تأمّلات في بعض معوقات اقتحام المثقَّفين للمجال السياسي

image_pdf

علاقة المثقَّف بوسط عيشه علاقة معقَّدة ومتشابكة   تتداخل فيها عوامل تاريخيَّة ونفسيَّة واجتماعيَّة  تؤدِّي  في كثير من الأحيان لرفض هذا المثقَّف أو قبوله  حسب نسبة المتعلِّمين الموجودين في وسطه الاجتماعي،  وفي الغالب تكون العلاقة متوتِّرة بين الطرفين  لأنَّ أغلبيَّة هذه الأوساط سواء في الوسط الحضري أو القروي  التي ينتمي إليها المثقَّفون  تكون في الغالب بيئات  يغلب عليها  تفشِّي ظاهرة الأميَّة  لأسباب تاريخيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة .

هذه الظاهرة المخجلة التي أسهمت في تأخُّر المجتمع نحو التقدُّم  وتحقيق حلم النهضة  ما زالت  متفشيَّة رغم المجهودات الكبيرة المبذولة من طرف الدولة  للقضاء عليها. يقول أحد المفكّرين مبيّنا خطورة تفشِّي الأميَّة على التنمية المجتمعيَّة (فحاجز الأميَّة المستشرية في صفوف الجماهير العربيَّة، والتي يمثِّل محوها شرطا أساسيا من شروط الإنتاج الدائم والمنتظم للثقافة العلميَّة وتعميمها. لكن هذا الحاجز لا يكتفي بالحيلولة دون تثقيف الجماهير علميا، وإنَّما يوفِّر أيضا تبريرًا للسياسات التي تغفل دور التثقيف العلمي في التنمية الحضاريَّة، على صعيدي القطاعين العام والخاص كليهما )1

فمن هو هذا  المثقَّف أو  المثقّفون  بصفة عامَّة ؟ وماذا يريدون من المجتمع ؟ وما علاقتهم بالمجتمع والدولة  والسياسة والانتخابات  والحلم التغيير؟

أسئلة عميقة يصعب الإحاطة  بجوابها أو حصرها  في مقالة من أسطر، بل تحتاج إلى بحوث معمَّقة  لسبر أغوار ها  المركَّبة والمعقدة والمتداخلة ما بين حقل السوسيولوجيا وعلم النفس الاجتماعي والعديد من الحقول الأخرى.

( المثقَّف شخص يفكِّر، بصورة أو بأخرى ، مباشرة  أو غير مباشرة، انطلاقا من تفكير مثقَّف سابق يستوحيه، يسير  على منواله، يكرّره، يعارضه، يتجاوز ه  ).2

وغالبا مايثير لفظ مثقَّف أو ثقافة انزعاج الكثير من الناس في المجتمع بصفة عامَّة ولدى بعض الدوائر في جهاز الدولة خاصَّة نظرا لحمولته النخبويَّة المشحونة بنبرة استعلائيَّة توحي بخصوصيَّة  يملكها هذا الكائن الاجتماعي المزعج بأفكاره، بالمقارنة  مع من لا يملك هذه الصفة، صفة امتلاك العلم و امتلاك الثقافة، ثقافة النقد وحبّ التغيير والحلم بالمجتمع المثالي الخالي من الفساد.  حيث يتمّ استغلال صفة امتلاك الثقافة والعلم  من طرفه  بقصد التأثير في سلوكات الناس وتغيير مواقفهم لصالح رؤيته وإيديولوجيته  التي يؤمن بصلاحيتها لأفراد مجتمعه أو لمشروعه الفكري  أو ما يعتقد هذا المثقَّف أنَّه عين الصواب وعين العقل  بغية تغيير واقع الناس و رغبة منه في غرس قيم جديدة في المجتمع الذي ينتمي إليه من أجل تطويره .

ورغم  أنَّ المثقَّفين صنوف عديدة ومتعدِّدة بمشارب مختلفة، فإنَّ  هذا  اللفظ عموما، أي لفظ المثقَّف يمنح لفئة  كرست  الكثير من الوقت والجهد  لقراءة الكتب بعد مسار دراسي طويل وشاق في الغالب  حتى  صارت تملك  مؤهَّلات فكريَّة وثقافيَّة تبوؤهم مكانة مرموقة ومحترمة في المجتمع، رغم أنها مكانة رمزيَّة اعتباريَّة  وليست اعترافًا  صريحًا معبرًا عنه،  خاصَّة في عيون من لا يملكون هذه الصفة.  غير أن  هذه  المكانة الاعتباريَّة قد  تحمل في  طيّاتها نوعًا من  عدم القبول الاجتماعي  أو الرفض المجتمعي   لهذا الكائن المثقَّف  الذي يثير القلاقل والتساؤلات  ولا يكف عقله عن  الاشتعال  والتفكير المستمرّين  في قضايا المجتمع والدولة  إن  انتقادا أو تصويبا.

فهو كائن بحسب تعاريف  السوسيولوجين مثل بيير  بورديو  وغيره،  شخص مزعج للسطلة والمجتمع وللعقول الخاملة  على حدٍّ سواء، ( وهو  أيضا حارس للقيم والحقوق، لا يرضى بالواقع ، لأنَّ  مايقع  هو دوما مخالف لما يجب أن يكون ، أي  للمثل والنماذج التي يتخيلها للمجتمع والعالم ) 3 ،  فهو  لا يكل ولا يمل من النقد ومن توجيه النصائح وانتقاد سلوكات الأفراد وتوجّهات الدولة ومحاولة  فك الخيوط الناظمة للإجتماع الإنساني، ممَّا يقلق معه  راحة من لا يستطيع مسايرته، وهو أيضا يزعج البسطاء من الشعب  بكشفه بعض الحقائق المخفيَّة عنهم  من خيوط الفساد الإداري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي  ممَّا يزعج به  عقولهم  ويقلق رحتهم  لأنَّهم   يفضِّلون البقاء في منطقة الراحة  على الدخول لمنطقة حرق الأعصاب و تعكير المزاج حين اكتشافهم هذه الحقائق المرعبةأحيانا، فيكتفون بترديد بعض العبارات والدعوات  التي تمنحهم راحة نفسيَّة لحظيَّة /اللي بغا يسرق اسرق اللي بغا انجح انجح،  دعيانهم الله  هو ياخد الحق فهذا الشفارة / يقصدون  بدعواتهم المنتخبين  الفاسدين. وهو  نوع من التنفيس  عن الذات العاجزة عن مواجهة الفساد المستشري من قبل أصحاب الشكارة المنتخبين الفاسدين، المهم بالنسبة لهم  أن تستمر الحياة على بساطتها  لأنَّهم  عجزوا عن مواجهة الفساد  وتغيير الوجوه الفاسدة ،  وبهذا العمل التوعوي  يجلب  المثقَّف الشاب العضوي  لنفسه العداءات المجانيَّة في محيطه أحيانا لأنَّه يحرِّك المياه الراكدة .  يستعدي  الجميع ولو من أقرب المقرّبين إليه من أهله و أهل بيئته  و أيضا يخلق صراعات مع  الأعيان أصحاب  الشكارة  وهي  عداوة ضريبة الكلمة الحرَّة وضريبة الثقافة الملتزمة وضريبة الحلم بغد أفضل .

إنَّ هذا المثقَّف لا يلقى القبول الحسن في المجتمع  ويمكن تفسير ذلك بما يسمّيه علماء الاجتماع  والانثروبولوجيا بعامل المقاومة، المستمدَّة من ما يسمَّى الرواسب الثقافيَّة والاجتماعيَّة  ومعناه كتعريف إجرائي لهذا المفهوم  ( إنَّ  الرواسب  الثقافيَّة هي العمليات التي تشمل الأفكار  والعادات وأنماط السلوك والآراء، والمعتقدات، والاتِّجاهات التي  لا يزال  يحافظ   عليها  أفراد المجتمع  ويتمسَّكون بها  في الوقت الحاضر  بشكل  تلقائي وبلا شعور   بالرغم من  اختلاف  الظروف  والظواهر  التي نشأت  في  ظلِّها  عمَّا هو موجود حاليا، على اعتبار أنها  ميراث  الأجداد  ) 4 .  خلاصة هذا  التعريف  أنَّ  التغيير   يصعب حدوثه   في المجتمعات ماقبل صناعيَّة  إن  ثقافيا أو علميا أو  تكنولوجيا  ويبقى المثقَّف من  ضمن  هذه  الأشياء الخاضعة للمقاومة والرفض  في المجتمع  الذي يعيش فيه، عكس ما يجده مثلا  مول الشكارة  ( فكاك الوحايل صاحب الصولات والجولات)  من  قبول  لأنَّه  ينتمي إلى  البنيات  الاجتماعيَّة الموروثة  ما قبل صناعيَّة، فالأعيان   كانوا  عمدة  القبيلة  والمجتمع من قديم   ليستمرّ  دورهم  التاريخي، فالتواجد رغم  علم الناس المسبق بفساد أغلبهم، ورغم  الحركة  التنويريَّة  التي يقودها  المثقَّف  في مجتمعه  بدون  جدوى.

لأنَّ الأعيان   يخاطبون الناس بقدر من التواضع الكاذب مع إتقان  اللغة الأم التي توصلهم لذلك  وتمثيل دور المهموم بقضايا البسطاء  وهم  الذين  يبحثون  عن مصالحهم وفقط، الشيء الذي لا  يتقن فعله المثقَّف  الذي لا يجد إلى ثمثيل ذلك الدور سبيلا،   ولهذا يصبح عاجزا عن إيصال خطابه الفكري  أحيانا للبسطاء من أبناء حيّه وقريته،  ممَّا يجلب له الكثير من سوء الظن كوصفه ( بالمتكبر / عاطي فراسو /غير هو اللي قرا /، داك الفهايمي)  وغيرها من الأوصاف القدحيَّة بشحنات نفسيَّة  انهزاميَّة أمام  سلطة المثقَّف المعرفيَّة المتعالية  التي لم تجد إلى قلب البسطاء سبيلا والتي لا تسمن ولا تغني من جوع بنظرهم  (ازيد قريتو  فراسوا).

فهو في نظرهم ذلك المتعالي الذي يحتقر ثقافتهم البسيطة  ويريد تغييرها  و يحتقر تفكيرهم البسيط  ولا يفهم كيف يقدر بساطتهم، بل يريد أن يغيِّر من اعتقاداتهم  في طقوس الزواج وزيارة الأضرحة والتبرك بالأولياء والصلحاء وزيارة  السحرة والمشعوذين  و يستمرّ في التدخّل في شؤونهم الداخليَّة  وينتقد كذلك كيفيَّة تدبير معيشهم اليومي من سلوكات يرى فيها غباء  أو قلَّة فهم وإدراك.

إنَّ أغلبيَّة الناس في المجتمع  لايعترفون  بهذا المثقَّف المغرور بنفسه والمزهو بثقافته،  بالإضافة إلى أسباب أخرى تمنعه من اختراق بيئته بواسطة خطابه المتعالي،  كونه ينتمي إلى نفس الوسط ونفس المجتمع الذي نشأ  فيه ممَّا يشعرهم بالدونيَّة أمامه  وهم الذين فشل  أغلبهم في أن  يصيروا  مثله،   فهو بنظرهم لم يعد ذلك الشخص  بسيط البنية الفكريَّة  بل أصبح يملك أدوات تمكّنه من إدراك الواقع   وفهم خيوطه الناظمة والتي لا تتوفَّر للكثير من أبناء جيله وأبناء  مجتمعه،  لذا يصير منبوذ معرفيا  كفرد داخل هذا الوسط، إنها فقط المؤثرات  النفسانيَّة من تلعب دورها لتهميش دوره الغير مفهوم بنظرهم  عكس بوشكارة فكاك الوحايل  .

وينبغي أن نقرّ أنّ هذا الوسط الذي ينتمي إليه المثقَّف يقر بسلطته المعرفيَّة  في غيابه الجسدي  أو في المونولوجات الفرديَّة لأفراد القبيلة والمجتمع، ومع هذا الاعتراف في غيابه يصرّون على تحطيم صورته الرمزيَّة بحيث لا يطلب منه رأى او استشارة تخصّ تسيير شؤونهم إلا نادرا  خوفا من مزاحمة أعيان القبيلة  والمجتمع،  وهذا سر نجاح وتفوّق الأعيان   على النخبة المثقّفة المتعلّمة في هذه الأوساط، لأنهم  أي أصحاب الشكارة (الأعيان)  يمتلكون سلطة المال وسلطة الجاه وهذه السلطة قادرة على تأليب النفوس لصالحهم، نظرا لاعتقاد بسطاء هذا الشعب  أنَّ الأعيان   قادرين  على حلِّ مشاكلهم  ومشاكل أبنائهم في حال الحاجة  إليهم  لما يعتقدون  في الغالب  أنهم قد يتوسَّطون  لصالحهم  لدى بعض الشخصيات النافذة في جهاز  الدولة  للبحث عن شغل مثلا. فعلى الرغم من أن  أغلب الأعيان لايمتلكون مستوى دراسي عالٍ  مقارنة بفئة الشباب المثقَّف، فإنَّهم يستغلّون بنية الجهل والأميَّة المستشرية لإقناع الساكنة  بأهميَّة تواجدهم في السلطة  للدفاع عنهم   ليمارسوا  دورهم  التضليلي وليبحثوا  لهم  عن الوجاهة المجتمعيَّة والرياسة  وخلق علاقات واسعة وشبكة مصالح وسماسرة لا يفهم المثقَّف كيفيَّة اشتغالها رغم علمه وثقافته.

إذن يتَّضح  ممَّا سبق  أنَّ هذا المثقَّف غير قادر  على استثمار رصيده الثقافي لصالح اختراق وسط عيشه،  بل في الغالب يستسلم نظرا لحساسيته النفسيَّة  وترفعه عن القيل والقال وليس له من ثقافة التمويه والتضليل   التي للأعيان  نصيب.

لتبقى دار لقمان على حالها ويبقى المجتمع ضحيَّة تغوّل المال  والسلطة على حساب البناء والتنمية.  ثم هناك عوامل أخرى نذكر من بينها  أنَّ الذي  لا يحفِّز المثقَّف على التماهي  بقواه الكاملة والدفع إلى أقصى نقطة ممكنة  والصبر على إكراهات العمل السياسي  عدم يقينه وقلَّة ثقته من إمكانيَّة حصول  التغيير  المطلوب حتى في حالة  وصوله  مثلا إلى دواليب التسيير نظرا لحجم العراقيل التي توضع أمامه.

حيث أنَّ  طبيعة العمل السياسي  لا تساعد المثقَّف على المساهمة  في الدفع بالتنمية السياسيَّة والإقتصاديَّة والإجتماعيَّة  للبلد،  بحيث لم نلاحظ أنَّ الأحزاب التي انخرطت  في اللعبة السياسيَّة في عهد الحكومات السابقة أنها حقَّقت قفزة تنمويَّة نهضويَّة مهمَّة للبلد  كي يقتنع هذا المثقف باللعبة السياسيَّة من الأصل، حيث  يرى مساهمة الأحزاب من يمينها إلى يسارها  ووسطها،  مجرد أحزاب مشاركة تؤثِّث المشهد السياسي  حدود  تدبير الشأن السياسي  المرتبط بتدبير المدينة وشؤونها  وليس في صنع سياسات نهضويَّة حقيقيَّة،  وبالتالي يتَّضح أن  التنمية  الاقتصاديَّة   والاجتماعيَّة  لا تصنعها السياسات الحزبيَّة في الغالب.

وختاما، لا يمكن بخس دور النخب المثقَّف في خلق ديناميَّة تنمويَّة نهضويَّة مهما  أجحف الرأسمال  وخطابه في حقّهم إن أردنا  الإقلاع الحقيقي إلى مصاف الدول المتقدِّمة التي قطعت مع تسيير النخب الفاسدة  الجاهلة الأميَّة منذ قرون، وعلى العموم لوحظ في السنوات الأخيرة  عودة الثقة  من طرف المواطنين  للنخب المثقَّفة، وإن بشكل محتشم  نظرا لما تملكه من كفاءة معرفيَّة ومهارات وخبرات ورؤية استراتجيَّة قادرة على الدفع بعجلة التنمية .

____________

المراجع : 

1- جدل الوعي العلمي ( إشكالات الإنتاج الاجتماعي للمعرفة  ) / هشام غضيب.

2- المثقّفون في الحضارة العربيَّة (محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد)  / محمد عابد الجابري

3- أوهام النخبة أو نقد المثقف  / علي حرب.

4- ثقافة التنمية  (دراسة في أثر الرواسب الثقافيَّة على التنميَّة المستدامة ) / كامل عبد المالك.
_________
*محمد بن خالي

جديدنا