تجديد وتهذيب وإصلاح التراث (2)

image_pdf

مدخل شخصي:

لقد وجدت نفسي منذ عام 2003 تقريبا، وهي بداية عهدي بالعمل في مجال الأرشيف، وأنا مغرم بتاريخ المطبوعات والمجلات والصحف والكتب، وباختصار كل ما تنتجه المطبعة. أتعقَّب الحكايات ومسار تطوّرها إلى أن تتجسَّد أمامي كاملة وتصبح تامَّة. ففي 1879 اختار المشرفون على الوقائع المصريَّة الشيخ محمد عبده، بعد سلسلة من المقالات بالأهرام والتي أعلنت عن وجوده بقوة في الحياة الصحفيَّة، محرّرًا ثالثًا إلى جوار المحرّرين الأولين للوقائع الشيخين أحمد ومحمد عبد الرحيم. وبقي توقيع الشيخ محمد عبده محجوبا في العام الأول، ثم عكف على وضع تقرير ضخم عن إصلاح الوقائع وقدَّمه إلى رياض باشا الذي اهتمَّ واستمتع بهذا التقرير وكلَّفه بوضع لائحة لقلم المطبوعات وتحرير الجريدة الرسميَّة. ثم كافأه بتعيينه رئيسا لتحرير الوقائع الرسميَّة، وظهر توقيع الإمام محمد عبده لأول مرَّة بصفته المحرِّر الأول، في أكتوبر 1880. وقد تابعت فصول هذه القصَّة يوما بيوم وهي تتشكَّل أمام عيني وبين يدي، بداية من قراءة مقالات محمد عبده بالأهرام التي لفتت الأنظار إليه ثم بتتبّع نفس أسلوب كتابته لمعرفة ما يكتبه دون توقيع في الوقائع، ثم بقراءة تقريره إلى تعيينه وبداية عمله بالوقائع وافتتاحيّته فيها بعنوان: “دخول جريدة الوقائع المصريَّة في طراز جديد”، بل وأول اشتراك للوقائع في خدمة وكالة رويترز للأنباء. ومنذ 2003 إلى اليوم في 2021، أي زهاء ثمانية عشر عاما، عرفت فيها مبنى وقاعات ومخازن دار الكتب المصريَّة كما أعرف بيتي. وأسير خلف آلاف من مثل تلك الحكايات وأجمعها وأعيد بناءها، أعرف أبطالها في عِزّ أَلَقِها وحين تهوى. ولعلّنا نعود إلى تلك الحكايات فيما بعد، ومن الله العون.

وقد أتيت إلى مجال العمل في “الأرشيف” من مجال العمل في “التحقيق”، وتحقيق الكتب عند أهل الصنعة وبأبسط عبارة هو “بذل عناية خاصَّة بالمخطوطات حتى يمكن التثبّت من استيفائها لشرائط معيّنة، هي: العنوان واسم المؤلِّف، ونسبة الكتاب إليه، وأن يكون متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلّفه”. وكنت في بداية الطريق أعمل وأساعد بعض الأزهريين المحقّقين في البحث عن نسخ مخطوطة في مكتبة الأزهر أو في دار الكتب أو غيرها من مظانها. وتعرّفت وتعلّمت في تلك السنوات القليلة على كنوز التراث وجهد شيوخ المحقّقين في تقديمه، أحمد تيمور وأحمد زكي باشا، ومصطفى السقا، وعبد السلام هارون، وإبراهيم الإبياري، وعائشة عبد الرحمن، ومحمود شاكر، وأحمد شاكر، والسيد أحمد صقر، وشوقي ضيف، ومحمود الطناحي، وإحسان عباس، وحسين نصار، وغيرهم. وتعلَّمت مبادئ وقشور المنهجيَّة وطريقة العمل والتي استفدت منها حين انتقلت للعمل في تجميع الأرشيفات أو في بناء قواعد البيانات. واستفدت منها في الحياة بوجه عام بالدربة على الصبر والدأب والجد والتواضع وعدم الرياء وسخاء الجهد إلى ما لا نهاية، مع الإدراك بأنه -مهما بلغ- يظلّ “جهد المُقل” كما قال ابن خلكان في “وفيات الأعيان”.

 

عود على بدء، كانت الرواية الشفويَّة هي الطريقة التي وصلت إلينا بها المعارف والثقافة العربيَّة والإسلاميَّة واقترنت منذ البداية بالحرص على أمانة النقل والدقَّة، وهكذا وصلنا الشعر والقرآن والسنة، وأيام العرب وحكاياتهم. وبدأت الكتابة والتصنيف والتدوين على استحياء وقت الدولة الأمويَّة ثم تطوَّرت وأصبحت في أوجها مع بداية الدولة العباسيَّة. والتراث، الذي يعني ما يتركه الآباء لأبنائهم من إرث، كما سبق وأشرت، يمكن أن نقسمه إلى تراث مقدَّس وهو القرآن والسنَّة، وتراث غير مقدَّس وهو الإبداع الإنساني الصرف، وهو غير معصوم ويمكن، بل وينبغي، مراجعته وأحيانا تهذيبه. ومنذ بدأ “التدوين” في العصور الإسلاميَّة الأولى ظهر أيضا “التهذيب” ثم كان كانا صنوان لبعضهما، فمثلا كتاب “تاريخ دمشق الكبير” لابن عساكر وهو يقع في 80 مجلدا، ثم ظهر له “تهذيب تاريخ ابن عساكر” في 22 مجلّدًا وحذفت الأسانيد والمكرّرات. ومثلا كتاب “الكمال في أسماء الرجال”

وهو كتاب، أيضا، في علم الرجال وتحديدا في أسماء رجال الكتب الستة (الصحيحين والسنن) وأحوالهم، للحافظ المقدسي، والذي اختصره الحافظ المزي إلى “تهذيب الكمال”، ثم جاء بعده الحافظ ابن حجر واختصره إلى “تهذيب التهذيب”. ويمكن أن أسرد لك في التهذيب الكثير من العناوين، مثل: “تهذيب الكامل في اللغة والأدب”، “تهذيب المنطق والكلام”، “تهذيب إصلاح المنطق”، وغيرها الكثير. ولعلك قد لاحظت أن “التدوين” و”التهذيب” هو سنة تراثيَّة عريقة وصلت إلينا وليست بدعة. وحتى صحيح البخاري -رغم علو مكانته التي تعود إلى شروطه الصارمة في قبول الحديث- يمكن الاختيار منه وهو ما حدث في “صفوة صحيح البخاري” في أربعة مجلدات اختار أحاديثها وشرحها عبد الجليل عيسى أبو النصر، وأيضا “الألف المختارة في صحيح البخاري” في مجلدين للأستاذ المحقق عبد السلام هارون. ومثل ذلك حدث لكتب التفسير ومدوّنات الفقه وتصانيف الأدب ومؤلفات المنطق وعلم الكلام. فالاختصار والتهذيب هي مناهج قديمة وأصيلة في التراث نفسه. وفي اللغة أنَّ الشيء المُهذَّب، أي المُنقَّى ممَّا يَعيبه. وأما الاختصار فهو ترك فضول الكلام. وتجربة عبد السلام هارون في كتب “تهذيب سيرة ابن هشام” وتهذيب كتاب “الحيوان”، وعلّته ومنهجه الذي أشار إليهما في مفتتح تهذيب كتاب “الحيوان” يمكن أن نفهمها من قوله: “ولقد كنت قديما جلوت كتاب الحيوان لشيخنا الجاحظ، وبذلت فيه كل الجهد لأقربه إلى جمهرة العلماء والباحثين، فكان فيما أخبرني الناس عملا صادقا، رجوت أن يكون نافعا. ثم بدا لي من بعد أن أجلوه مرَّة أخرى لجمهرة الأدباء والشداة الذين حال بينه وبينهم صعوبة المنال. فلم يكن بد من أن أعرضه في ثوب من التهذيب لا إخلال فيه بنص الكتاب ولا بطريقة تأليفه، بل هو مساوق لطريقته، سائر على منهاجه”.

وسيرة ابن هشام هي مختصر لسيرة ابن اسحق، ثم جاء عبد السلام هارون وهذبها وأبقى على اللُّباب منها وترك الفضول والزيادة في الكلام. ونفس الأمر فعله بتهذيب كتاب “إحياء علوم الدين” للغزالي واختصره لكنه حافظ على عبارة الغزالي في نفس الوقت، وحذف الأحاديث الموضوع منه وترك الصحيح والحسن. ونعود مرة ثانية لصحيح البخاري، وهذا الكتاب كانت ثمرة عمل للإمام البخاري على مدار 16 عاما من الجمع والفرز والاختيار والنقد، وفق قواعد صارمة وضعها لنفسه للتوثيق، وكانت حصيلة فرزه واختياره و”تهذيبه” سبعة آلاف ومائتان وسبعة وتسعين حديثاً، وبحذف المكرّر يكون ألفان وسبعمائة وأحد وستون حديثاً. وقدم عبد السلام هارون منها ألف مختارة بعناية ودراية ووعي، وقام بتهذيب أسانيدها وتحقيق متونها وشروحها. ويمكن وصف تجربة عبد السلام هارون بأنها كانت ضربا من التيسير للأصول وإتاحتها لشريحة أكبر من القراء في الحدّ الأدنى، وفي الحدِّ الأقصى، تأكيد أنها اجتهادات بشريَّة قابلة للمراجعة والحذف والتنقيح والتهذيب. ومع دعوات المثقّفين الدائمة لتنقية كتب التراث (أنضج ما سمعت كانت كلمات أستاذي بشير السباعي المثقَّف الكبير الذي قال بتهذيب كتب التراث على طريقة عبد السلام هارون) يظهر أمامي دائما سؤال حول تعاطي هؤلاء المثقّفين مع هذا التراث أصلا؟  في معسكرنا نطرح الأفكار الكبيرة بتنقية البخاري وغيره، ونتشكَّك في أن يقوم رجال الدين بتلك المهمَّة بجديَّة، لكننا أيضا لا نستطيع ولا نملك الأدوات المنهجيَّة لتنقية البخاري ولا غيره من تلك الكتب. نتَّهم هذا التراث بأنه مصدر من مصادر الجمود في واقعنا وعقبة كؤود في طريق مستقبلنا، لكننا نترفّع عن تعلّمه ودراسته وفهمه بعمق وامتلاك أدوات تهذيبه وتجديده. وبين نمط المتديِّن الأزهري التقليدي الذي يحارب طواحين الهواء ويظن أن مهمّته المقدَّسة هي أن يحمي التراث من هجمات الشياطين، وبين المثقف المغترب المتعالي الذي يدعو إلى تفكيك وتنقية التراث هكذا دون معرفة وألفة مع هذا التراث وأدواته، يمكن أن نكون بحاجة إلى جسر بين الضفتين، إلى مثقَّف من نمط عبد السلام هارون، وهو أحد أكبر مثقّفينا وكان وكان قد درس بالأزهر في سنواته المبكّرة، ثم انتقل إلى مدرسة دار العلوم في الجامعة المصريَّة، وهو ممَّن اختارهم طه حسين فوثق به ووضعه ضمن لجنة من المحقّقين الأثبات لإحياء ذكرى أبي العلاء سنة 1943. وهو الذي أحب وحقَّق كتب الجاحظ ذو النزعة العقليَّة المعتزليَّة المحرَّرة بحب شديد وتعاطٍ وأمانة علميَّة نادرة. وهو من لم يجد حرجا في الاختيار والتهذيب من كتاب “صحيح البخاري” مع معرفته بعلو توثيق وشروطه، ولم ولن يشكِّك به أحد ذو اعتبار. والتهذيب والتنقية والاختيار للتراث، فرع عن التجديد لكنها لا تغني عنه. فالحاجة ماسَّة إلى المراجعة والتجديد والإصلاح العميق دائما، وإحياء قيم حريَّة الاختيار، وقيم الإنسانيَّة والعقلانيَّة داخل هذا التراث نفسه في مظانها وأينما وجدت.
_________
*الأستاذ ماهر عبد الرحمن: باحث وكاتب مصري.

 

جديدنا