تجديد وتهذيب وإصلاح التراث (1)

image_pdf

مدخل غير شخصي:

“التراث” كلمة قديمة وشائعة وتعني ما يتركه الآباء لأبنائهم من إرث، وأقدم استخدام لتلك الكلمة وصلنا كان في القرآن الكريم في قوله تعالى ” وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا ” أي من كانوا يمنعون توريث السيدات والأولاد الصغار في الجاهليَّة. وفي الاستخدام الحديث أصبحت كلمة “التراث” يقصد بها ما تركه أولنا لآخرنا من تاريخ وعلم وفن ودين وفكر وقيم وحضارة. وإحياء التراث يُقصد به الاهتمام بهذا الإرث الحضاري والإنساني والاعتناء به والنظر فيه، ثمّ البناء عليه والتقدُّم به إلى المستقبل. ولأن هذا التراث، وأقصد به هنا تراثنا العربي والإسلامي، هو تراث ضخم وغني ومتراكم ومتطوّر، أنتجه واقع وظروف مختلفة ومتلاحقة التغيير والتطوير فإنه يحتاج إلى جانب العناية والاستفادة من التراكم، النظر والمراجعة وحريَّة الاختيار؛فأسئلة عصر الرسول الكريم وصحابته الأجلاء، حين نزل القرآن وقيلت الأحاديث، لم تكن هي أسئلة الإمام الشافعي حين وضع كتابه “الرسالة” في أصول الفقه والحديث. والإمام الرازي يقول في “مناقب الشافعي”: كانوا قبل الإمام الشافعي يتكلمون في مسائل أصول الفقه، ويستدلون ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وكيفيَّة معارضتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع. فثبت أن نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطاطاليس إلى علم العقل”. والإمام الشافعي وضع علم أصول الفقه ووضع مبادئ علم الحديث وشروطا لصحة الحديث الصحيح عنده وهو ما اتصل سنده بالعدول الضابطين إلى منتهاه دون شذوذ أو علة. وبعد عصر الرسول والصحابة وقبل عصر الشافعي، كانت قد ظهرت في القرن الثاني الهجري مدرستان في الفقه؛ هما مدرسة الرأي، ومدرسة الحديث، والأولى هي مدرسة الإمام أبي حنيفة بالعراق، امتدادًا لطريقة وفقه عبدالله بن مسعود وامتدادًا لاجتهاد عمر بن الخطاب في الأخذ بالرأي والبحث في علل الأحكام حال غياب النص في كتاب الله أو سنة رسوله. وظهرت مدرسة الحديث، وهي مدرسة الإمام مالك بالحجاز، امتدادًا لطريقة وفقه عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، وعائشة بنت أبي بكر. ولم تكن هناك وقتها مستجدات تجعلهم ينظرون خارج الكتاب والسنة وأقوال الصحابة.

وكان انقسام الناس بين اتباع مذهب أبي حنيفة وأصحابه الذين يتقنون النظر أكثر مما يحفظون الحديث، وبين اتباع مذهب مالك وأصحابه الذين يحسنون حفظ المرويات أكثر مما يجيدون النظر فيها، هو التوطئة لظهور مذهب الشافعي الذي جمع بين الرأي والحديث، والأهم أنه وضع القانون الكلي المرجوع إليه في معرفة أصول الفقه ودلائل الشريعة الإسلاميَّة، ولهذا كان الشافعي هو مجدِّد القرن الثاني الهجري وبحق. واتّسعت فيما بعد الدولة الإسلاميَّة وعرفت إلى جوار تأسيس علومها الخاصة ترجمة علوم ومعارف الآخرين، وظهرت الفرق الكلاميَّة وكتابات الفلاسفة وترجمات الفارابي وابن سينا للمنطق والفلسفة اليونانيَّة. واتّساع الدولة الإسلاميَّة لم يكن فقط يعني التأثّر المجرد بأفكار الحضارات المختلفة، لكن واجه الفقهاء معه وقائع وأسئلة ونوازل جديدة دفعتهم لبذل قدر الاستطاعة والوسع في الاجتهاد لمواجهة تلك الوقائع. هذا السعي أنتج، بالإضافة لمستجدات الأحكام المتفرِّعة من العلل الكليَّة، أيضا صبغة علميَّة على الأحكام الشرعيَّة في كتابات الفقهاء (وليس مجرّد أمر ديني إيماني تسليمي) فيذكرون الحكم ومعه أدلّته وعلته وأصوله العامَّة.

وإذا كان الشافعي قد وضع في حدود متطلبات عصره وواقعه اللبنة الأولى لعلم أصول الفقه وقاعده وأطره الحاكمة، فإننا نجد تلك اللبنة في “المستصفى في علم أصول الفقه” للإمام الغزالي قد جددت نفسها بالتأثر بالمنطق اليوناني. ووضع الغزالي له مقدِّمة ذكر فيها أنَّ المنطق هو مقدّمة العلوم كلها ومن لا يحيط به فلا ثقة له. وكان الغزالي قد مهَّد لهذا بتأليف كتب خالصة في المنطق أشهرها كان “معيار العلم في فن المنطق”، وهو الذي قال فيه “إنَّ المنطق بالنسبة للعقل كالعروض بالنسبة إلى الشعر”. وقبل عصر الغزالي كانت هناك اجتهادات وخطوات فقهيَّة واسعة في القرن الخامس الهجري ساهم في تشييدها أئمة معتزلة وأشاعرة وهم: القاضي عبد الجبار بن أَحْمد المعتزلي – كتاب العمد، أبي الحسين البَصْرِيّ المعتزلي – كتاب المعتمد، أبو المعالي الجويني الأشعري الشافعي – البرهان في أصول الفقه. والقاضي أبو بكر الباقلاني الأشعري المالكي- التقريب والإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد (لم يصلنا هذا الكتاب لكننا نعرف آراءه المعتبرة في أصول الفقه في مختصره وكذا في استشهادات الجويني له في “البرهان” والغزالي في “المستصفى” والرازي في “المحصول”).

وكان أحد أهم مناهج الكتابة في علم أصول الفقه في أوج نضجه، هو منهج المتكلمين، وهو الغالب في هذا العلم، ويأتي بعده في المرتبة منهج الحنفيَّة ثم منهج الجمع بين طريقة المتكلمين وطريقة الحنفيَّة. وكانوا يهتمون في منهج المتكلمين في أصول الفقه بتحرير المسائل وتقرير القواعد الكليَّة، مجردة عن الفروع ومجردة عن اختلافات المذاهب. مع تقديم وضع القياس والاستدلال العقلي ما أمكن. وسميت بمنهج المتكلمين لأن كثير من المتكلمين ألفوا بها منسجمة مع دراساتهم العقليَّة وطريقة نظرهم إلى الحقائق مجردة، وكما يبحثون في علم الكلام. وفيها إبداعات مما ذكرنا ومما يضيق المقام عن ذكره، للشافعيَّة والمالكيَّة وحتى الحنابلة. والشافعيَّة أغلبهم حتى أنها تسمى منهج المتكلمين أو الشافعيَّة. ومن الحنابلة الذين كتبوا بهذه الطريقة كان القاضي أبو يعلي في كتابه “العدة في أصول الفقه”.

 

ولا أريد أن أتوسَّع في ذكر نماذج المستجدّات والنوازل والمجدّدين بعد الشافعي وبعد الغزالي إلى يومنا هذا والأمثلة كثيرة، والحياة لم تتوقَّف عن التجدّد ولا عن التغير، وأسئلة الحاضر تختلف عن أسئلة الماضي، وكل عصر يحتاج إلى حركة تجديد فكري تتواكب مع مستجدّاته. ودائما ما كنت أرى أن الرفض التام للتراث، وعكسه القبول التام للتراث، كلاهما أطروحات تتغافل عن الواقع والتاريخ وتشابكهما، وتجرد الثقافة بشكل مثالي متعالي؛ وبالتالي تبقى مغتربة وعاجزة عن أي فعل يمكن أن يؤدي إلى التغيير فعلا، التغيير في حدود الواقع الذي نعيش فيه ومنطلقا منه ومن معطياته.

(يتبع)

_____

*ماهر عبد الرحمن: باحث وكاتب مصري.

 

جديدنا