المدرسة ورهانات التطبيع الأيديولوجي؟

image_pdf

“الحكومات لا تريد شعبا يملك روحا ناقده، إنها تريد عمالا مطيعين، تريد أشخاصاً أذكياء فقط بما يكفي لتحريك الآلات، وأغبياء بما يكفي لقبول الوضع الذي يعيشونه.”  جورج كأرلين

 

تشكل التربية الأيديولوجية محورا أساسيا من محاور البحث في مجال العلوم التربوية والاجتماعية المعاصرة. وقد أخضع الباحثون هذه الظاهرة للدراسة والتحليل، وذلك للكشف عن المضامين الأيديولوجية في العملية التربوية ولاسيما في المؤسسات المدرسية. ولم تكن هذه المسألة في جوهرها حكرا على علماء الاجتماع، بل كانت محط أنظار المفكرين والباحثين من مختلف الفضاءات العلمية والفكرية وفي مختلف المراحل التاريخية المتعاقبة حيث نجد عددا كبيرا من الكتاب والمفكرين الذين كرسوا جهودهم لدراسة دور التربية في عملية التطويع الأيديولوجي للطلاب والمعلمين على حد سواء في مختلف المؤسسات المدرسية. وقد عمل فريق من المربين على توظيف التربية توظيفا إنسانيا وتوجيهها نحو التنوير الإنساني وجعلها أداة ووسيلة لتحقيق حرية الفرد والشعوب وصون الكرامة الإنسانية ويبرز هذا الاتجاه لدى كتاب ومنوري عصري النهضة والتنوير ولاسيما لدى مونتين ورابليه وروسو وكانط وديكارت وفيكتور هيغو وغيرهم من الكتاب ولمفكرين الذين تناولوا المسألة التربوية في عصرهم ووجهوها توجيها إنسانيا.

وعلى خلاف هذا التوجه الإنساني، لقد بينت الدراسات والأبحاث في كثير من بقاع الأرض أن الحكومات والأنظمة السياسية التي أنشأت أنظمتها التربوية كانت دائما توظف الأنظمة التربوية في عملية الضبط الاجتماعي لتطبيع الناشئة على أنظمتها الأيديولوجية من أجل المحافظة على سيطرتها وهيمنتها السياسية. والتاريخ يضج بالشواهد التربوية على فعالية هذه التوظيفات الأيديولوجية للدولة في مجال التربية وتكفي الإشارة في هذا السياق إلى التربية النازية ألمانيا، والتربية الفاشية في إيطاليا، والتربية الماركسية الستالينية في الاتحاد السوفييتي، والتربية الصهيونية (الكوبيتز)، والتربية الشيوعية، ومن ثم التربية البعثية في سوريا والعراق، والتريبة الناصرية في مصر والتريبة الليبرالية في أوروبا وأمريكا …. الخ.

ومن المعروف تاريخياً أن هذه الأنظمة التربوية جعلت من التطبيع الأيديولوجي الهدف الأساسي والمركزي للعملية التربوية برمتها، وقدمته على الوظيفة المعرفية والعلمية للمؤسسات المدرسية. ومن النادر في حقيقة الأمر أن نجد نظاما تربويا في العالم المعاصر لا يولي للتطبيع الأيديولوجي في المدرسة أهمية وخصوصية والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى وتعدّ.

ففي فرنسا على سبيل المثال تبنت المدرسة شعارا ثلاثيا قوامه: العلمانية والمجانية والإلزامية، وقد وظف هذا الشعار التربوي في ترسيخ مقومات الجمهورية الثالثة العلمانية ضد سلطة الكنيسة والملكية في آن واحد. فالرأسمال الإنساني يشكل عنصرا أساسيا من عناصر الإنتاج الرأسمالي ولذلك فإن الرأسماليون يعملون على دعم وتعزيز الأنظمة المدرسية العامة بالدرجة نفسها التي يحافظون فيها على مصالحهم الاقتصادية والطبقية.

فالأنظمة التعليمية المعاصرة تحاول تحقيق التوازن بين الأفكار الأساسية للتحرير الاجتماعي والفردي وبين ما تفرضه الدولة والمؤسسات الرأسمالية من أيديولوجيات وأنظمة فكرية. وفي هذا التوجه فإن النزعة الاقتصادية الحديثة في التربية تؤكد دفعة واحدة على أهمية الخبرات المعرفية (تراكم الرأسمال الإنساني) وعلى أهمية الجوانب النفسية والسلوكية، وتأسيسا على هذا التراكم للرأسمال الإنساني السلوكي والمعرفي يمكن بناء فهم واضح لأثر التربية في المجتمع.

يرى أصحاب النزعة الاقتصادية وفقا لنظريتهم في الاقتصاد الإنساني بأن تدخل الدولة في التعليم والتربية لا يمتلك على تبريرات واضحة المعالم. لأنه لو كانت عائدات التربية عائدات خاصة كليا فإن سوق العمل سيتفاعل مع تربية أو نظام تربوي فعال وهنا فإن الدولة تعزف عن التدخل. وإنه لمن المؤكد بأن الصعوبات المالية التي يعانيها الفقراء تمنعهم من الاستثمار في مجال الرأسمال الإنساني، فالنفقات المالية العالية للمدرسة تبرر عملية تدخل الدولة في مجال التعليم لتغطية النفقات وتمويل عملية التعليم لعامة الناس وذلك لأن الاستثمار الخاص لن يكون كافيا أبدا لضمان الرأسمال البشري الضروري في المجتمع. ومع ذلك يمكن للدولة أن تقدم مساعدات مالية مباشرة لذوي الأطفال والتلاميذ وأن تترك لهم حرية اختيار المدارس التي تناسبهم ومستوى التحصيل الذي يرغبون فيه.

تاريخيا يمكن الإشارة إلى أن التربية والتعليم على المدى الطويل كانت عملية تحتكرها المؤسسات الخاصة الدينية أو الطائفية، مثل: المدارس الكاثوليكية والمدارس اليهودية والمدارس الإسلامية، وبالتالي فإن عملية استبدال المدارس العامة بمدارس خاصة أدى إلى معارك سياسية حادة في مختلف البلدان.

فالدولة يمكنها وببساطة يمكنها أن تضمن تحويل رأس المال البشري في أنظمة تربوية لا تقوم هي بمراقبته بصورة مباشرة، فالدولة تقوم بوضع المعايير والأنظمة والقيم وتحدد هوية المعلمين وطبيعة الإدارة ونسب الطلاب وأعمارهم والسلم التعليمي وتوجهات العملية التربوية وتترك للمدرسة أن تقوم بدورها الطبيعي في عملية بناء رأس المال الإنساني الذي سيتوافق بالضرورة مع إرادة الدولة وتوجهاتها السياسية والأيديولوجية.

وفي نسق الفعاليات التربوية التي تقوم بها المدرسة يمكن التمييز بين المهارات المعرفية والمهارات السلوكية النفسية. وهنا فإن الدولة غالبا لا تهتم بالنتائج الاقتصادية للمدرسة بل بالتأثيرات الاجتماعية والأيديولوجية. حيث يترك للتنظيم الإداري للمدرسة أن يفعل فعله وبعد ذلك فإن الدولة تترك للمدارس الحرية في تزويد المعلمين بالإرشادات الضرورية لأداء عملهم بصورة فعالة على نحو تحقق فيه لتصوراتها الأيديولوجية مجالا حيويا للتشكل في وعي الطلبة والمعلمين في آن واحد.

ومن الواضح أن الدولة يمكنها أن تتدخل مباشرة في ترسيخ أيديولوجيتها وتوجيه الفعاليات المدرسية في اتجاه بناء التصورات والقيم الأيديولوجية المطلوبة، ولكنه يصعب عليها ضبط عملية التحويل الأيديولوجي التي تتعلق بعناصر غير قابلة للتحديد والتي يمكنها أن تندرج في البرامج المدرسية وفي عملية التعليم التي تتصف بطابع التعقيد وهي عناصر ترتبط بمشاعر الطلاب وقيم المعلمين. ولأن الدولة لا تقوم بمراقبة عملية التحويل الأيديولوجي في المدارس الخاصة فإن الآباء يختارون لأبنائهم المدارس التي تتوافق أيديولوجيا مع تطلعاتهم وميولهم الفكرية والأيديولوجية. وهذا الخيار يؤدي مع عملية التراكم عبر الزمن إلى نوع من التعدد الأيديولوجي في المجتمع. وهذا التعدد هو الذي يبرر للدولة تدخلها في ضبط النظام التعليمي من أجل المحافظة على التجانس الأيديولوجي في المجتمع. ومع ذلك نلاحظ واقعيا أن بعض الجماعات الدينية والعرقية تحظى في كثير من البلدان بحقوق إنشاء مدارسها الخاصة.

وباختصار وظفت التربية تاريخيا توظيفا أيديولوجيا وما زال الطابع الأيديولوجي يسم حياة المدرسة والمؤسسات التربوية التي لا تتجاوز خارج حدود وظيفتها المعرفية عملية التطبيع والأدلجة والترويض العقائدي الذي يصل إلى درجة الدوغماتية من أجل تأكيد الهيمنة السلطوية للأنظمة السياسية والفكرية السائدة في المجتمع.

وهذا ما تؤكده النظريات الاجتماعية المتواترة وهذا ما نجده عند علماء الاجتماع النقدي مثل باولو فرايري في كتابه تعليم المقهورين، وإيفان إليتش في كتابه مجتمع من غير مدرسة، وبيير بودون Boudon R في كتابه «تفاوت الحظوظ L’inégalité des chances وكتاب بيير بورديو واستابليه “معاودة الإنتاج، وفي كتاب كل من بودلو Baudelot واستابليه Estabelet «المدرسة الرأسمالية في فرنسا L’école capitaliste en France الذي أخذ صدى عالميا، إذ يتناول فيه الباحثان وضعية المدرسة الفرنسية بوصفها أداة أيديولوجية توظف في خدمة الطبقات الاجتماعية البرجوازية وتعمل على تعزيز هيمنة وسلطة هذه الطبقة على حساب الطبقات الاجتماعية الشعبية. وفي إطلالة خاطفة على الأوضاع الأيديولوجية في بلداننا اليوم نجد أن الأنظمة الأيديولوجية لا تتبنى أي اتجاه من الاتجاهات الفكرية مثل الليبرالية أو العلمانية بل تتبنى اتجاها واحدا هو التطبيع والترويض عبر التجهيل والقضاء على كل أشكال الوعي النقدي ويمكن أن تعبيرا عن هذه الصيغة في قول علي شريعتي “المعلمون في بلادي بؤساء، أتعرف لماذا؟ لأن حكامنا طغاة، والطغاة كانوا عبر التاريخ ضد تعليم الشعب مهما ادعوا، فالتعليم يعني الوعي، والوعي يدفع المواطن للمطالبة بالحقوق ومحاسبه الحكام.” وهذا هو الأمر الذي يخشاه الحكام الطغاة، وتلك هي الحقيقة التي تفصح عن نفسها في كثير من البلدان العربية والنامية عبر ممارسات التجهيل والتدمير المنظم للعقل والعقلانية في مختلف الحقول المعرفية.

___________
*
أ.د. علي أسعد وطفة

جامعة الكويت – كلية التربية

 

جديدنا