أزمة المجال السياسي الإسلامي؛ قراءة في “الفتنة والانقسام” لعبد الإله بلقزيز

image_pdf

خصَّص الأستاذ عبد الإله بلقزيز ضمن مشروعه  الفكري  التأريخي النقدي  للتراث الإسلامي سلسلة من المؤلفات المهمَّة تناول في بعضها إشكاليَّة تكوين المجال السياسي الإسلامي، والجدير بالذكر في هذا المقام كتاب “الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي” وكتاب “االدولة والمجتمع جدليات التوحيد والانقسام” ثم كتابيه في  تكوين المجال السياسي الإسلامي الأول بعنوان  “النبوة والسياسة” والكتاب الثاني بعنوان “الفتنة والانقسام” (ط/3/عام 2015).

أهميَّة هذه الكتب وغيرها من كتابات الأستاذ عبد الإله أنها تطرح قضايا وإشكالات جوهريَّة تغوص في تعقيدات الاجتماع السياسي للمجتمعات الإسلاميَّة وتفتح كوَّة تضيء السبيل للباحثين  وتحفِّز على اختيار المنهج العقلاني القويم لاستشراف المستقبل لتمكين المسلمين من استعادة فاعليتهم ودورهم الحضاري والإنساني على مسرح التاريخ.

لهذا اخترت أن أتوقَّف عند ما أثاره الأستاذ عبد الإله حول إشكاليَّة المجال السياسي الإسلامي أو بالأحرى أزمة السلطة السياسيَّة في الاجتماع الإسلامي عبر التاريخ، وسوف أعرض فقط  لمضامين الكتاب الثاني من تكوين المجال السياسي الإسلامي” الفتنة والانقسام” .

ذكر المؤلِّف في مقدِّمة هذا الكتاب بأنَّه يستأنف ما بدأه في الجزء الأول” النبوَّة والسياسة” الصادر سنة 2005 بمعنى أنه في هذا الكتاب يتناول فترة الخلفاء بعد النبي عليه السلام وما شجر من أحداثٍ جسام خلال هذه الحقبة من تولية أبي بكر إلى مقتل الامام علي، حيث  كان الهاجس هو البحث على توازن يحافظ على الكيان الذي أسَّسه النبي ( دولة المدينة) ليحمل رسالته الدينيَّة وينشرها بين الناس.

وقد شهد المجال تطوّرًا أكبر وتعقّدًا أشدّ في لحظة الانتقال من دولة النبوَّة إلى دولة الخلافة، ففي العهد العمري توسَّع نطاق الدولة فازدادت الجاجة إلى الجيش وإلى المال وإلى أطرٍ سياسيَّة وإداريَّة وقضائيَّة ودينيَّة تزوِّد الدولة الإمبراطوريَّة بمن يشغل الوظائف والمناصب والمسؤوليات العليا في الدولة، ونتيجة لهذا التوسُّع الإمبراطوري للدولة الإسلاميَّة وانضمام أقوام وثقافات وملل ونحل  ضمن مجالها، فكان  يجب استيعابها وإدماجها في النسيج الديني والسياسي في المجال السياسي الإسلامي.

 

لقد أدَّى هذا التطوُّر المتسارع إلى تحوُّل المجال السياسي الإسلامي إلى إمبراطوريَّة شاسعة الأطراف متعدِّدة الأعراق والثقافات، وقد تولَّد عن هذا التطوُّر السريع تناقضات عميقة لم يكن في وسع المجتمع والدولة تفادي تأثيرها ونتائجها.

يقول المؤلِّف بهذا الصدد إنَّه حاول قراءة المجال السياسي الإسلامي لحظة الخلافة الراشدة من طريق تحليل مختلف الديناميات الحاكمة له: “جدليَّة الديني والسياسي بفعل العوامل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، جدليَّة المركز والأطراف، جدليَّة النص والاجتهاد..” متوخيا من وراء ذلك بناء إدراك متكامل لسياقات ذلك التكوين ومآلات الاجتماع السياسي الإسلامي اعتمادا على المصادر التاريخيَّة الإسلاميَّة، محاولًا بناء صلة نقديَّة بها وبمروياتها، ومع تحرِّي الدقَّة في بناء الأحكام والاستنتاجات من خلال التدقيق في الروايات التاريخيَّة وتجنُّب استسهال الاطمئنان إلى معطياتها ..(ص/11).

يتَّضح من هذه التوطئة منهجيَّة المؤلِّف وطريقته في مقاربة وتحليل إشكاليات المجال السياسي الإسلامي بغرض الوصول إلى العوامل الفاعلة في أزمة المجال السياسي بمختلف أبعاده ومكوّناته ومحدّداته:” أزمة السلطة والدولة والسياسة والمجتمع.”

وضمن هذا الإطار قسَّم المؤلف كتابه إلى قسمين؛ في القسم الأول تناول فيه مسألة الصراع على السلطة (ما بعد النبي..)، وفي القسم الثاني تطرَّق فيه إلى مسألة التمرُّد والانشقاق.

دارت  فصول القسم الأول من الكتاب على مسألة الصراع على السلطة في الإسلام المبكِّر لحظة الانتقال من عهد النبوَّة وإدارته إلى عهد الخلافة وإدارة الصحابة وهي لحظة كما يقول المؤلِّف صنعتها متغيِّرات ذات أثرٍ بالغ في حياة الجماعة ومستقبلها.

لقد ترك النبي فراغًا ما توقَّعه القوم وما عرفوا بأي الوسائل يواجهونه؛ فالنبي كان هو القائد والمرجع والمعلِّم بأمور الدين والدنيا، وإليه يعود تدبير شؤون الجماعة وقيادتها في الحروب، وإليه يحتكم الناس في كلِّ أمرٍ أو خلاف، وبه الأسوة والاقتداء، وللنبوَّة هالتها وقدسيتها.

والمؤمنون الذين صحبوه وعاشوا معه وتقاسموا معه السرَّاء والضرَّاء، ما عرفوا غيره إمامًا ورمزًا لجماعتهم؛ فهو فيهم رسول ورئيس الدولة وقائد الجيش والقاضي والمربّي وكفيل اليتامى والمحرومين والأب والقدوة والمثال، إذا أمر يطاع وإذا نهى فيمتثل لنهيه، وإذا تكلَّم حسم .. (ص/16).

ومن ثمَّ كانت وفاة النبي صدمة عظيمة أصابت المسلمين بذهول وشعور بالفراغ الرهيب واليتم الجماعي شديد الوطأة عليهم. ورغم هول المصاب كان لا بدّ من ملء الفراغ القيادي، والذي يحصل في مثل الحالات الشبيهة، أن تؤول الأمور إلى عامَّة الناس وخاصّتهم، إلا أنَّ النبي كان قائدًا استثنائيًّا في التاريخ وفوق ذلك وقبله، كان نبيًّا يوحى إليه. وكان معلومًا لدى الصحابة أنَّ خلافته إنَّما في تدبير شؤون المسلمين من بعده، ومع ذلك فقد استعظموا التصدِّي لذلك الأمر ليس لجهلهم بأمور الدولة فقد خبروا بعضها، ولكن بسبب الخشية وعدم اليقين بأنَّ أحدهم يملك القدرة على القيام به على الوجه الأنسب.

لقد أحدثت نازلة غياب النبي فراغًا في السلطة، هزّ الاجتماع السياسي ونجمت عنه  ديناميات عميقة سوف تؤثِّر في مآلات حقبة الخلافة وما تلاها.

يرى المؤلِّف أنَّ أوَّل علامات ذلك الفراغ الكبير في السلطة يرجع إلى افتقار الجماعة الإسلاميَّة إلى نصٍّ يشرِّع لاجتماعهم السياسي ولمسألة السلطة ونظام الحكم، كجماعة ما أدركت معنى للسياسة والدولة إلا في اقترانها بالدين وقيام أمرها على مقتضاه، فالدولة التي ورثها المسلمون ( دولة المدينة) أو الدولة النبويَّة. أقامها على مقتضى الدين، وهي تبدو اليوم دولة سياسيَّة بالمعنى الكامل للكلمة وتسميتها بدولة تيوقراطيَّة إسقاط غير مبرَّر وغير ذي سندٍ تاريخي (ص/24)؛ لأنَّ السلطة تفقد الرأسمال النبوي وبالتالي أصبح مفروضًا على جماعة المسلمين الانتقال من سلطة النبوَّة إلى سلطة خلافة النبي والسلطة بعد النبي لا عصمة لمن يطلبها أو يتولاها أو لمن تؤول إليه، فهي تابعة للموازين الاجتماعيَّة ولأحجام القوَّة، وضمن هذا السياق يمكن فهم الخلاف بين الأنصار والمهاجرين.

ومن علامات الفراغ أيضا فقدان الخلفاء رأسمال الكاريزما المحمديَّة (اجتماع القيادة والنبوة) الرأسمال السياسي الذي كان يتمتَّع به النبي في وسط قومه ” القيادة السياسيَّة المحنَّكة لجماعة ومجتمع وأمَّة ودولة” ممَّا فتح أمامه طريق الظفر، ومكَّن الدعوة أن تفرض نفسها بقوَّة السياسة..(ص/26) علامة أخرى في الفراغ الذي أحدثه غياب النبي ويتعلَّق بالشرعيَّة التي كرَّستها الحقبة النبويَّة في الإدراك الجمعي الإسلامي والمتمثِّلة في التداخل والتماهي بين القيادة السياسيَّة والقيادة الروحيَّة في شخصٍ واحد يمثِّلها ويجسِّدها معا. بعد وفاة النبي حصل انفصال بين الحدّين وباتت القيادة السياسيَّة مجرَّدة من رأسمالها الديني وبالتالي فقدت أهم ديناميات السياسة والسلطان والمشروعيَّة، وهكذا كان الانفصال داخل الشرعيَّة بين الديني والسياسي يدفع بالسلطة إلى البحث عن شرعيَّة من السياسة، فهي لم تملك ادِّعاء العصمة..(ص/27). وفي أحسن الأحوال مجرَّد اجتهاد محكوم بسياقه قد تزول الحاجة إليه بتغيّر الظروف التي كانت وراءه، ونتيجة  لهذا التمايز بين شرعيَّة النبي وشرعيَّة  سلطة الخلفاء التي هي بالأساس شرعيَّة سياسيَّة وتبعا لذلك فهي موضوع للنقد والتنازع .

بتوسُّع نطاق الدولة وكيانها انطلاقًا من الفتوحات ممَّا سيكون له الأثر الحاسم في تقرير أنماط الصراعات التي جرت على السلطة بين الصحابة وما تنج عنها من أشكال وتوازنات سياسيَّة استقرَّت عليها تلك الصراعات، وما لابسها  من التحالفات وانبثق عنها من مذاهب فقهيَّة.

هل أدَّى الخلاف بين الصحابة حول الخلافة إلى شلِّ قدراتهم ممَّا جعلهم عاجزين على ملء الفراغ وحفظ الاجتماع السياسي من الانفراط والتبدُّد؟

يجيب المؤلِّف على هذا السؤال الحاسم بقوله ” لم يفشلوا بل بذلوا أوسع جهد في طاقة بشر أن يبذله من أجل الذهاب بالمشروع التاريخي إلى التحقُّق، وأحرزوا نجاحات تبهر خاصَّة في عهد الشيخين (أبوبكر وعمر) وحفظوا وحدة الجماعة السياسيَّة من الانفراط وحافظوا على وحدة الدولة وهيبتها وسلطانها في الجزيرة، إنَّ ما جرى من أحداثٍ جسام سيشكِّل المفتاح لفهم التحوّلات الكبرى في المجال السياسي الإسلامي الحديث التكوين (ص/30).

وهكذا فإنَّ المجال السياسي الإسلامي بعد حقبة النبوَّة سيشهد تبدّلات غيَّرت تكوينه ومجراه وأعادت تشكيله على نحوٍ جديد حافظ فيه على سمات التكوين ولو على نحوٍ رمزي، ولكن ضروري من أجل استمراريته وإشعار لنفسه بعض القواعد والأدوات التي تناسب التطوُّر المنشود طبقًا لضرورات قوانين التاريخ وحتمياته.

لقد أدَّى الصراع على السلطة بين مختلف الفرقاء خلال هذه الحقبة المبكّرة من تاريخ الإسلام والمسلمين إلى التغيُّر الحثيث في ديناميات السياسة والانتقال من الديناميَّة الدينيَّة إلى الديناميَّة العصبويَّة ..إلخ، وهو ما حاول المؤلِّف أن يرصد تجلّياته السياسيَّة وآليّات احتوائه وفضّه من أجل إعادة إنتاج  وحدة الدولة  والجماعة السياسيَّة، وذلك في فصول القسم الأوَّل من الكتاب.

قام المؤلِّف في فصول القسم الثاني من الكتاب بتحليل عميق لأزمة السلطة والخلافة في الإسلام وما نتج عنها من صراع ونزاع بين القوى المتنافسة والمتصارعة على السلطة، وتطرَّق للجدليات الحاكمة للاجتماع السياسي وحدَّدها في الحقائق التالية:

-1- جدليَّة المركز والأطراف وقد ظلَّت حاكمة طيلة الفترة التي أعقبت وفاة النبي، وكان أثرها حاسمًا في صناعة وقائع التاريخ الإسلامي وتوجيهها في تلك الحقبة.

-2- جدليَّة الديني والقبلي كان لها أثر بالغ في وقائع تاريخ هذه الحقبة بحيث توحي بأنَّ مفعول الدين كان أساسيًّا في تقرير الحوادث والظواهر والصراعات، غير أنَّ التدقيق في أخبارها يقطع بوجود  إشكال  تلبُّس الأبعاد القبليَّة  والعصبويَّة في الصراع على السلطة.

منذ اجتماع السقيفة  وتولِّي أبي بكر الحكم وصولًا إلى اختيار عثمان وما حصل  في نهاية ولايته  من تحشيد وتجييش، كان العامل القبلي حاضرًا في المشهد باعتباره العامل الرئيس في إذكاء  الصراع، ففي حرب الجمل وصفين انحاز المقاتلون إلى هذا الفريق أو ذاك ممَّا يدل على دور العامل القبلي في تفجير الأحداث، بحيث يصعب فهمها  بمعزلٍ عن هذه الجدليَّة التي يتداخل فيها الديني بالقبلي تداخلا تلازميًّا واقترانيًّا (ص/296).

-3- جدليَّة النزاع على السلطة بين بني أميَّة وبني هاشم  والتي توجد تأثيراتها  وأدوارها في قلب التطوّرات والمنعطفات السياسيَّة وهي أساس كافة الأزمات التي  استبدَّت بالجماعة  والدولة. لقد مرَّ الصراع بين القطبين من أربع لحظات تاريخيَّة، بدأت مع بزوغ الدعوة المحمّديَّة وصراعها مع أعدائها، ثمَّ جاءت لحظة الانفجار باغتيال الإمام علي وتنصيب معاوية خليفة.

-4- جدليَّة السلطة والثروة  بحيث كان تأثير الطلب على الثروة عاملا  من عوامل الصراع  على السلطة ” حروب مصالح استعارت مفردات دينيَّة  ونتجت عنها تحالفات  سياسيَّة ..” فكان لعامل الثروة دور كبير أثَّر في تأجيج  الصراع  على السلطة، ممَّا أوصل الأزمة إلى مداها وأدَّى إلى الانشقاق  داخل كيان الأمَّة.

لقد قادت هذه الجدليَّات إلى إعادة  تشكيل  المجال السياسي الإسلامي على نحوٍ مختلف  إلى حدٍّ بعيد عمَّا كان عليه في العهد النبوي، وأسفرعن هذا الوضع ظهور ديناميات سلبيَّة تمثَّلت  في تأسيس العلاقات السياسيَّة على الغلبة والاستبداد، عوضًا عن الشورى والتراضي، فكان مدخلا إلى الانتقال من الفتنة إلى الانقسام (ص/298).

 

الخاتمة:

إنَّ الهدف الذي توخيناه من هذا العرض هو الوقوف عند أطروحات المؤلِّف التي تبحث  في تطوّر الاجتماع السياسي الإسلامي، وعن أبعاد أزمة السلطة في المجال السياسي وأسبابها والعوامل  المؤثِّرة فيها والمحرِّكة لها.

بحيث لم تكن المسألة مجرَّد نزاع  بين قطبين ينتصر فيه هذا الطرف أو ذاك، ولكنَّها كانت خلافا بين نظامين متقابلين، وعالمين متنافسين؛ أحدهما يتمرَّد ولا يستقرّ، والآخر يقبل الحكومة  كما استجدَّت  ويميل  فيها  إلى البقاء والاستقرار.

صراع بين الخلافة الدينيَّة  والدولة  الدنيويَّة، وليس موضع الحسم فيها أن ينتصر هذا الفريق أو ذاك، بل موضع الحسم  فيها مبادئ الحكم كيف تكون إذا تغلَّب أحد النظامين على خصمه، أن تكون مبادئ الورع والزهد أو مبادئ الحياة على أساس الثروة والمال؛ فالحسم هنا إنما تغليب مبادئ الملك أو مبادئ  الخلافة، ولا بديل في علاج الأمر على غير هذا الوجه.

وإذا التبس الموقف  بين الخلافة  والملك  فوجب  أن يزول التباس على وضع  صريح، ولن يزول إلا اذا بلغ الخلاف مداه، وكتبت الغلبة لحكم من الحكمين.

هذه هي العلَّة التي تنطوي فيها جميع العلل الظاهرة والخفيَّة، وهي الخلاف بين مبادئ الخلافة الدينيَّة ومبادئ الدولة الدنيويَّة، وضرورة الفصل بين قيادة المنافع وقيادة الصلاح التي تطمح  إلى الاصلاح والتغيير.

_________
*أحمد بابانا العلوي.

جديدنا