الحريّة والديمقراطيّة في خطاب الإسلام السياسي في العالم العربي؛ قراءة نقديَّة

image_pdf

1-تقديم:

من الخطأ أن نقرأ الأفكار وكأنها مجرد ردود أفعال، فيتم تحليل الأقوال، وينحى عن المشهد تأصيل الأجوال. ولعل “الحاكمية”، تاريخاً ومصطلحاً ونسقاً، هي الأولى بقراءتها بعيداً عن هذا المأزق المنهجي الذي بحبسها في فكره مأزومة قبل ارتياد الآفاق التي حركتها من رحم التاريخ النائم إلى جدل الحاضر المتلاحم (1).

ولذلك قيل عن القرن 18م في تاريخ الفكر الأوربي؛ إنه “عصر الإلحاد”، وبدأت لغة التحقيب التاريخي يمكن أن يسمى القرن 19م في تاريخ الفكر الإسلامي بأنه” عصر الاضطراب”؛ الاضطراب في كل شيء في الدولة وسلطانها، وفي المجتمع وتنظيماته، وفي الإنسان التائه بين الواقع الرديء، والمأمول الذي يبدو وكأنه لن يجيء، ظلمات بعضها فوق بعض (2).

كانت الدولة العثمانية هي الإطار الذي تلتقي في داخله هموم الأمة وطموحاتها، وكان الإسلام هو مصدر شرعيتها، وأساس ترابط شعوبها رغم تفرع انتماءاتهم، وتنوع لغاتهم وتباين تصوراتهم للمستقبل المنشود، وكانت الدول الأوروبية ترى في انكسار هذه الدولة فكراً وسياسة، هي الطريق الأوحد لإفساح الطريق أمامها في مجال حيوي لا حياة لها فيه إلا بتكسير عظام هذه الدولة وتدمير بنيتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، وكانت فكرة الخلافة هي القلب الذي ينبغي إيقافه عن العمل، فنبضه يغذي حركة الصمود، فبقاء الخلافة يعني تراجع المشروع الغربي عن بلوغ غايته، وتلك خطوط حمراء في نظر دوله ومفكريه. لم تكن الفكرة دينية، وإن أفرزت تعصبا دينياً، واستخدمت من الجدل الطائفي ما يعزز أهدافها ويحقق مراكيها، كان الدين ملاذاً في أجواء الصراع؛ لأن فكرة رئيسية عند القديس “أوغسطين” كما هي فكرة جوهرية في مذاهب الإسلاميين (3).

وفي دراسة أكاديمية جادة بعنوان “الحرية والديمقراطية في خطاب الإسلام السياسي بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي”، والذي قام بإعداده كل من الأستاذ “طارق حمو”، و”الأستاذ “صلاح نيوف”، وقد نشر الكتاب ضمن مطبوعات مركز الكتاب الأكاديمي في عام 2014.

وتأتي هذه الدراسة لأحد أهم المرتكزات التجديدية للحركة الإسلامية المعاصرة، في إطار المحاولات المستمرة لتأصيل المفاهيم الإسلامية وبنائها – جزء من بناء خطاب سياسي إسلامي معاصر يتخذ أداة لرؤية الواقع وتحليله، كمقدمة لتطويره وإصلاحه، ورغم أن المفهوم يكاد يكون من بديهيات الفكر والتصور الإسلامي، كما أعاد طرحه “سيد قطب” في كتابه معالم على الطريق، حين ميز بين ثلاثة مستويات للحاكمية: حاكمية الاعتقاد والتصور، وحاكمية الأعراف والتقاليد، وحاكمية التشريع، ورأي سيد قطب أن الحاكمية الإلهية هي الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، إلا أن هذا المفهوم – وخصوصاً أبعاده العملية والسياسية تحديداً – ما زالت عرضه للخلاف والجدل الشديدين بين الفرقاء في الساحة السياسية، ولعل أحد الأسباب المهمة – وراء ذلك- أنها طرحت تاريخياً، وما زالت تطرح حاليا في إطار الصراع بين مجتمعاتنا الساعية لإبراز هويتها والانطلاق من مرجعيتها الإسلامية والأنظمة الحاكمة التي تفرض سياسات عملية تكرس التبعية والتغريب والعلمنة.. فكما أنه مفهوم فكري إسلامي أصيل إلا أنه في الوقت نفسه ” أداة” من أدوات الصراع السياسي في المنطقة، ومن هنا كان الخلاف والجدل والتهم المتبادلة (4)، بين معظم لتيارات الإسلامية وبالأخص جماعات (الإسلام السياسي).

2-أقسام الدراسة:

ولذلك نجد في مقدمة هذا الكتاب الذي بين أيدينا، أن الكاتبين يعولان على فكرة هامة، وهي أن:”موضوع الإسلام السياسي يحتل في وقتنا الحالي أهمية كبيرة، وبتزايد الاهتمام به على صعيد العالم العربي، وكذلك على الصعيد الدولي العام. لقد شهدت السنوات الأخيرة أحداثاً كبيرة على مستوي منطقة الشرق الأوسط والعالم، لعب فيها (الإسلام السياسي) وجماعاته دوراً كبيراً، واستقطبت هذه الأحداث اهتمام الحكومات في الشرق والغرب، وبدأت مراكز القرار والدراسات تبحث في هذا الموضوع، وهذه الظاهرة التي بدأت بالتطور والتوسع وإشغال الرأي العام، سيما بعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في العديد من المناطق، وسجلت كلها على حساب جماعات (الإسلام السياسي) من التي تدعي الجهاد ضد الغرب، زاعمة خدمة شريعة الإسلام ونصرة الدين (5).

ثم يؤكد المؤلفان بأنه بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 م تزايد الاهتمام بشكل كبير وملفت بظاهرة (الإسلام السياسي)، وصدرت دراسات وأبحاث كثيرة وبلغات عديدة حول الظاهرة وأصولها، خلفياتها، وتطوراتها المحتملة في المستقبل، ومدى خطورتها على السلم والاستقرار الدوليين، ومن ثم كيفية التعامل معها والتصدي لانعكاساتها (6).

ويستطرد الكاتبان بأنه:” بعد اندلاع الانتفاضة التونسية نهاية 2010، ومن ثم بدأت التحولات السياسية في العديد من البلدان العربية، فيما عُرف لاحقاً بـ” الربيع العربي” أو ” الثورات العربية”، ورفع الشعوب المنتفضة لمطالب الديمقراطية والحرية، وبزوغ الأمل الكبير في إنهاء مرحلة الديكتاتورية وحكم الفرد والنظام الأوحد، وخلق دولة العدل والقانون، وطغيان الصوت الشبابي المطالب بالتغيير، تزايد الاهتمام بالمنطقة، وبدأ العالم يترقب عملية الانتخابات والتحول الديمقراطي، ما بعد الأنظمة القمعية في البلدان العربية التي أسقطت أنظمتها كتونس، وليبيا، ومصر. كان هناك ترقب لدور جماعات (الإسلام السياسي)  ومراقبة خطابها الذي تماهى في المراحل الأولى من الانتفاضات مع مطالب عامة الشعب، حيث الشعارات المطالبة بالديمقراطية والحرية، وضرورة احترام هاتين القيمتين. وبدأ العالم يتساءل: هل ستطبق هذه الجماعات قيمة (الديمقراطية)، وهل ستحترم قيمة (الحرية) في حال أن تصدرت الحكم واستملت الإدارة، أم إنها ستتخلى عن هذه الشعارات التي نادت بها في مرحلة ما، لصالح الأسس الإيديولوجية والعقائدية التي بينت عليها: تحكيم الشريعة الإسلامية، وبناء دولة الخلافة وتمكن فكرة الحاكمية لله؟ (7).

كذلك في هذا الكتاب حاول المؤلفان الإجابة على هذا التساؤل، ومراقبة سياسة جماعات (الإسلام السياسي)  في البلدان العربية التي شهدت تحولات جذرية، بعد سقوط الأنظمة القديمة، حيث انطلقت عملية بناء جديدة، وانتخابات، أتاحت أيضا لجماعات (الإسلام السياسي) المشاركة بكل حرية، وقد تتبع المؤلفان خطاب هذه الجماعات منذ البداية مروراً بالمشاركة في الانتخابات وحتى تسلم بعضها السلطة، مثلما حصل في مصر، حيث تسلمت جماعة ” الإخوان المسلمين” السلطة، بعد فوزها في الانتخابات، كما حاول المؤلفان رصد التغيير الذي طرأ على خطاب هذه الجماعات، وبشكل خاص في مصر، حيث ركز المؤلفان على النموذج المصري، كدولة، من مكانة مركزية في العالم (فهي أكبر بلد عربي)، وتأثيرها الواضح على مجمل المشهد السياسي العربي والشرق أوسطي، فراقب المؤلفان خطاب “الإخوان المسلمين” والتحولات والتغييرات التي طرأت على هذا الخطاب: فيما يخص احترام قيمتي (الحرية) و(الديمقراطية)، كما تتبع المؤلفان التجربة منذ اندلاع المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام وإلى أن تم الإطاحة بالإخوان عبر انقلاب المؤسسة العسكرية، ومن ثم قدم المؤلفان قراءة استشرافية لمستقبل بعد إزاحتهم عن الحكم في مصر.

ومن خلال تقديم تحليل لتجربة (الإسلام السياسي) فيما يخص احترام وتطبيق قيمتي (الحرية) و(الديمقراطية) في ما بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي، قام المؤلفان بتتبع ظاهرة (الإسلام السياسي)  منذ البداية، وحاولا شرح الأسس النظرية والمرتكزات التي تقوم عليها جماعات (الإسلام السياسي)، ومن ثم التعامل السياسي مع التطورات والأحداث بعد التغييرات الكبيرة في العالم العربي ما بعد 2012. لقد حاول المؤلفان أن يقدما تعريفا بهذه الظاهرة وشرحا حول ظهورها والأسس والمرجعيات التي تقوم عليها، وإبراز رموزها، ومن ممارستها للسياسة وكيفية تفاعلها مع الأحداث والمجريات وعلاقاتها مع القوى المختلفة في الداخل والخارج. كان الهدف كما يؤكد المؤلفان هو تقديم دراسة جادة في هذا الحقل تجيب على التساؤلات التي ظهرت فيما يخص موقف وسياسة (الإسلام السياسي) ما بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي: وكيفية احترامها لكل من قيمتي (الحرية) و(الديمقراطية)، على أمل تقديم  شيء جديد وإضافة علمية في هذا الحقل (8).

وقد وضع المؤلفان هذا الكتاب الذي بين أيدينا في خانة تقديم إضافات جديدة للأبحاث الموجودة في حقل (الإسلام السياسي)؛ حيث يجتهد هذا الكتاب لتعريف (الإسلام السياسي) وشرحه والاجتهاد في كيفية التعامل معه في ضوء الحدث السياسي على أرض الواقع، وهي محاولة كما يصفها المؤلفان متواضعة للإجابة على بعض التساؤلات التي يطرحها المواطن العادي، وكذلك الباحث المنشغل حول (الإسلام السياسي) والمهموم بموقفه ومستقبله في منطقتنا: منطقة الشرق الوسط (9).

لقد شكل (الإسلام السياسي)  في نظر الكاتبين بمختلف جماعاته وأحزابه ظاهرة ملفتة باتت تؤثر في الأحداث والسياسات في منطقة الشرق الأوسط، وبدأت دوائر صنع القرار تهتم بالظاهرة وتجتهد من أجل معرفتها وكيفية التعامل معها في المستقبل، وبعد التحولات الأخيرة في العالم العربي تصدرت جماعات (الإسلام السياسي) الحسنة التنظيم، الواجهة وبدا أنها هي التي ستحكم في فترة ما بعد الأنظمة الفردية الشمولية. وكانت هذه الجماعات تبث للعالم الغربي، وكذلك للقوي السياسية في بلدانها، خطاباً معتدلاً في البداية، وتقول بأنها ستحترم قيمتي (الحرية) و(الديمقراطية) اللتين ناضل من أجلهما الشعب؛ وبالأخص فئة الشباب. وقد تزايد الاهتمام بهذه الجماعات محليا ودولياً وكثر الطلب على المعلومات والأبحاث التي تحلل ماهيتها وخطابها وتستشرف مستقبلها. ولأهمية هذه الجماعات ودورها في الحياة السياسية، واختبار مدى مصداقية شعاراتها في اخترام قيمتي (الحرية) و(الديمقراطية)، سيما وهي تتجه إلى الحكم، منفردة، أو مشاركة، فقد رأى الكاتبان من الأهمية بمكان التطرق لهذا الموضوع والبحث فيه ورصد تطوراته وفهم وماهية هذه الجماعات والفصل في خطابها السياسي (10).

ولا شك في أن موضوع هذه الدراسة هو من أهم المطارحات المعاصرة الجدلية؛ لما تنطوي عليه من مبان دقيقة متشعبة المداخل والفروع، وما ترتب على المغالطات في فهم ” الحاكمية لله” وخلطها بالسياسي بعيداً عن الفكري والثقافي من آثار بالغة الخطر، أسهمت كثيراً في تشكيل جزء من مشهد العالم اليوم.

وقد أبدع المؤلفان في ترتيب الأفكار، وتسلسل المباني على الوجه الذي يخدم مقولتهما مستخدمين في ذلك منهجان: المنهج التاريخي والمنهج الوصفي، فأما المنهج التاريخي: من أجل الاستدلال في تفسير الظاهرة السياسية والتي هي هنا (الإسلام السياسي) ، حيث يتتبع الكاتبان بدايات الظاهرة والأفكار التي أثرت فيها وساهمت في تبلورها التاريخي كظاهرة سياسية مشاركة ومؤثرة في الأحداث. والمنهج الوصفي: وذلك من خلال دراسة الظاهرة السياسية، كما هي، للوصول إلى فهم العلاقة بين هذه الظاهرة والظواهر الأخرى، ومن ثم متابعة التغيرات التي طرأت عليها، وتحليل طريقة عملها وتفاعلها مع التطورات، ومن استشراف مستقبلها وتعاملها الآتي وموقفها من التطورات المحتملة (11).

قد قسم الكاتبان كتابهما هذا إلى فصلين رئيسيين: الفصل الأول: المصادر النظرية والاجتماعية للإسلام السياسي، والفضل الثاني: (الحرية) و(الديمقراطية) كقيمتين متغيرين في منظور (الإسلام السياسي) بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي.

في الفصل الأول: المصادر النظرية والاجتماعية للإسلام السياسي: حيث أراد المؤلفان أن يتوقفا على ماهية الظاهرة والأسس النظرية لها عبر تتبع مراحلها التاريخية وبنيتها العقائدية، ومن ثم التعرف على الآباء الأوائل الذين وضعوا أسس هذه الفكرة وساهموا في تكوينها ودخولها ميدان السياسة، ومن ثم الأوضاع الاجتماعية التي أثرت عليهم وساهمت في توسيع خطاب (الإسلام السياسي) وجماعاته، وكيفية استفادة هذه الجماعات من الحالة الاجتماعية لقطاعات الشعب في نشر رسالة وأفكار الأصولية الإسلامية؛ ويتكون الفصل الأول من ثلاث مباحث، هي: الأول: الإسلام السياسي: الظهور والأسس النظرية، والثاني: مرجعيات خطاب الإسلام السياسي، والثالث: البيئة الاجتماعية الحاضنة لتيار الإسلام السياسي.

وفي الفصل الثاني: تحدث المؤلفان عن (الحرية) و(الديمقراطية) كقيمتين متغيرتين في منظور (الإسلام السياسي) بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي / وهنا حاول المؤلفان التعرف لنظرة (الإسلام السياسي)  لقيمتي (الحرية) و(الديمقراطية) ، ومن ثم كيفية تعامله معهما في فترة ما بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي؛ بمعني كما يقول الكاتبان: إننا خرجنا من الإطار النظري في الفصل الأول إلى الإطار الميداني حيث تجربة (الإسلام السياسي) على أرض الواقع وفترة حكمه، وتعرضه لاختبار هاتين القيمتين، وكيفية تصرفه في التوافق بين تعهداته السابقة باحترامهما وبين ولائه للأصول العقائدية التي تحتكم فقط إلى الشريعة وترفض غيرها من المبادئ والقيم الوضعية المعاصرة. والفصل الثاني يتكون من مبحثين: الأول: نظرة (الإسلام السياسي) لقيمتي (الحرية) و(الديمقراطية)، والثاني يتكون من مبحثين: الأول: نظرة (الإسلام السياسي) لقيمتي (الحرية) و(الديمقراطية)، والثاني: قراءة استشرافية لنظرة (الإسلام السياسي) لقيمتي (الحرية) و(الديمقراطية)  ما بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي، بالاستناد إلى تجربة جماعة الإخوان المسلمين في الحكم في مصر(12).

3- الإسلام السياسي ومبدأ الحاكمية لله:

وأود من خلال قراءتي النقدية لهذا الكتاب، أن أركز على أهم نقطة محورية يدور حولها الكتاب لأناقشها مناقشة موضوعية؛ ألا وهي “قضية الإسلام السياسي ومبدأ الحاكمية لله”، ونبدأ أولا بتعريف الكاتبان لقضية الإسلام السياسي، ومركزية النص الديني لديه، ثم موقفه النهائي من مبدأ الحاكمية لله.

وهنا يقول الكاتبان بأن مصطلح (الإسلام السياسي) قد ظهر كدلالة على الجماعات والحركات التي تستند إلى الدين الإسلامي وأفكاره، وتتخذ منه مرجعاً لها في سبيل تحقيق أهداف سياسية واضحة والوصول إلى الحكم. و(الإسلام السياسي)، هو مصطلح سياسي وإعلامي وأكاديمي سعت من خلاله هذه الحركات إلى توطيد مشروعها القائم على أن الإسلام سلح نظاماً سياسياً للحكم (13).

ويستطرد الكاتبان بأنه يمكن الحديث عن ثلاثة مستويات من الإسلام عند دراسة ظاهرة  (الإسلام السياسي) وتفريقها عن بقية أنواع الممارسات للإسلام كدين وتراث وعقيدة، وهذه الممارسات هي: الإسلام الشعبي، والإسلام السياسي، وفي حين يرتبط الإسلام الشعبي بآليات التدين التقليدي، حيث تكتسب العبادة صفة العادة المتكيفة مع تقاليد المجتمع المحلي وخصوصياته الحضارية والاجتماعية، فإن الإسلام الرسمي يرتبط بالمؤسسة الفقهية المشيخية، التي غالباً ما تكون جهازاً إيديولوجيا من أجهزة الدولة، يمكن وصفه على نحو ما بإسلام رجال الدين. بينما يرتبط  الإسلام السياسي نظرياً وحركياً بشعار الدولة الإسلامية (14).

ويقول الكاتبان بأنه يمكن تعريف الإسلام السياسي كمفهوم ومصطلح، هو: تعبير عن الحركات والقوي التي تصبو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية منهجاً حياتياً، مستخدمة بذلك منهجية العمل السياسي الحديث القائم على المشاركة السياسية في السلطة، فكل حركة إسلامية تعتبر المشاركة السياسية منهجاً تدخل ضمن هذا التعريف، وبالتالي فإن كلمة سياسي في مصطلح (الإسلام السياسي) ليست توصيفاً للإسلام بمقدار ما هب توصيف وتعريف للحركات التي تقبل بمفهوم المشاركة السياسية وخوض الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، حيث أن هناك العديد من الحركات والأحزاب الإسلامية التي ترفض هذه القاعدة، وهناك العديد الذين يقبلون بهذه القاعدة (15).

ويستطرد الكاتبان فيقولان:” لقد توسع تعريف مصطلح (الإسلام السياسي) وتزايد الاهتمام به في الشرق والغرب، حتى أصبحت ظاهرة استرعت اهتمام مراكز الأبحاث الدولية والعديد من الباحثين المختصين بحقول الاستشراق والدراسات الإسلامية، وبدأ البعض في الغرب يطلق أسماء مثل الأصولية الإسلامية، أو التطرف، والغلو في الدين على (الإسلام السياسي) كتعريفات مرادفة له، ومن هنا انبثق مفهوم (الإسلام السياسي) إلى نظر إليه البعض من هذه الزاوية التي يسعى من خلالها إلى ممارسة السلطة وإقامة النظام السياسي الإسلامي الذي يرجع إلى المجتمع الذي أقامه النبي (صلي الله عليه وسلم) في المدينة المنورة وإحياء الخلافة الرشيدة، وكان من خلال حزب سياسي إسلامي له الحق في استخدام كل الوسائل المباحة والجائزة في الصراع السياسي (16).

واعتماداً على ما سبق فقد قرر الكاتبان أن هناك تشابها وربما تطابقا بين مصطلحي (الإسلام السياسي) و(الإسلام الأصولي )، فالإسلام السياسي يكون بالضرورة أصولياً، أي معتمداً على الأصول والمرجعيات الإسلامية تماما، وهكذا فإن صفة الأصولية تشير في الغالب الأعم إلى تلك الحركات والإيديولوجيات التي تصر على أن جزءًا لازماً من الدين الإسلامي أن تطبق عقائد الدين الإسلامي، وفي مقدمتها الشريعة، على كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية (17).

وفي نظر المؤلفان يمكن تعرف (الإسلام السياسي)، كذلك، على أنه لجوء إلى مفردات الإسلام كدين للتعبير عن مشروع سياسي، على أن النقطة المحورية في الإسلام السياسي ربما كانت هي سعيه للوصول إلى السلطة، باعتبار أن ذلك هو الشرط الضروري لإقامة مشروعه. وتضم الحركات الإسلامية، في مفهومها الواسع، جميع الأفراد والجماعات التي تسعي لتغيير مجتمعاتها عن طريق اشتقاق أفكارها وبرامجها من الإسلام. وفي حين تختلف هذه الجماعات والأفراد في طرقها ومناهجها وأساليبها، فإنها تتفق على القيمة الإيجابية للإسلام، وتريد تحويل إطار المرجعية في الحياة العامة إلى مرجعية يكون فيها الإسلام، بتفسيراته المختلفة، قوة رئيسية في تشكيل هذه الحياة (19).

ورغم أن القوى السياسية الأخرى تتقبل أصول اللعبة الديمقراطية في القضية مشاركة قوي (الإسلام السياسي) في الانتخابات والتنافس الشريف على ثقة الشعب (كما يري الكاتبان)، إلا أنها في الوقت نفسه ترفض فكرة أن تتحول الدولة المدنية إلى دولة دينية تحتكم إلى الشريعة الإسلامية وفق شرح وتأويل محدد (20).

وهناك توجس وخوف من طروحات وأجندة (الإسلام السياسي) في نظر الكاتبان، وهو الأمر الدي يدفع بجماعات الإسلام السياسي إلى إظهار نوع من المرونة في خطابها والاهتمام بالأمور الحياتية للمواطنين وطرح برامج تطويرية وتنموية أيضاً، ومن هنا يقول المؤلفان بأن (الإسلام السياسي) هو في واقع الأمر إيديولوجية تحاول التزاوج بين الدين وقداسته وبين مجموعة من المشاكل الدنيوية المعاصرة من أجل استغلال العامل الإيماني الاعتقادي لدى الناس للوصول إلى الحكم وتطبيق برامجها الرامية لإنشاء دولة الخلافة (21).

وبالإشارة إلى ما سبق يقول المؤلفان بأنه يمكن النظر إلى (الإسلام السياسي) على إنه:ى”إيديولوجية وليست خطة موضوعية تهدف إلى تطبيق واقع متخل ( يوتوبيا) فيه العدالة الكاملة والسعادة الكاملة، وليس الانتصار على المشاكل والعقبات الحياتية المعاشة. وأجندة الإسلام السياسي لا تحوي مكاناً للقيم المدنية المعاصرة، مثل العدالة، والديمقراطية ودولة القانون والحقوق الفردية، بل هي لا تستبعد العنف من برامجها من أجل تطبيق نظامها الديني الرامي للوصول إلى السلطة” (22).

ويستطرد الكاتبان فيقولان:” ويشمل هذا التوصيف كل الجماعات الإسلامية، بغض النظر عن مناهجها أو برامجها السياسية أو البيئية التي تعمل فيها، فهناك من يرفض التفريق بين هذه الجماعات، ويقول بوجود قواسم مشتركة بينها، يتمسك الكل بها مهما بدت الفروق بينها جوهرية وواضحة من الوهلة الأولي، ومن هنا فإن حركات الإسلام السياسي، وبغض النظر عن الفروقات الظاهرة بينها، إلا أنها تشترك معاً في مبادئ لا يمكن تخطيها، أو إهمالها، تحدد هذه المبادئ خطابها وأيديولوجيتها إزاء الآخر المختلف، حيث الرفض التام بل والعداء الصارخ في بعض الأوجه. ومن هذا المنطلق تجد الكل يشترك في معاداة العلمانية، ومعاداة السامية، ومعاداة الليبرالية، ومعاداة الشيوعية، ومعاداة أمريكا، ومعاداة المرأة، ومعاداة المثلية (23).

كما يؤكد الكاتبان بأن اصطلاح (الإسلام السياسي) فضفاض وشامل، وهو يضم الكثير من الجماعات والحركات والأحزاب التي تطرح أفكاراً بتفسيرات شتى، ولكنها تنهل من معين الدين الإسلامي، وترغب في استلام زمام الحكم والإدارة، أي إن الحركة الإسلامية في مفهومها الواسع، تضم، جميع الأفراد والجماعات التي تسعي لتغيير مجتمعاتها عن طريق اشتقاق أفكارها وبرامجها من الإسلام، وفي حين تختلف هذه الجماعات والأفراد في طرقها ومناهجها وأساليبها وقضاياها الآنية، إلا أنها تتفق على القيمة الإيجابية للإسلام والصلة الوثيقة بين مفاهيمه وقيمه الأساسية والعالم المعاصر، فهي تريد تحويل إطار المرجعية في الحياة العامة إلى مرجعية يكون فيها الإسلام بتفسيراته المختلفة قوة رئيسية في تشكيل هذه الحياة (24)؛ ولأن التنوع هو الغالب على طروحات جماعات الإسلام السياسي وبرامجها، فهناك من يفهم الإسلام السياسي بأنه واقع الحال حركة تهدف إلى تجديد فهم الإسلام، من خلال تقديم أفكار جديدة للحياة العامة والتخلص من التقليدية في الفهم والتفسير، وهذا التجديد هو الرجوع إلى الأصول والتخلص من الأساطير الموروثة والتقاليد (25)

واستخلاصا لما سبق يقول الكاتبان بأن:”الإسلام السياسي، مصطلحا ومفهوما هو وصف للجماعات والحركات والأحزاب والمنظمات والكتل التي تحمل رؤس وأفكار مستدامة من الدين الإسلامي ( تكون مطعمة ببعض البرامج الدنيوية الوضعية التي تهم حياة الناس) تهدف لتطبيق الشريعة، حسب تفسيرها له، وإحقاق نظام الحكم الإسلامي، أي دولة الخلافة في النهاية، وهذه الجماعات تملك برامج وتصورات سياسية تقوم على الاحتكام للدين الإسلامي والشريعة، تطرحها على الجماهير من أجل إقرارها والمباشرة في تأسيس المجتمع الإسلامي القائم على الشريعة، وتطبيق كل حيثياتها وفق الاجتهاد والتفسير الذي تقدمه هذه الجماعات أو منظريها المعتمدين لديها، وترفض بعض هذه الحركات القوانين الوضعية وتتمسك بالشريعة وتطالب بتطبيقها، وتلجأ بعضها إلى العنف طريقاً للوصول إلى الحكم لتطبيق برامجها الرامية لتحقيق الشريعة ودولة الخلافة. وقد درج على تسمية الظاهرة التي تشكلها هذه القوى والحركات مجتمعة بـ (الإسلام السياسي)، وهو مصطلح شق طريقه إلى عالم السياسة الدولية وتوطد في الأدبيات السياسية وظهر بشكل أكبر وأكثر اتساعا في العقود الأربعة الماضية” (26).

وثمة نقطة مهمة نود معالجتها هنا تتعلق بمركزية النص الديني عند دعاة الإسلام السياسي، حيث يعول (الإسلام السياسي) على مسلمة وقاعدة لا يمكن تخطيها كما يرى المؤلفان وهي أن:” النص الديني مقدس، ولا يمكن النقاش فيه، بمعنى أن الاجتهاد مع النص لا يجوز، وهي قاعدة أصولية كما يقول المؤلفان أكد عليها كل منظري  (الإسلام السياسي)، بل مضوا في تكفير القائلين بأن النص القرآني ما هو إلا نتاج مراحل تاريخية، حيث أن الآيات في مناسبات وحوادث معينة في زمن معلوم بتاريخ واضح” (27).

ويستطرد الكاتبان فيقولان:” وتيارات (الإسلام السياسي) تعتبر النص ساري المفعول دائماً وأبدأ، ولا يجب الخوض في صلاحيته لكل وقت وأوان، ليس هذا فقط بل قامت جماعات (الإسلام السياسي) أيضا على الدعوة على لتطبيق شرع الله، أي آيات القرآن وما ورد في السنة النبوية. وكانت النصوص القرآنية بالدرجة الأولى هي المرجع والمستند لها لتبرير عملها الدعوي والسياسي على السواء، انطلقت جماعات العمل الإسلامي السياسي من النص القرآني، حيث نزعته من سياقه التاريخي وأقحمته في الحياة المعاصرة، ولما لم تجد في آيات القرآن سنداً لها لتفسير ما يحدث من تطورات حياتية في بلاد المسلمين  وفي العالم، أو صنع موقف من قضية ما، لجئت إلى الأحاديث النبوية، باعتبارها ركناً ثانياً مقدساً في التفسير والموقف النظري لهذه النظري لهذه الحركات مما يجري في المجتمعات الإسلامية وعموما العالم (28).

ومن هذا المنطلق، ظهرت بعض الآراء حول الحركات والجماعات الأصولية (كما يري المؤلفان) لتقول بأن:” الإسلام، ليس شيئاً غير النص، وهو ما يؤدي بدوره إلى القول بأن الحجية في الإسلام، ليس لشيء سوى النص. لقد ظلت هذه الحقيقة الأولية مهيمنة على العقل المسلم، لفترة من الزمن، لم يكن للإسلام فيها سلف ولا تاريخ، كان ذلك في مرحلة التكوين الأولى، منذ المنشأ وحتى مشارف عصر التدوين، فعلي مدى هذه الحقبة التي لم تدم طويلاً، كانت الحجية منحصرة في الوحي، وبوجه خاص في القرآن، على اعتبار أن السنة في معظمها كانت تطبيقاً عملياً للقرآن، أو شرحها شفهياً له، ولم يلتفت إليها في الوعي الفقهي، كمصدر كامل الاستقلالية عن القرآن، إلا في وقت لاحق، ومن خلال تكوينه عقلية مختلفة، حين بدأت عملية الطلب الواسعة النطاق على الحديث بشكل مقصود ومبالغ فيه أدى فيما بعد إلى ظاهرة التضخم الكمي في الحديث بكل أعراضها الإشكالية على مستوى السند والمتن جميعا” (29).

ويفرغ المؤلفان من هذه النقطة؛ حيث يقولان:” وبهذا نجد أن دعاة (الإسلام السياسي) يعدون قضية قداسة النص وأزليته أساساً له ولا يمكن بأي حال من الأحوال التساهل حول الآراء التي تنفي تلك القداسة وتجعل من النص القرآني نصا تاريخياً، وكما ذهب “سيد قطب” فلا يمكن سوى الخضوع التام للنص الإلهي وعدم مناقشته، بل مساءلة النفس: هل كان هذا الخضوع تماما وكاملا كما هو مطلوب ومأمور به في هذا النص الإلهي الأزلي؟.. ولأن حرمة النقاش والحوار المفروضة من جانب جماعات (الإسلام السياسي) وأذرعه الممتدة في مؤسسات الدولة، كانت قاعدة ثابتة لا يمكن التساهل مع من ينتهكها، فقد جرت حوادث تصفية وتكميم أفواه طالت العديد من من الحداثويين والعلمانيين والتنويريين في العالمين العربي والإسلامي. فلم يعتمد (الإسلام السياسي) على كتبه وحججه وآراءه في ضرورة التمسك بالنص وبالتطبيق الحرفي المتحرر من الزمان والمكان فحسب، بل أطلق يديه في عمليات ردع وتصفيات جسدية ومعنوية بحق رموز التيار العلماني العلمي المخالف له بالتفسير والتوجه. لقد كان رد (الإسلام السياسي) فيمن ينكر أساسه النظري المتين، أي النص القرآني وهو العنف والإقصاء والمطاردة والتهديد والتصفية(30).

وننتقل الآن للحديث عن مبدأ الحاكمية لله في تصور دعاة (الإسلام السياسي)، حيث تعني بالنسبة لهم الاحتكام إلى النص الديني والعيش، حياة وحكماً، وسياسة، وسلاماً، بحسب مقتضياته وأوامره، وقد بحث آباء (الإسلام السياسي) في مختلف جوانب وأوجه هذا الموضوع، واعتبروه أساسا من أساسيات فكرة الإسلام دين ودنيا، والتي تقول بضرورة الحياة وفق الشريعة والنص وتذليل القوانين الوضعية لصالح القوانين السماوية الشرعية، والحاكمية في جوهرها بيان لمورد الدين أي مصدره، وهو الله، الذي تجسد إرادته الدينية في الشرعية أو الشريعة الإسلامية باعتبارها ما سنة الله لعباده من أمور دينهم ليعلنوا خوعهم له والتزامهم به، والحاكمية مبدأ والتزام وخضوع لهذا المبدأ والتزام به، والشريعة مضمون لهذا المبدأ ومحتوي له، ويمكن للباحث كما يذكر المؤلفان أن يمضي في هذا الطريق فيضيف أن الشريعة – مصدرها الله – هي الحاكمية على الإطلاق والعموم على جميع المكلفين بما فيهم الرسل والعلماء والمراء والناس أجمعين (31).

وعليه فنجد بأن (الحاكمية لله) كما يرى المؤلفان الالتزام بالنصوص والسنة واعتبارهما قوانين حياتية، معاشية، ملزمة لا يجب نكوصها أو رفضها، بل يجب الخضوع لها، لأن ذلك يعني الخضوع لأمر الله، ولأمره ومشيئته. و(الإسلام السياسي) يعتمد بشكل كبير على هذه الفكرة في توطيد دعائمه وترسيخ برنامجه الذي يقول بأن الإسلام دين ودنيا، وأن حياة البشر يجب أن تخضع للعبودية التامة لله، وأن تكون الحاكمية الإلهية هي التي تقرر الشرائع والقوانين بحسب النصوص القرآنية وثوابت السنة، بعيداً عن القوانين الوضعية البشرية والأيديولوجيات والفلسفات المختلفة (32).

كما يذهب دعاة (الإسلام السياسي) (كما يرى المؤلفان) في كتاباتهم ومؤلفاتهم في أن (الحاكمية لله) هي أمر مفروض من الخالق ولا يمكن ولا يحق للمخلوق أن يرفضه أو يعيش حياته بمعزل عن تطبيقات هذه الفكرة، وبالتالي فهي أساس نظري رئيسي للإسلام السياسي. وهؤلاء كما يذكر المؤلفان يطرحون لتدعيم رأيهم جملة كبيرة من النصوص والأحاديث والتفاسير التي لا تدع أي مجال للشك أو الاجتهاد حول ضرورة، بل وأمر، الالتزام بمدأ ( الحاكمية لله)، والخضوع التام له. ولا يقتصر الشرح والتفسير في هذا الأمر على قضية إقناع الجمهور المسلم بالحجة والكلمة، ولكنه، كمعظم أفكار منظري (الإسلام السياسي)، يذهب إلى التهديد والوعيد والتكفير، فكل من ينكر هذا المبدأ ويرفضه، ويطعن فيه، أو حتى لا يعتقد به، فهو كافر، مرتد عن الدين، وعليه فلا ريب أن من لم يعتقد بوجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحال أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من غير إتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من آية إلا وهي تأمر بالعدل، وقد يكون من العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله، كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي أن يحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر، فإن كثيرا من الناس أسلموا، ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون. فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار (33).

ويؤكد المؤلفان فيقولان:” ولا بد للفرد المسلم ولكي يكتمل إسلامه وتقبل فروضه، ولا يكون كافراً كما أفتي اين تيمية، أن يعترف بشكل كامل وواضح وبخضوع شامل، بمبدأ (الحاكمية لله) ويقبل بكل تبعات ذلك على حياته وعلى المجتمع ككل. فكذلك الدولة يجب أن تسير وفق هذا المبدأ. يجب عليها أن تطبقه وتتمسك به في كل أمورها الحياتية، وفي كل ما يتعلق بأمر مواطنيها، بل حتى في سياستها الداخلية والخارجية، أن الأساس الذي تقوم عليه بناء لدولة الإسلامية هو مفهوم حاكمية الله الواحد الأحد، وان نظريتها الأساسية أن الأرض كلها لله وحده، وليس لفرد، أو أسرة، أو طبقة، أو شعب، بل لا للنوع البشري كافة  شيء من سلطة الأمر والتشريع كافة  شيء من سلطة الأمر والتشريع، فلا مجال في حظيرة الإسلام ودائرة نفوذه إلا لدولة يقوم فيها المرء بوظيفته خليفة الله تباركت أسماؤه، ولا تتأتي هذه الخلافة بوجه صحيح إلا وجهتين: إما أن يكون ذلك الخليفة رسولا من الله، أو رجلاً يتبع الرسول فيما جاء به من الشرع والقانون من عند ربه (34).

ومن خلال الرأي أعلاه، والذي طرحه أبو العلي المودودي، يستخلص المؤلفان بأن:” نظام الحكم في الدولة الإسلامية يجب أن يكون قائماً على الطاعة الكاملة للنص الديني وللحديث النبوي من بعده، وما على المواطن إلا أن يخضع، من منطلق إيماني عقائدي، وكذلك من منطلق وطني/ مواطني، لهذه الدولة ولشرائعها. وباختصار على المواطن أن يكون وفياً وملتزما بهذا القانون والشرع، وان يجتهد أن يكون خليفة الله على الأرض وإلا فإن هناك عقوبات ستردعه عن ذلك، وهكذا فإن أبا الأعلى المودودي يتبني فكر الحاكمية نقلا عن أفكار الخوارج باعتبار أن الله وحده خالق الكون وحاكمه العلي، وأن السلطة العليا المطلقة له وحده، أما الإنسان فهو خليفة هذا الحاكم، والنظام السياسي لا بد وأن يكون تابعاً للحاكم الأعلى، ومهمته الخليفة تطبيق قانون الحاكم الأعلي في كل شيء وإدارة النظام السياسي طبقا لأحكامه، فهو يرى أن الله قمة الكون خلقه ويحكمه ويسيطر عليه فيقول الأرض كلها لله وهو ربها والمتصرف في  شؤونها. فالأمر والحكم والتشريع لله وحده، فلا مجال في حظيرة الإسلام لدولة يقوم فيها المرء بوظيفة  خليفة الله ولا تتأتي هذه الخلافة، إلا أن يكون ذلك الخليفة يتبع ما جاء به الشرع، ويستتبع ذلك في نظر المؤلفان ما يلي: أولا: حتمية طاعة النبي وحكمه بوصفه مبلغا عن السلطان الأعلى والحاكم المطلق وهو الله، وثانيا: أن القانون والحكم الذي يقرر التحليل والتحريم في جميع الميادين هو قانون الله وليس للعباد حق المساءلة والنقاش في أحكام الله فما حرمه الله يكون حراماً وما حلله يكون حلالاً. وتتضمن الحاكمية لله رفض حاكمية البشر وضرورة الثورة عليها، وكأن عصيانها أمر إلهي. وتتمثل حاكمية البر في ثلاثة نظم: العلمانية، والقومية، والديمقرايطة، وهي النظم التي سيطرت على الحياة السياسية في العرب” (35).

ولقد تميز الأستاذ “المودودي” في نظر المؤلفان عندما أدان الواقع المحلي والعالمي ووصفه بـ “بالجاهلية” وبـ” الكفر” بأن ركز، في إنتاجه الكفري على تحديد المعالم البارزة والأساسية – وليست التفضيلية – التي تحدد مفهومه لطبيعة” البديل الإسلامي” الذي يدعو إليه، ليحل محل هذه الحضارة – الجاهلية- المعاصرة- الكافرة.. وهذا البديل، عنده، هو “حضارة الحاكمية الإلهية”.

ونستطيع أن نحدد من خلال فكره “قوانين صياغة هذا البديل الإسلامي الجديد”.. والتي يمكن تكثيفها في أربعة قوانين:

أولها: إحياء الإسلام، كما تمثل في متابعة الأولى –قرأنا وسنة – بشموليته التي تغطي كل شعب الفكر والقيم والحياة.. والالتزام بهذا الإسلام التزاما نسلم فيه الوجه لله.. التزام الجندي لأمر القائد في ميدان القتال..

وثانيها: عدم الالتزام بالثقافة الإسلامية القديمة بجوانبها الحضارية والقومية والوقوف منها موقف الانتقاء والنقد.. فنسترشد بإبداعها ونستعين به على فهم المنابع الإسلامية –قرانا وسنة- ونستفيد بما يفيد واقعنا وعصرنا من اجتهادات المجتهدين دون التزام ولا إلزام.. مع الحذر من إضافات المتأخرين من ” علماء ” عصر التراجع والانحطاط.

وثالثها: استلهام العلوم والاختراعات الحديثة التي أبدعتها الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها الحضارة الغربية سواء أكان ذلك في ميدان العلوم الطبيعية، أو الوسائل والتنظيمات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية.. وبذل الجهد الصادق لاكتساب المهارة في هذه الميادين.

ورابعها: محاربة الحضارة الغربية، الوثيقة الصلة بفلسفة هذه الحضارة ذات الطابع المادي الالحادي، واقتلاع فكريتها التغريبية من عقول المسلمين يستوي في هذه الثقافة فكرها ومذاهبها ومدارسها، أو أسلوب الحياة ونمط المعيشة النابع من فلسفة الغربيين في الحياة والمرتبط بقيمهم وأخلاقياتهم.

ثم يؤكد المؤلفان بأن المرجع في تقبل مبدأ (الحاكمية لله)، هو النص القرآني،  وهو أيضا، سنة وسيرة النبي محمد بن عبد الله، الذي لم يكن يمثل في حكم المسلمين وتسيير  شؤونهم دينهم ودنياهم، شخصه فقط، بل كان يمثل الأمر الإلهي. فلا مناص هنا من التقيد بالنص القرآني والامتثال له، وكذلك الاقتداء بالنبي وبسيرته، أما وجوب الاحتكام إلى الشرع مطلقاً فقد أفادته النصوص بمثل قوله تعالي ” فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم”، وبقوله تعالي ” فإن تنازعتم في  شيء فردوه إلى  الله ورسوله”. وبقوله تعالي ” وما اختلفتم فيه من  شيء فحكمه إلى الله “. ففي الآية الأولى: حقيقة كلية من حقائق الإسلام جاءت في صورة  قسم مؤكد، مطلقة من كل قيد، تنفي الإيمان عن من لم يحتكم إلى النبي، عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وليس هناك مجال للوهم أو الإبهام بأن تحكيم رسول الله هو تحكيم لشخصه الكريم فحسب، كما يزعم دعاة اليسار الإسلامي! أو دعاة العلمانية الإسلامية! إنما هو بالضرورة، تحكيم شريعته ومنهجه، لا لشخصه الشريف فحسب، كما يظهر بالبداهة من غير تأويل (36).

ويستطرد المؤلفان فيقولان:.. رغم أن دعاة الأصولية الإسلامية، ورموز (الإسلام السياسي)، قد تعرضوا كثيرا وفي مؤلفات ضخمة لهذه  الفكرة، ودعموها بالآيات البينات والأحاديث الصحيحة الملزمة، إلا أن سيف التكفير المشهر على رؤوس المسلمين ظل مرفوعا، ولم يترك الأمر للمسلم بتقبل الأمر أو الإعراض عنه. فأصلا هذا الموضوع  غير قابل للنقاش كما يذهب أحد كبار معلمي مدرسة الإسلام السياسي، إن موضوع الحكم بما أنزل الله من المعلوم من الدين بالضرورة، فهي من الأمور التي ينبغي أن لا تخضع للنقاش والحوار أساساً، فهي من أصول الإسلام ذاته، ولا يتصور من مؤمن أن يرفض ذلك (37).

ولم يكتف الكاتبان بذلك بل نراهم يقولان:”… وهكذا نجد بأن (الإسلام لسياسي) يعتمد في منهجه العقائدي عل فكرة (الحاكمية لله)، ويرفض بشدة غير ذلك، ويدعم أفكاره، ورؤاه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومقتطفات من سيرة النبي محمد والخلفاء الذين جاءوا من بعده، ويرفض (الإسلام السياسي) الآراء التي تناقض فكرة الحاكمية وتربطها بزمان ومكان العصر الذي نزلت في الآيات التي تتحدث عن حكم الله في الأرض، ويعتمد (الإسلام السياسي) على سلاح التكفير والرفض في وجه كل من يقول بغير (حاكمية البشر) على سلاح التكفير والرفض في وجه كل من يقول بغير (حاكمية الله)، ويعتمد هذه الفكرة أساساً نظرياً قوياً لفكرة إقامة الشريعة، ودولة الخلافة في عموم بلاد المسلمين والعالم (38).

وثمة نقطة هامة يؤكد عليها المؤلفان، وهي أن جماعات (الإسلام السياسي ) تتمسك بوجوب تطبيق فكرة (الحاكمية لله)، باعتبارها معلوماً  من الدين بالضرورة، وتطالب الحاكم المسلم الاعتماد على هذا المبدأ في الحكم وإخضاع جماهير المسلمين، وكذلك غير المسلمين في الدولة التي تعمل بالشريعة، لتطبيقاته وعدم التساهل في ذلك. أما النظم الديمقراطية المدنية الحديثة، فلا يقبلها هؤلاء بديلاً عن التطبيق الحرفي للأمر الإلهي المتمثل في النص والحديث، وحكم الله، ويعدونه كفراً وخروجاً عن قاعدة دين الله كله (39)؛ والهجوم يكون عنيفاً عادة على من يدعو لتطبيق النظريات، والقيم والإيديولوجيات الغربية، ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله، بجلتها، من يأتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها (الرأسمالية) و(الاشتراكية) وما إليها، ويقيمون لأنفسهم أوضاعاً للحكم يسمونها (الديمقراطية) و(الديكتاتورية) وما إليها، ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم. أما النقاش الدائر بين النخب المدنية من جهة، والتي ترفض تطبيق هذا المبدأ، وتقول بالديمقراطية والشرائع، والقوانين الحديثة الوضعية، وبين منظري (الإسلام السياسي) من جهة أخرى، فهو نزاع يحاول فيه الطرف الأول سلب المسلمين حقهم في الخضوع لله والاحتكام لأمره ولشرعه، وهو خروج عن الشرع وتعالى على الله نفسه! وعليه فالنزاع بيننا وبين العملانيين ليس في مسألة من مسائل الفروع، بل هي قضية من قضايا الأصول، لأنها تتعلق بحاكمية الله تعالي، هل من حقه هز وجل أن يحكم خلقه ويأمرهم وينهاهم، ويحلل لهم، ويحرم عليهم أم لا ؟ العلمانيون يحرمونه من هذا الحق ويتعالون على ربهم. وهناك رفض مطلق ومن منطلق ديني أصولي بحت لكل أفكار دعاة الديمقراطية والدولة المدنية، وهناك تكفير وتأليب وتهديد واضح بحقهم (40).

وهنا يخلص المؤلفان هنا بالقول بأنه:”لا نقاش في قضية (الحاكمية لله) إذن، فهي من أهم دعائم (الإسلام السياسي) ودولته الدينية المنشودة، وأي طعن فيها ينسف أساس هذا الإسلام الهادف لتحقيق دولة الشريعة والحاكمية. أما سيادة الأمة والمجتمع ومفاصل الدولة وكل السياسات وأمور الحياة، فلا يجب أن تكون للعشب كما في الديمقراطيات الحديثة، بل لا بد أن تخضع لحكم الله، وأن يكون هذا الحكم هو القانون الملزم العالي، والذي لا يعلى عليه، ومن هنا فإن السيادة العليا في الدولة الإسلامية يجب أن تكون للشرع وحده، حيث أن مفهوم السيادة الشعبية أو سيادة الأمة يطلق حريتها في تبني ما تشاء من قوانين من منطلق كونها السيادة العليا الآمرة في المجتمع، وهذا يخالف الأمر الجازم بوجوب الانقياد لأحكام مما ينفي عن الأمة بداهة أنها صاحبة السادة طالما أنها لا تستطيع بمقتضي إرادتها العليا أن تضع قانوناً ملزماً، أو تقرر أمراً يخرج عن نطاق ما رسمه الشارع (41).

والفكر الأصولي ومدارس (الإسلام السياسي) في نظر الكاتبان ترفض كلها التشريعات الحديثة التي تقول بسيادة الشعب في الدولة وحقه في تشكيل صبغة إدارة هذه الدولة وكيفية تسيير شؤونها. هناك رفض مبدأي عقائدي للدولة الحديثة، وإصرار على إحلال البديل الإسلامي محلها. وهذا البديل هو الشريعة وتطبيقاتها. وفكر (الحاكمية لله) وشريعته المتمثلة في القرآن والسنة، هي من يجب أن تكون الأساس في السيادة والخضوع والإدارة وتحديد معالم السياسات الداخلية والخارجية، وطريقة الحياة والعيش، لذلك فقد أكدت تعاليم الإسلام أن السيادة للشرع وليست للشعب الذي يمتلك فقط السلطان المتمثل في تولية الإمام، ومراقبته، ومحاسبته، وعزله، فالدولة لا تستمد سلطة التشريع من الأمة، لأنها لا تملكها أصلا، ومن لا يملك شيئاً، فليس بوسعه أن يملكه غيره بداهة، ولذلك فالفقه السياسي لم يتناول مشكلة السيادة في النظرية السياسية الإسلامية للشرع () ص 52، ووفقا لهذا الرأي الرافض للدولة المدنية الديمقراطية، والقائل بدولة الشريعة التي تستمد الحكم من النص، وتخضع لـ(حاكمية الله)، فإن طريقة الحكم ظلت في الدولة المدنية الديمقراطية، وهو ما أدى إلى ظهور مشاكل ومصاعب كبيرة في الحكم والإدارة، لم تعرفها الدول الحديثة ولا المجتمعات الخاضعة للديمقراطية ولحكم الأغلبية، كما أن الحكم لله، استعيض عنه كما يؤكد المؤلفان بنظام شوري ظل قاصراً ومتخلفا عن تمثيل الشعب، وبما أن الحاكمية لله وحده، فإن الإسلاميين يرفضون مبدأ الحاكمية الشعبية أو السيادة الشعبية، ولا يولون مبدأ الانتخاب إلا أهمية عرضية، لذا إن لم تظهر أية شخصية تفرض نفسها تلقائيا كأمير، فإن هذا الأخير يمكن أن ينتخبه مجلس شوري أو حتى بالاقتراع العام، وفي هذه الحالة لا تعكس كلا العمليتين حاكمية ما أو سيادة ما، بل مجرد مبدأ الإجماع. والشورى هي مشورة أو نصيحة بالمعني الدقيق للكلمة: ذلك أن الحاكمية أو السيادة تنبع من الله وحده. أما الجماعة فإن الحق الوحيد الذي تملكه هو حق إبداء النصح وتذكير أو تحذير الأمير باسم المبادئ والأصول والمبادئ الإلهية، ومساعدة الأمير على اتخاذ قراره باسم هذه الأصول وأخيراً لوم الأمير إذا ابتعد عنها (42).

واستخلاصا نجد المؤلفان يؤكدان بأن (الإسلام السياسي) يعتبر مبدأ (الحاكمية) من أهم دعائم فكره، ويقوم برنامجه على جعل الحكم لله عبر الخضوع التام للنص والشرع وترك نظم الحكم والإدارة والإيديولوجيات الوضعية واعتبارها كفرا من عمل البشر، لا يجب مقارنتها أبدا بالشريعة، أو الاحتكام إليها، ولا يجب أن تحل محل حاكمية الله، التي ينبغي أن يخضع لها بكل مظاهر العبودية والتسليم الكامل (43).. ويرفض (الإسلام السياسي) ومفكروه أي اجتهاد مع مبدأ (الحاكمية لله) الذي طوره “أبو الأعلى المودودي”، وبحث فيه كثيراً سيد قطب، وهم يقولون بأنه مبدا كلي لا يمكن تجزئته، كما طالب بذلك فرج فودة مثلا. ويعتبر دعاة (الإسلام السياسي) كل العصور الذهبية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية وليدة التمسك بهذا الفكر، وبالتطبيق الحرفي للشريعة، ويعيدون انتصارات الأمة للدين وانكساراتها للبشر الذين رفضوا تطبيق الدين وركنوا لأمور وأيديولوجيات أخري. وفي كل الأحوال يظل (الإسلام السياسي) وكافة جماعاته متمسكا بمبدأ (الحاكمية لله)، ورافضا للمناهج الوضعية، وثمة البعض من جماعاته يعلن ذلك علانية، والبعض الآخر يمارس التقية للالتفاف على القوانين السائدة والوصول إلى الحكم والسلطة (44).

4-الخاتمة:

وختاما نقول بأن الاختلاف مع الكاتبين لا يفسد للود قضية، كما لا يحق لأحد أن يمنع الاختلاف في وجهة النظر ويحتكر الصواب لنفسه، ويمنع الحوار، ويقمع الحرية، ويستبد في الرأي أو الحكم، فهذا الجانب السياسي هو جانب بشري خالص أخذ مصداقيته من المنهج الرباني، والخطأ القاتل الذي وقع به المسلمون عندما دمجوا ما هو بشري بما هو رباني وسحبوا الصفة الربانية “أي في الدين” فلذا يجب تمييز المنهجية الربانية كونها قواعد ومقاصد ثابتة لحفظ الفرد والأسرة والمجتمع، عن السياسة الإنسانية المتعلقة بالجزئيات والمستجدات التي تتغير حسب تغيير الوقائع (45).

والسؤال الآن: ما  معنى الحاكمية لله وحده كما يتخبط الكاتبان في تحليلها ؟..  وهل يسير الدين على قدمين ليمتنع الناس جميعاً عن ولاية الحاكمية، أو يكون الممثل لله في الحكم هو شخصية هذا المؤلفان الداعي، والذي ينكر وجدود الحكام، ويضع المعالم في الطريق للخروج على كل حاكم في الدنيا؟

إن القرآن نفسه يعترف بالحكام المسلمين، ويفرض لهم حق الطاعة علينا، كما يفرض عليهم العدل فينا، ويوجه الرعية دائماً إلى التعاون معهم؛ كما أن الإسلام نفسه لا يعتبر الحكام رسلا معصومين من الخطأ، بدل فرض لهم أخطاء تبددوا من بعضهم، وناشدهم أن يصححوا أخطاءهم بالرجوع إلى الله وسنة الرسول، وبالتشاور في الأمر مع أهل الرأي من المسلمين، فغريب جدا أن يقوم واحد، أو نفر من الناس، ويرسموا طريقا معوجا، ويسموه طريق الإسلام لا غير.. لا بد لاستقرار الحياة على أي وضع من أوضاعها من وجود حكام يتولون أمور الناس بالدين، وبالقوانين العادلة ومن الإسلامية:” إن الله يزع بالقرآن ما يزع بالقرآن”، فكيف يستقيم في عقل إنسان أن تقوم طليعة مزعومة لتجريد الحكام جميعاً من سلطانهم؟!!. وبين الحكام كثيرون يسيرون على الجادة بقدر ما يتاح لهم من الوسائل، هذا شطط في الخيال، يجمح بمؤلفا الكتاب إلى الشذوذ من الأوضاع الصحيحة والتصورات المعقولة.

علاوة على أن مفهوم الحاكمية الخاصة بالله عز وجل، هي حاكمية التشريع والتي تعول على فكرة أن الحاكم هو الله تعالي الذي يقول هذا حلال فافعلوه، وهذا حرام فلا تفعلوه، وفي هذا تحرر كامل من عبودية الإنسان للإنسان، إلى العبودية لله سبحانه وتعالي.. كما أن لفظ ” الحاكمية” لفظ مشترك يطلق على كثيرين مختلفين، مثل كلمة ” عين” التي تطلق على الجارحة، وعلى البئر، وعلى النقود وعلى الجاسوس، ومثلها كلمة حاكم فإنها كما تطلق على الله تطلق على الإنسان الذي من حقه أن يحكم.

وكما اتضح من كلام المؤلفين بأن فكرة الحاكمية هي فكرة بدأت منذ الخوارج، الذين أرغموا سيدنا “علياً” رضي الله على قبول التحكيم، بعد اقترابهم من الهزيمة، ثم انشقوا عنه، وقالوا الحكم لله، وكفروا الصحابة وسيدنا عليا وقتلوه، وبعد أن اندثرت فكرة الحاكمية عادت مرة أخرى على يد عالم في الهند اسمه أبو الأعلى المودودي الذي كان يعيش في عصر سيطرة الإنجليز على الهند، واتبعها ليحارب بها الإنجليز، ثم ظهرت مرة أخري على سيد قطب، وبعده الجماعات الإرهابية التي ظهرت بعد 1965م واعتبرت أن مجلس الشعب المصر كفر، والانتخابات كفر، والديمقراطية كفر، لأنها تفتح المجال لحكم البشر، وبالتالي يكون المجتمع كافراً، ومن يحكم به كافر، ومن يرضي بهم دون أن يكفرهم فهو كافر أيضاً.

وقد رأينا من خلال هذا الكتاب الذي بين أيدينا كيف أعجب سيد قطب بكتابات معاصره وصديقه أبي الأعلى المودودي أشد الإعجاب لدرجة الانبهار، وانطلق منه إلى أن الحاكمية لله؛ لأن الألوهية  هي الحاكمية، وكل البشر الذين يعطون لأنفسهم الحق في إصدار قوانين أو تشريعات، أو أي تنظيمات اجتماعية يخرجون من الحاكمية الإلهية إلى الحاكمية البشرية، وأصبح عنده أن البشر محكومون بقوانين غير قوانين الله – سبحانه وتعالي- وبأنظمة لا ترضي عنها شريعة الله، ولم يأذن بها الله، وبالتالي هذا المجتمع مجتمع مشرك وكافر ويعبد غير الله؛ لأن العبادة طاعة الله في حاكميته.

إن هذه المفاهيم التي جاء بها سيد قطب ما أنزل الله بها من سلطان، ولكن للأسف الشديد وجدت من يقف وراءها من جماعات الإسلام السياسي الذين ساروا على هذا المنهج؛ علاوة على أنه لا يلزم الحاكم من تطبيق الشريعة إلا ما يطبقه وتطبقه الظروف الموجودة؛ لكنه لا يُعالج ضرر بضرر مساو له، أو بضرر أكبر، كما أنه يجب عدم الخلط بين الاعتقاد بما حكم الله، وبين التطبيق بما حكم الله، فالتطبيق منوط به البشر، وطالما وجد العدل فالحكم متوافق مع الإسلام، ولذلك فإن الأمة الإسلامية لم تستمر في تاريخها بنظام حكم واحد، أو شكل واحد.

ولذلك فمفهوم ” الحاكمية” ليس قاصرا على الله تعالي، بل هو أمر مشترك بين الله وبين البشر، والقرآن الكريم في آيات كثيرة منه جعل من الإنسان حكماً وحاكماً وأسند إليه الحكم، والحكم لله هو حكم تشريع، وهناك مسائل كثيرة وصف القرآن فيها الإنسان بأنه حاكم، ومن يقولون إن الحكم لله فقط، وليس للبشر، فهؤلاء يأخذون بآية، ويضربون صفحاً عن بقية الآيات التي يجب أن تُفهم في إطارها وسياقها، كما أن مفهوم الحاكمية بالنسبة لله تعالي يختلف عن مفهوم الحاكمية بالنسية للبشر، فحاكمية البشر حاكمية تصرف، وحاكمية تشريعات جديدة، مرتبطة بالقضاء الإسلامي الأخلاقي والتشريعي، لكن حاكمية الله تعالي حاكمية حلال وحرام وحاكمية عقيدة.

الهوامش

1-محمد كمال الدين إمام: الحاكمية والاعتدال الإسلامي: رؤية نقدية، الإحياء، الرابطة المحمدية للعلماء، ع 46,45، 2018، ص 87.

2-المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

3- المرجع نفسه، ص 88.

4- هشام أحمد جعفر، وآخرون: الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية، المسلم المعاصر، جمعية المسلم المعاصر، المجلد 18، العدد 61، 62، 1994م، ص198.

5- الأستاذ طارق حمو والأستاذ صلاح على نيوف: الحرية والديمقراطية في خطاب الإسلام السياسي بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي، مطبوعات مركز الكتاب الأكاديمي، 2014، ص9.

6- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

7-المصدر نفسه، ص 10.

8- المصدر نفسه، ص 11.

9- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

10- المصدر نفسه، ص 12.

11- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

12- المصدر نفسه، ص 13.

13- المصدر نفسه، ص 19.

14- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

15- المصدر نفسه، ص 20

16- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

17- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

19- المصدر نفسه، ص 21.

20- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

21- المصدر نفسه، ص 22.

22- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

23- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

24- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

25- المصدر نفسه، ص 23.

26- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

27- المصدر نفسه، ص 33.

28- المصدر نفسه، ص 39.

29- المصدر نفسه، ص 40.

30- المصدر نفسه، ص 44.

31- المصدر نفسه، ص 46.

32- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

33- المصدر نفسه، ص 47.

34- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

35- المصدر نفسه، ص 48.

36- المصدر نفسه، ص 49.

37- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

38- المصدر نفسه، ص 50.

39- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

40- المصدر نفسه، ص 51.

41- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

42-المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

43- المصدر نفسه، ص 58.

44- المصدر نفسه، ص 59.

46- أحمد شقيرات: الألوهية والحاكمية، هدي الإسلام، وزارة الأوقاف وال شيءون والمقدسات الإسلامية، المجلد 56، العدد الأول، 2012،، ص 13.

_______
*الأستاذ الدكتور محمود محمد على

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

جديدنا