الشباب ومناهج التجديد الديني

image_pdf

عقدت الرابطة العربيَّة للتربويِّين التنويريِّين، السبت الموافق 10 يوليو/ تموز 2021، وضمن فعاليّات مؤتمرها الخامس الذي يحمل شعار (الرسالة المعاصرة للدين)، ثاني ندواتها الفكريّة عبر تقنية الاتّصال عن بعد (الشباب ومناهج التجديد الديني) التي ترأسّها الأستاذ صلاح الدين الجورشي، واستضاف فيها الدكتور رضوان المصمودي والدكتور محمد عبدالوهاب رفيقي، وشارك في إدارتها الزميل عبدالله الجبور.

ورحّب الأستاذ صلاح الدين الجورشي بضيوف الندوة، مجدّدًا التحية للرابطة العربيّة للتربّويين التنويريّين، لافتًا أنّها مؤسَّسة صاعدة يشرف عليها عدد قليل من الشباب، ولكن يدفعها إيمان وطموح بأنَّ قضايا التنوير في الساحة العربيَّة قضيّة مركزيّة تحتاج إلى بذل مزيد من الجهود، وتحتاج إلى نوع من التشبيك واسع النطاق، حتى يعمّ التنوير وتعمّ الفكرة التربويّة العربية العميقة والإسلاميَّة ممّا سينشئ أجيالًا جديدة من المثقّفين القادرين على أن يعبِّروا عن رأيهم بجرأة في قضايا تتعلَّق بالدين وكذلك تتعلّق بمسائل التربية، وهناك ترابط وثيق بين المسألتين؛ المسألة التربويَّة والمناهج التنويريَّة التي توسّع دائرة الآفاق.

وضمن السياق الذي ينبع منه عنوان الندوة، قال الأستاذ صلاح الدين الجورشي:  في هذه الجلسة سنتناول موضوع، هو في تقديري مهمّ جدا؛ لأنّه يتعلّق بدور الشباب في الدراسات وفي الأبحاث وفي القضايا التي تمسّ التجديد الديني أو الإصلاح الديني، والحقيقة أنّ الرابطة مشكورة لاختيار هذا الموضوع، لأنّ هناك رأيًا سائدًا بأنَّ قضايا الدين عمومًا، وخاصةً  قضايا تجديد الفكر الديني هي قضايا تحتاج إلى كثير من سعة العلم والمعرفة، وتتطلّب نوعًا من الاختصاص العالي وبعد سنوات من البحث الجامعي حتى يُسمح لشخص  أن يعبِّر عن رأيه وعن اجتهادٍ ما داخل الإطار الديني، وهي فكرة خاطئة؛ لأنّنا عندما ننظر إلى التاريخ، نجد أنَّ الكثير من العلماء والفقهاء والمجدِّدين لم يكونوا بالضرورة مشايخ كبيرة، ولكنَّهم بدأو امحاولاتهم الأولى في إعطاءآرائهم في قضايا النصوص وتأصيلها في واقعهم والحديث عن مستقبل الفكر الديني. تحدَّثوا عنهم وهم ما زالوا في بدايات الشباب، وبالتالي إن لم نعطِ فرصةً للشباب، إذا لم نمنحهم القدرة على الجرأة والقدرة على البحث والمغامرة في هذا السياق، فمتى سيتمتَّعون بالقدرة والتأثير الضروي وبتعميق أفكارهم وطروحاتهم.

وأضاف الجورشي: إذن عندما نفتح باب التجديد الديني للشباب، إنّما نركز على نقطة مركزيَّة مهمّة وهي أنَّ التجديد مجاله واسع، وليس مرتبطًا  بظرفٍ زمنيّ أو بعمرٍ معيَّن وإنّما هو  عمليَّة اجتهاديّة تواصليّة ومتواصلة عبر الزمان وعبر المكان، من أجل إعطاء رؤى جديدة للفكر الديني. فعندما نتحدّث عن تجديد الدين أو  لإعادة النظر وتوسيع الرؤية وتمكين أكثر من طرف للخوض في هذه القضيّة التي على أهميّتها يجب أن تبقى ملكا مشاعًا للجميع، المهمّ أن من يتدخّل بهذه المسائل يكون له الحدّ الأدنى من المعرفة، يُقدِّم حجّته  ويقبل النقاش.

وفي مداخلته، انطلق الدكتور رضوان المصمودي من تقرير نشرته الـBBC قبل عامين في 2019، يقول هذا التقرير، إنّ هناك بالفعل في العالم العربي، ابتعادًا  عن الدين وخاصَّة لدى الشباب، ورصد التقرير أنّ نسبة الشباب الذين يقولون إنَّهم ليسوا متدينين، أو علاقتهم بالدين ضعيفة جدا، تضاعفت تقريبًا في الفترة بين العامين 2013 و2018، هذا العزوف عن الدين لدى الشباب في كل العالم العربي؛ لأنّ الشباب لا يشعر بأنَّ الدين يعالج مشاكله الحقيقيّة التي يعاني منها في هذا العصر، بمعنى لا يوجد هناك تقارب بين الخطاب الديني أو الحلول التي يقدِّمها الدين ومشاكل المجتمع الحقيقيّة التي يعاني منها الشباب، إذن هذه النقطة الأولى،

وأكّد المصمودي، أنّ الدين بحاجة دائما إلى تجديد؛ لأنَّ الواقع يتغيَّر والظروف تتغيَّر، إذ لا يمكن أن نحدّث الناس بفقه أو اجتهادات تتحدَّث عن واقعٍ مغاير تمامًا  للواقع الذي ظهرت فيه المذاهب في القرون السابقة، بدليل حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنَّ الله يبعثُ لهذه الأمَّة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها). لافتًا أنّ الاجتهاد ليس فكرة جديدة أو بدعة في الدين، بل إذا درسنا حياة العلماء والفقهاء من السلف الصالح، وجدنا أنّهم  كانوا دائما يجدّدون ويجتهدون في تجديد الفكر الديني والخطاب الديني على حسب الواقع الذي يعيشون فيه. هذا الاجتهاد هو الذي جعل، الفقه الإسلامي يتطوّر  ويتغيّر على حسب تغيّرات الواقع والمجتمع، وهذا تحديدًا ما يجعل الإسلام صالحًا لكلِّ زمانٍ ومكان. فهو أولًا مرتبط بوحي، وثانيا لأنّه مرتبط بالواقع المتغيِّر الذي يسمح لنا بالربط بين الوحي والواقع هو الاجتهاد والتجديد في الخطاب الديني، يعني معرفة الواقع ودراسته واستنباط الحلول المناسبة لهذا الواقع، وخاصة للشباب لأنّه يعيش لحظته الآن، ومن الطبيعي أن نجتهد ونجدّد ونأتي بأفكار جديدة تحترم تعاليم وقيم الإسلام الثابتة بدون خروج عن قيم وتعاليم الإسلام الثابتة، مع إبداء مرونة في التطبيق  وفي الأولويّات، إذ ليس من الطبيعي بتاتًا أن نظلَّ بعد ألف عام نجترّ الأفكار والفتاوى نفسها.

وأضاف: للأسف تمَّ غلق باب التجديد والاجتهاد في الدين والفقه والخطاب الديني؛ لأنَّه لم تعد لدينا القدرة على الاجتهاد، ولم تعد لدينا الكفاءات والمهارات والمؤسَّسات التي تجتهد وتستنبط هذا الفكر الجديد، فنحن منذ خمسة قرون تقريبًا ما زلنا نراوح مكاننا ونقول الكلام والفقه والخطاب الديني نفسه. الدين لم يخرج من المجتمعات لكن علاقتنا بالدين صارت تعبُّدية فقط؛ قد أصبحت علاقة مظاهريَّة وطقوسية، ابتعدنا – عن جوهر الدين، الدين  جاء رحمةً للعالمين؛  ليحلّ مشاكل الناس ويبني حضارة ويقيم العدل وليس فقط لينقذنا في الآخرة لكي ندخل الجنّة. هذا هو الهدف الأساسي للدين.

وختم الدكتور رضوان المصمودي مداخلته قائلا: يجب تقديم حلول حقيقيَّة وربط الدين بالمشاكل الحقيقية التي يعاني منها المجتمع؛ فمشاكل الأمّة الإسلاميَّة كبيرة جدا، لهذا نحتاج إلى مراجعات كبرى، ويجب أن نسأل أنفسنا: لماذا تأخَّر المسلمون؟  ولفت أنّه للخروج من حالة التأخّر هذه لا بدّ من شيئين هما: الأوّل: الحرّيّات والديموقراطيَّة، لأنه لا يمكن النجاح أبدا من دونهما، من دون تحرير الفكر وتحرير المبادرة، وجعل الناس أحرارًا في التفكير والنقاش والمراجعة. أمّا الثاني، فهو فتح باب الاجتهاد والتجديد لكي نستنبط فكرًا جديدًا يتماشى مع مبادئ العصر ودون أن يخالف الدين. هذان الشيئان، الحريّة والديموقراطيّة وفتح باب الاجتهاد ضروريّان لكي يصبح الإسلام قادرًا على بناء مجتمعات متوازنة وناهضة ومتقدّمة ومبادرة وناجحة وقادرة على حلِّ مشاكلها.

أمّا الدكتور محمد عبدالوهاب رفيقي، فقد افتتح مداخلته بالإشارة إلى أنّ التجديد الديني هو موضوع من الصعوبة بمكان، خصوصا حين يصل الأمر  للحديث عن حدود أو سقف هذا التجديد، إذ يسبِّب الخلافات حتى داخل التجديديِّين؛ حدود هذا التجديد، سقف هذا التجديد، ما هو الثابت وما هو المتحوّل؟  ما هو القطعي وما هو الظنّي؟  هذه بنفسها إشكالات موجودة حتى داخل فئة المنادين بالتجديد، في واقعٍ قلَّ فيه من لا ينادي بالتجديد. حتى التيارات التقليديّة في العالم الإسلامي،اليوم، لا تعارض التجديد؛ لكنّها في واقع الأمر حين تدخل في التفاصيل، تجد أنّها تضع من الحدود والقيود ما يجعل الدعوة إلى التجديد فارغة؛ لأنّها تعتني بالتجديد في بعض الشكليّات والأساليب دون الخوض في القضايا الأساسيّة والمنهجيّة والأصوليّة التي تحتاج إلى تجديد.

ثمّ استعرض رفيقي، الوقائع التي عاشها الشباب في العقود السابقة، حيث نشأ ضمن سياق سياسي وفكريّ ودينيّ معيَّن غزا فيه نوع من التديُّن المجتمعات الإسلاميّة، وهو الدين الذي صوّرته الأدبيّات الدينيّة والدروس والأشرطة والقنوات الفضائيّة على أنّه  النسخة الوحيدة للدين، وانخرطت مجموعات كبيرة من الشباب في الدين خصوصًا في عقد الثمانينات والتسعينات في هذه الموجات التي كانت مرتبطة  بحركات الإسلام السياسي أو ما عرف في ذلك الوقت بالإسلام الاستهلاكي أو إسلام السوق، لكن بالعموم كل تلك التيارات كانت تحت سقفٍ معيّن  محدَّد وهو النسخة السلفيَّة للدين؛ حتى التيَّارات التي كانت المنفتحة أو المتساهلة في بعض الخيارات الفقهيّة هي أيضًا لم تكن تتجاوز ذلك السقف.

وتحدّث الدكتور رفيقي، عن سنوات مفصليّة أثّرت على هذا الجيل فيما يتعلّق بعلاقته  بالدين؛ الأولى هي سنة 2005 و2006 حيث بدأ ظهور الفيسبوك واليوتيوب في المنطقة؛ ممّا أحدث زلزالا حقيقيًّا إذ تعرّفوا على ما كانوا لا يعرفونه، وانفتحوا على ثقافات أخرى، وتعرَّضوا لانفجار معلوماتي، ونتيجة لهذه التغيّرات بدأت تُطرح الكثير من التساؤلات، وهي أسئلة تتعلّق بالقضايا الوجوديَّة، بصحَّة الدين نفسه، فيما إذا كان الله موجودًا أم ليس بموجود، فيما إذا كانت هذه الأديان كلّها هي نوع من الخرافات. كما أنّ الشباب انفتح على الحياة، اطّلع على ثقافات أخرى، ووجد أنَّ كثيرًا ممَّا يعيشه هؤلاء الناس محرَّم وممنوع عليه، فبدأ يسأل نفسه: هل الدين يتعارض مع الحريّات الفرديّة؟ بدأت المرأة الشابة تسأل نفسها: هل أنصفني الإسلام بالفعل؟ أما السنة المفصليّة الثانية فهي المتعلّقة بالربيع العربي عام 2011، لافتًا أنّ منسوب الحرية لم يكن بالشكل الذي صار عليه بعد هذا التاريخ، ولذلك كثير من هذا التشويش الذي بدأ منذ 2005 بدأ يظهر إلى العلن، وبدأنا نتحدّث عن موجة شك وتيه وحيرة.

وأضاف رفيقي، أنّ الكثير من مناهج التجديد الديني بدأت تعبِّر عن نفسها بعد ظهور هذه الإشكالات،  لكنّها لم تلامس الفئة الكبيرة من الشباب لأنّ معظمها مناهج سلفيّة تقليديّة، وحتّى بعض المناهج التجديديَّة التي كانت محاولات جادّة جدًّا؛ كمحاولات أركون وحامد نصر أبو زيد ممَّن حاولوا قراءة النصّ قراءة تأويليَّة مغايرة لما كان الأمر عليه من قبل، لم تجد صدى عند الشباب، لأنّها كانت كتابات نخبويَّة ولا تتوجَّه للشباب بلغتهم ومستواهم، ولذلك عندما ظهر عدنان إبراهيم ومحمد شحرور، تمكّنا من استقطاب فئة كبيرة لأنّهما توجّها إلى الشباب بلغتهم وعبر المنصّات التي تصل إليهم،   لكن مع ذلك، ظلَّت فئة أخرى من الشباب، لم تقنعها كل هذه الطروحات ووجدوا أنّها نوع من التلفيق أو محاولات التجميل، وأنّ الإشكال هو في النصّ نفسه، خصوصًا مع ظهور عامل جديد ومهمّ بعد حركات الربيع العربي، وهو دخول الجماعات الإسلاميَّة إلى الحكم، ثمّ فشلها في تدبير الشأن السياسي في عدد من الدول، ممّا أدّى إلى انتكاسة جديدة عند هؤلاء الشباب انعكس على موقفهم من الدين كلّه. وأكّد كذلك، على أنّ ظهور  داعش  كان له دور في هذه المسافة والهوَّة التي بدأت تتَّسع يومًا بعد يوم، بين الشاب وبين الدين، لأنّ داعش قدَّمت نفسها بأنَّها النسخة الحقيقيّة للدين.

وختم الدكتور رفيقي مداخلته قائلا، إن كنَّا نريد أن نكون مؤثِّرين في الشباب فلا بد من أن تكون عمليّة التجديد الديني عبر وسائل مؤثّرة في كل عصر وفي كل وقت، اليوم للأسف الشديد، الكتاب ليس له ذاك التأثير الذي نتوقّعه، مقطع فيديو قد لا يتجاوز خمس دقائق يستطيع أن يغيّر من الأفكار ما لم يقدر كتاب بذل فيه صاحبه عدة شهور أو سنوات من الإعداد والتأليف. كذلك إذا كنّا نريد فعلا أن نقدّم رؤية تجديديّة حقيقيّة للدين، فلا بدّ من مراعاة الكثير من من القضايا التي اعتبرت فيما قبل من المسلّمات والقطعيّات، ومناقشتها اليوم بكلّ جرأة.

شهدت الندوة التي حضرها عدد من المهتمّين والفاعلين في مجال التنوير الديني، نقاشًا موسّعاً، أجاب فيه الدكتور رضوان المصمودي والدكتور محمد عبدالوهاب رفيقي على مداخلات الحضور واستفساراتهم، علمًا أنّ الندوات ستتواصل بشكلٍ دوري، ويمكن للمهتمين متابعة منصّاتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي نعلن من خلالها عن مواعيد الندوات، ونتيح المشاركة فيها.

 

جديدنا