التعليم الإيجابي وصفة شاملة للنهوض بالعمليَّة التعليميَّة

image_pdf

تواجه منظومة التعليم التقليدي في الآونة الأخيرة تحديات كبرى، خاصةً بعد النجاحات التي حققتها استراتيجية التعليم الإيجابي في بعض المجتمعات المتقدمة فلندا نموذجاً، حيث تهدف تلك الاستراتيجية إلى تغيير الرؤية التقليدية للعملية التعليمية، وإلى تعزيز الرفاهية والسعادة من منظور كلي في الصف الدراسي وما بعده، وتزويد الشباب بالمعرفة والمهارات الحياتية للازدهار في حياتهم الحالية والمستقبلية. ويعتمد هذا النهج التربوي- التعليمي المعاصر على رؤية علم النفس الإيجابي، وهو الدراسة العلمية للازدهار البشري والأداء الأمثل، ويركز على نقاط القوة والفضائل التي تمكن الأفراد والمجتمعات والمؤسسات من النجاح.

وكما نعلم جميعاً، أن الاتجاهات الإيجابية تشكل عاملاً مؤثراً في بناء العلاقات العملية والاجتماعية، والمشاركة الفعالة في الحوارات وترك انطباع إيجابي عن شخصية الإنسان. لذا تسعى برامج التعليم والتدريب الحديثة إلى تقديم المعارف والمهارات العملية وإلى تعزيز الاتجاهات الإيجابية، التي تساعد الإنسان على احترام الآخرين، وحب العمل، والتفاعل الإنساني الإيجابي. أي أنها طاقة تولد الانضباط والشغف بالعلم والعمل، فهي مفتاح الشخصية في التعارف وفي مقابلات التوظيف، وهي التأسيس للسلوك الحضاري في المواقف المختلفة، وهي المعبر عن شخصية الإنسان وثقافته وتربيته والقيم التي يؤمن بها. هي موضوع يندرج تحت العلوم السلوكية القائمة على مبادئ تساهم في فهم السلوك الإنساني، وهو موضوع يستحق العناية به منذ مرحلة الطفولة الأولى.

وعلى العموم يمكننا الجزم بأن التفكير الإيجابي يعتبر أحد أهم المهارات التي نستطيع من خلالها التغلب على العوائق التي تواجهنا في حياتنا وأثناء سعينا لتحقيق أهدافنا، وبالتالي يجب أن نحاول دائماً تقوية هذه المهارة لما لها من منافع جمّة، منها التفكير الإبداعي أو التفكير خارج الصندوق، حيث يساهم التفكير الإيجابي في إيجاد قاعدة صلبة من العلاقات الطيبة بين الأشخاص والتي تدوم لفترات طويلة جداً، وذلك لكون الإيجابية هي بداية الطريق للنجاح والثقة بالنفس. ولكن كيف يمكن لنا تعلم التفكير الإيجابي؟

في حقيقة الأمر تعتبر بيئات التعلم الإيجابية والمنتجة مفتاح النجاح الأكاديمي والعاطفي والاجتماعي للطلاب في المدرسة والجامعة، غير أن هذه البيئات لا تُخلق من تلقاء نفسها فهناك العديد من المكونات التي تدخل في خلق بيئة تعليمية إيجابية للطلاب، توفر بدورها مناخاً من الأمان وتعزز التفاعل الإيجابي والمهارات الحياتية الأخرى لديهم، وهو الأمر الذي يستحقه جميع الطلاب، حيث تبقى القيم والأدوار ثابتة ويتم التركيز على الجوانب الإيجابية للتعلم، فيكون الطالب أكثر تفاعلاً وانفتاحاً وذلك لتأثير هذه البيئة وقدرتها على التحفيز الكلي للطالب، وكقائد تربوي في الصفوف الدراسية فأنت الشخص القادر على خلق هذه البيئة لطلابك.

ففي عام 1998 طوّر رئيس جمعية علماء النفس الأمريكيين ” مارتن سليجمان”  – مؤسس علم النفس الإيجابي وأستاذ علم النفس في مؤسسة زيليرباك فاميلي في جامعة بنسلفانيا- عملية ” التفكير الإيجابي ” وحوله إلى “علم للنفس الإيجابي“، كعلم يقوم بالدراسة العلمية لما يحقق السعادة للناس مهتماً بجميع تفاصيل الحياة الإيجابية ما يسهم في تحسينها وعيشها بشكلٍ أفضل، ويهتم بالأمور التي تساعد الفرد ليكون قوياً داخل مجتمعه من خلال التركيز على صفاته الإيجابية، وتطويرها وتحسينها لتعود بالنفع عليه، وعلى المجتمع الذي يعيشه.

أولاًتعريف علم النفس الإيجابي: هو الدراسة العلمية للسعادة الإنسانية، ودراسة مكامن القوة والفضائل الإنسانية. فالغاية الرئيسية لعلم النفس الإيجابي تتمثل في قياس وفهم وبناء مكامن القوة الإنسانية وفضائلها، وصولاً إلى إرشادنا في تطوير ” الحياة الجديدة أو الطيبة “. فهو علم يركز على أوجه القوة عند الإنسان بدلاً من أوجه القصور، وعلى الفرص بدلاً من الأخطار، وعلى تعزيز الإمكانات بدلاً من التوقف عند المعوقات. ومن أهدافه: تنشيط الفعالية الوظيفية والكفاءة والصحة الكلية للإنسان، بدلاً من التركيز على الاضطرابات وعلاجها. فعلم النفس كما يقوم على تقويم مكامن القوة. وبالتالي يأخذ دور وقائي لمن يعيش بحالة جيدة من التوافق النفسي، كما أنه يساعد من يعاني من مشكلات بالتوافق النفسي والاجتماعي من خلال تدعيم ميكانيزمات التوافق لديه. ولكي نجعل من ثقافة التمكين وبناء القوة في الخط الأمامي في علاج الاضطرابات النفسية والوقاية من المرض النفسي، ينحصر موضوع علم النفس الإيجابي في عدة مستويات وهي كالآتي:

– المستوى الذاتي: حول الخبرة الذاتية الإيجابية الرفاهية الشخصية والسعادة (الماضي)، التدفق، السرور، المتع الحسية والسعادة (الحاضر) المعارف البناءة حول المستقبل والتي تتضمن التفاؤل، الأمل والإيمان.

– المستوى الفردي: يدور علم النفس الإيجابي حول السمات الشخصية الإيجابية، القدرة على الحب والعمل، الجسارة، الشجاعة، الحس والذوق الجماعي، المثابرة، التسامح، الأصالة، التطلع والانفتاح العقلي على المستقبل، الموهبة العالية و الحكمة.

– مستوى الجماعة: الفضائل والمؤسسات المدنية التي تدفع الأفراد الآخرين نحو المواطنة، المسؤولية، التواد مع الآخرين والاهتمام بهم، الإيثار، الأدب والذوق، الاعتدال والتوسط، التحمل وخلق العمل.

وإذا أردنا أن نلخص أهداف علم النفس الإيجابي بصيغة مركزة لأمكن القول: بأنه يهتم ببناء التمكين الشخصي وحسن الحال الذاتي في الحياة. وأما التمكين فيتوجه إلى البحث في وسائل بناء الاقتدار لكل الفئات العمرية       ( الكبار والشباب والصغار ) وذلك على مختلف المستويات الذهنية والمعرفية والسلوكية والمهنية والاجتماعية والعامة. وأكثر ما تطور عن هذا التمكين هو ” التفكير الإيجابي“.

وقد وضع ” مارتن سليجمان ” تصنيفاً لخصال الشخصية الإيجابية تضمن أربعاً وعشرين خصلة تتلخص في ست فضائل، وهي: الحكمة والمعرفة والشجاعة والحب وضبط النفس والسمو، وأن توظيف الإنسان لهذه الخصال يجعله يحقق السعادة الحقيقية. ويمكننا أن نعدد أهم هذه السمات على الشكل الآتي:

– العدل وذلك من خلال تنمية الشعور بالمواطنة والانتماء والقيادة.

– المعرفة والحكمة بتشجيع الأفراد على حب التعلم وبعد النظر.

– الاعتدال وضبط النفس حيث يقوم العلماء بتعزيز فضائل معينة كالاحتشام والرحمة والتسامح وهذا ما يؤكد عليه الدين الإسلامي.

– الشجاعة المربوطة بالمثابرة والحيوية والمواظبة.

– الإنسانية ويتم تعزيز هذه الفضيلة من خلال مشاعر الحب والعطف.

لذا يؤمن اليوم أرباب التربية والتعليم بأهمية ” التعليم الإيجابي ” كنهجٍ واستراتيجية وممارسة تطبيقية في التعليم، معتمداً على تركيز “علم النفس الإيجابي” على القوة الذاتية لتعزيز التعلم ورفاهية المتعلم. بمعنى آخر يمكننا اعتبار مفهوم ” التعليم الإيجابي” نهجٌ يساعد على تعزيز الثقة بالنفس ومساعدة المتعلمين على تحقيق الدافعية وزيادة الإنتاجية، مع ممارسة قيمة السعادة والفرح والمشاعر الإيجابية، وهذا ما يقودهم إلى العيش بشكل سليم.

وتؤكد التجارب التربوية والعالمية في مجال تطبيق ” استراتيجية التعليم الإيجابي ” بناءً على منهجية سليجمان حول العواطف الإيجابية والصحة الإيجابية والمشاركة والعلاقات والمعنى والانجاز والهدف الإيجابي     ( PERMA ) ، حيث نجد مدرسة (Geelong Grammar  ) الاسترالية منذ عام 2008، وهي تتبنى شعار ” نتعلم أفضل إن كنا سعداء “، وتمارس المدرسة استراتيجيات علم النفس الإيجابي من خلال الجمع بين التأمل والتدريس، للإحساس بالسعادة كممارسة منتظمة بمنظومة واحدة مع الطلاب. لكن السؤال الذي يطرح نفسه ماذا يعني مفهوم التعليم الإيجابي؟

ثانياً – مفهوم التعليم الإيجابي: يُعرف التعليم على العموم بأنه عملية منظمة يتم من خلالها إكساب المتعلم الأسس البنائية العامة للمعرفة بطريقة مقصودة ومنظمة ومحددة الأهداف، وبظهور المدنية و تطورها، أنشئت المدارس أو ما يعرف بالتعليم النظامي الذي يطلق عليه في مجتمعاتنا العربية لفظ ” التربية والتعليم ” والتي تتفق تماماً مع أصول التركيب اللغوي للترجمة الإنجليزية Education بمعنى الإنماء والرعاية. كما يشير التعليم إلى أنه العملية المنظمة التي يمارسها المعلم بهدف نقل ما في ذهنه من معلومات ومعارف إلى المتعلمين (الطلبة) الذين هم بحاجة إلى تلك المعارف والمعلومات. ومعنى ذلك أن عملية التعليم عملية مقصودة ومنظمة يخطط لها قبل حدوثها ويتحكم المعلم في شروطها وعناصرها وأهدافها. أي أنه يرتبط بوجود فترة محددة لعملية التعليم قد تمتد إلى أشهر أو قد تكون سنة أو قد تكون عدّة سنوات على سبيل المثال التعليم المدرسي، أو الجامعي، أو الدورات التدريبية التي تمتد لأشهر كثيرة أو إلى سنوات عديدة. وعلى العكس من ذلك مفهوم التعلم.

ومن أبسط الأمثلة على عملية التعليم هو ” تعليم قيادة السيارة “، حيث يخضع الفرد الذي يريد أن يتعلم كيفية قيادة السيارة إلى دورة تدريبية منظمة ومحددة من قِبل مدرب مختص يتلقى من خلالها مجموعة من الدروس النظرية والعملية في مجال القيادة، وعند انتهاء عملية التعليم يفترض من المتدرب أن يتقن المبادئ الأولية لقيادة السيارة بشكل جيد، وإن لم يتقنها يكون بحاجة إلى وقت إضافي حتى يتعلم المزيد ويتقنها في نهاية الأمر، ثم يخضع بعد ذلك إلى امتحان لتحديد مستوى قدرته على قيادة السيارة، مما يخوله الحصول على رخصة القيادة. وعلى العموم ترتكز طرق التعليم الحديثة على مجموعة من المرتكزات، التي تسعى إلى تحرير المتعلم من كل القيود التي تعوق تعلمه، وتفتح المجال أمامه من أجل الإبداع و العطاء و المشاركة وتبادل الخبرات. ومن أهم هذه الطرق في وقتنا الحالي التعليم الإيجابي.

وفي حقيقة الأمر، يعتبر التعليم الإيجابي منهجية على نطاق المؤسسة التعليمية لتحقيق رفاه الطلاب والموظفين ويجمع بين علم النفس الإيجابي وأفضل الممارسات في التعليم ليحفز ويدعم الأفراد والمجتمعات من أجل تحقيق الازدهار. بمعنى آخر التعليم الإيجابيهو توجه إيجابي عالمي، بحيث أنه يمزج بين التعلم الأكاديمي والشخصية، ومن خلاله يتعلم ويزود الطلاب بالمهارات الحياتية كالمثابرة والتفاؤل والمرونة والتنمية الفكرية والتفاعل والتركيز الذهني الكامل وغيرها. حيث تشير التقارير أن التعليم الإيجابي يعمل على صقل المواهب الفكرية للطلاب وعلى تطوير مجموعة كبيرة من نقاط القوة وزيادة الكفاءات الفردية التي تعمل على دعم المجتمع”.

هو حل بديل للخوف من الفشل والضغط النفسي التي تمارسه المدرسة على التلاميذ والطلاب، بهدف تغيير النظرة العامة للتعلم وإلى الحياة عموماً. فمن الأصح أن نسأل ” كيف تنجح في حياتك ؟ ” أم ” كيف تكون ناجحاً في الحياة ؟ ” في هذا السياق ربما يتضح من هذا السؤال للوهلة الأولى أنهما متقاربان، لكن هو على العكس من ذلك، فالأول يعتبر أكثر شمولية، فحياة الفرد ليس مختزلة في شخصه ولا في ما يفعله فقط. لهذا، يتحتم علينا أن نسأل أيضاً ” كيف تريد أن تصبح في حياتك ؟ ” وليس “ما الذي تنوي فعله لاحقاً في حياتك ؟

ربما الأمر ينحصر في إطار فلسفة، توجيه نظرة الطالب إلى جانب مختلف من التعلم، ومحاولة اقتراح أساليب حديثة بعيدة عن تلك الكلاسيكية التي تختزل التعلم في أسوار المؤسسات وفي العلامات الدراسية المحصل عليها فقط لتحقيق حاجياتهم العقلية والوجدانية والمهاراتية. فالتعليم الإيجابي توجهاً تعليمياً يمزج بين التعلم الأكاديمي والشخصية والرفاه، حيث يزود الطلاب بمهارات الحياة كالمثابرة والتفاؤل والمرونة وتنمية الفكر والتفاعل والتركيز الذهني الكامل وغيرها. ويعتمد التعليم الإيجابي على علم الرفاه والسعادة.

وهكذا تعتبر المدارس من وجهة نظر التعليم الإيجابي أماكن لصقل المواهب الفكرية للطلاب وتطوير مجموعة واسعة من نقاط القوة والمزايا والكفاءات الشخصية، التي تدعم مجتمعة رفاههم، ويختلف ما يبدو عليه هذا الأمر من دولة لأخرى ومن مدرسة لأخرى، ولكن جوهره هو التوجه ” الشخص والأكاديمي” في مجال التعليم.

ثالثاً- أسس التعليم الإيجابي: إن العملية التربوية والتعليمية بجميع جوانبها تعتمد بدرجة كبيرة على فاعليات المواقف التدريسية. فالتدريس الفعال يحتل حجر الزاوية بالنسبة لتحقيق أهداف العملية التربوية إذ على أساسه يتحقق القصد من عملية التعليم والتعلم، وبذلك تكون مخرجات العملية التعليمية والتربوية إيجابية.

ويعتبر التدريس فعالاً إذا كان هناك تفاعل متبادل بين المعلم والمتعلم بقصد تحقيق أهداف ومطالب تعليمية وتربوية ولا تتوقف مخرجات التدريس الإيجابي على حدود التعامل بين المعلم والمتعلم، وإنما يرتبط بطبيعة المقرر الذي يتم تعليمه من حيث السهولة والصعوبة وعلى نوعية التقنيات التعليمية من حيث توافرها أو عدم توافرها.

كذلك تتوقف فاعلية عملية التدريس علي بيئة التعلم حيث يجب أن تتوفر في بيئة التعلم النظام وتحديد الأدوار والهدوء، أما إذا افتقر المناخ التدريسي إلى الهدوء وارتفع ضجيج الطلاب وصياح المعلمين، فإن الفوضى ستعم وسوف يفتقر الموقف التدريس للفاعلية المنشودة وبالتالي لن يتحقق التدريس الفعال.

يقوم التعليم الإيجابي على ثلاث أفكار أساسية، تنطلق من أن موارد التعلم تنبع من الشخص نفسه، عقله، قلبه، وجسده هما انطلاقة تعلمه، مهما كان الوضع. لا يوجد فشل، بل هناك محاولات فقط. حيث يمكن للطالب بذل الجهد ومحاولة القيام بعمل جيد دون أن يكون هذا مرادفاً للمعاناة. وتنحصر تلك الأسس بما يلي:

– الحضور الذهني: على المتعلم أن يدرك كيفية عمل العقل والخصائص التي تتمتع بها الذاكرة، وكذا نموذجه التعليمي والعمليات العقلية التي تجرى في الدماغ خلال التعلم. معرفة الأمر ستساهم في توجيه الشخص للطرق الأنسب له، فهناك من يحفظ بصوت عالي بينما هناك من لا يستطيع فعل ذلك، أيضاً هناك من يتمتع بذاكرة بصرية قوية، وهناك في المقابل من يملك ذاكرة سمعية أكثر قوة… هي أمثلة إذاً لا يمكن تحديدها إلا بمعرفة ومتابعة آليات العقل والذاكرة التعليمية عن كثب. فالهدف النهائي هو تطوير أفكارهم الخلاقة والمفيدة.

– السلامة الجسدية: حيث يعتبر من أهم عناصر التعلم، حيث يرفض علم التربية الإيجابية حبس الطالب في مقعد وطاولة وإرغامه على التعلم بهذه الطريقة الركيكة، فالتعلم يجب أن يقترن باستخدام الجسد سواء في الحركة أو استخدام الأيدي للتعبير… أيضاً، ويجب على المتعلم ألا يهمل حاجاته الفيزيولوجية من أكل وشرب ونوم وغيرهم، والتي لابد أن تُراعى بصورة متوازنة من أجل ألا تؤثر سلباً على القدرة التعليمية للشخص.

– الحالة الوجدانية: الجانب العاطفي والمشاعر لا يجب أن يُهمل أيضاً. فالقلق، التوتر، وحتى المثالية والضغط التعليمي يمكن أن يؤثر سلباً على المتعلم. لهذا، يجب مراعاة المشاعر وتغيرها قبل، أثناء وبعد العملية التعلمية، من أجل السيطرة عليها بصورة إيجابية.

وهكذا تقوم رؤية التعليم الإيجابي على إعداد الأفراد مع أهداف معينة في الحياة وتوفير الكفاءات لتحقيقها، بغية الوصول بهم إلى مجتمع تعلّم ينمي أفضل الميزات بالأشخاص، مما يسمح لهم بالازدهار. كما يعمل على تعزيز القيادة داخل نظام بيئي مخصص للرفاه والسعادة وعلى اكتشاف وتوسيع معنى الحياة للجميع، بما يعود بالفائدة على المجتمع .

رابعاً- وسائل التعليم الإيجابي: تستند وسائل التعليم الإيجابي على جانبين أساسيين في عملية التعليم، هما: أسلوب التعليم أو أسلوب التفكير:

أ – أساليب التعليم: هي الكيفية التي يتناول بها المعلم طريقة التعليم ( التدريس ) أثناء قيامه بعملية التدريس، أثناء قيامه بعملية التدريس، أو هو الأسلوب الذي يتبعه المعلم في تنفيذ طريقة التدريس بصورة تميزه عن غيره من المعلمين الذين يستخدمون نفس الطريقة، ومن ثم يرتبط بصورة أساسية بالخصائص الشخصية للمعلم. فمن أهم أساليب التعليم الحديث، ما يلي:

– التعليم التفاعلي: وهو طريقة حديثة ومبتكرة في التعليم تبتعد في أسلوبها عن الطرق التقليدية، كاللوح والطبشورة، حيث إنها تستخدم طريقة التشارك بين الطلاب في النقاش يجلسون بشكل دائري ويعرض كل طالب أفكاره ووجهة نظره للجميع حتى يستفيد كل فرد من الآخر في التفكير والوصول للحلول.

– التعليم الالكتروني: مع انتشار وسائل الاتصال الحديثة انتشر مفهوم التعليم الإلكتروني، والذي يعني التعليم باستخدام وسائل الاتصال الحديثة، من حاسوب، وشبكة انترنت، ووسائط مثل: الصوت والصورة، والفيديو، سواء كان ذلك في الصف الدراسي، أو التعليم عن بعد، وذلك بأقل وقت وجهد، وأكبر فائدة، وفي الكثير من الأحيان يكون التعليم الالكتروني في بيئة بعيدة عن المعلم، مما أتاح فرصة أكبر لعدد أكبر لتلقي التعليم بكل يسر وسهولةٍ.

– العصف الذهني: يعتبر هذا النوع من أنواع التعليم الحديث، حيث يضع الباحث أو المعلم مسالة أو فكرة ما في محل المناقشة والبحث والنقد من قِبل الطلاب لعرض أفكارهم ومقترحاتهم المتعلقة بحل المشكلة، وأن يفكر الطالب بإجراء بعض البحوث الأولية، فيمكنه أن يأخذ فكرة عن المواضيع، من خلال المنشورات على وسائل الإعلام الجماهيرية، مواقع التواصل الاجتماعي، والصحف، وقواعد البيانات، أو يسأل زملاءه، أو أحد من أفراد أسرته، ويجب عليه عند البحث أن يهتم بالمعلومات التي تثير اهتمامه ، كذلك يجب عليه أيضاً أن يفكر بالأشياء التي يملك الكثير من المعلومات حولها.

– التدريب الميداني للطلاب: الأساليب النظرية وحدها لا تكفي لحصول الطالب على المعلومات المناسبة، واكتساب الخبرات، والمهارات المناسبة، التي تؤهله فيما بعد للخروج لسوق العمل، وهذا بالطبع ما دفع بعض الجامعات للاعتماد بشكل جوهري على أساليب التدريب العملي مما يتيح للطلاب فرصة لتطبيق المعلومات التي قام بدراستها خلال التحصيل الدراسي والمعرفي.

– أساليب التفكير:  يُعرف التفكير بأنه كل ما ينتج عن العقل الواعي، وهو وظيفة ذهنية ومجموعة من الخطوات المتسلسلة، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بصنع الأفكار، والقيام بالعمليات الإدارية والحسابية،… ولا يكون التفكير بغرض حل مشكلة ما فقط، وإنما يهدف كذلك إلى التذكر والتميز والتحليل. ويقوم التعليم الإيجابي على عدة خطوات، وهي كالآتي:

– الاسترخاء: والذي يساعد على تصفية الذهن والسيطرة على المشاعر وتوجيهها بطريقة سليمة. كما يعد الاسترخاء من أكثر الطرق العامة لتحسين الحالة المعنوية، وعندما تتعلمه ستجد أنه يمنحك إسهامات ملحوظة وتستحق الجهد المبذول للحصول عليها لتحسين حالتك المزاجية وطاقتك، ليس فقط عندما تشعر بالتوتر والقلق، بل في أوقات أخرى أيضاً، وتنمية الاتجاهات والعادات الدالة الاسترخائية له تأثير وقائي أيضاً، لذا يعتبر الاسترخاء لبنة أساسية لبناء اللياقة النفسية.

– التأمل: من أجل توسيع القدرة الابتكارية والنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة.

– التنويم المغناطيسي : حيث تساعد حصة شبه تنويم مغناطيسي على الاسترخاء وتجنب القلق وكذا تعزيز الثقة في النفس. للعلم، فقد تم توجيه حصص للأمر وقد أثبتت فاعليتها على المشاركين في العملية التعليمية.

– التفكير الإبداعي: ويعتمد هذا النمط من التفكير على الخروج عن المألوف، والابتكار في صنع الأفكار وتحويلها إلى حلول إبداعية قابلة للتطبيق. ويتميز بهذا النوع من المهارات الأشخاص ذو التفكير المبدع ويتميز بالإبداع والتميز والاختلاف في التفكير فأصحاب التفكير الإبداعي يمتلكون الموهبة والمهارة الفطرية ويظهر الإبداع كثيراً عند الاطفال. ويمكن لنا يمكن تنمية وتفعيل نمط التفكير الإبداعي من خلال إتقان الطالب المهارات المتعلقة بالتفكير الإبداعي التي يسعى التعليم الإيجابي إلى ترسخها لدى الطالب، وهي كالآتي:

أ- القدرة على التحليل: يعتبر تحليل مسألة ما شرطاً مسبقاً للتفكير الإبداعي بها، فالتحليل رفيق الفهم العميق لنص أو مجموعة كبيرة من البيانات.

ب- العقلية المنفتحة: يتطلب التفكير بطريقة إبداعية الإتيان بحلول لم يسبق لأحد التفكير بها، ولذا فالعقلية المنفتحة تفتح المجال لما هو جديد وإبداعي.

ج- حل المشكلات: من أهم ما يبحث عنه أصحاب العمل، هو قدرة المتنافسين على منصب ما على حل المشكلات، خصوصاً أنّها تتجدد وتحتاج لحلولٍ جديدة تناسبها.

د- النظام: ففي الوقت الذي يتطلب فيه التفكير الإبداعي أن تتم عملية الإبداع والتفكر خارج الصندوق، لا بد من أن تكون هناك قدرة على تنظيم الأفكار وشرحها للآخرين ليتمكنوا من الاستفادة منها.

ه- التواصل: هي مهارة تتشعب إلى مهارات التواصل المكتوبة والمحكية، بالإضافة إلى الاستماع الجيد، فالأولى مهمة لإيصال الأفكار لفريق العمل الجماعي، والثانية أساسية لفهم المشاكل وتحليلها.

– بناء العلاقات الإيجابية: يشكل التفاؤل بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، والنظر إلى الجميل في كل شيء محورها. وللعلاقات الإيجابية أثر فعال و قوي في نفسيتنا و أمور حياتنا اليومية والمستقبلية. لذا يجب تغيير نظرة المُتعلم –  كما أشرنا في البداية – وتبني تصور إيجابي مبني خاصةً على التعلم من الأخطاء ومحاولة تجاوزها بسهولة دون أن تترك أي أثر سلبي على الشخص أو على مساره التعليمي. وأيضاً، يجب عليه أن يصبح هو نفس مصدر تفاؤل وتشجيع لمن حوله من الزملاء أو الأصدقاء من أجل نشر روح التعاون والمتعلم الإيجابي بين الجميع. فمع نهج التعليم الإيجابي، أصبح من السهل المضي إلى مستوى من التعلم أعلى وأكثر حداثة.

خامساً – استراتيجيات التعليم الإيجابي: تعتبر بيئات التعلم الإيجابية والمنتجة مفتاح النجاح الأكاديمي والعاطفي والاجتماعي للطلاب في المدرسة. غير أن هذه البيئات لا تخلق من تلقاء نفسها فهناك العديد من المكونات التي تدخل في خلق بيئة تعليمية إيجابية للطلاب، توفر بدورها مناخاً من الأمان وتعزز التفاعل الإيجابي والمهارات الحياتية الأخرى لديهم. هناك بعض الاستراتيجيات البسيطة للتعليم الإيجابي التي يمكن للمعلمين والآباء والأمهات تطبيقها لخلق بيئة جيدة من خلال ما يلي:

1- الاستماع الجيد: معظم الطلاب يحاولون دائماً جذب الانتباه مما يجعلنا أن نكون حذرين للغاية عند الاستماع لهم. وهي تعكس اهتمامنا بهم، حيث يمكن استغلالها بمنتهى السهولة كعدم الابتعاد عن الطالب جسدياً، وعدم التحدث إلى شخص آخر أثناء التحدث معه، أو النظر بعيداً عند الاستماع له.

2- مخاطبة الطالب باسمه: أسماءنا هي هويتنا وعلينا استخدامها قدر الإمكان، لذلك وجب علينا كمربين حفظ أسماء الطلبة وكيفية نطقها بالشكل الصحيح.

3- جعل غرفة الصف بيئة آمنة: من حق الطالب أن يشعر بأنه يدخل بيئة آمنة تضمن له الراحة والأمان من لحظة دخوله إلى الغرفة الصفية، فلا نسمح لأي نوع من الإساءة سواء أكانت لفظية أو جسدية بأي حال من الأحوال، فنحن المسؤولون عن ما نسمح به في الغرف الصفية، وما يهم حقاً هو التزامنا في تقديم الحماية وخلق فرص متكافئة للجميع قبل السعي إلى تقديم التعليم.

4- استخدام التواصل البصري: التواصل البصري جزء مهم في خلق ثقافة الثقة، فالطالب يجب أن ينال الاهتمام الذي يستحقه كإنسان ذا قيمة، وعلينا أن نتعامل معه على هذا الأساس.

5- طرح الأسئلة المفتوحة: وهي تعتبر من أهم الطرق الفعالة لتحفيز القدرة على التفكير والإبداع والاستقلال هو طرح أسئلة مفتوحة، أسئلة ليس لها إجابة واحدة صحيحة أو خاطئة، وهذا النوع من الأسئلة مثل (ما رأيك؟) بدلاً من (لماذا؟) و(هذا ليس بالضبط ما أبحث عنه) بدلاً من (إجابة خاطئة). تثير الأفكار المذهلة وتفتح العقول ويمكّن المعلمين والطلاب من بناء المعرفة معاً  بحيث يشجع الطالب أن يفكر بحرية والمعلم من الحصول على أكثر من إجابة واحدة.

6- وضع ملاحظات إيجابية مجهولة المصدر: لتحقيق المزيد من المشاركة والإيجابية. يمكن للطالب إبداء ملاحظات صادقة وإيجابية مجهولة المصدر من خلال تمرير أوراق فارغة مع اسم زميل له في الأعلى وكل طالب يمكنه كتابة تعليق إيجابي صادق عن صاحب الاسم المكتوب ومن ثم يتم قراءة ومناقشة هذه الملاحظات، فهي بالواقع تعزز من احترام وتقبل الآخر.

7- الاصطفاف: في هذه الاستراتيجية يطلب المعلم من الطلاب الاصطفاف حسب مشاركة ومساهمة كل منهم وذلك من الأكثر إلى الأقل مشاركة، عندها سيلاحظ أن الطلبة سيحاولون تحسين أدائهم، هذا السلوك يشجع الطلاب على التنافس الإيجابي ويحفز لديهم القدرة على المشاركة والتحسن بشكل أكبر.

8- التعلم بالاكتشاف: تسعى هذه الاستراتيجية على تشجيع الطلاب على طرح الأسئلة واكتشاف المعلومات الذاتي من خلال عملية الاستقصاء والاكتشاف لما حوله. هي طريقة تعتمد بشكل أساسي على الطالب فتنمي التفكير الإبداعي لديه حتى يصل إلى النتيجة النهائية.

9- تحية الطلاب عند الباب: هذا السلوك من شأنه أن يخلق بيئة تعليمية مرحبة منذ البداية.

وفي نهاية يمكننا القول إنه لكي يتعلم الطالب عليه أن يشعر بالأمان والانخراط والتواصل وكيف يمكن أن يتوصل للسعادة أولاً. وأيضاً يجب تعليم الطلاب القيم الإنسانية الأساسية كالتقاسم، واحترام البيئة، والخدمات المجتمعية. وهذه هي شروط التعليم الإيجابي توفير البيئة المناسبة للطالب وهي تساهم في التحصيل العلمي وترتبط بتحقيق النجاح الأكاديمي والشخصي وبتحسين العلاقات الإيجابية، وتطوير المهارات الحياتية للفرد من أجل الانخراط الفعال في المجتمع.

وعلى العموم يعرف مجال التربية والتعليم تطوراً ملحوظاً من حيث الأساليب والطرائق التي يتم ابتكارها وتنفيذها داخل المؤسسات التعليمية وخارجها. حيث يسعى في مجمله إلى تدارك أسباب الفشل الدراسي والضغوطات النفسية، التي يواجهها الطلاب والتلاميذ، والتي تؤدي في الغالب إلى تراجع تحصيله المعرفي ونتائجهم الدراسية. لذا يسعى التعليم الإيجابي من خلال ما تقدم إلى اقتراح نظرة مغايرة وحديثة للتعليم تختلف من حيث أسسها وأساليبها وغيرهما تقوم على العلاقات الإيجابية والعواطف والصحة والمشاركة والانجاز والهدف الإيجابي.

وقد أصبحت تربية الأطفال في الآونة الأخيرة من المهام الصعبة والمخيفة التي تواجه الآباء، فالكثير من الآباء يتخوفون من الأوضاع الحالية في كل أنحاء العالم من تفشي الجريمة والعنف وفقدان براءة الأطفال. فأطفال هذه الأيام أكثر ذكاء، يعرفون المساومة من أجل نيل أي شيء يريدونه، فربما يجادلك طفلك الصغير مثل الشخص الراشد وهو مازال في عمر الخمس سنوات. وهذه التحديات تصعب مهمة الآباء لتربية أبناء يتحلون بمكارم الأخلاق من نزاهة وتهذيب وأمانة، وزرع كل القيم الفاضلة التي يتمنون أن تكون لدي أبنائهم. وبما أن التربية مهمة صعبة، فقد اجتهد العلماء لعدة عقود لإيجاد أفضل السبل التي من شأنها أن تكون أكثر فعالية في التربية. وقد أدت لهذه البحوث والدراسات إلى النهج المعروف باسم: التربية الإيجابية بواسطة التعليم الإيجابي .

والنتيجة الحتمية التي تتوصل إليها هذه الدراسة أنه سيتزايد الاهتمام من قبل واضعي السياسات التعليمية والمعلمين وأولياء الأمور في جميع أنحاء العالم لإدراج مفهوم التعليم الإيجابي في تصميم خططهم التربوية والتعليمية في المستقبل القريب. ومعنى ذلك أنه ستبرز حاجة واضحة لكي تأخذ الحكومات بمسألة التعليم الإيجابي – التعليم الذي يجمع بين المهارات التقليدية والتقنية اللازمة للنجاح في سوق العمل والمهارات الاجتماعية والعاطفية والمهارات الحياتية الأساسية التي تعزز الرفاه على محمل الجد.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: هل يمكن للأنظمة التعليمية والتربوية العربية والإسلامية توطين مفاهيم التعليم الإيجابي في سياساتها التعليمية؟

( ألقيت هذه المحاضرة التثقيفية على جميع طلبة جامعة ماردين بمختلف اختصاصاتهم في مقرر الأخلاق والحضارة والمجتمع ).

____
* د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.  

 

جديدنا