحدى، المصالح الأمريكية.

إن أمريكا تسيطر في زماننا هذا على تفاصيل الواقع، الذي كان مرهوناً للقوى الاستعمارية الأوربية، وبينما انتهت الفترة الاستعمارية قبل سنوات طويلة، وأعقبتها نهاية الحرب الباردة منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود، أدى هذان الحدثان إلى تحول في ميزان القوى، ليس بين الشرق والغرب، وإنما في داخل الغرب نفسه بين أوربا وأمريكا، لكن المنطقة العربية لم تتعاف منهما بعد. فقد استمعت إلى البروفيسور روس هاريسون، من جامعة جورج تاون، يوضح في حديثه أمام المؤتمر الدولي حول “تشكيل توازن جديد للقوى في الشرق الأوسط: الفاعلون الإقليميون، القوى العالمية، واستراتيجية الشرق الأوسط”، الذي استضافه مركز الجزيرة للدراسات وجامعة جون هوبكنز في واشنطن، في صيف عام 2018، كيف أنتج هذا الهيكل الإقليمي الحالي، الذي يعد مصدراً لمعظم المشكلات، التي تواجهها المنطقة اليوم. وروى هاريسون تتبعه لديناميكيات القوة الحالية في الشرق الأوسط منذ بداية الحرب الباردة، وتحرر العديد من الدول العربية في وقت واحد من نير الاستعمار الأوروبي، ونهاية نظام الحرب الباردة العالمية، وكان يأمل وضع المنطقة على مسار نحو المستقبل. ولكن اندفعت أمريكا من أجل فرض صيغ جديدة لأطر أمنية إقليمية أدت إلى اختلال توازن القوى، الذي لا نزال نُعاني منه اليوم. ومن الواضح أن هذا الإحلال هو، بحسب تعبير كامو، من “الأشياء السيئة”، التي تزيد من مستوى البؤس لكثير من الناس. ولكن كيف ينبغي لنا أن نُكَيِّف ونُقَيِّم وزنها، وتقدير آثارها وأخطارها في المخيلة العربية العامة، وفي أعين سماسرة السلطة المحليين والعالميين حيث تتلون “التسميات”، وتتنوع “الدلالات”، بشكل كبير، ولكلٍ طريقته في التعبير والتبرير، وفقاً لتنشئته السياسية، وفروض وسياقات انتمائه الأيديولوجي. وبهذا الفهم، يمكن استيعاب حدة المناقشات حول مواقفها وتعدياتها السياسية في شؤون المنطقة العربية، فإذا أخذنا في الاعتبار أن بريطانيا أسهمت بشكل مباشر في إنشاء كيان إسرائيل، نجد أن الولايات المتحدة هي الراعي والداعم والحليف الأوثق لهذا الكيان. وهذا يعني أن الاستعمار إنشاء “الحالة”، وأن أمريكا تعمل منذ عقود على تأكيد أهمية هذه الحالة كـ”أمر واقع”. لقد شهدنا قدراً كبيراً من المصائب والمتاعب، نتيجة لهذا التحول في “الملكية”، أو “الإحلال”، الذي يمكن العثور على آثاره المدمرة في كل أنحاء المنطقة العربية، وعلى مستوى العالم الإسلامي. فالحروب تشنها الآن أمريكا، أو بدعم مباشر منها؛ في فلسطين، وسوريا، وليبيا، واليمن، والعراق، والسودان، وأفغانستان، وكشمير، وفي أماكن أخرى كثيرة؛ ننساها لفترة طويلة، لأننا تَشَبَّعنا ولم نعد نستوعب فوق ما يُحيط بنا من أحداث، أو لم تعد تغطيها وسائل إعلامنا المحلية، التي امتلأت ساعات نشراتها بأزماتنا وكوارثنا، والتي تُصِرُّ أن لا تُغادِر حياتنا.

 

س- شهد الفكر السياسي المعاصر جدلاً عميقاً حول ما يسمى بنظرية “ما بعد الاستعمار”، وهذه النظرية – كما هو معروف – بالقدر الذي تنطوي فيه على نقد للتجربة الاستعمارية، فإنها في الوقت نفسه تعيد إنتاج الفكر الاستعماري بوسائل شتى.. كيف تقاربون هذه النظرية، وما هي الأسس التي تستند إليها؟

ج- حسناً، أنكم وصفتموه بالجدل، “وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ أَكْثَرَ شَىْءٍۢ جَدَلاً”، الكهف: 54، لأن قواعد النظرية، أو جملة النظريات المشتغلة بموضوع “ما بعد الاستعمار”، لم تنته إلى تحليل نتائج منطقية حاسمة، ولم يستقر هذا الجدل حولها على قواعد حوار راسخة بعد، رغم “الأوصاف” العلمية، التي تتزيأ بها في الدوائر الأكاديمية. لهذا، تتعدد الفرضيات، التي تنزع لأن تكون نظريات شارِحَة لمرحلة “ما بعد الاستعمار”، من حلال دراسة طبيعة المجتمعات والحكومات، وكيف تعيش الشعوب في المناطق المستعمرة سابقاً، ونسق علاقاتها الدولية اليوم. وفي كثير من هذه النظريات، لا يشير استخدام “ما بعد”، بأي حال من الأحوال، إلى أن آثار الحكم الاستعماري المباشرة، التي تناولتها الأدبيات، قد ولى كثيرها مع انتصار حركات التحرر الوطني، منذ زمن بعيد. ففي أفريقيا، التي تضم غالب العرب ونسبة كبيرة من تعداد العالم الإسلامي، تجمد التحريض المناهض للاستعمار، الذي انطلق بتحرير فكرة “الزنوجة”، على أساس أنه تفكير أصولي، تم بناؤه حول قراءات بديلة وذاتية لتمكين الحضارات الأفريقية، وإن كان للبروفسير علي مزروعي رأي مناصر ومدافع عن ميراث القارة بأبعاده، التي لا تستثني العرب والمسلمين، كأكبر مكوناتها العرقية والثقافية. وإذا تفحصنا كتابات ليوبولد سيدار سنغور، الرئيس السنغالي الأسبق والشاعر الأفريقي المعروف، وأميلكار كابرال، أحد زعماء الحركة القومية لغينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر، الذي اغتيل في 20 يناير 1973، وإيمي فيرناند ديفيد سيزير، الشاعر والكاتب والسياسي الفرنسي، الذي ينحدر من المارتينيك، ويعتبر أحد أبرز وجوه تيار الحركة “الزنجية” في الشعر الفرنكوفوني، ورمزاً للحركة المناهضة للاستعمار، سنجد فيها أن فكرة “الزنوجة” أكدت الاختلاف مع التصورات الاستعمارية، لأنها طورت خطاباً معارضاً ضد التأريخ الغائي “السيادي” الأوروبي، ولكنها أغفلت الآخر العربي والامازيغي المساكن لشعوب القارة، وجزء أصيل من مكوناتها. وقد دفع الكاتب الكيني نغوغي جيمس وا ثيونغو، الذي اتجه إلى الكتابة بلغته المحلية هذا الأمر أكثر من خلال الإصرار على أنه، حيثما أمكن، يجب أن تكون الكتابة ما بعد الكولونيالية باللغة الوطنية. ولكن حتى بعد تأكيد الاختلاف، توقف هذا الخطاب الثوري، مع ظهور كتابات لأمثال فرانتز فانون، عن كونه معارضة للغرب بشكل صارم، وتحرك نحو التعامل مع المبادئ الأكبر للإنسانية، بما في ذلك نقد الاستخدامات العملية لمشروع “التنوير”. ومن هذا المنطلق نشأت لغة ومفاهيم نظرية “ما بعد الاستعمار”، التي تتبعت بعد ذلك التجربة الاستعمارية بأكملها، في جميع أشكالها ومظاهرها المعقدة، وقادت للكشف عن نشأة خطاب “ما بعد الاستعمار” النقدي، الذي تبلور في ظل المواجهة الإمبريالية.

ومع ذلك، فنحن نعلم أنه لكي تتشكل النظرية كتحليل، فإنها تحتاج إلى شيء أكثر من مجرد عرض صوري ثنائي؛ يحاجج المقارنات، أو يقارن المقاربات، أو يؤسس لسلسلة أنساب تاريخية مُنْبَتَّة الجذور. واسمحوا لي أن أستعير هنا مقولة منسوبة للمستشرق وعالِم الاجتماع الفرنسي جاك أوغستين بيرك، التي يقول فيها أنه “حتى يتسنى لنا تطوير علم اجتماع يُمَكِّنُنا من فهم مسارات تحرر الشعوب من الإستعمار، يتعين علينا بدءاً تحرير علم الاجتماع ذاته من الإرث الاستعماري”، أي أنه يريد تحرير النظريات، وإشكاليات مجتمعات المُسْتَعْمِر، والمنهج، من اسقاطات المعرفة الغربية، أولاً حتى نستطيع أن نؤسس لشيء مغاير، أي أنه لكي نتمكن من الانتقال لمرحة “ما بعد الاستعمار” فكرياً، فإن ذلك يتطلب مِنَّا فهماً عميقاً لهياكل المعرفة “السلطة”، التي تتحكم في تمثيل الشعوب المستعمَرة، بعد أن خرجت من قبضة الاستعمار. وهذا النص لجاك بيرك، الذي هو أقرب للاعتراف، كشف لغة ومنهجية الكثير من الجدل المُثَار حول النظرية. وتأكيداً لذلك، فإن العديد من العلماء يعكفون على تسليط الضوء على تأثير التاريخ الاستعماري والإمبراطوري في تشكيل طرائق التفكير حول العالم، وكيف أطرت القوة الاستعمارية؛ الصلبة والناعمة، الأنساق الغربية للمعرفة الحاضرة، وتربعت على مسارات الفكر، بتهميشها لكل ما هو غير غربي في العالم. ونجد أثر ذلك في نقاشات نظرية “ما بعد الاستعمار”، التي وضعت الكثير من التصورات الجاذبة، والتي لا تهتم فقط بفهم العالم كما هو، ولكن أيضاً كما ينبغي أن يكون. وذلك من خلال إثارة قضايا ساخنة، أو طرح إشكاليات وأسئلة حارقة، مثل مسألة التفاوتات في القوة العالمية، وتراكم الثروة، ودون أن تكترث للسؤال: لماذا تمارس بعض الدول والجماعات الكثير من السلطة على الآخرين؟ نعم، إنها، أي هذه النقاشات، يجب أن تكون معنية بكل ذلك، إذ نجد أن المنخرطين فيها، بعد أن حددوا الانشغالات والالتزامات الشاملة لدراسات “ما بعد الاستعمار”، يعملون الآن على تحويل انتباهنا إلى التاريخ الفكري للنظام العالمي الجديد، وكأنهم رُسُل الغرب لهذا النظام الجديد. على الرغم من فهمنا أن الجدل حول نظرية “ما بعد الاستعمار”، وإن كان مفيداً، على مدى العقود الماضية، أو نحو ذلك، في إبراز مسائل الاستعمار والإمبريالية، إلا أنه ليس بأي حال فريداً، أو جديداً، في إثارة الاهتمام الأكاديمي بموضوع الإمبريالية، التي ما تزال تُشكل السمات الفكرية للميراث الاستعماري في دول ما بعد الاستقلال. وغالب هذا الجدل مدين أيضاً؛ في مداخله المنهجية ومفاهيمية الضابطة، لمجموعة متنوعة من النظريات “الغربية” السابقة والحديثة، التي لم تجعل من أغراضها تحديد موقع “ما بعد الاستعمار” ضمن نظرية حصرية معاصرة، تُجيب بوضوح على تساؤلاتنا وانشغالاتنا، التي تؤكد الوعي بالذات.

بيد أنه من المهم مقاربة أية نظرية صادرة باتجاهين متلازمين: مركز الإصدار، وفي هذه الحال هو في الغالب الفكر السياسي الغربي، ومركز التلقي، أو العالم الثالث، الذي كان مستعمراً، والذي لازال يتحرك في الواقع داخل حاضنة مُستعمريتهِ النفسية والفكرية واللغوية. وذلك لأن حقب ما بعد الاستقلال لم تمنحه معاني التحرر العميق، فارتد يرسف تحت أغلال الهزيمة الحضارية. ولذلك، فإن نظرية “ما بعد الاستعمار”، بالنسبة لنا، ورغم كل ما تَوَلَّدَ عنها من شعارات، ما هي إلا مرحلة مُسْتَنْسَخَة من الحِقبة الاستعمارية ذاتها، لكن بأدوات ثقافية اتصالية وتسلطية جديدة ناعمة. إنهم تيستثمرون الآن بذكاء وبراعة فائقة هذه الوسائل الناعمة لتعويض ما خَسِرُوه حرباً بهزائمهم في ثورات الاستقلال، ويعالجون ما لديهم من عقدٍ تاريخية كامنة، لم يمحها اغترار القوة والتفوق. وربما يقودنا البحث، حتى في تاريخ الصناعة التكنولجية الغربية إلى أن أهداف الاستخدام العسكري والاستخباراتي للقوة الاستعمارية كان يأتي مُقَدَمَاَ على أغراض المنافع العلمية. ولا أحد ينسى، حزن ألفرد نوبل على سوء اكتشافه، ولكن لا عزاء له حتى في الجائزة، التي أرادها “تكفيرية”، فأصبحت سياسية بإمتياز، بما في ذلك ميادين قِسمتها الأدبية والعلمية. لذلك، يَصِحُّ القول إن الجوانب النقدية، التي طالت نظرية “ما بعد الاستعمار”، لم تاخذ بعداً تحولياً، عن عقيدة التَرؤُس والتَفَوُّق الحضاري للغرب. أما عالم التلقي  المُحْتَل، فقد ظلت الاستلابية تسيطر على لا وَعْيِهِ، والشواهد الثقافية والاستتباعية السياسية والاقتصادية لا تحيج مستبصر، لدليل. ولعل انتباهة عميقة من مُفكرٍ بصير؛ مثل، عبد الوهاب المسيري، تظل استثناءً نادراً، حين قارب موضوع العلمانية، كنسق تفكير غربي، تمكن من الدخول في تضاعيف الحالة الاستلابية لمجتمعات الشرق، وعده الكثير من المثقفين باباً للتحرر، إذ تحدث عن علمنة الأحلام وعلمنة الوجدان، وهما أقصى ما يمكن أن تصله حالة التلبس والتقمص الحضاري للفرد المستلب. بقي أن نقول إن كل ذلك لا يمنع من الإفادة من حاصلة هذه النظرية، وكل هذا المنتج، الذي رافق نقاشاتها، بوجهيه؛ النقدي، والمتقصد، ففيه معين كبير لدافعية الوعي، والذي يجب أن يواجه بإيجايية الموجة الاستعمارية الجديدة.

إن أفضل ما فعلته نقاشات، أو نظرية “ما بعد الاستعمار” أنها لفتت الانتباه؛ على وجه التحديد، إلى التقاطعات الحرجة في الخطاب النقدي للإمبريالية، الذي يعود إلى بدايات بناء الفكر الغربي المهيمن. ففي لغات المستعمَرين، التي ارتبطت بالطبقة الحاكمة، وكذلك رعاياها، تزامن الخطاب النقدي عن الإزاحة والاستعباد والاستغلال، مع ما أسماه الكاتب الهولندي جوزيف كونراد بالقوة التعويضية لـ”فكرة” الإمبريالية انتزعت الكنز من أحشاء الأرض، وسرقت أموال وأحلام الشعوب، ونشرت عقائد بلا أخلاقيات، ولا هدف نبيل. وقد تشكلت نظرية “ما بعد الاستعمار” استجابة لهذا الخطاب، كمحاولة لشرح هذه “الفكرة” الاستعمارية المعقدة، التي زيفت مبادئ “التنوير”، واستغلت مقاصد الدين في احتلالها لأراضي الأمم والشعوب. لكن الخطاب نفسه تطلب وعياً بالتجربة الاستعمارية؛ بمفاصلها المتعددة وتفاصيلها المتنوعة، وما بذله الفكر الغربي في شرعنة وجود المُسْتَعْمِرِين داخل حياض وحياة المُسْتَعْمَرين. وقد بدأ هذا التحول في الوعي يأخذ شكلاً حاسماً فقط في منتصف القرن العشرين مع التفكيك التدريجي للإمبراطوريات الأوروبية، وطرد المستوطنين البيض من غالب دول العالم المُحَرَّرة، بل وإهانتهم في كثير من الدول، التي كانوا يحتلونها؛ مثل، السودان، الذي طلب، في الأول من يناير 1956، من المستعمِر البريطاني أخذ كل تماثيله، ومجسماته، ورسومه الثقافية المُجَسِّدَة لِحُضورِه، معه. وكانت الإمبراطورية في حالة إفلاس وهي تنسحب من غالب مستعمراتها في العالم، الأمر الذي سبب لها حرجاً بالغاً، دونته في أرشيفها، وكتبت عنه في دراساتها. لكن، مما يُؤسف له أن الكثير من جدل نظرية “ما بعد الاستعمار” لم تُركز على السعي لتحقيق توزيع أكثر عدالة للسلطة المعرفية؛ المادية والمعنوية، بين شعوب الدول المُستَقِلَّة، بل عمدت إلى تركيز كل أشكال السلطة في يد نخب هي في المحصلة النهائية صنيعة ذات الاستعمار، الذي قاومته، وأيدت خروجه من المستعمرات. فقد ظلت موروثات الاستعمار الفكرية، ومناهج الإمبريالية الأوروبية باقية وراسخة، بل شكلت كثيراً من تفاصيل الخطاب الوطني، في مراحل ما بعد الاستقلال، وبخاصة الأدبيات المكتوبة، أو المنطوقة بلغة المستعمر، التي ترك حرفها وبيانها وبنيانها خلفه. وبذلك، ساعدوا القوى الأوروبية على تبرير هيمنتها على الشعوب الأخرى باسم جلب الحضارة، والتقدم، وحتى اللغة، واستمرارها، الذي صَيَّرَها لغة التعليم، وناقلة لثقافة تأبى أن تُغادر مع من جلبوها.

 

س- ماذا عن الثقافة الاستشراقية، التي مهّدت ورافقت الحركة الاستعمارية الغربية في الشرق، هل انتهت أم أنها لا تزال تجري على خطوط مستأنفة، ولكن بأشكال أخرى؟

ج- لعلكم تذكرون أننا، والمتابعون لمسألة “الاستشراق” في العالم أجمع، انتبهنا عام 1978، لكتاب إدوارد سعيد “الاستشراق”، الذي أحدث خضة قوية في كثير من المسلمات حول هذه المناهج الغربية، التي قرأ من خلالها العقل الغربي مجمل الشرق، ليمهد الطريق للاستعمار. وعلى الرغم من أن إدوارد سعيد لم يستخدم مصطلح نظرية “ما بعد الاستعمار” في الطبعة الأولى من كتابه، إلا أن حجته، التي جارى فيها فيلسوف البنيوية الفرنسي “ميشال فوكو” حول الروابط بين الخطاب والسلطة، قدمت إطاراً يمكن من خلاله إعطاء شكل لنظرية “ما بعد الاستعمار”، وإن لم تهتم كثيراً بموضوع الاستشراق. وقد نجد أثراً متناثراً لخلفيات “الاستشراق” في أعمال اثنين من المنظرين الرئيسيين في دراسات “ما بعد الاستعمار”، بعض مقتطفٍ في تتابع سريع لبعض عباراتهما، وهما؛ الإنجليزي من أصل هندي “هومي بهابها”، الذي يُعتبر أحد أهم الشخصيات في الدراسات المعاصرة في فترة ما بعد الاستعمار، لاجتراحه عدداً من التعابير الجديدة للمجال والمفاهيم الأساسية؛ مثل، التهجين، والتقليد، والاختلاف، والتناقض، ومساهماته حول “ما بعد الاستعمار” والكلونيالية المتواطئة، والناقدة البنغالية غاياتري سبيفاك، الأستاذة بجامعة كولومبيا الأمريكية، حول العقل التابع، و”ما بعد الاستعمار”، وما “الاستشراق” عندهما إلا عامل ممهد للاستتباع الفكري. لهذا، نجد أن هؤلاء الثلاثة؛ سعيد، وبهابها، وسبيفاك، الذين يتم استدعاؤهم بانتظام في النقاش العام والأكاديمي على أساس أنهم “ثالوث”، قد قدموا الكثير من النقد للفكر الاستشراقي الغربي، ووضعوا قواعد صلبة لدراسات كثيرة وعميقة حول نظرية “ما بعد الاستعمار”، خاصة تلك المنشورة باللغة الإنجليزية. ومن بين هذه الدراسات، التي يمكن الاستشهاد ببعض منها هنا؛ على سبيل المثال لا الحصر، ما كتبه “روبرت جيه سي يونغ وبارت مور جيلبرت” حول التأريخ الغربي النقدي والرغبة الاستعمارية، وما أسهم به “إعجاز أحمد، نيل لازاروس، وبنيتا باري” حول عالمية الرأسمالية” والحاجة إلى تأريخ الفكر الغربي، وما قدمه “إيلا شوهات وروبرت ستام” عن المركزية الأوروبية، ورؤية “ديبيش تشاكرابارتي” عن إقليمي أوروبا، وبحث “جوري فيسواناثان” عن دور فكر ما قبل الحداثة في نشاط “ما بعد الاستعمار”، وكذلك كتابات “هريش تريفيدي” عن عاميات “ما بعد الاستعمار”. ولا أدري إن كان ذلك سيُفرِح تيارات اليسار، أم سيغضبهم، ولكننا نلحظ بوضوح، في كل هذه الدراسات، شبح “كارل ماركس” على شكل ومضات تتراءى كالأشباح بين السطور. وربما يكون هذا هو السبب في أن نظرية “ما بعد الاستعمار” ليست نموذجاً راسخاً بحدود منهجية يمكن تَعْيِينِها، بل هي “فكرة”، أو أيديولوجيا، دافعة لنقاش متصل يحمل في اللغة الوجودية إحساساً بالإرهاق، والملل أحياناً، لأن ليس له نهاية. لكن “وصفاتها” التقريرية تصلح دائماً كافتتاحية لكل جدل حول “الاستشراق” والاستعمار والاستتباع، ولأن مفرداتها محددة فقط بالسمات الوصفية لمنظر معين، لا بد من تصوره ذهنياً قبل تِعْدَاد محاسنه، أو مساوئه. ومن هنا تظهر أشباح ماركس بجلاء باين في عاميات “هاريش تريفيدي”، وفي كل حديث له عن “ما بعد الاستعمار”، لأنها تمثل التجسيد المادي لكل تصور ذهني.

وقبل الاسترسال، لابد من الاعتراف أن الثقافة الاستشراقية، هي إحدى أكبر منتجات نظم التفكير الغربي، التي خلفت أثراً أكبر، بما لا يقاس، بما خلفه الاحتلال الاستعماري الكلاسيكي؛ في نظمه الإحلالية الثقافية، أو أساليب الاستتباع. ذلك أنها، أي هذه النظم والأساليب، أثرت في طبيعة نظرة نُخب العالم العربي إلى الثقافة العربية، وفي فهم العالم الإسلامي للعلوم الإسلامية. إذ نجد أن الكثيرين قد تخرجوا في مؤسساتها الأكاديمية، ونالوا إجازاتها العلمية، ليعيدوا تصدير منظوراتها لـ”المركزية الأوربية”، وتصوراتها للمجتمعات العربية والإسلامية. ومن ثم ممارسة النظر إلى العالم من منظوراتها الأأوروبية، بوجه عام، مع اعتقاد ضمني بتفوق الثقافة الغربية يمكن استخدامها أيضاً لوصف وجهة نظر تركز على تاريخ، أو سماحة الأشخاص “البيض”. وقد تمت صياغة هذا مصطلح “المركزية الأوروبية”، في الثمانينيات من القرن الماضي، في إشارة إلى فكرة الاستثناء الأوروبي، وغيره من النظراء الغربيين، مثل الاستثناء الأمريكي. بالمقابل احتبست الثقافة الاستشراقية، نظرة الغربيين وتصوراتهم حول العروبة والإسلام، وقد يكون مرد هذه الهمة الاستشراقية، تلك الحالة الكامنة المختزنة في الذاكرة الغربية، تجاه تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وامتداداتها إلى اليوم في العمق الغربي. وقد عبر الغرب عن هذه الحالة في صور شتى؛ لم تكن الحروب الصليبية آخرها، فمقولة “ها قد عدنا يا صلاح الدين” تكررت قديماً وحديثاً بمفردات مختلفة، مُخَلِّفَةً مآسيٍ لا حدود لها، من الأندلس إلى بورما، وما بينهما في الزمان والمكان. وما “صهينة” فلسطين والإبادة، التي طالت الوجود الإسلامي لشعب البوسنة، إلا واحدة من هذه التعديات و”التنفيثات” الخفية عن أحقاد صراع قديم متجدد؛ مهدت له دراسات الاستشراق، ومكنت له ثقافته المبثوثة طيات تاريخه. فمن المؤكد أن هذه الثقافة الاستشراقية لم تنتهِ بزوال الاستعمار، الذي جلبته خلفها، بل لا تزال تجري فينا مجرى الدم، ومستمرة بالفعل، وتنتقل في خطوط أكاديمية مستأنفة، وأن كانت أقل علميةً ودِرْبَة، عن فعل السابقين. وإن تخاذلت في بعض مراميها الناعمة، فلربما بسبب من دفع الاغترار بموضعتها السلطوية المحمية بالقوة الصلبة اليوم في العالم.

غير أن المؤكد هو أن تجليات هذه الثقافة الاستشراقية تبدو واضحة في العديد من أشكال الحضور المعنوي والمادي داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ولعل أهمها مضمون الخطابات السياسية والإعلامية والعولمية، والأخطر من هذه هو هرولتنا الدائمة للتوقيع والاحتكام للاتفاقيات الدولية، من دون مراجعات، أو تحفظات، أو إعمال نظر وتدقيق في أخطائها الأخلاقية، وسلبياتها القيمية، وأخطارها الإجرائية، لا سيما ذات الطابع التغييري الاجتماعي الثقافي، المتناغم سياسياً من توجهات الغرب وأهدافه. ونُدرك أن الاتفاقيات الإقليمية والدولية هي حقل اشتغالنا الوظيفي بالدولة، في مجال قضايا المرأة والمجتمع والدراسات الاجتماعية، وتشكل هذه الاتفاقيات مرآة كاشفة لما جاء في أطروحات الغرب، التي تهيأ فكرياً وفلسفياً لغرس قيمه وثقافته، مما يتطلب، قبل التوقيع عليها، إعادة تحرير وكتابة كل ما يجب تدوينه وتثبيته من الملاحظات، حول كل مسودات الاتفاقيات، كالخاصة بالمرأة مثلاً، وما يلي منها الإقليم العربي، وبيته الكبير “الجامعة العربية”، وعلى الأقل أرسال تدقيق معرفي مختلف. لكن اتجاهات أخرى، تتعجل الاندماج في المنظومات الأخلاقية الغربية، ويوجهها ضعف المعرفة المتخصصة، سعت لتقديم الكسب السياسي على الأثر القيمي والأخلاقي بعيد المدى. إن توقيع العديد من قادة العالم العربي والإسلامي، على هذه الاتفاقيات سيؤدي إلى التزامات ذات آثار إشكالية فادحة، والعجيب أن أقدار السلطة السياسية ذاتها، ستذهب بسلطانهم وفق سنة تداول الأيام بين الناس، وغيرها من السنن الإلهية. لكن، تبقى آثار الأخطاء، الأخطر إن لم متداركها في حينها. وقد انتبه الغرب لما يمكن أن “يُمَرِّرُهُ” من اتفاقيات بتقسيمها إلى إقليمية ودولية. فالاتفاقات الإقليمية عادة لا تكاد تعرض على نطاق واسع، أو تُعرف، أو يدور حولها جدل يعين على معالجتها، ويتم تمريرها لسهولة إجراء مساوماتها السياسية، بينما الاتفاقيات الدولية تحظى بنقاش أكثر، لأن مدى المساومة السياسية فيها أكبر. لذلك، نحتاج لتوسعة الوعي في هذه الجوانب، لتقليل الآثار السالبة، خاصة مع الضعف العام في بنيات الدولة الثقافية والفكرية والتعليمية، في عالمنا العربي والإسلامي.

إن اتباع نهج نظري جاد لتحليل الأدبيات، التي تم إنتاجها في البلدان، التي كانت ذات يوم مستعمرات، وخاصة من قِبَل القوى الأوروبية؛ مثل، بريطانيا، وفرنسا، وإسبانيا، سنجد هذا الطابع التغييري شديد الوضوح في كل المنتج الثقافي؛ ابتداء من اللغة المستخدمة، إلى المنهج، وانتهاء بالمرجعية الفكرية مع توجهات الغرب. فيما تنظر نظرية “ما بعد الاستعمار”، وصلتها بالاستشراق، أيضاً في التفاعلات الأوسع بين الدول الأوروبية والمجتمعات، التي سبق أن استعمرتها، من خلال التعامل مع قضايا، مثل الهوية؛ بما في ذلك الجنس، والعرق، والطبقة، واللغة، والتمثيل، والتاريخ، وكل ما يرتبط بتصوراتها الثقافية والاجتماعية. ونظراً لاعتماد، أو استبدال اللغات المحلية بلغات المُسْتَعْمِر، لحقت الثقافة الأصلية بالتقاليد الأوروبية في المجتمعات المُسْتَعْمَرَة، فإن جزءاً من مشروع، أو نظرية “ما بعد الاستعمار” كان هو الإصلاح الثقافي والاجتماعي بمساعدة هذه المجتمعات للوعي بأصولها الحضارية لتتمكن من استعادة ذاتها وكينونتها. وقد أدى الاعتراف بعواقب تأثير الاستعمار؛ عبر لغته، وخطابه، ومؤسساته الثقافية، إلى التركيز على التهجين، أو اختلاط العلامات والممارسات الثقافية بين المُستعمِر والمُستعمَر، الذي مهدت له الدراسات الاستشراقية. لهذا، قدمنا الناقد الثقافي  الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد باعتباره الشخصية الرئيسة في وضوح القصد، واستقامة الفكر، وتفرد المواقف، بين كل من كتبوا حول “الاستشراق” في مشروع نظرية “ما بعد الاستعمار”، وغالباً ما يُنسب إلى كتابه “الاستشراق” كنص تأسيسي له. وإذا اشتهر سعيد لأنه خاطب الغرب بلغته، ومن داخل أرفع مؤسساته الأكاديمية، فإن علماء عرب آخرين كان لهم إسهام مقدر في تتبع دراسات الإستشراق، ومحاولات المستشرقين لتغريب العقل التاريخي العربي. غير أننا نجد أن مفكري الغرب، القائمون على الدراسات الأستشراقية، يتعمدون التقليل من أهمية وجدية هذه الجهود الفكرية العربية، مثلما تعمد المستشرقون الطعن في أصالة الفلسفة العربية الإسلامية عبر التاريخ، من خلال الترويج لمقولة أن العقلية العربية عقلية غير منتجة، وأن هذا الفكر هو علم يوناني كتب بحروف عربية. ولهذا، ينبهنا المفكر الليبي المعروف الدكتور محمد ياسين عريبي إلى خفايا مطويات الدراسات الأستشراقية، التي تقوم على تجاهل عطاءات الشعوب الأخرى الثقافية والفكرية، وخاصة الشعوب العربية والإسلامية. الأمر الذي جعله يجتهد في الدعوة إلى تعريف الأجيال الجديدة بما أحدثه الغرب من مسخ وتشويه وطمس لتراث الحضارة الإسلامية، بقصد إحباط معنويات هذه الأجيال بتشكيكهم في مقدرة مفكريهم على الأبداع الفكري والعلمي. وأوضح عريبي، في تناوله للقضايا الفكرية والفلسفية، أصالة الفكر العربي والإسلامي، واستخدم الحجة والمنطق في رد شبهات المستشرقين، وكشف عن مواضع التغريب، التي حدثت للثقافة العربية، والتصورات الاستشراقية، والتي تخللت بعض مقولات الفكر الإسلامي. وهنا، يؤكد العديد من علماء “ما بعد الاستعمار” كيف أن الخطابات الاستشراقية لا تزال مرئية في توجهات الغرب اليوم، إذ تعتبر المفاهيم والتصورات مهمة لأنها تملي ما يمكن اعتباره طبيعياً، أو منطقياً، في بيئات غير ملائمة، إلا لما تُنْبِتُهُ جذورها.


س- ألا تعتقد أن الأطروحات، التي شاعت مؤخراً، حول الإسلاموفوبيا هي استئناف لثقافة “الاستشراق” وتوظيفاتها في الفكر السياسي الاستعماري؟

ج- للأسف، يسمح مفهوم الخطاب السياسي الغربي حول الإرهاب باستخدام إطار غير علمي، ولكنه يعتسف له مرجعيات أيديولوجية، توفر له منظاراً ذاتياً للتفكير في العالم، وتصور الغرب له. وبناء على ذلك يتخذ الغربيون، بشأن العرب والمسلمين، تلك النظرة، التي لا تتحرى مطلقاً البحث عن أدلة يمكن التحقق منها تجريبياً، أو تكون قائمة على الحقائق الموثقة، وإنما تتدثر بمنطق نظريات المؤامرة التقليدي، الذي تجترحه الذرائعية والواقعية والليبرالية في توجيه بوصلة قصدها، وتحريك عجلة أهدافها، وتبرير غاياتها. وتُظهر كيف أن وجهات النظر الغربية حول الإسلام وأتباعه هي ترجمة لمظهر من مظاهر عدم الأمان في الغرب. وزاد من عدم هذا الأمان صعود ما أصطلح على تسميته بـ”الإسلام السياسي” في جميع أنحاء العالم الإسلامي، منذ الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، إلى ثورات الربيع العربي، عام 2011، وما تمخض عنها من تيارات معادية للغرب. إن هذ الصعود والتمدد الإسلامي في جغرافية العالم العربي والإسلامي، لم يواجه فقط التدخلات الإمبريالية الجديدة، بل كشف أيضاً عن آثار التحولات الثقافية والاجتماعية الجوهرية المصاحبة لغرب عالمي أكثر ترابطاً، يتجاوز قيود وحدود الجغرافيا إلى سعة الإيديولوجيا وأنماط الحياة الثقافية المتشابهة، لتصير اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين غرباً، والبوسنة وألبانيا وتركيا شرقاً، بحكم منطق التقسيم الإمبريالي الجديد. ومع ذلك، فسر صانعو السياسة والأكاديميون البارزون وجهة النظر هذه في الغرب على أنها تنذر بـ”صراع الحضارات”، كما برز في أطروحة “صمويل هنتنغتون”، عام 1993. وفي نفس العام، قال “فرانسيس فوكوياما” ما هو أسوأ من ذلك، في زعمه بـ”نهاية التاريح”، والانتصار النهائي لليبرالية على غيرها من الأيديولوجيات، التي تشكل تهديداً مباشراً للحضارة الغربية، بما فيها الإسلام السياسي. وبشرت وسائل الإعلام الغربية بهذا الخبال طويلاً، رغم الكثير من التحذيرات، التي أطلقها العقلاء في حواضر عدة في العالم، وقادت إلى تراجعات كثيرة من هذه الأفكار الشاطحة. وبالعودة إلى “إدوارد سعيد”، نجد أنه أظهر في كتابه “تغطية الإسلام”، الذي صدر عام 1997، كيف تعتمد وسائل الإعلام الغربية، والأفلام، والأوساط الأكاديمية، والسياسية، على عدسة مشوهة، أو إطار مؤدلج يُستخدم لوصف تاريخ وثقافة الشعوب العربية وأتباع الإسلام. وعندما أطلق على كتابه الآخر اسم “الاستشراق” لأنه يبني فكرة معينة عن ما يسمى بـ”الشرق”، والتي تختلف عن الغرب، والتي تنسب بطريقة ثنائية في التفكير حول الشرق وخصائص سكانه، التي هي في الأساس عكس الغرب. على سبيل المثال، يمكن وصف الناس في الشرق بأنهم غريبو الأطوار، وعاطفيون، وشهوانيون، ومختلفون، ومتخلفون، وغير عقلانيين، وما إلى ذلك من أوصاف الاستخفاف والشيطنة. وهذا، بلا شك، يتناقض مع السمات الأكثر إيجابية، التي ترتبط عادة بالغرب؛ مثل، العقلانية، والحضارة، والحداثة، وما بعد الحداثة.

في هذا الإطار، وبهذه العقلية، يشعر الغربيون دائماَ بخطر “الهجوم” عليهم، ويتوهمون بأنهم غير آمنين، ويبدون متشائمين من مستقبل يجمعهم بغيرهم من “الأغيار”، ويميلون إلى دعم كل حلول جذرية لمشاكلهم مع الآخر المختلف، بما في ذلك الحرب والإبادة، التي امتلأت برواياتها وأخبارها كتب التاريخ. ودائماً يظنون أنهم بذلك “يدافعون عن أنفسهم” في مواجهة أصحاب الهويات المتطرفة؛ القومية، أو الدينية، أو “الأنواع الأخرى” من البشر، الذين كل جريرتهم وجريمتهم أنهم مختلفون. فالذاتية الغربية تستبعد أياً من يُنظر إليه على أنه مختلف، لأنه في المحصلة النهائية أنه مخلوق خطير. ومن الناحية الاجتماعية، يؤدي وجوده إلى فقدان التماسك بتحلل “النقاء العنصري”، لا سيما إذا كان من المجموعات العرقية والدينية المختلفة جداً، لأنه بذلك يسبب مشاكل الاندماج المتزايدة. ونلحظ ذلك مع الزيادة المضطردة للقيود المفروضة على المجموعات المختلفة في كل دول الغرب، ولكن بشكل خاص في عمليات استيعاب المهاجرين في أماكن السكن، والخدمات العامة، وشبكة الأمان الاجتماعي، وكل استحقاقات المواطنة الأخرى. وبالنظر إلى آثار هذه التصرفات غير الإنسانية، يمكننا ملاحظة التغيرات في الدول والمجتمعات والمواطنين أنفسهم؛ إذ نرى، في جميع أنحاء الغرب، نمو الأحزاب السياسية الشعبوية، وكذلك اتجاه التراجع المستمر في مشاركة الناس في “العملية الديمقراطية” بمعناها الحرفي، الذي يضمن لكل فرد واحد في المجتمع “صوت واحد”، بل، كما يؤكد كتاب “عصر الحيرة”، الصادر عام 2019، أن الثقة قد ضعفت في السياسة، والمؤسسات، والانتخابات، والنظام الديمقراطي الليبرالي، بشكل عام. في المقابل، لا يشهد “استبداد الدولة”، وما يسمى أحياناً بالديمقراطية “المباشرة”، أي تطوير لاستيعاب التنوع المستجد في المجتمعات الغربية؛ مثل، صياغة المقترحات السياسية، التي لا توجد فيها وساطة مؤسسية تقليدية، مدعومة بالرأي العام “الأبيض”، والتي من المفترض أنها تمثل إرادة الشعب بألوانه وتنوعاته وتعدديته المختلفة، وصنع القرارات القائمة على الاستفتاءات العامة. في حين أننا نشهد أن الخطاب السياسي الغربي، ورواياته حول ربط الإسلام بإرهاب يتجاوز كل خطوط الحساسيات، التي كانت مرعية. ويتغير أيضاً في حالة السياسيين ومدى شعبويتهم، أو وسائل الإعلام وانتماءاتها، أو وسائط التواصل الاجتماعي وانفلاتها، مع زيادة الاستقطاب، والميل المتزايد نحو “تأطير” الأخبار لإدانة الآخر، أو طرق التضليل المتعمدة؛ مثل، استخدام أخبار “المعلومات المزيفة”. ونتيجة لكل هذا، أصبح النقاش الفكري حول الإسلام أقل علمية، ويركز على المواجهة في كل الميادين، وهو منحىً أكثر ميلاً نحو التشدد، وخلق أسباب العداء مع “الآخر”، وأولئك الذين يفكرون بشكل مختلف، بدلاً من البحث عن أرضية مشتركة.

فإذا أخذنا، على سبيل المثال، مسألة التبني الواسع لظاهرة “الإسلاموفوبيا”، على ما أظهرته من ضعف ثقافة الرأي العام الغربي بالإسلام وحضارته، سنجد أنها، بلا شك، كانت إحدى مستلزمات استخدامات الفكر السياسي الغربي الحديث لفرض شروط إخضاع جديد على العالم العربي والإسلامي. من ذلك الإصرار على تبيئة مفهوم غير معرفي للإرهاب، وتحويله لـ”عملة” ابتزاز سياسي باهظة الكلفة، تُطارد فيها الجيوش والأساطيل مجرد أشباح “فكرة” مُتَوَهَّمَة. فالإرهاب، وفقاً لقاموس “وبستر”، هو خوف مبالغ فيه، وعادة لا يمكن تفسيره، وغير منطقي لكائن معين، أو فئة من الأشياء، أو الأوضاع. وقد يكون من الصعب على المصاب تحديد مصدر هذا الخوف، أو نقله بشكل كافٍ، لكنه موجود, وفي السنوات الأخيرة، سيطر رهاب معين على المجتمعات الغربية هو “الإسلاموفوبيا”، الذي يُعرِّفه الباحثون بتفاصيل مختلفة، لكن جوهر المصطلح هو نفسه في الأساس، بغض النظر عن المصدر؛ إذ إن الخوف والكراهية، وعداء مبالغ فيه تجاه الإسلام والمسلمين، يتجسد في صورة نمطية سلبية تؤدي إلى التحيز والتمييز والتهميش والاستبعاد للمسلمين من الحياة الاجتماعية والسياسية والمدنية. ونحن نعلم أن ظاهرة “الإسلاموفوبيا” كانت موجودة في الأساس قبل هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، لكنها زادت وتيرتها وسمعتها السيئة خلال العقد الماضي. أما تحديث الرؤية الغربية لها داخل أطر افتعالية؛ سياسية واجتماعية وحقوقية، وما شاكل ذلك. رغم أن القصة، في جوهرها، كما أسلفنا، قديمة قِدَم الصراع بين الغرب والمسلمين، وتتمثل في الخوف العميق من الإسلام كدين، والرهبة من أتباعه كمختلفين عقائدياً وأخلاقياً، وأصدق دليل على ذلك قوله تعالى: (لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)، الحشر: 13. أما سياق كلمة “الإرهاب”، فلا يعني؛ لغة واصطلاحاً، إلا حسن الإعداد للردع، لا العدوان والإرعاب. ومثلما تُعِدُّ كل دولة اليوم جيوشها لإظهار قوتها وتأكيد جاهزيتها لردع خصومها، في حال اعتدائهم عليها، جاء القول في تأويل قوله سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، الأنفال: 60. ولكن اعتبار البعض مِنَّا لبعث الغرب لظاهرة “الإسلاموفوبيا” كاستئناف لثقافة الاستشراق، فهو تقدير موضوعي يستمد وجاهته من تجذر هذه الظاهرة كـ”حالة” نفسية، يتم استظهارها الآن، بشيطنة الإسلام وتابعيه، وحتى مجرد اللافتات الإسلامية، التي تنشط في مجالات العمل الخيري. وهي شيطنة أكثر ما تصدر عن الذين يعرفون أن قوة الطاقة الإسلامية، ليست في الجماعات المتطرفة، ولا الغلاة، المشكوك في من وراء تشكيلاتهم، أو ربما استغلالهم، وإنما المخافة الحقيقية، من تأثير “الإسلاموفوبيا”، هو طبيعة القوة الذاتية، التي تجتذب للإسلام أتباعاً داخل المجتمعات الغربية الرئيسة. إذ إن هناك تصورات سلبية حقيقية، وتحيزات، وتمييز ضد المسلمين، تتمثل في رؤيتهم على أنهم غير مخلصين لهذه المجتمعات. ومع ذلك، يصح القول إن هذه المشاعر لا يعبر عنها كل الناس في الغرب، وإنما تنفعل بها مجموعات فرعية من عامة السكان، على الرغم من وجودهم بأعداد كبيرة بما يكفي لجذب الانتباه والقلق. إن وجود ظاهرة “الإسلاموفوبيا” في حد ذاتها أمر يجب مقاومته ومعالجته بتقديم الإسلام والنظر  إليه كدين سلام حقيقي؛ طَوَّرَ المعرفة وأنشأ حضارة إنسانية، والمسلمون مواطنون مبدئيون وأخلاقيون، وقابلون للإدماج والاندماج في كل المجتمعات الغربية.

 

س- بإزاء هذا الوضعية الاستثنائية نجد أنفسنا في العالم الإسلامي أمام تحديات تاريخية وحضارية مفصلية، أبرزها: كيفية مواجهة التغريب القيمي، الذي يجتاح مجتمعاتنا.. ما الذي ترونه حيال هذه التحديات؟

ج- نعم، تواجه مجتمعاتنا تحديات وجودية، لا حصر لها، تجعلها تشك في ضمانات حصاناتها التاريخية، وتكاد تفقدها مناعتها الحضارية، لأنها تعمل على تجريدها من خصائصها الذاتية، وقيمها الأخلاقية. وللأسف، فإن “القابليات”، التي رسخها وتركها الاستعمار خلفه، ظلت تفعل فعلها غير الحميد في أوساطنا، وأجيال مثقفينا المتعاقبة، وكأنه كُتب علينا أن نستضيف الغرب في عقولنا وقلوبنا، من بعد أن قاومناه وطردناه من أرضنا. فقد أثر التغريب بشكل واسع على ثقافاتنا المحلية، لأن قادة الفكر والسياسة والرأي عندنا افترضوا أن هذا التغريب يعادل التحديث، من دون أن يُدرِكوا أنه يشكل تهديداً خطيراً على قيمهم، ويؤسس قاعدة قوية لأصوله الحضارية، التي تمحو ثقافة مجتمعاتهم المحلية ببطء. إنه يؤثر، بلا شك، بشكل كبير على التقاليد، والعادات، ونظام العائلة والأسرة والقرابات، ومواضعات التقدير والاحترام للآخرين. من هنا، يمكنني القول إن التحدي الرئيس، الذي يواجه العرب والمسلمين، كما تفضلتم في السؤال، تحدي التغريب القيمي، الذي أسميه بـ”التحدي الذاتي”، أو “غربة الذات”، التي تخلق “القابلية” للتغريب، وتُمَكِّن للاستتباع المتمثل في طبيعة تصورات الغرب المعرفية تجاه الدين، وما يَتَنَزَّل منه من قيم ضابطة للسلوك الاجتماعي، ومُحدِّدة لأنماط وأشكال العلاقات. إن الحقيقة، التي لا مراء فيها، تقول إن فكرة التحديث، وقيم الحرية، ومبادئ التسامح، ومناهج البحث العقلاني، ليست حِكراً، ولا حقاً مكتسباً لثقافة واحدة، بل هي، في الواقع، تراكم إسهام كل الثقافات، وحتى فكرة ما يسمى بـ”الثقافة الغربية” ما هي إلا اختراع حديث، ينبغي أن لا يكون مهيمناً على غيره. وإذا كان للسبق والسمو الأخلاقي قيمة تُحتذى، فثقافتنا أحَقُّ بالإتباع، لا أن تُسْتَتْبَع. وهذا ما يجب أن يكون عليه موقف أي عربي ومسلم، إذ لا يكفي أن يتحدث المرء عن الانتماء العاطفي والحماسي، وإنما عليه أن يُعِد نفسه للمواجهة الحضارية؛ باعتماد أسس التطور والتقدم في النهوض الفكري، وحماية ثقافته من تأثيرات التغريب الضارة. ومدخل ذلك تجاوز غربة الذات، والاستعداد للنهضة، بطبيعة الحال، الذي يستوجب الخروج من أحوال الاستضعاف هذه، وذلك بإعادة الارتباط العلمي والحضاري بالدين كمصدر للمعرفة وإعداداتها. ومن ثم، وجوب العكوف على ما نراه ضرورة إصلاح جذري في نظم ومناهج التعليم، وإعادة بناء الشخصية الفكرية المنتجة. بل السعي الحثيث لإحداث انتفاضة علمية تنشئ نظماً جديدة، متناسبة مع بيئات وموارد  المجتمعات العربية والإسلامية، على مختلف الأصعدة؛ الاقتصادية، والإدارية، والمؤسسية، والتنموية، واستعادة المبادئ الحقوقية والعدالية، التي تكفل الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي. وبالقطع، لا مناص من تنسيق أسس تعاونية بين شعوب العالم العربي والإسلامي، بما يوفر لديهم القابلية لاستئناف النهضة، والشهود الحضاري من جديد.

إن أخطر ما فعله الاستعمار في خدمة أهدافه هو “إغواء الصفوة”، أو استهداف النُخب الاجتماعية بعمليات التغريب، فصاروا هم “الوكلاء” المؤتمنون على تعظيم مناقبه، حتى بعد تحرر بلادهم من سلطانه وقوته وهيمنته. ولقلب هذه الحقيقة، علينا استعادة أنفسنا، وفعل ذلك يتأتى بمعرفة “خيرية” كسبنا الثافي والحضاري، والتشديد على ضرورة الوعي بالذات، وتكثيف وتلطيف التعريف بالمنجزات الإنسانية للعلماء العرب والمسلمين، في كل ضروب المعرفة. إن فعلنا ذلك، فسيبقى تأثير التغريب، الواسع الانتشار والمتسارع عبر العالم الآن، محدوداً في نفاذه إلى عمق ثقافتنا، وقليل القدرة على اختراق ذاتيتنا، ولن يستطع تخريب وجداننا. كما سنتمكن من الرد العلمي والعملي على فرية تفوقه الحضاري، وفرضيات بعض المفكرين، الذين يُثيرون الشبهات حول ديننا وثقافتنا، ويُلِحُون على إقناعنا أن التغريب يعادل التحديث، كما أسلفت. لقد شكل التغريب تهديداً خطيراً إبان الفترات الاستعمارية، واجتهد في أن يؤسس قاعدة قوية لمنطلقاته الفكرية، وكاد، في كثير من الأحيان، أن يمحو ثقافة الشعوب المحتلة ببطء متعمد، حتى لا يستفز مشاعر من يستهدفهم، ويستنهض فيهم نخوة الدفاع عن أنفسهم. لكن هذا لا ينفي أنه قد أثر، بشكل كبير، على تقاليدنا وعاداتنا وعائلاتنا وعلاقاتنا والمُثُل، التي نُعَبِّر بها عن احترامنا للآخرين. ففي حالة التأثر بالتغريب، يرى الناس أنه من سمات التقدم البَرَّاقة، وصِفَات التحضر الرائعة، هي اتباع مظاهر وتصورات الثقافة الغربية. وقد يصل الأمر مستوى من “التَلَبُّس” أن يجد الإنسان أن تناول الطعام بيده خطأ، وعلامة تخلف، لمجرد أن النخبة المتغربة تفعل غير ذلك، وتجعل بين يدها وفمها “شوكة وسكيناً”، ودون ذلك البدواة والرجعية. إن الذين ينتمون إلى خلفية غربية مختلفة تماماً من حقهم أن يفعلوا ما يريدون، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا هو الطريق الصحيح الوحيد، الذي واجب علينا اتباعه. إن الوعي بالذات يعني أننا يجب أن نفخر بمن نحن، وما نحن عليه، وأن نحافظ على ثقافاتنا، وأننا لن نغادر الراسخ والمفيد من أصول ثقافتنا، لأنها هي كسبنا، الذي تراكم عبر معارف أسلافنا وميراثهم، وتهذب وتشذب بقيم الدين الحنيف، وضوابطه الأخلاقية، وسيبقى شاهداً لنا وعلينا أمام أجيالنا اللاحقة. ولكن، لا يزال التحدي المتمثل في سعي بعض نُخَبنا لاستبدال المنظورات الوطنية، والدينية، أو حتى القومية، بمنظور عبر وطني، أو عالمي للثقافة، بإدعاء أنه أكثر شمولاً وحداثة. ويجادلون أن الثقافة ما هي إلا تراث إنساني مشترك، إذا تفوق الغرب حضارياً في لحظة تاريخية فارقة، فمن حقه أن يقود، ومن واجبنا أن ننقاد له. وهكذا، استسلام بلا مقاومة، واستتباع بلا قيمة، في حين أن العقل والمنطق يقولان إننا يجب أن نتعلم أن نكون أنفسنا، وأن نُشدد دائماً على ضرورة الوعي بذاتنا؛ من دون أن نفقد المرونة، والقدرة على التمييز، والمساومة المُثْلَى بين التحدي والاستجابة.

وقد يسأل سائل: إذا لم نحرص على اتباع ثقافتنا فمن سيفعل ذلك؟ إذا كنت لا تستطيع الاهتمام بنفسك، فمن الذي سيضيره أن يلحق بك الإهمال، أو يطاردك الإنكار، أو يلفك النسيان، ويُرْمَى كل كسبك في غياهب المجهول؟ والإجابة المباشرة والمختصرة، هي أن لا أحد سيتلفت لصيحات الاستغاثة، التي ستطلقها بعد فوات الآوان. ولكن، من المهم أن نفهم أن التغريب، الذي يقتلع ذاتنا، ليس مصطلحاً فضفاضاً، أو مفهوماً غامضاً، يمكن أن نستبعده من جملة مصطلحاتنا، ونستثنيه من حشد مفاهيمنا، متى ما شئنا. إن له معنىً معرفياً محدداً للغاية، وأهداف غائية مرصودة؛ مهدت تاريخياً لدخول الاستعمار وسيطرته “الصلبة”، وتُيَسِّر الآن الآن استمرار تمدد نفوذه “الناعم”. فالتغريب، على الرغم من سوء الاستخدام المتكرر في وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية، وغيرهما، فإن هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، إننا نُدرك تماماً حجم التأثير، الذي يُحْدِثُه في مجتمعاتنا؛ من منظومات القيم العليا، إلى أنماط حياتنا العامة، التي تقرر طريقة تذوقنا للطعام، وتفضيلاتنا في نوع الملابس، وما إلى ذلك. فقد درج الناس على متابعة الثقافة الغربية بشكل أعمى من دون أن يعرفوا عواقب مآلاتها شخيصتهم وكينونتهم، وتفردهم بخصائصم الذاتية. ولكنهم، في هذا الخِضم من التحيزات لصالح منظورات التغريب وتصوراته وتمظهرات أنماطه، ينسون أن لديهم ثقافات متفوقة؛ قيماً وإنسانية، بمقدورها أن تجعل حياتهم أخصب، مما يستوجب عليهم الاستفادة من عطاءاتها بالطريقة الصحيحة، التي تستوعب التجديد والتحديث داخل أطرها القيمية الضابطة لحدودها، والحاكمة لمساراتها. ولا ضير بعد من التعامل مع الغرب؛ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وحتى ثقافياً. لكن، هذا لا يعني أننا يجب أن نتبنى كل ما ترمي به إلينا هذه الثقافة من غثاء، أو كل ما تسقطه من خبث في فضاء مجتمعاتنا، وننحرف عن وجهتنا، ونتظاهر بأننا غربيون، ونحاول عبثاً اكتساب هوية ليست لنا.  فالثقافة الغربية تحاول، بوسائل ناعمة وطرق خشنة، انتزاع التراث الثقافي الغني، الذي لدينا، وما اكتنزناه قيماً في داخلنا. وليس من المهم بالنسبة لنا فقط اتباع ثقافاتنا، ولكن أيضاً فهمها، والاستفادة منها بحكمة، لأنه كلما كانت معرفتنا بثقافتنا عميقة وأصيلة، كلما أصبح بوسعنا أن نحمي أنفسنا، ونتمكن من تحصين أجيالنا الناشئة من خطر التغريب. إن أهم أدوات الحماية هي اللغة؛ واللسان العربي خاصة، لما يلعبه من دور حاسم في تحديد الهوية العربية والإسلامية، من دون غمط للغات الشعوب الإسلامية الأخرى. إذ إن اللغة تلعب الدور الأكثر أهمية في تزويد كل مجتمع بهويته. وهناك اتفاق عام؛ يطابق الاجماع، على أنه إذا فقدت أية لغة، فإنها تضر بالتنوع الثقافي للمجتمع الإنساني الأوسع. ونحن هنا لا نحاول أن نقلل من أهمية تعلم اللغات الأخرى، ولا نقول إن الثقافة الغربية سيئة، لكنه يجب علينا التمسك بلغتنا وثقافاتنا، لأن أثر التغريب على أنماط حياتنا وخصائصنا يمكن أن ينتقل إلى كل شيء، بما في ذلك قيمنا ومعتقداتنا.

 

س- نال العالمان العربي والإسلامي قسطهما الأعظم من النتائج الكارثية المترتبة على “الفوضى الخلاقة” خلال العقدين المنصرمين. كيف تقوِّمون ما عرف بثورات الربيع العربي وما أفضت إليه من تداعيات إلى الآن؟

ج- نحن نتحاشى دائماً أن نجعل من نظريات المؤامرة مدخلاً، أو منهجاً للتحليل والمقاربة، رغم أن التاريخ أزاح الستار بوضوح عن أن كثيرها، أي هذه النظريات، كان خطة مقصودة، وجرى تنفيذها في أرض الواقع. ومن بين المفاهيم الملتبسة؛ قديماً وحديثاً، مفهوم “الفوضى الخلاقة”، الذي أُخْرِجَ من “سيريالية” الفنون التعبيرية، وأُقْحِمَ زمناً في علوم الإدارة، وعندما احتاجته السياسة وجدت فيه متسعاً من الخيال للتدمير والتبرير معاً. وما نطق به سياسي في العصر الحديث إلا لينفث شراً، يرتبط بسخائم النفس البشرية، وتعلقت بالأطماع الغربية في كل الحقب الاستعمارية، وما بعدها. فنظريات المؤامرة، وتطبيقاتها، حقائق موجودة، ولا شك أنها ستظل في حياة الناس. ومصطلح “الفوضى الخلاقة”، الذي تعود جذوره، في بعض المصادر إلى أدبيات الفكر الماسوني القديم، وما قبله. وكان في تاريخه الأقدم جزءاً من عوالم التجارب الفيزيائية، قبل تلتقط في العام  1902، ويدخل عالم السياسة، ويقرر في مبادئه العامة، إحداث تغيير سريع وخاطف، وقلب أوضاع محددة، وفى أماكن مختارة بدقة، ولكن بوسائل غير تقليدية. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة، كيف أن “الفوضى الخلاقة”، كغيرها من المنظورات الغربية، التي يتم اختطافها من حقلها النظري الأول، الذي نشأت فيه، وأشرنا إليه بعاليه، إلى حيث مختبر الفعل السياسي، وتخديمها ضمن نظم التفكير الاستراتيجي الإجرائي، المنشغل دوماً بأهداف السيطرة على العالم. فقد حدث هذا  للعديد من النظريات الإحيائية والفيزئاية، التي تحولت إلى نسق فلسفي في التفكير، يدخل ضمن تطبيقاته الأنشط، الأغراض السياسية والاستخبارية والعسكرية. ويستند الأساس الأيديولوجي النظري لسيرورات “الفوضى الخلاقة”، تاريخياً، إلى الثورة الفرنسية باعتبارها مرجعاً قابلاً للدرس والمقاربة والمقارنة؛ بشعاراتها المعروفة، التي نادت بالحرية والعدالة والمساواة. وعلى الرغم من نبل المنطلقات النظرية للثورة الفرنسية وإيجابياتها، إلا أنها ولدت آثاراً جانبية كارثية، تمثلت بسيطرة “الرعاع” باسم المشروعية الثورية، وانتشر العنف الثوري، الذي حول الأوضاع إلى فوضى عارمة، افتقرت إلى التنظيم، وغياب المنطق والحكمة. وقريب من من مسارات الثورة الفرنسية، سلكت نتائج غالب ثورات الربيع العربي طريقها بغير هدى، وتعثرت خطاها، في ظل غياب المرجعيات الفكرية والسياسية، فانتكس الأمن والاستقرار، وشاهت حياة الناس؛ بين نزوح وتشرد وهجرة ولجوء وموت ودمار، مؤكد أنه نتيجة تدخلات أكبر من إمكانات الثورات الاحتجاجية العربية. ولهذه الإشارة أهميتها البالغة، إذ إنها تمكننا من أن ننظر بعمق أكثر في جذور وطبيعة التفكير السياسي الغربي، ومترتباته، التي تتنزل علينا بمضار وكوارث وأزمات لا قِبل لنا بها. كما أن محاولة التجريب السياسي لنظرية “الفوضى الخلاقة”، التي بلغت أسوأ تطوراتها في نسخة ما بعد أحداث برج التجارة العالمية بنيويورك، في 11 سبتمبر 2001, وغزو العراق وأفغانستان، والإعتداء على الصومال والسودان، والتحرش بسوريا وليبيا واليمن، وتشجيع الثورات في تونس ومصر، وتأجيج الانتفاضات في كل الدول العربية الأخرى تقريباً، وتخريب اقتصاديات الدول الإسلامية في تركيا وماليزيا وأندونسيا، ومحاصرة إيران وباكستان.

لقد اعتمدت السياسية الخارجية الأمريكية؛ دبلوماسية كانت، أو عسكرية، نظرية “الفوضى الخلاقة” كأساس لتحركها في عالمنا العربي والإسلامي، متكئة على ما أسماه “صموئيل هنتنغتون” بـ”فجوة الاستقرار”، بزعم أن المواطن العربي والمسلم يشعر بضيق من حكامه، ويقارن ويقارب بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، مما ينعكس سلباً على فرص هذا الاستقرار بشكل أو بآخر. والإدعاء أن الاحباط بلغ مداه الأقصى، واتسعت نقمة الشارع على الحكومات، لاسيما مع انعدام الحرية السياية والاجتماعية والاقتصادية، وافتقاد مؤسسات الأنظمة للقابلية والقدرة على التكييف الايجابي. وبذلك، تحولت مشاعر الاحتقان العام إلى مطالب عالية السقف، وانتفاضات وثورات، وأحياناً تمرد وعنف مسلح، فرض التغيير بالقوة، أو اجبار مؤسسات الحكم على ضرورة التكيف من خلال الإصلاح، وتوسيع المشاركة السياسية، واستيعاب مطالب الاعتراف بالتنوع واحترام الخصوصيات. والظن الراسخ الآن، أن كل عدم الاستقرار الماثل أمامنا لم يتأت له التنظيم والتعبئة، بإتجاه الانحراف والفوضى، إلا بفكر وتخطيط من خارج المنطقة. وذلك رغم كل الأسباب الموضوعية، التي نادت بضرورات إصلاحها الشعارات الثورية، وحملتها إلى الفضاء العام الهتافات. ويعتقد الكثيرون أن أمريكا، بحكم تطرفها الجغرافي والسياسي، قد تفردت، بل انفردت بالتفوق في هذا المجال على غيرها من القوى الاحتلالية الاستعمارية السابقة. ودعمت حالة عد الاستقرار لأسباب عديدة، قد لا نستوفي تحليلها جميعاً، في سياقات تطورها التاريخي، وإن كان التبني المطلق لإسرائيل أكثر من كافٍ لتبرير مواقفها العدمية والعبثية هذه، حتى لو جاءت تحت شعارات الحرية ونشر الديمقراطية. أما كون أن للفوضى الخلاقة نتائج كارثية على العالمين العربي والإسلامي، فهذا مُتَحصَل موضوعي بسبب أحوال الاستضعاف السياسي، التي تعاني منها كل الدول، والتي وقع عليها العدوان، أو زعزع استقرارها استغلال الانتفاضات والثورات، وذكرناها سلفاً. يُضاف إليها ضعف الأنظمة السياسية وتابعيتها واستسلامها وخنوعها، الأمر الذي وضعها في حالة تضاد مع الوعي الجماهيري ومنزعه التحرري. ومن جانب آخر، فها لا يعني، بالضرورة، أن الشارع العربي والإسلامي قد تماهى مع محركات أمريكا ودوافعها لخلق عدم الاستقرار، وإنما عبر عن ذاته من دون أن تنتظمه برامج، أو توجهه أيديولوجيا، أو يتقدمه قادة وسياسيون. ولذلك، لا بد، في تقييمنا، من النظر لأي حراك، أو هبة جماهيرية، ضد بؤس الأوضاع العامة، التي أورثت الناس شقاءً معيشياً، وتخلفاً حضارياً، أن نفصل بين أسبابها الذاتية الموضوعية وبين ما نشتبه فيه من عوامل مساعدة خارجية، قد لا تلتقي أهدافها مطلقاً مع أهداف هذه الجماهير. وهما بالضرورة ضدان لا يجتمعان، فإذا كانت الجماهير تُريد الإصلاح، فإن ما تسعى إليه أمريكا، وغيرها، يصلح فقط لاستخدامات “الفوضى الخلاقة”. لذا، فإن ما عُرف بثورات الربيع العربى، يجب قراءتها في سياق الدواعي الداخلية بنسبة أكبر، من مخاوف تضمينها لعبث هذه “الفوضى الخلاقة”، رغم ما خلفته هذه الثورات من كوارث وأزمات. وما يعين على ذلك انكشاف الغطاء عن حجم تسبب أمريكا والغرب في تردي أحوال هذه الجماهير وتدهور أوضاع بلدانهم. وبالطبع، فإن الوعي بهذه الحقيقة “الانكشاف” يمثله قطاع نسبي من حجم الكتلة الجماهيرية الثائرة، لكن يجب البناء عليه. وإذا أرادت مراكز البحث الفكري النهوض لزيادة حجم هذه الكتلة، فيمكنها تحقيق ذلك، من خلال دراسة الثغرات، التي من الممكن النفاذ من خلالها للتأثير على وعي هذه الجماهير، واستغلالها في حرف حِراكَاتها. وذلك بتفعيل وسائل تواصل فكري إصلاحي توعوي، لاشك أن ثماره ستؤتي أكلها، على المدى المنظور. فاجتراح “الفوضى الخلاقة”، واعتماد أمريكا لها كنظرية فعل سياسي، هي تحدٍ وليست قدر، وهي بَيِّنَة في طبيعة العناصر، التي تستخدمها في تحقيق أهدافها. الأمر الذي يجعل من المهم إعادة وزن المعادلات التحليلية لواقع العالمين العربي والإسلامي، في اتجاهات تضامنية، واستنان تدافع جديد؛ يُعلي من قيمة التوافق، ويُحَصِّن المشتركات الحاضنة لمصادر القوة الذاتية.

 

س- في ظل هذا المناخ المعقد، يجري الكلام الآن على التأسيس لعلم الاستغراب، وهو العلم الذي يُقصد به، في وجه من وجوهه، إنشاء منهج يقوم على فهم الغرب كأطروحة حضارية، وعلى نقده في الوقت نفسه.. والسؤال: هل لكم أن تقدموا لنا تصوراً مقتضباً حول هذا المقترح؟

ج- من أرشد ما يمكن القيام به في الوقت الراهن، أو كما قلتم في هذا المناخ المعقد بالفعل، هو التفكير في انشاء حركة علمية ذات طابع منهجي، وفكري، وبحثي، ونقدي، في الدراسات الحضارية، على أن تكون التجربة الغربية ذات وضع مركزي، تُستَجمَعُ له الجهود خدمة لهذا المشروع المطروح. ونظراً لاختلاف سياقات ودواعي النشأة الموضوعية، بين حركة “الاستشراق”، وحركة البحث الفكري المقترحة، قد يرى باحثون أنه ليس من المستحسن تسميته علم “الاستغراب”، لأن المقاربة الدلالية غير منضبطة مع الهدف الفكري، مثلما لم تكن منضبطة عند تسمية “الاستشراق” ذاته. إذ إنه من الناحية اللسانية اللغوية، يمثل “الاستغراب” مصدراً للفعل استغرب، الذي يعني اتجه للغرب، هذا من الناحية النحوية التجريدية، لكن من ناحية فقه الدلالة فهو يعني تَقَمَص، أو اتباع، الحالة الغربية. ومؤكد أن هذا لم يكن مقصود الهدف الحضاري، ولا يقلل من قيمة الفكرة، كما أن “التناص” نفسه مع مصطلح “الاستشراق”، يرى فيه البعض أنه  لا يحقق عزة الندية المطلوبة من إنشاء هذا العلم بغايته الحضارية، الذي إن قُدِّرَ له التبلور والتطور المنهجي، سيكون فتحاً، بلا شك، لاستئناف السيرة الحضارية العربية والإسلامية. وفي البدء، ومع التأييد المطلق لهذه الفكرة، ربما تنشأ إحدى الصعوبات في هذه الحركة العلمية بسبب الطريقة، التي يُدَرَّس بها تاريخ الحضارة الغربية في مدارسنا وجامعاتنا الآن، أو تناولها في كتاباتنا، التي غالباً ما تنظر إليها كـ”موضوع” ضمن حقل “التاريخ”، الذي أصبح يمثل مجموعة من المعارف المحصورة في مساق “الدراسات الاجتماعية”، مع تركيز أقل على ما يمكن أن تمثله المعرفة الشاملة والمتقنة والنقدية من فرصة أكبر للاشتغال على “الغرب” كنطاق معرفي وموضوع فلسفي واسع. ونحن عندما نبتدر قرءة أية معالجة شاملة للحضارة الغربية بتدبر، نبدأ في تقدير الحاجة إلى معرفة التاريخ في سياقه الحضاري الكلي، لأن معرفة الماضي، التي يوفرها تاريخ الحضارة الغربية، تساعدنا على فهم كيف أصبحت الأشياء على ما هي عليه، وتمكننا من وضع أنفسنا بشكل أكثر ذكاءً في العالم. وربما يخدمنا التاريخ بشكل أفضل عندما نكون قادرين من خلاله على النقد، وليس تأكيد يقينيات ببوار، أو مسلمات تفوق، الحضارة الغربية. لأننا أن رَكَنَّا لأيٍ منهما سيبعث ذلك برسالة مقلقة، قد تُفْشِلنا في دراسة أية حضارة باقية، أو منافسة لنا. وبالتاكيد، الذي يبلغ مستوى اليقين، أنه توجد أسباب وجيهة يمكن أن نقدمها بثقة عند السؤال: لماذا تستحق الحضارة الغربية دراستنا لها؟ ولا ننسى أنه قد تطورت حضارات عديدة ومختلفة على مر الزمن؛ مثل، حضارات الصين والهند والشرق الأدنى والغرب، لا يمكننا دراستها جميعاً بالتفصيل، لكن الحضارة، التي تسيدت علينا بقوتها المادية والمعنوية؛ استعماراً عسكرياً واستيعاباً ثقافياً، أو يتم تقليدها في كل أوطاننا اليوم، هي الحضارة الغربية، والتي تصادف أنها دَرَسَتْنَا كحالة “استشراق”. وفي مواجهة ضرورة الاختيار والرغبة في درجة معينة من التركيز والتفسير، من الطبيعي أن نختار الحضارة الغربية، دون إهمال علاقتها بالآخرين تماماً.

إننا نعلم أن الأطراف المتصارعة في الحروب الثقافية اليوم، أو “صراع الحضارات”؛ إذا اتفقنا مع “صمويل هنتغتون” أم لم نتفق، حول هيمنة “الحضارة الغربية”، تتحد في شيء واحد، على الأقل؛ وهو أن كل طرف يميل إلى إخفاء مدى تعقيد “الحضارة الغربية”، وانقسام علمائها الدائم حول طبيعتها وأحقيتها. فإذا طالعنا كتابات المحافظين البارزين؛ مثل، “إدموند بيرك”، أو “جوزيف دي مايستر”، وكذلك الثوريين، مثل “كارل ماركس”، أو “روزا لوكسمبورغ”، سنجد تباعداً شاسعاً، رغم أنهم جميعاً ينتمون إلى “الحضارة الغربية”. وهذه الحقيقة تستوجب أن نتعامل معهم جميعاً كأبطال لنفس الرواية، وأن نأخذ عصر “التنوير” في القرن الثامن عشر، على سبيل المثال، باعتباره فترة مركزية في التاريخ الغربي، لأن اليمين اليوم يطالب بـ”التنوير”، لتأييده لحرية التعبير والدين، وكعلامة مميزة لـ”الغرب”، ضد البقية، وضد الشرق العربي والإسلامي على وجه الخصوص. بينما يُريد أجزاء من اليسار شجب “التنوير”، بسبب إيمانه الساذج المفترض بالعقل ودعم الإمبريالية الأوروبية. إذن، هل فكرة “الاستغراب”، وكتابة رؤيتنا لـ”الغرب” الحضاري، وثقافته الاستثنائية، يناسب أياً من القَالبَين؛ اليمين واليسار من نُخَبنا؟ وقد تتضمن معرفة إجابة هذا السؤال استحضار عدد آخر من الأسئلة، مثل: ما هو نوع المجتمع الثقافي، الذي سنكتب له، ونحاول إقناعه؟ وما هي أعراف الاتصال الحالية والأشكال النقدية للخطاب الغربي؟ وربما قبل كل شيء: ما هي التزاماتنا الأخلاقية، وهيكل مُثلنا العليا، التي نقف عليها عند النظر للحضارة الغربية؟ وبالطبع، قد لا تكون هذه هي الأسئلة الوحيدة، التي نُصِرُّ على وجوب طرحها لقياس مدى المساهمة الفلسفية فيما نُزمع تأسيسه. ولكن، يجب أن يكون واضحاً أن الإجابات؛ على أي من هذه الأسئلة، ستزودنا بمداخل مساءلة للحقيقة، مهما كانت مثيرة للاهتمام، لأنه إذا قُدِّرَ لها أن تُقاس أبحاثنا بشكل عادل، سنبلغ بارتيادها مراقي “المعنى”، الذي نتقصده لرؤية أنفسنا في “الشرق”، من خلال دراستنا لـ”الغرب”. لهذا، نؤيد، وبلا تحفظ، بأخذ الكتاب المعرفي بقوة، لقيام  هذه الحركة العلمية “الاستغراب”، أو ما يُصطلح عليه بـ”علم الدراسات الحضارية”، التي تتلخص رؤيتنا حولها في؛ إعداد منهاج متكامل للدراسات الاستكشافية والتحقيقية في تاريخ التأسيس الحضاري للتجربة الغربية. وتقسيم الدوائر البحثية على الاختصاصات، التي تشمل المباحث الفلسفية، والعلوم والمعارف التطبيقية، والآداب والفنون، والخلفيات المؤسِسة للفكر الاستراتيجي السياسي الغربي؛ على سبيل المثال. وإنشاء دوائر للتحقيق في المنظورات الدينية ومقاربات ذلك، ومقارنته، مع دراسة “الاستشراق” للدين الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية. وعمل دراسات حول مناشئ حالة القابلية للاستلاب والاستعمار والاحتلال الحضاري، أي ما يُمكِن توصيفه بـ”الهزيمة” الفكرية والنفسية لدي “المتغربين” في العالمين العربي والإسلامي. وقد يحسن تأسيس دائرة للجدال الحضاري الحسن، أي حوارات الباحثين عن الحقيقة من المفكرين المسلمين والعرب والغربيين، في فضاء معرفي مفتوح.
________

* دبلوماسي سوداني، والأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي/ الأردن

الخميس، 1 أكتوبر 2020

القاهرة، جمهورية مصر العربية.

جديدنا