الدول والثورات الاجتماعية

image_pdf

صدر عن سلسلة “ترجمان” في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الدول والثورات الاجتماعية: دراسة مقارنة بين فرنسا وروسيا والصين، وهو ترجمة نبيل الخشن العربية لكتاب ثيدا سكوكبول بالإنكليزية States and Social Revolutions – A Comparative Analysis of France, Russia, and China. يشرح الكتاب بنى الدولة والقوى الدولية والعلاقات الطبقية، ويبيّن كيف تجتمع هذه العوامل الثلاثة لشرح أصول التحولات الاجتماعية الثورية وإنجازاتها، ويقدم إطارًا مرجعيًا جديدًا لتحليل أسباب هذه الثورات والنزاعات الناجمة عنها ونتائجها. تبلور المؤلفة تحليلًا تاريخيًا مقارنًا لحالات رئيسة ثلاث: الثورة الفرنسية من عام 1787 حتى أوائل القرن التاسع عشر، والثورة الروسية من عام 1917 حتى ثلاثينيات القرن العشرين، والثورة الصينية من عام 1911 حتى ستينيات القرن العشرين. وترى أن هذه الحالات، على الرغم من حدوثها على مدى قرن ونصف، متشابهة؛ لأنها كانت ثورات اجتماعية. تنطلق المؤلفة من فرضية أن نظريات الثورة الحالية، الماركسية منها وغير الماركسية، غير كافية لتفسير الأنماط التاريخية الفعلية للثورات؛ فتحث على تبني منظورات جديدة في قراءة الثورات. وتؤكد أن النظر إلى الدول، بوصفها منظمات إدارية وقسرية قد تكون مستقلة عن الضوابط والمصالح الطبقية، يجب أن يكون أساسًا في تفسير الثورات.

تفسيرات وبدائل

يتألف الكتاب (555 صفحة بالقطع الوسط موثقًا ومفهرسًا) من سبعة فصول، موزعة بين مقدمة وقسمين. في مقدمة الكتاب، وفي الفصل الأول، “تفسير الثورات الاجتماعية: بدائل من النظريات الموجودة”، تقول سكوكبول إن فرنسا وروسيا والصين أظهرت أوجه تشابه في أنظمتها القديمة وسيروراتها ومآلاتها الثورية – وهي أوجه تشابه أكثر من كافية لتبرير معاملتها معًا كنمط واحد يستدعي تفسيرًا سببيًا متماسكًا. فقد حدثت الثورات الثلاث في دول زراعية غنية وطموحة سياسيًا، لم يخضع أي منها قط للاستعمار. كانت هذه الأنظمة القديمة أنظمة بيروقراطية – ابتدائية قائمة على حكم الفرد، تعيّن عليها فجأة مجابهة منافسين عسكريين أكثر تطورًا من الناحية الاقتصادية. وفي هذه الثورات الثلاث، امتزجت أزمات بتوسط خارجي بأحوال بنيوية وتوجهات داخلية لإنتاج وضع قوامه: عجز آليات الدولة المركزية التابعة للأنظمة القديمة؛ وحالات تمرد واسعة الانتشار قامت بها الطبقات الدنيا، ومنها الفلاحون على النحو الأكثر حسمًا؛ ومحاولات من جانب قيادات سياسية قادرة على تعبئة الجماهير لترسيخ سلطة دولة ثورية. وتمثل المآل الثوري في كل حالة بنشوء دولة – أمة مركزية وبيروقراطية وقادرة على ضم الجماهير مع تعزيز قدرتها بصفتها قوة كبرى في الحلبة الدولية، وأزيلت (أو أزيحت إلى حد بعيد) العقبات بوجه التغيير الاجتماعي الوطني، والتي كانت ترتبط بطبقة المالكين العقاريين العليا قبل الثورة، ونشأت أيضًا إمكانات تطوير جديدة بفضل ما حققته الأنظمة الجديدة من مركزية أكبر للدولة، ومن إشراك سياسي للجماهير.

في أسباب الثورات

يتألف القسم الأول، “أسباب الثورات الاجتماعية في فرنسا وروسيا والصين”، من فصلين. في الفصل الثاني، “تأزم أوضاع دول الأنظمة القديمة”، تقول سكوكبول إننا نحتاج إلى إدراك ماهية بنى الأنظمة القديمة والصعوبات التي كانت عرضة لها في الأوقات التي سبقت اندلاع الثورات، حتى نفهم طبيعة الأزمات السياسية التي أطلقت الثورات الفرنسية والروسية والصينية وأسبابها. ففرنسا وروسيا والصين ما قبل الثورة كانت بلدانًا تحفظ تماسكها أنظمة ملكية استبدادية منصبة على مهمات حفظ النظام الداخلي والتعامل مع الأعداء الخارجيين. وكان فيها دول إمبراطورية، هي عبارة عن تسلسلات هرمية إدارية وعسكرية متباينة ومنسقة مركزيًا، تعمل بإشراف الأنظمة الملكية المطلقة. هذه الدول الإمبراطورية ذات طبيعة بيروقراطية بدائية، ولم تكن أي دولة من هذه الدول الإمبراطورية على الدرجة التي ينبغي أن تكون عليها دولة وطنية حديثة من حيث المركزية الكاملة أو القوة في داخل المجتمع. ولم تكن الدول الإمبراطورية التي أقامتها الأنظمة القديمة في فرنسا وروسيا والصين في موقع يسمح لها بأن تسيطر مباشرة على العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية الزراعية المحلية.

بنى وانتفاضات

في الفصل الثالث، “البنى الزراعية والانتفاضات الفلاحية”، تتحدث سكوكبول عن وقوف الفلاحين ضد الأسياد الإقطاعيين في الثورة الفرنسية، وثورة القرى الفلاحية الجماعية في روسيا، وغياب الانتفاضات الفلاحية في الثورتين الإنكليزية والألمانية، وعجز الفلاحين وهشاشة الطبقة العليا في الصين. وتسوق المؤلفة حججًا تقول إن نظم الدولة التي تكون عرضة للانهيار الإداري والعسكري حينما يجري إخضاعها لضغوط مكثفة من دول خارجية أكثر تطورًا، وإن البنى الزراعية الاجتماعية – السياسية التي سهلت قيام ثورات واسعة النطاق ضد مالكي الأراضي، كانت، بأخذ الأمرين معًا، بـ “الأسباب المميزة الكافية للأوضاع الاجتماعية – الثورية التي بدأت في فرنسا في عام 1789، وروسيا في عام 1917، والصين في عام 1911”. كما تسوق الحجج السببية التي جرى تطويرها بإسهاب بخصوص كل من فرنسا وروسيا والصين، وكذلك الحجج المبينة بشكل أكثر إيجازًا إلى حد ما بخصوص بروسيا/ ألمانيا واليابان وإنكلترا بصفتها حالات مناقضة. غير أنّ الثورات الاجتماعية صُنفت على هذا النحو فحسب؛ لأنّ أزمات اجتماعية توّجت ببروز ترتيبات اجتماعية – سياسية جديدة، “وهكذا، فإنّ تحليلنا لا يمكنه الاكتفاء بالأسباب، بل يجب أن يمضي إلى إظهار ما الذي تغير في الثورات الفرنسية والروسية والصينية ولماذا نشأت هذه التغييرات بشكل منطقي من أوضاع اجتماعية – ثورية سبق لنا تتبع أصلها”.

مآلات الثورات

يتألف القسم الثاني، “مآلات الثورات الاجتماعية في فرنسا وروسيا والصين”، من أربعة فصول. في الفصل الرابع، “ما الذي تغيّر وكيف: التركيز على بناء الدولة”، تجد سكوكبول أن القيادات ذات التوجه الأيديولوجي في الأزمات الثورية كانت محدودة جدًّا بفعل الأوضاع البنيوية القائمة، “كما كانت عرضة لتأثيرات شديدة ناتجة من التيارات الثورية المتغيرة بسرعة. وهكذا انتهى بها الأمر عادة إلى إنجاز مهام شديدة الاختلاف وتعزيز توطيد أنواع من الأنظمة الجديدة مختلفة جدًا عن تلك التي كانت في الأصل (ربما على الدوام) تنوي أيديولوجيًا إقامتها. ويجب ألا يبدو هذا مستغربًا عندما ندرك هذه الحقيقة البسيطة ونفكّر بها: الأزمات الثورية ليست نقاط قطيعة تامة في التاريخ تجعل فجأة أي شيء ممكنًا إذا توخاه ثوار عازمون! وهنالك أسباب عدة لكون الأمر على هذا النحو. فالأزمات الثورية لها، من ناحية أولى، أشكال محددة، وهي تخلق تسلسلات من الممكنات والمستحيلات، طبقًا لكيفية نشوء هذه الأزمات أصلًا في أنظمة قديمة معينة بموجب أوضاع معينة”.

فرنسا حديثة

في الفصل الخامس، “ميلاد ’صرح دولة حديثة في فرنسا‘”، تتفحص سكوكبول مسار الثورة الفرنسية ومآلاتها من عام 1789 حتى توطيد النظام النابليوني. وتنتهي إلى أن فرنسا، بعد قرن من عام 1789، كانت لتصبح دولة صناعية رأسمالية. لكنها في التصنيع الرأسمالي، حتى ظلت موسومة بخصوصيات اجتماعية ومؤسسية: “فعلى الرغم من أجيال من التنمية الاقتصادية الحديثة، ظلت أعداد كبيرة من الفلاحين الفرنسيين متمسكة بالأرض كمستأجرين أو مالكين صغار؛ وكانت الدولة الوطنية الفرنسية على الدوام قوة كبرى في الحياة الاقتصادية، تصنع الفرص للمستثمرين من القطاع الخاص وتحطمها وتشكّل بعمق ملامح التنمية الاقتصادية الإقليمية والقطاعية”. تضيف المؤلفة: “إن الشروط المؤاتية عمومًا للتنمية الرأسمالية ليست وحدها ما يعزى إلى الإنجازات الكبرى للثورة الفرنسية، بل كذلك الأنماط الاجتماعية – السياسية التي جعلت فرنسا متميزة نسبيًا بين الأمم الصناعية الرأسمالية. في الواقع، تُفهم الثورة على أفضل وجه أنّها مكنسة عملاقة كنست هراء العصور الوسطى من امتيازات إقطاعية وخاصة – محررة على نحو مماثل طبقة الفلاحين وأصحاب الثروات الخاصة والدولة، من أعباء النظام القديم”.

دولة الحزب الروسية

في الفصل السادس، “نشوء دولة حزب دكتاتورية في روسيا”، تتعامل سكوكبول مع الأوضاع في روسيا من عام 1917 وصولًا إلى انتصار الستالينية في ثلاثينيات القرن العشرين. في رأيها، إنّ الثورة الروسية تعمقت واتخذت منحى راديكاليًا على نحو مفاجئ أكثر كثيرًا، قياسًا على الثورة الفرنسية بسبب الطرائق المتباينة التي نشأت بها أصلًا الأزمتان السياسيتان في الحالتين. وجرى توطيد الثورة الروسية من خلال وسائل ربما كانت أكثر إكراهًا واستبدادًا مما كان في الثورة الفرنسية؛ لأنه قد تعيّن في روسيا التي مزقتها الحروب بناء جيوش ثورية من الصفر بالكامل، بينما كان في إمكان اليعقوبيين في فرنسا توسيع الجيوش الدائمة الموجودة سابقًا. وتضيف المؤلفة أن روسيا كانت من الناحية الجيوسياسية تحتل موقعًا بالغ الضعف في داخل نظام الدول الأوروبية. وقد استطاع البلاشفة توطيد سلطة دولة الحزب على قاعدة حضرية – صناعية أولًا، ثم توسيع تلك السلطة من الأعلى لتشمل الفلاحين وتستخدم في دفع التصنيع الوطني السريع للاتحاد السوفياتي.

دولة الحزب الصينية

في الفصل السابع، “صعود دولة حزب قائمة على تعبئة الجماهير في الصين”، تحلل سكوكبول التطورات في الصين بعد عام 1911، مرورًا بعام 1949، وحتى ستينيات القرن العشرين. تقول: لئن كانت مآلات الثورة الصينية متميزة (خصوصًا مقارنة بالنظام الشيوعي الروسي)، فإنّ السؤال البدهي يكون: لماذا كان هذا صحيحًا؟ في رأيها، هناك ثلاث مجموعات من العوامل المهمة بشكل خاص: التركات الاقتصادية الموروثة عن النظام القديم، والحقائق الاستراتيجية لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والقدرات السياسية المتميزة التي راكمها الحزب الشيوعي الصيني في أثناء صعوده إلى السلطة.

ثيدا سكوكبول

أستاذة الإدارة الحكومية وعلم الاجتماع في جامعة هارفرد. تُعرف بصفتها مناصرة للمقاربة المؤسسية التاريخية والمنهج الُمُقارَن، إضافة إلى “نظرية الاستقلال الذاتي للدولة”. لها العديد من المقالات العلمية والمؤلفات، أهمها: حماية الجنود والأمهات: الأصول السياسية للسياسة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأميركيةProtecting Soldiers and Mothers: The Political Origins of Social Policy in the United States  (1992)، وتراجع الديمقراطية: من العضوية في الحياة المدنية الأميركية إلى إدارتها Diminished Democracy: From Membership to Management in American Civic Life (2003).

 

ترجمة: نبيل الخشن

مترجم لبناني خريج جامعة ليون بفرنسا. عمل مع الأمم المتحدة ثم في دول الخليج العربية رئيسًا لوحدات ترجمة متخصصة في الوثائق الرسمية والمقالات والدراسات الاقتصادية والاجتماعية. من ترجماته الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب زولتان باراني، الجندي والدولة المتغيرة: بناء جيوش ديمقراطية في أفريقيا وآسيا والأميركتين (2018).
_______
*المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. 

جديدنا