الفردوس الأرضيّ .. عبد الوهاب المسيري والحضارة الأمريكيَّة

image_pdf

 

لا يُقدِّم لنا الدكتور “عبد الوهاب المسيري” في كتابه “الفردوس الأرضيّ” معلومات عن “الولايات المتحدة الأمريكيَّة” وحضارتها الحديثة؛ لكنْ يُقدِّم لنا ما يمكن اعتباره رؤيةً فلسفيَّةً تأسيسيَّةً في نظرنا لهذه الحضارة في بُعدها الأشمل. ولا يُقدِّم “المسيري” هذه الرؤية إلا عنْ دعامَتَيْنِ واضحتَيْنِ: مُعايشة هذا الواقع الأمريكيّ؛ حيث عاش في أمريكا بين عامَيْ 1971:1963م، والفهم النظريّ التأصيليّ لهذه المنظومة الأمريكيَّة. ليَخرج -ونخرج معه- من التجربة وقد امتلكنا رؤيةً تُفلسِف الحضارة المُسيطرة على العالَم في هذه العقود، رؤيةً أتتْ من خلفيَّة فكر إسلاميّ وبعينَيْنِ عربيَّتَيْنِ.

سأعمد في هذا المقال إلى التعريف بالأفكار العُظمى التي جاء بها “المسيري” في كتابه؛ لكنْ لا يحسن فعل ذلك دون التعريف بالكتاب الذي لمْ يُشتَهَر بينَ الناس على غير عادة إنتاج “المسيري” الذي يُمثِّل واحدًا من أكبر الكُتَّاب العرب مبيعًا. هذا الكتاب الذي صدر في “بيروت” 1979م لمْ يُعَدْ طبعُهُ إلا في “القاهرة” عام 2014م عن دار “تنوير” -وهي الطبعة التي اعتمدت عليها-. وفيه يُدوِّن “المسيري” التجربة في أبواب أربعة؛ مُرتكزًا على عرض فكرته عن الفردوس الأرضيّ، مُعضِّدًا إيًّاها بالكثير من ملامح الحياة الأمريكيَّة في الستينات والسبعينات؛ التي تؤكد على نظرته أو تُبيِّن آثار المُنحنى الفكريّ للتجربة على الأمريكيِّين.

وقد استخدم منهجًا أقرب إلى التفكيكيَّة، مُعتمدًا على فعل التحليل التأمُّليّ. والكتاب سهل للقارئ العاديّ؛ إلا أنَّه يدخل حيِّز الصعوبة في بعض الأحيان. ومن الطريف في الكتاب أنَّ الكاتب -على عادته- يستخدم أسلوب السخريَّة ويميل إلى نقد بعض الأفكار بالتعبير عنها بصورة مُضحكة. منها تعليقه على فكرة النجاح عند اليهوديّ “بودورتز”: “أخيرًا الآلهة الحقيقيَّة اللُّوكس؛ فحتى الآن كنا نتعبَّد لآلهة درجة ثانية…”. وسأبدأ بتعبيره عن الحياة في “أمريكا”، ثمَّ أثنِّي بأهمّ أفكار الكتاب.

  • تعبيره عن الحياة الأمريكيَّة

أهمُّ ما يُطالعنا عندما ننظر لهذا المُجتمع الأمريكيّ من نظَّارة “المسيري” أنَّه مُجتمع شَرِهٌ تجاه استهلاك السِّلَع بمُختلف أصنافها؛ ولعلَّ هذه الرؤية من الداخل تردُّ على الوهم الذي ربَّانا عليه مُثقَّفونا العابدون للغرب؛ من أنَّ الأمريكيِّيْن أُمَّة تصنيع وعمل، لا أُمَّة استهلاك كما العرب! -وبغضّ النظر عن أنَّ استهلاكيَّتنا قد بدأتْ عندما مشينا على خُطا النموذج الأمريكيّ، وعلى إعاناته-. وكذا سنعرف سهولة التحكُّم في المجتمع الأمريكيّ؛ الذي يرتضع وعيَه من “ماما الإعلام”، الذي بدوره يدين بالولاء الكامل لرأس المال وإملاءاته.

سنجد مُجتمعًا تسيطر عليه الرأسماليَّة وتُخضع كلَّ مَن فيه إلى قواعدها؛ التي تستغلُّ الجميع مُقابل فُتات لا يُذكر. مُجتمعًا لمْ تتركْ له أحبالُ الحياة التي تلتفُّ حول رقبته فرصةً للاهتمام بالعالَم الخارجيّ. وسنجد “المسيري” يُسجِّل قمع المُعارضين مثلما حدث مع “اليسار الأمريكيّ” -الذي يتبع المنظومة الشيوعيَّة في الأُفُق الكُلِّيّ-، وكيف تحوَّلَ إلى كيان مُدجَّن مُقلَّم الأظافر. وسيُنبِّه على حالة الاختناق المُجتمعيّ من أُطُر التجربة الأمريكيَّة التي ولَّدتْ طُرُقًا للاحتجاج عليها.

من تلك الطُرُق حركة “الهِيبي” أو “الهيبيز” التي اجتاحتْ “أمريكا” في تلك الآونة؛ اعتراضًا على نموذج الرجل العصاميّ الناجح الذي يبني نفسه بنفسه من الصفر، الذي تقدِّمه التجربة. فقد أتتْ تلك الحركة لتُقدِّم الفشل وتُعلي من قيمته اعتراضًا على هذا النموذج. وكذا من الطُرُق تنظيماتٌ دينيَّة شتَّى مثل “أهل يسوع”، وحركات وتنظيمات عديدة للأمريكيِّين السُّود اعتراضًا على ما يُعانونه من ألوان اللاإنسانيَّة المُستفحلة في بلاد “الحريَّة والتقدُّم”! لكنَّ جميع هذه الأشكال الاعتراضيَّة لا تستطيع الوقوف أمام طوفان تيَّار المُجتمع العامّ.

ويُقارن “المسيري” في بابه الثالث بين نموذجَيْنِ يهوديّ هو “بودورتز” الذي انسجم مع الحُلم الأمريكيّ العظيم، وراح يُمحور نجاحه على منظومة الأهداف الأمريكيَّة؛ التي ترى النجاح في تحقيق أكبر قدر من الكسب الماديّ والمكانة الاجتماعيَّة المَظهريَّة. والنموذج الآخر مُسلم هو “مالكوم إكس” الذي لمْ ينسَقْ وراءَ الحُلم الأمريكيّ الزائف، لكنَّه أسلم ورأى الأشياء على حقيقتها وفي نصابها دون شطط. ولعلَّ هذا الباب يُعبِّر “المسيري” من خلاله عن زاوية نظره التي تُعظِّم الإسلام دون تدخُّل شخصيّ. لأنَّه لمْ يُحاكِم الحضارة الأمريكيَّة من منظور الرؤية الإسلاميَّة.

وسيُحدِّثنا عن حركات “النِّسْوِيَّة” العديدة التي طفحتْ على سطح المُجتمع الأمريكيّ. ونشهد معه اشتهار الدعوة إلى التخلُّص من الرجال، والدعوة إلى حثّ العُلماء على إيجاد طريق للتناسُل بين النساء وحسب، واشتداد الدعوة إلى الإجهاض، وسائر المظاهر في ذلك الأتون المُستعر للنِّسويَّة؛ التي -ويا للأسف!- نجد مُجتمعاتنا تنجرُّ إليها -أو تُجرُّ- بقوَّة وعُنفوان.

  • فكرة التشابُه بين الحضارتَيْن الأمريكيَّة والصهيونيَّة

تُطالعنا فكرة التشابُه بين الحضارتَيْنِ الأمريكيَّة والصهيونيَّة جليَّةً واضحةً على صفحات عدَّة من الكتاب. وأستطيع أنْ أُمركِز التشابُهات في وحدة الأصل الفكريّ؛ حيث حُلم الصهيونيَّة عند الحالِمين به من اليهود، وكذا وجود أصله عند الطائفة التي سيطرتْ على مُؤسِّسيْ “الولايات المُتحدة الأمريكيَّة”؛ وهي طائفة “البيوريتانيُّون” أو “التطهُّريُّون”. هؤلاء التطهُّريُّون هُم طائفة من الطائفة البروتستانتيَّة الأوربيَّة المُتطرِّفون، رأوا أنَّ البروتستانتيِّين الأوربيِّين لمْ يخالفوا الكاثوليك بشكلٍ كافٍ، فاعتزلوهم وراحوا يحلمون بتحقيق حُلمهم على تلك الأراضي الجديدة -وقتئذٍ-، بل صرَّحوا بإقامة “صهيون” خاصّ بهم عليها.

وكذا آمَنتْ الحضارتانِ -أو الشعبانِ لحضارة مُتشابهة- بفكرة “الرِّيادة”؛ وتعني أنَّ الأرض التي قَدِمُوا لها -أمريكا وفلسطين- أرض بلا شعب. وأنَّهم مَن أحيوا هذه الأراضي من الموات، وصارتْ بذلك ملكَهُم الأصيل. وكذا آمنتَا بأنَّ كُلًّا منهما ذات رسالة عُليا تفوق فكر وطموح بقايا البشر الموجودِين على هذه الأراضي؛ لذا يجب أنْ يخضع لهما الجميع. وبعد التشابُه في البنية الفكريَّة التي بدأتا بها؛ لَحَظَ “المسيري” أنَّ كُلًّا منهما بدأ احتلاله للأرض بإنشاء مُستعمرات عسكريَّة زراعيَّة، وبإقامة مذابح وإبادات جماعيَّة شتَّى تقتلع أصحاب الأراضي الأصليِّين من جذورهم.

ثُمَّ بعد إقامة كُلٍّ من الدولتَيْنِ اشتركا في النظام الاقتصاديّ الرأسماليّ، وكذا الفلسفة العموميَّة البرجماتيَّة -سيأتي الحديث عنها-. إلا أنَّه في مواضع نبَّه إلى خياليَّة مُغرقة للطرح الصهيونيّ، وأنَّه يُؤمن بانتصاره الحتميّ على الآخرين، بخلاف “أمريكا” التي لا تعتقد هذا. ومن شدَّة تشابُه التجربتَيْنِ صرَّح بأنَّ الفارق بينهما مساحة الدولتَيْنِ على الأرض، وتاريخ طويل يَدَّعِيْه الصهاينة.

لكنَّ العيب الأكبر في الحضارة الأمريكيَّة والكيان الصهيونيّ هو فشلهما في إقناع الآخريْن بمشروعَيْهما. فها هي “أمريكا” تُعاني التفكُّك والتشرذم الداخليّ، وها هو الكيان يرى أكبر تجمُّعَيْن لليهود في العالَم في “أمريكا” و”الاتحاد السوفيتيّ” لا على الأرض الفلسطينيَّة كما أراد. وهذا تصريح تطبيقيّ للنظريَّة الفردوسيَّة التي يرى “المسيري” حتميَّة فشلها.

  • فكرة الوجود الإنسانيّ، وتداعيات اختلاله

يعتبر “المسيري” الوجود الإنسانيّ مُشكَّلًا من عنصرَيْنِ: عنصر الوجود الطبيعيّ؛ وهو الوجود الحيوانيّ للإنسان، الذي يخضع لحُكم تركيبه، أو الوجود في “الجسد” الإنسانيّ. أمَّا العنصر الآخر -أو بالأدقّ العِماد الآخر- هو الوجود التاريخيّ؛ وهو في مفهوم عامّ كلُّ ما يجعل الإنسان إنسانًا ويُميِّزه عن طوره الجسديّ. ويقصد به كلَّ المعاني التي تُشكِّل الإنسان المفرد وتُقيِّده، ويُشير حديثُه المُتناثر إلى إدخال عناصر عُظمى كالدين والمنظومة القِيَميَّة في تشكيل هذا الوجود التاريخيّ. وهذا الوجود يربط الأُمَّة بماضيها ومُستقبلها، وهو أيضًا يُمثِّل المُراعاة لخطِّ سير التاريخ الإنسانيّ العامّ. والحضارة الناجحة هي التي تستطيع الموازنة بين الوجودَيْنِ ومُتطلَّبات كُلِّ منهما. فكما تُراعي وجود الإنسان الجسديّ لا يمكن أنْ تغفل وجوده التاريخيّ. ولا شكَّ واضحٌ تأثيرُ خلفيَّة “المسيري” الحضاريَّة على إقراره هذه الموازنة.

وهذه الفكرة التي بدأ بها الكتاب هي مِفتاح الكتاب كلّه -وإنْ بدا أنَّها فكرة قد خلَّفها وراءه-. فقد أرجع “المسيري” سقوط الإنسان في العصر الحديث؛ خاصةً إنسان الحضارة الغربيَّة إلى الإخلال بمُعادلة الوجود الإنسانيّ. بتغليب وجوده الطبيعيّ على وجوده التاريخيّ؛ وهذا التغليب حَصَرَ رؤية الغرب في فكرة “التقدُّم” التي بدأت تحتلُّ اهتمامَه لخدمة الإنسان، ثمَّ صارتْ هدفًا في حدّ ذاتها بغضّ النظر عن خدمة الإنسان نفسه. وصار الغرب في سباق مَحمُوم لإدراك هذا التقدُّم عن الآخرين بأيّ ثمن.

بل في منظور آخر أرجَعَ “المسيري” تراجُع الأديان لهذا الاختلال؛ فقد أبدل إنسانُ العصر الحديث بالغيبيَّة العقائديَّة -التي سمَّاها بالتقليديَّة- “غيبيَّة عمليَّة”. ورأى أنَّ العلم هو خلاصه الوحيد، وشيئًا فشيئًا بدأ يعبده، ويصبغ عليه كلَّ سمات القداسة التي كان يشتكي منها في الغيبيَّة العقائديَّة.

  • فكرة “الفردوس الأرضيّ”

“الفردوس الأرضيّ” هو المُصطلح الذي عبَّر به “المسيري” عن مُحاولات الإنسان في العصر الحديث لتغيير مجرى الأحداث لصالح إنشاء نموذجه الخاصّ، وتحقيق ما يُريده من أسلوب مُجتمعيّ وحياتيّ بغضّ النظر تمامًا عن مُحدِّدات أو موانع هذه المُحاولات. وهو المُصطلح الذي يُقابل المُصطلح القديم “الفردوس الغيبيّ أو الأُخرويّ” الذي يعتمد على رؤية ما بعديَّة؛ أمَّا أصحاب “الفردوس الأرضيّ” فلمْ يُعوِّلوا كثيرًا على الانتظار، وأرادوا ما أسمَوْه “فردوس هُنا والآن”، ولا تسويف بعد اليوم.

والنزعة الفردوسيَّة هذه ضدّ الإنسان التاريخي؛ أيْ الإنسان في سياقه التاريخيّ. فالإنسان الفردوسيُّ -أيْ المُؤمن بتلك النزعة- إنسانٌ مُعادٍ للتاريخ وقانون الحياة، يريد التخلُّصَ من حُكمه وإخضاعَ جميع عناصر الحياة لحُكم ما يهوى، وإقامةَ فردوس لنْ يتحقَّق أبدًا؛ لأنَّ الدنيا المُرتبطة بالزمان والمكان والإنسان وعلاقاته لا يمكن أنْ تصلح محلًّا لهذا التصوُّر الفردوسيّ. وهذا الفردوس هو لحظة السكون المُطلَق التي لا يدرك الحالِمُ بها استحالة وقوعها في عالَم يقوم على النسبيَّة والتصارُع والتدافُع.

وبدأت الفكرة -كما رأى- مع العصر الصناعيّ، وتحكُّم الرأسماليَّة (وهنا أنوِّه إلى أنَّ “المسيري” كان مُتعاطفًا مع الماركسيَّة، ولعلَّ تفسير هذا التعاطُف من عدَّة جهات يضيق المقام عنها). وبدأتْ تتوسَّع هذه النزعة وتلك الحساسيَّة لإدراك الفردوس منذ العصر الحديث في فكرة “التقدُّم”، وتحقيق فردوس السِّلَع الأرضيّ، وإدراك الحالة الفردوسيَّة عن طريق إشباع الرغبات الإنسانيَّة، بل إتخامها حتى الثمالة.

وبالقطع قدَّمَ “المسيري” هذا المُصطلح؛ وفي القلب من أهدافه تلخيص الحضارة الأمريكيَّة في كلمتَيْن، وكذا دولة الكيان الصهيونيّ. فليس أصدق من هذا المُصطلح في التعبير عن عُمق التجربتَيْنِ! فكلتاهما بادَرَ وأنزل إرادته على الواقع، دون أيّ اعتبار لمعقوليَّة ما يُريده، أو لتكلفته وما سيُسبِّبه للآخرين من دمار. وكلتاهُما اعتقدت أنَّها ستُحقِّق فردوس الأرض ثمَّ تصل بعدها إلى مملكة السلام والسماء التي لا يُكدِّرها مُكدِّر. ثُمَّ ما زالت كلتاهُما تتأكَّدانِ أنَّ ما رأياه في المقدور يبدو في بند المُحال أدخل.

  • تقديم “المسيري” للفلسفة “البرجماتيَّة”

وبما أنَّه لا يمكن دراسة تجربة دون درس ظهيرها الفلسفيّ الأكبر؛ فقد انصبَّ “المسيري” في عرضه على البرجماتيَّة وخصَّصَ لها آخر مبحث في بابه الأوَّل، دون الرأسماليَّة التي بثَّ نقدها على طول الكتاب. والفلسفة البرجماتيَّة -المذهب الفلسفيّ للتجربة الأمريكيَّة- هي إحدى الفلسفات الحديثة والمُعاصرة، وهي مُتفرِّعة من تاريخ طويل لفلسفات اللذَّة والمنفعة. وباختصار تتمحور أكبر دعائمها في إخضاع المبادئ للنتائج، وأنَّ الأفكار -مهما بلغتْ في ذاتها من رسوخ وصحَّة- هي مجرَّد مشاريع، تثبُتُ فقط حين يختبرها الواقع وتثمر النتائج المرجوَّة منها. وأنَّ الحقائق في ذاتها لا اعتبار لها إلا باعتمادها على واقع فعليّ. هذا ما يُمكنني إضافته في عجالة؛ لكنْ كيَّف عرَّف “المسيري” البرجماتيَّة؟

يرى “المسيري” أنَّها فلسفة تبدأ من مُسلَّمة أنَّ الإنسان يعيش في خطر، في وسط عالَم مُوحِش. لذا يجب ألا يشغل نفسه بالفكر، وأنْ يتقدَّم للفعل ويُعلي من قيمته. وهي تُصوِّر “الواقع” على أنَّه ما يراه الشخص ويقتنع به، لا ما عليه الشيء حقًّا. وبذلك تصير المعرفة نسبيَّةً ذاتيَّةً لا وجود لها في خارج أذهاننا. وترى القِيَم -ومنها الأخلاق والسلوك- هي ما نتفق عليه، لا يُملَى علينا. والحقيقيّ هو ما ينجح، ويستطيع فرض نفسه على التيار العامّ. وكي أُوضِّح هذه الأُسس بمثال؛ ففي نظر البرجماتيَّة أنَّ الأغاني الشعبيَّة بالغة القُبح (المهرجانات) أفضل وأقرب للبشر من أشعار شوقي؛ لأنَّها نجحتْ -آنيًّا- في الوجود، وفرضتْ نفسها على الخطّ العامّ.

كما تُولِيْ البرجماتيَّة مكانةً خاصَّةً للشخص “العبقريّ”؛ حيث لا تعدُّه شخصًا عاديًّا بل هو مُعطًى، وأنَّه ثروة الأُمم، بل العباقرة هُم مُغيِّرو الطبيعة. وبالقطع لهذا تُوليهم حقوقًا ليست لغيرهم؛ ولهذا نجد احتفاءً بشخصيَّة الكاوبوي -الذي قد يحقِّق صورة السوبرمان عند “نيتشه”-. ولهذا أيضًا تحتفي بالرأسماليّ ودوره في تغيير الواقع. ومثالٌ أطرحه للتبسيط على العبقريّ والرأسماليّ في الآن نفسه “ستيف جوبز” صاحب شركة “آبل”، ولعلَّنا الآن ندرك لماذا كلُّ هذا الاحتفاء به.

لكنَّ “المسيري” يتعجَّب من جمع البرجماتيَّة الأمريكيَّة بين المِثاليَّة والماديَّة في تصوُّرها. فهي ماديَّة بكلّ ما تُوليه للواقع من معياريَّة، وهي مِثاليَّة بإيمانها بدور الرأسماليّ كدعامة لتغيير الواقع، وبإيمانها بالفرد الحُرّ الذي لمْ يتقيَّد إلا بالدولة من خلال فكرة “العَقد الاجتماعيّ”. وكذلك في تطبيق الصهيونيَّة للبرجماتيَّة؛ فهي مِثاليَّة بتأسيسها على دعامات دينيَّة وأسطوريَّة تاريخيَّة، رغم أنَّ أفعالها وحاضرها كلَّه مبنيّ على الماديَّة الصِّرفة. بل إنَّه يرى أنَّ البرجماتيَّة الصهيونيَّة أكثر طوباويَّة وعجائبيَّة في إصباغ المثاليَّة على تصوُّرها من تلك الأمريكيَّة.

هذه السُّطور أكتبها تشجيعًا للقارئ الكريم على الإقدام في قراءة “الفردوس الأرضيّ”، والتفكير فيه، وتوالي البحث والنقاش. وبهذا نُحقِّق مجتمع الوعي، وندرك ما رجاه “المسيري” -رحمه الله- لنا.
________
*عبد المنعم أديب.

جديدنا