المدن الذَّكيَّة؛ الخصائص والنماذج والفرص والتحدّيات

image_pdf

صدر عن المكتب العربي للمعارف كتاب للباحث المرموق إيهاب خليفة عن المدن الذكيَّة وهو من المؤلفات العربيَّة القليلة في هذا الموضوع. ينطلق ايهاب من أنه إذا كان العقلُ وسيلةً للتَّمييز بين الإنسان وغيره من المخلوقات الحيَّة، فإنَّ الذكاء مرحلة أعلى للتَّمييز أيضًا بين الإنسان وغيره من بني البشر، حيث يتضمَّن ذلك القُدرات العقليَّة المتعلَّقة بالقُدرة على التحليل والتخطيط وحلِّ المشاكل وبناء الاستنتاجات بطريقة سليمة، وبالتالي لا يمكن أن يكون الإنسان ذكيًّا دون أن يكون عاقلًا أولًا.

ومع التطورات التكنولوجيَّة غير المسبوقة ظهر توجُّه جديد لوصف الآلات والمُعدَّات بالذكاء، فأصبح الذكاء أيضًا سمةً لغير العاقل، ولم يعُد قاصرًا على الإنسان العاقل، وذلك لأن هذه الآلات والمعدّات أصبحت قادرة على تنفيذ خطوات البحث العلمي من ملاحظة، وتحليل، واستنتاجات، واتّخاذ قرارات، وتنفيذها أيضًا، دون أن يكون لها عقل، فأصبح الذكاء سمةً رئيسيَّة في الحياة البشريَّة مع اختلاف هويته، وما إذا كانت العقل، أو الخوارزميات، والبرمجيات، وأجهزة الاستشعار، وأجهزة الكمبيوتر.

​ومن هنا فإن ايهاب خليفة يذكر أنه ظهرت مفاهيم مثل الهواتف الذكيَّة، والآلات الذكيَّة، والحكومات الذكيَّة، ثم التقنيات ذاتيَّة التفكير مثل الروبوتات والسيارات ذاتيَّة القيادة والدرونز(Drones)، ومع زيادة التطور التكنولوجي ظهر اتجاه آخر قائم على فكرة “الحياة الذكيَّة”، تلك الحياة القائمة على مكتسبات الثورة الصناعيَّة الرابعة من نظم الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) وإنترنت الأشياء (Internet Of Things) والطَّابعات ثُلاثيَّة الأبعاد (3D Printers) والروبوتات (Robots)، والعُملات المشفرة (Crypto Currencies) والبيانات الضخمة (Big Data)  وسلاسل الكتل (Blockchain) والحاسبات الكموميَّة(Quantum Computers) ، فظهر توجُّه آخر أكثر ذكاءً، قائم على إنشاء “مُدُن ذكيَّة” (Smart Cities).

تتميَّز تلك “المدينة الذكيَّة” كما يوضح المؤلف بكونها تعتمد بصورة رئيسيَّة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لإدارة جميع متطلبات الحياة اليوميَّة فيها، فالمنازل التي يسكنها الأفراد، والبنيَّة التحتيَّة وأنظمة النقل والاتصالات والخدمات الحكوميَّة والتجاريَّة والصناعيَّة وجميع القطاعات بهذه المُدُن تُديرها نظم ذكيَّة تعتمد على الذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء لتسيير الحياة بها.

كما يحدث بداخلها أنماط مختلفة من “التفاعلات الذَّكيَّة” بين البشر، وبين البشر والآلات، وبين الآلات وبعضها، ينتج عن هذه التفاعلات مليارات من البيانات المتولدة يوميًّا، والتي يُشار إليها بمفهوم “البيانات العملاقة” (Big Data)، وتكون مُحصِّلة تحليل هذه البيانات قرارات وسياسات تُساعد في تحسين نمط الحياة داخل هذه المدينة الذَّكيَّة.

ونظراً إلى أن ما يقدر بنسبة 70% من سكان العالم سيعيشون في المدن بحلول 2050، وبحلول عام 2025 سيكون عدد المدن التي يعيش بها أكثر من 10 ملايين نسمة في العالم 34 مدينة، أصبحت المدن الذكيَّة التي تتميز بالاستدامة أولويَّة رئيسيَّة في السياسة العامة لكثير من الدول في جميع أنحاء العالم.

لذا فقد أعلنت عديد من الدول الاتجاه نحو إنشاء مُدُن ذكيَّة، فمُقارنةً بـ21 مدينة ذكيَّة عام 2013، من المتوقع أن يصل عدد المُدُن الذَّكيَّة حول العالم عام 2025 إلى 88 مدينة ذكيَّة، منها 32 مدينة في منطقة آسيا والباسيفيك، و31 مدينة في أوروبا، و25 مدينة في القارة الأمريكيَّة، وذلك حسب تعريف شركة (IHS) لمفهوم المدينة الذَّكيَّة.

فضلاً عن ذلك، هناك بعض مظاهر الحياة الذكيَّة التي باتت منتشرة داخل كافة المجتمعات، المتطورة وغير المتطورة، بصورة تجعل عمليَّة التحول المتكامل نحو مفهوم المدينة الذكيَّة أمراً ليس معقداً، حيث باتت شبكات الانترنت سواء السلكيَّة أو اللاسلكيَّة وبسرعات عالية الجودة في مناطق كثيرة حول العالم، مع انخفاض تكلفة شراء الهواتف الذكيَّة، وجود عدد من المشروعات التي تسعى إلى تقديم الانترنت من الفضاء الخارجي مثل مشروع شركة ستارلينك (Starlink) الذي يسعى لتقديم الانترنت لجميع المستخدمين حول العالم عبر أقمار صناعيَّة صغيرة تدور حول الأرض، وبسرعات فائقة.

يضاف إلى ذلك كما يبين إيهاب خليفة أن انتشار نظم جمع المعلومات وتحليل المعلومات الذكيَّة سواء من خلال أجهزة الاستشعار Sensors التي تستقبل البيانات وفق خوارزميات محددة وتقوم بتحليلها، أو من خلال برامج تحليل المصار العلنيَّة المعروفة باسم OSINT والتي تشير اختصاراً إلى Open Source Intelligence، هذا فضلاً عن الانتشار المتزايد لإنترنت الأشياء Internet of Things وتزايد عدد القطع المتصلة بالانترنت، حيث وصلت عام 2020 إلى أكثر من 20 مليار قطعة، وتبلور مفهوم المنازل الذكيَّة التي يتم إدارتها من خلال الهواتف الذكيَّة.

ومن النماذج المتعدِّدة للمدن الذكيَّة مشروع “المدن الذكيَّة الأوروبيَّة” الذي تم إطلاقه عام 2007 في أوروبا لإنشاء 70 مدينة ذكيَّة، وذلك في إطار مشروع أوروبا 2020 الذي يستهدف تحسين الخدمات وزيادة فرص العمل، وفي يوليو 2014 أعلن رئيس الوزراء الهندي نارندرا مودي نيته بناء 100 “مدينة ذكيَّة” مجهزة بأحدث القدرات التقنيَّة في مختلف أرجاء الهند من إجمالي 4000 مدينة هنديَّة قديمة سيتم تحويلها إلى مدن حديثة يمكنها التنافس مع أي من كبريات المدن حول العالم، ميزانيَّة 15 مليار دولار.

وفي المنطقة العربيَّة تتبنى دولة الإمارات العربيَّة المتحدة نماذج لمدن ذكيَّة، حيث تمثل دبي أحد أهم المدن الذكيَّة الأسرع نمواً في العالم، حيث قامت بإطلاق مبادرة “دبي مدينة ذكيَّة” في أكتوبر 2013، وهي المبادرة التي تتضمن 500 خدمة ذكيَّة، وتم في إطارها تدشين مشروع “سيليكون بارك” على امتداد 150 ألف متر مربع وبتكلفة تُقدر بـ300 مليون دولار، ودشنت أيضا دولة الإمارات مدينة “مصدر” في صحراء أبوظبي، التي تم تصميمها لتكون مدينة ذكيَّة وصديقة للبيئة والتنمية المستدامة.

كما شهدت دول الشمال الإفريقي مبادرات على الصعيد ذاته، حيث أعلنت المملكة المغربيَّة تحويل ست مدن رئيسيَّة (تشمل: الدار البيضاء، والرباط، وطنجة، وفاس، وإفران، ومراكش) إلى مدن ذكيَّة بحلول عام 2026، مع إنشاء عدة مدن ذكيَّة مستدامة تعتمد على طاقة الشمس والرياح، إلى أن جاءت جائحة فيروس كورونا المستجد أو (Covid-19)، فأصبح نمط “المدن الذكيَّة” أحد الضرورة الملحة لتيسير الحياة البشريَّة بشكل طبيعي، حيث أدَّى الانتشار المتسارع لفيروس (كوفيد -19) حول العالم إلى قيام العديد من الدول باتخاذ إجراءات فوريَّة وحاسمة للتعامل مع الوباء العالمي، بهدف تضييق نطاق انتشار الفيروس قدر المستطاع حتى يتم إيجاد المصل اللازم للعلاج، ومن هذه الإجراءات مثلاً عمل حجر صحي احتياطي للأفراد داخل المنازل، وفرض حظر التجوال على بعض المناطق والمدن، ووقف حركة الموصلات العامة، وإغلاق المدارس والجامعات مؤقتا، وتقليل القوى العاملة في المؤسسات والهيئات الحكوميَّة والخاصة، والعديد من الإجراءات التي تهدف إلى احتواء المرض، وكان نتيجة ذلك أن توقفت معظم مظاهر الحياة اليوميَّة في العديد من الدول حول العالم.

وقد كان البديل الرئيسي والوحيد لتيسير الحياة البشريَّة اليوميَّة قدر المستطاع، هو الاعتماد على الانترنت والتقيات التكنولوجيَّة باعتباره الفرصة الوحيدة والآمنة التي تمكن البشر من إدارة شؤون حياتهم بصورة شبه طبيعيَّة، أو ما أُطلق عليه الحياة الطبيعيَّة الجديدة New Normal، التي ستستمر وتصبح الحياة الطبيعيَّة للأفراد Normal Life، فيصبح العادي هو الاعتماد على هذه التقنيات الذكيَّة في إدارة شؤون الحياة اليوميَّة.

فمثلاً، استمر العمل أثناء أزمة كورونا داخل المؤسسات والمصالح الحكوميَّة ولكن “عن بعد”، وذلك من خلال نظم الحكومة الذكيَّة التي تقدم الخدمات للمواطنين عبر الإنترنت ويمكن للموظفين القيام بوظائفهم بصورة طبيعيَّة من المنزل،  كما استمرَّت الحكومات أيضاً في عقد اجتماعاتها من خلال نظام الفيديو كونفرس، وتمَّ تنظيم المؤتمرات والقمم الحكوميَّة عن بعد، كما استمرَّت أيضاً كثير من المدارس والجامعات في تقديم المحتوى العلمي لطلابها من خلال الفيديو كونفرنس، واستمر العمل في الشركات والقطاع الخاص أيضاً عبر التقنيات الرقميَّة المتنوعة.

وبذلك فإن الدول التي قطعت شوطاً كبيراً في عمليَّة التحول الرقمي نحو “المدن الذكيَّة” من تيسير الحياة بشكل شبه طبيعي، ليس هذا فحسب، بل أيضاً اعتمدت على التقنيات الذكيَّة  -التي استثمرت فيها خلال السنوات الماضيَّة- في محاربة انشار المرض.

فقيدت التعامل بالأوراق النقديَّة التي يمكن أن تتسبب في نشر الفيروس من شخص لآخر واتجهت إلى الاعتماد على الأموال الرقميَّة عبر بطاقات الائتمان والبطاقات الإلكترونيَّة، واستخدمت نظم الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والروبوتات كبديلاً عن الطواقم البشريَّة والطبيَّة لتقديم الخدمات الضروريَّة للمرضى، واعتمدت على البيانات الضخمة ونظم المراقبة الشاملة ونظم التعرف على الوجوه في الكشف المبكر عن الحالات المصابة أو التي يمكن أن تتعرض للإصابة، واستخدمت الدرونز والربوتات في عمليات تعقيم الشوارع والمناطق والموبوءة وتوجيه الإرشادات للمارة في الشوارع والتأكد من التزامه بالتعليمات الطبيَّة.

فتحولت الحياة البشريَّة إلى حياة افتراضيَّة كاملة، أشبه بأفلام الخيال العلمي والواقع الافتراضي مثل Ready player one، حيث يقوم فيها الجميع بمهامه ووظائفه ولكن عبر الإنترنت، من العمل للتعليم للتسوق الإلكتروني للترفيه والتواصل الشخصي لجمع المعلومات والاخبار لغيرها من الأنشطة اليوميَّة، بصورة جعلت الحياة البشريَّة قائمة على مفهوم “المدينة الذكيَّة” سواء كان ذلك بقصد أو دون قصد، فالمدن الذكيَّة باتت ظاهرة قائمة بالفعل.

ومن هنا جاءت أهميَّة إعداد هذا الكتاب – الذي هو في الأصل جزء من رسالة الدكتوراة التي حصل عليها المؤلف بتقدير ممتاز من كليَّة الاقتصاد والعلوم السياسيَّة، جامعة القاهرة-  لكي يساهم في توضيح المقصود بـ “المدينة الذَّكيَّة”؛ خاصة مع توجه الدولة المصريَّة لبناء هذا النمط من المدن مؤخراً، بما يساعد المهتمين بهذا الشأن، سواء كانوا صُنَّاع قرار، أو شركات تكنولوجيَّة، أو حتى أفرادًا عاديين مُقيمين في هذه المُدُن، في الاستفادة من مميزاتها وتجنُّب آثارها السلبيَّة، فالمُدُن الذَّكيَّة هي الشكل القادم من المُدُن، ويُعوِّل عليها كثير من الدول في سياستها التنمويَّة.

ويركز هذا الكتاب على “سنغافورة” كحالة دراسة، فمن ناحية تستحوذ على مرتبة متقدمة جدًّا في تصنيف المُدُن الذَّكيَّة بصورة سنويَّة، كما أنها تمتلك برنامجًا لتحويل الدولة كلها إلى ذكيَّة، بحيث تُصبح سنغافورة أول دولة ذكيَّة في العالم، حيث أطلق رئيس الوزراء لي هسين لونج برنامج مبادرة “أُمَّة ذكيَّة” Smart Nation في نوفمبر2014، وبالطبع، سيكون لهذا التحول أثر كبير على الأمن القومي لسنغافورة، وفي الوقت نفسه تغطي تلك الفترة الخطة الخمسيَّة للدولة للأمن القومي السيبراني، كجزء من الخطة الرئيسيَّة للأمن القومي السيبراني 2018 “National Cyber Security Masterplan 2018″، التي أطلقتها الحكومة لمواجهة التهديدات التي تتعرَّض لها سنغافورة عبر الفضاء السيبراني.

ويتكوَّن الكتاب من خمسة فصول رئيسيَّة، يناقش الفصل الأول تعريف المُدُن الذَّكيَّة، ويناقش الفصل الثاني أهم نماذج إنشاء المدن الذكيَّة، ويهتم الفصل الثالث بالقوى التكنولوجيَّة المحركة التي تدفع في اتجاه إنشاء المُدُن الذَّكيَّة من نظم الذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء والبيانات الضخمة والبلوكتشين وغيرها من التقنيات الذكيَّة، ويدرس الفصل الرابع الفرص التي تقدمها المدن الذكيَّة والتهديدات التي تطرحها، في حين يناقش الفصل الخامس حالة دراسيَّة كنموذج للمدن الذكيَّة وهي سنغافورة.

تعريف المُدُن الذَّكيَّة: المفهوم والنظريَّة

تعود أصول مفهوم المدينة الذَّكيَّة إلى أواخر التسعينيات، وتحديدًا مع حركة النمو الذكي Smart Growth التي شهدتها هذه الفترة، والتي تبنَّت سياسات حديثة للتخطيط الحضاري، بينما ظهر مفهوم المدينة الذَّكيَّة عام 2005 على يد بعض شركات التكنولوجيا، مثل سيسكو، وسيمنز، وآي بي إم، والتي كانت تعني بها دمج النُّظُم التكنولوجيَّة في البنيَّة التحتيَّة، مثل قطاع النقل، والطاقة، والبناء، والمياه، والأمن العام، ثم بدأ يتطوَّر المفهوم تدريجيًّا ليشمل توظيف جميع التطورات التكنولوجيَّة الحديثة في عمليَّة التخطيط، والتنمية، والتشغيل، للمُدُن.

وعلى الرغم من أنه أحد المفاهيم واسعة الانتشار في الآونة الأخيرة، فإنه حتى الآن لا يوجد تعريف واضح ومحدد للمقصود بالمدينة الذَّكيَّة، كما أن التصنيفات التي تُحدِّد هذه النوعيَّة من المُدُن متنوعة، بعضها يضيق مؤشراته ويقصرها على عناصر صارمة حتى تأخذ في الاعتبار المُدُن التي بدأت بالتحول بالفعل، وبعضها الآخر واسع، ويشمل حتى الدول التي تخطط في المستقبل القريب للتحول إلى مدينة ذكيَّة.

المُدُن الذَّكيَّة: الأنواع والنماذج

قامت دراسة لـVasilis Niaros منشورة في()Journal for a Global Sustainable Information Society، بعنوانIntroducing A Taxonomy Of The “Smart City”: Towards A Commons-Oriented Approach? بتقديم تصنيف أكثر دقَّة لأنواع المُدُن الذَّكيَّة، حيث يرى أن هناك أربعة أنماط من المُدُن الذَّكيَّة، هي:

– النمط الأول The “Corporate Smart City”: ويمكن ترجمته بـنمط “الشركة”، وهي تلك المدينة التي تقوم شركات التكنولوجيَّة العملاقة، مثل سيسكو، وآي بي إم بإنشائها من الأساس، مثل مدينة مصدر في الإمارات، ومدينة سونجدو Songdo في كوريا الجنوبيَّة.

– أما النمط الثاني فهو The “Sponsored Smart City”: أو نمط “الرعاية”، وتلعب أيضًا شركات تكنولوجيا المعلومات دورًا مهمًّا في هذا النوع من المُدُن، وقد تكون هنا الرعاية من قبل شركات التكنولوجيا، أو من قبل المجتمع والدولة، ويكون الفارق بين النط الأول والثاني في طريقة إنشاء المدينة نفسها، فيكون في الأول من خلال برمجيات وتطبيقات تطورها شركة واحدة بالأساس، ولا تستطيع شركات أخرى تطوير المدينة إلا بالتعاون مع هذه الشركة، أما في النمط الثاني فيكون من المصادر المفتوحة Open Source، التي تُتيح لأكثر من شركة المشاركة في تطوير المدينة مع مشاركة المجتمع في ذلك.

– النمط الثالث في The “Resilient Smart City”: أو نمط “المرونة”، ويؤكد هذا النمط ضرورة مشاركة المجتمع في بناء المدينة، حيث يعمل على تحفيز المواطنين وجميع الهيئات والجماعات بداخل المدينة على المشاركة في صياغتها وتطويرها، بل وإدارتها، وذلك من خلال إتاحة الفرصة للمُبرمجين والمطورين وقراصنة المعلومات أيضًا للابتكار والتجريب وتقديم الحلول والاقتراحات، فتكون المسؤوليَّة في النهايَّة مشتركة بين الجميع داخل المدينة.

– أما النمط الرابع فهو The “Commons-Based Smart City”: وما يمكن ترجمته بنمط المعايير أو السمات “المشتركة”، وذلك لأنه يدافع عن تطوير خصائص وصفات مشتركة عالميًّا للمُدُن الذَّكيَّة، بحيث تكون مقبولة على نطاق عالمي، وليست مصممة خصيصًا لمدينة واحدة، فيكون تصميم المدينة والبنية التحتيَّة والخدمات لها معايير موحدة على مستوى العالم، ويقترب هذا النمط من النمط الأول، الذي تقوده الشركات، حيث تقوم بتصميم نمط واحد وإنشائه عالميًّا في مُدُن مختلفة.

وعلى الرغم من أن هذا التقسيم يُعطي صورة واضحة عن نماذج المُدُن الذَّكيَّة، فإنه تقسيم حدِّي، في رأي المؤلف فهو يُركِّز بالأساس على الجانب الفني، المعنيِّ بالكيفيَّة التي يتم بها إنشاء المدينة، فهو يُركِّز على حدٍّ واحد فقط من حدود هذه المدينة، ولا يتناول أبعادًا مختلفة كالأبعاد الاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة، كما أن هذه النماذج تقترب بصيغة أو أخرى من بعضها، فالمدينة الذَّكيَّة يُساهم في إنشائها الشركات، وفي إدارتها المجتمعات، وفي اكتشاف ثغراتها الأفراد، والجميع له دور في عمليَّة الإنشاء.

ومن هنا يُقدم هذا الكتاب تصنيف آخر للمدن الذكيَّة، قائم على معايير مزدوجة، تختلف حسب أربعة عناصر، تتمثَّل في ما يلي: أولًا: نوع التكنولوجيا المستخدمة فيها، والتي قد تكون تكنولوجيا مُغلقة المصدر، لا يستطيع تطويرها إلا الشركة التي قامت بابتكارها، أو مفتوحة المصدر، يمكن لأي مطور أو مُبرمج العمل عليها وتطويرها. ثانيًا: الفواعل المساهمون في عمليَّة بناء المدينة،سواء أكان القطاع الخاص منفردًا، أو بالتعاون مع المجتمع المدني في إطار استراتيجيَّة حكوميَّة.ثالثًا: القطاع الذي تخدمه المدينة، سواء أكان قطاعًا فرعيًّا أو جميع القطاعات بالدولة. رابعًا:درجة حداثة المدينة نفسها، فهناك مُدُن يتم بناؤها منذ البدايَّة لتكون ذكيَّة، وهناك مُدُن قديمة يتم تحويلها إلى مُدُن ذكيَّة.

القوى المحركة: تكنولوجيا المُدُن الذَّكيَّة

يتناول المؤلف هنا مجموعة من القوى المُحرِّكة التي أفرزتها التطورات التكنولوجيَّة، والتي تُساهم بصورة مباشرة في بلورة مفهوم المدينة الذَّكيَّة، والدَّفع قُدُمًا نحو تبنِّي هذا النموذج، بصورة تجعل المدينة الذَّكيَّة هي الإطار الذي يشمل جميع هذه التقنيات الجديدة والبرمجيات الذَّكيَّة التي تُعتبر مُكوِّنًا رئيسيًّا للمدينة الذَّكيَّة، يستخدمها سكانها في حياتهم اليوميَّة بصورة مباشرة.

لذلك يمكن القول أن المدينة الذَّكيَّة تقوم على خمسة مُحرِّكات وقوى تكنولوجيَّة دافعة تُساهم في تشكيل المدينة وتأسيسها، وهي: الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والمعلومات العملاقة، والجيل الخامس من الإنترنت، والتَّطبيقات الذَّكيَّة، وبالطبع، هذه القوى المحركة ليست على سبيل الحصر، فالتطورات التكنولوجيَّة تُفرز دائمًا تقنيات جديدة يصعب الوقوف عندها، أو حتى حصرها.

الفُرَص والتَّهديدات: تحقيق الاستدامة داخل المُدُن الذَّكيَّة

على الرغم من المميزات العديدة التي تُقدِّمها المُدُن الذَّكيَّة من سهولة في الحصول على الخدمات، وكفاءة في إدارة الموارد، وتوفير في النَّفقات، وتحسين جودة حياة الأفراد، فإن لها عديدًا من التَّحدِّيات التي تعوق عمليَّة التنفيذ والإنشاء، ليس أقلها التخطيط الاستراتيجي الجيِّد، ووجود رغبة حقيقيَّة من صُنَّاع القرار في إنشاء المدينة تُحرِّكها رؤيَّة مُستقبليَّة للوظائف التي ستقوم بها هذه المدينة.

كما أن الحياة داخل المدينة لا تتَّسم بالمثاليَّة والكمال، بل تطرح أيضًا تهديدات ومخاطر، وأشكالًا جديدة من العُنف والجرائم، وثغرات قد تتسبَّب في تهديد حياة الأفراد والأمن القومي أيضًا، وهو ما يتطلَّب التعامل الحَذِر مع التقنيات الجديدة بالمدينة، والتحرُّك الاستباقي لمُكافحة أي أعمال عُنف أو إرهاب، والتحديث المستمر للأجهزة والبرمجيات بصورة تمنع القراصنة من تهديد الحياة داخل المدينة، والتعاون الدولي في مجال تكنولوجيا المعلومات.
________
*خالد عزب

جديدنا