المجد للشيطان!

image_pdf

لا لبس أنَّ متفحِّص هذا المقال استفزَّته لفظة الشيطان، لاقترانها بالمجد وضبَّبت له الرؤيا حول مشروعيَّة هذا القول ومسوغاته في ظل مرجعيَّة دينيَّة مشتركة ترى الشيطان- ببساطة؛- شيطانا، بل تكفير صاحب هذا القول  حتى قبل معرفته، أمر وارد.

بهذا الصراع والتشويش وسوء الفهم  نحن إذن في مبتدأ التأويل، حيث التضليل بداية البحث عن الفهم، وبالبحث في هذا الصدد لا يروم الوصول إلى فهم ثابت أو حقيقة غير مضمحلة بقدر ما نستنجد بفهم الفهم أي تأويل المعنى المفهوم من لدنا كما هو الحال في هذه القولة ” المجد للشيطان ” إذ هي سطر شعري للشاعر المصري أمل دنقل من قصيدته كلمات سبارتكوس الأخيرة – كتبت في أبريل من سنة 1962، وسبارتكوس هذا  قائد ثورة العبيد ومحارب ثائر– يقول فيها:

المجد للشيطان معبود الرياح

من قال “لا” في وَجْه مَن قال “نعمْ”

مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ

وقال “لا” فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديَّة الألمْ !

ترصد أعين كل قارئ لفظة الشيطان وتخزنها كذخيرة معرفيَّة مسبقة التوقع،  لتتم قراءة باقي الأسطر بحكم ضمني مفاده، أن الشاعر تمرَّد على الدين وتجرأ في تمجيد الشيطان، ذلك الملعون من الله، بالتالي إنه يتَّخذ الشيطان حليفا، بغض النظر عن أسبابه وغاياته.

وإنا في مقالنا هذا سنسعى لبيان مسوغات هذا التناص الديني الجريء مؤكّدين أن لفظة الشيطان ذات أبعاد أكبر من التمرُّد، ومتضمّنة لسمات كونيَّة أنثروبولوجيَّة تستدعي الوقوف على عتباتها، محفزين لذاكرة المتلقي، تاركين له التعمق والتأويل.

1.أمل دنقل، بحث في الهويَّة:

معلوم أن  أمل فهيم أبو القاسم محارب دنقل، ولد سنة 1940م بقرية “القلعة” مركز “قفط” على بعد عشرين كلم إلى الجنوب من مدينة “قنا” في بدايات الحرب العالميَّة الثانيَّة، وترعرع في ظل الصراعات السياسيَّة  والاجتماعيَّة في مصر بعد الحرب، كذلك عايش و أبناء مصر مراحل ما بعد نيل الحريَّة  والاستقلال والتخلص من الاستعمار البريطاني ثم مجيء الثورة على يد جمال عبد الناصر في عام 1952،  ومجيء السادات بعده. فأسقط أمل دنقل كل هذه الأحداث في شعره وعبَّر عن تطلُّعات شعبه إبان الفترة التي طغى فيها الانهزام والانكسار  على مصر وعلى الأمة العربيَّة كلها.

من خلال ما سبق، نحى شعره نحو خدمة قضايا وطنه وشعبه، لكنه شوّش إعلاميا بذريعة التحريض على معارضة الدولة وتشجيع المظاهرات ( خاصة المظاهرات الطلابيَّة كما في قصيدته أغنية الكعكة الحجريَّة).

أصيب أمل دنقل بالسرطان – تراتوما وعانى منه لمدة تقرب الأربع سنوات، كما تتَّضح معاناته مع المرض في مجموعته “أوراق الغرفة 8″وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه ما يقارب  4 سنوات. ثم توفي سنة 1983م في القاهرة.

2. أمل دنقل؛ شخصيَّة تراجيديَّة:

لا يخفى على كل من قرأ شعر أمل دنقل أنه يتَّسم بلمحة حزينة ومأساويَّة، عاكسة لشخصيته ورؤيته – إن شئنا القول- العبثيَّة تجاه العالم. على اعتبار أنه بطل قصته – حياته-  فقد عاشها تراجيديا وتقاطع مع البطل التراجيدي اليوناني في جملة الشروط التي تضفي مشروعيَّة المأساة عليه، والتي رصدها –الشروط- ويتني بودمان في كتابه شعريَّة إبليس كالتالي:

(البطل الذي يستحوذ على صميم إرادتنا الخيرة ويرغم مجبرا في عالم معين بالعمد، أو يسلك سلوكا بجديَّة بالغة وعظمة، وتحت وطأة تلك الغرضيَّة والعمديَّة في ذات ذلك العالم المحدد، أن تلقى بالضرورة والحتميَّة آلاما بدنيَّة وروحيَّة شديدة لا يمكن تجنبها.)

يتقاطع شاعرنا مع شخصيَّة البطل في هذا المقطع، من حيث صميم إرادته الخيرة، إذ يؤمن ويتشبَّع في كل قصائده الشعريَّة بالأقانيم الثلاث- الجمال / الخير / الحق- المعبرة عن رغبة شديدة في سيادة الخير وانهزام الشر على يده، في مقابل شغفه الصالح، أجبر بعيشه في نظام سياسي قاهر داخل جمهوريَّة مصر  وظروف اجتماعيَّة اقتصاديَّة قاسيَّة نتيجة فقره، وسلك خلال مسار حياته منعرجات علميَّة ومهنيَّة لم تغنه عن غرضه الأساسي في الحياة وهو نظم الشعر بمرجعيَّة صالحة قريبة من المثاليَّة، وقد انصاع لرغبته وتخلى عن كل ما يمكن أن يلهيه عنها، لكل هاته الأسباب، لقي أمل – حتما- آلاما بدنيَّة شديدة تجسَّدت في  إصابته بالسرطان ورقوده في المستشفى  مرورا بضغوطات روحيَّة ونفسيَّة قبل وإبان مرضه لم يتجنبها إلى أن وافته المنيَّة – رحمة الله عليه-.

نجد في هذا الصدد أن الممجِّد للشيطان شخصيَّة تراجيديَّة اصطدم بجملة من النكبات فيه حياته إلى أن توقَّفت هذه الأخيرة -تاركة لنا روائعه لدراستها-، وتعدّ لفظة الشيطان إحدى انعكاسات التراجيديا في شعره، من ثمة يجعلنا اختياره هذا،  أمام سؤال سميوطيقي حول مسوغات اختياره للفظة الشيطان دون غيرها من الرموز الدالة على التمرُّد والانهزام و التراجيديا،أهمها –إبليس-.

3. لماذا الشيطان ليس إبليسا؛ رؤيَّة سميوطيقيَّة:

لا تخفى على القارئ شخصيَّة الشيطان، وصلته الوطيدة بالشر،إلا أن أمل دنقل حولها لشخصيَّة خيرة “منبوذة”، أي أنها حوربت لعلة وجب في الأصل تمجيدها. ولمعرفة مكامن التشابه بين شخصيَّة الشيطان والخير المنبوذ، وجب رصد قصّة الشيطان كما يعرفها المسلمون  كذخيرة معرفيَّة متعارف عليها، واستلهام بعض جزئياتها لمواءمة غرض القصيدة، وفي هذا السياق يتعيَّن علينا الفصل بين شخصيتين  عرفهما المسلمون في صورة واحدة لا فرق بينهما فيها، مع الإقرار بأن الثانية أسبق وأعم من الأولى، الشيطان وإبليس.

لا شك أن الشيطان أو إبليس في موروثنا الديني هو الشخصيَّة التي ذكرت قصّتها في سبع سور من القرآن الكريم. رفض إبليس السجود لآدم وعصى أوامر الله تعالى، غرورا، لأنه يرى نفسه أعلى قدرا ومنزلة من الإنسان، ووفاء، لأنه لم ولن يسجد لغير الله تعالى كيفما كان السبب. بناء على هذا الرفض باتت شخصيَّة الشيطان شريرة و عدوة للبشر مهمتها الأسمى غوايتهم و غرضها الأعلى دخولهم لجهنم.

والملاحظ في هذه القصَّة ( كما ذكرت في القرآن وكما فسرت ) أن الشيطان حاول مجادلة ومحاورة الله تعالى،  في مسألة صحة أو خطأ رؤيته للبشر، لكنه  تعالى لم يحاججه، إذ  في مواضع قصة آدم وحواء لم ينف سفك البشر للدماء أو إفسادهم للأرض، كما لم ينف خلق آدم من طين و خلق الشيطان من نار، بل ولم يرفض طلب الشيطان في جعله حيا إلى يوم القيامة يغوي عباده إلا الصالحين منهم.

إن عدم النفي هاهنا دلالة من جهة على صحة ما ورد،  ثم رفعة وعلما من لدنه تعالى لقوله (إني اعلم ما لا تعلمون ).  وعليه نلمح ازدواجيَّة لشخصيَّة الشيطان/ إبليس، تكمن في أنه شخصيَّة شريرة مغرورة عدوة للبشر ورافضة الأوامر الله، من جهة، ومن جهة أخرى، هو الوفي لله تعالى إذ لم يشرك به و لم ينكر إلوهيته سبحانه وتعالى حتى انه رفض السجود لغيره، و الله تعالى لبى طلب مكوثه إلى يوم الدين.

إن الازدواجيَّة في هذه الشخصيَّة كما ذكرت في القرآن الكريم، مقابلة اسمين ذكرا أيضا في مواضع مختلفة من القرآن، تجعلنا أمام اختلافات بين الشيطان و إبليس. على اعتبار أن الشيطان الشخصيَّة التي كانت ولازالت تمارس شرها ووسوستها للبشر  بشكل قار ولمدة غير معلومة، بينما إبليس أبان عن ملامح للتطور من جن يسبح لله بكرة وأصيلا إلى  عاصٍ يرفض أوامره تعالى، مرورا بمظاهر الوفاء والتحاور والمجادلة التي مرت سابقا.

في هذا الصدد نجد أن شخصيَّة إبليس شخصيَّة متحولة وقادرة على قلب توجهاتها وتغييرها أو العودة إلى شكلها الأصلي، بينما شخصيَّة الشيطان شخصيَّة قارة تشبثت بمهمتها الشريرة ومارستها بلا رجعة أو توقف.

ونعزز قولنا في هذا الصدد بدراسة ويتني.س. بودمان التي قال فيها عن تمايز شخصيتي إبليس والشيطان: ( وفي حالة الشيطان، فقد صور على أنه العدو الأبدي للجنس البشري، وتمثيله للشر يبدو إجمالا وبشكل عام دون فضائل تعويضيَّة ولا كفاءة ولا جدارة. كله في جوهره شر محض، وظلام مطلق، وملعون في المطلق أيضا. لقد كان شرا على الدوام. وسوف يظل كذلك دائما.

وهذا ليس حال إبليس، حين كان نموذجا لأحد المخلوقات العاديَّة السماويَّة والتقيَّة، أي مجرد عابد لخالقه، ثم تغير….. لم يكن هناك شيطانا لإبليس، ولا مغو ولا مغر ولا جن يوسوس له ويهمس له في أذنه، ظهوره كأول كائن يعصي الله حدث غير مسبوق وبدون سبب خارجي، لقد تبدل وتغير…. فإن إبليس يتصف بإمكانيَّة مقارنته بدرجة معينة بالحالة البشريَّة.

معنى هذا القول أن الشيطان ” ممثِّل” للطاقة الشريرة دائما وأبدا في رتابة تجعل منها غير منزاحة عن مواقفها وهو ما أراد أن يعبر عنه أمل دنقل في صيغة ( التشبّث الأبدي بالمواقف والمبادئ المتمردة)، بينما إبليس شخصيَّة تتبدّل وتتغير بل ونفسها أمرتها بالسوء مما يجعل تقاطعاتها مع البشر أمر وارد – ليس موضوعنا مقارنة إبليس ببني آدم-، فنجدها بعيدة عن شخصيَّة أمل دنقل كونه لا يحبذ العدول عن مواقفه.

4. خلاصة

بالعودة إلى أسطر الشاعر أمل دنقل، نلمح تجليات ما ذكرنا آنفا من حيث إسقاطه على الأقانيم الثلاث الأدبيَّة، من أصغرها (قيمة في دراستنا ) لأكبرها ؛ النص / صاحب النص / متلقي النص.

نبدأ بالأسطر على اعتبار أنها عتبة لغويَّة منفتحة لا مغلقة، حيث وظِّفَ فيها التناص الديني من خلال  شخصيات ورموز دالة ( الشيطان / الرفض / لا )، وللتناص هنا مسوغات عدة أولها استفزاز عقل المتلقي بشكل ايجابي ومخاطبة ذخيرته المعرفيَّة المسبقة ليكون قارئا ضمنيا -حسب آيزر- يعي ويعرف قصة الشيطان ودلالة الاستشهاد به في مواضع الرفض والتمرد و الشر…. من ثمة تملك أداة حجاجيَّة بموجبها يمكن إيصال رسالته في رفض الانحناء على ضوء قصة متعارف عليها.

للشاعر في هذه الأسطر ذاتيَّة حاضرة بقوة إذ يعبِّر عن موقفه المتمثِّل في تمجيد شخصيَّة الشيطان اقتداء بمنهجه ورافعا لشعاره ( لا). قد قلنا سلفا إن الشاعر أمل يبرز هاهنا كشخصيَّة تراجيديَّة تشبعت بأسس ومواقف الرفض المستمدة أساسا من شخصيَّة الشيطان كونه أول من رفض وعوقب بسبب رفضه، فضلا عن أن اختياره للفظة “شيطان” نابعة من وعي بالثابت والمتحول في هذه القصة القرآنيَّة -كما أشرنا سلفا-، فوظف لفظة قارة ثابتة مهمتها الوحيدة والأبديَّة ( رفض و إغواء الكائن البشري)،

ولا غرو إذا سلمنا بهزيمة الشيطان سواء بخروجه من النعيم أو بإغوائه للبشر فنار جهنم لا محال تنتظره، بهذا نجد أن أمل كان يعي تمام الوعي انهزامه انهزاما ماديا تجاه عدوه و ببركة كل من قال نعم، إلا أنه ارتأى القتال و المحاربة لآخر رمق، وفي هذه الصورة تقاطع واضح مع شخصيَّة الشيطان.

أما شخصيَّة العدو فتحيلنا على الطرف الثالث والأهم في العمل الأدبي، إنه هو المتلقي، أو الشمعة التي ما فتئ الشاعر يضيء وينور سبلها برسائل مشفرة عسى أن تفهم و تسير معه في ركب “لا”، تاركة ركب “نعم”.

سأترك إذن للمتلقي حقه في التأويل مشيرة إلى أن كلمة نعم ووقعها في المجتمع عموما والعربي خصوصا، تجاه  فئة سلطويَّة، تحولت دلالتها من الاستجابة لمقول ما إلى الانحناء لفظا وعملا للشخص القائل، حتى إن الرفض يحيل مباشرة إلى تمرد الرافض وزجه عقابا في زنزانة العاق والمنقلب عن أوامر القائل.

في هذا الصدد يكون القائل آمرا جبارا وأعلى درجة من الرافض بحيث لا يضاهيه قوة و لا يمكن بأي حال من الأحوال هزيمته منفردا، فيصبح عدوا له و عدوا لأتباعه من أصحاب نعم.

ما عاشه أمل دنقل تجاه سياسة الدولة المصريَّة عموما متماثلة في رؤساء وأحزاب سياسيَّة  فترة الستينات  يجعلنا أمام قصة مشابهة الأحداث لقصة رفض الشيطان ما يعني أن أمل دنقل لم يستلهم تناصه هذا بغية خلق جدل فارغ في الساحة الأدبيَّة و لا بمبدأ ( خالف تعرف ) بل لأنها ببساطة مخزية، تمثل قصة كل مناضل سمي متمردا ( إرهابيا/ رافضا/ ساعيا لتدمير المصلحة العامة) رغبة منه في الإصلاح والتجديد.

فهل يعد تناص الشاعر أمل دنقل الديني، ترفا وصنعة شعريَّة، أو جرأة ذات أبعاد جدليَّة..، أم أنها حاجة لتمثيل الواقع السياسي العربي بحذافيره، إسقاطا لبعض الشخصيات القرآنيَّة على كائنات بشريَّة؟

  • المصادر والمراجع:
  • القرآن الكريم
  • أمل دنقل، الأعمال الشعريَّة الكاملة، إعداد عبد لعزيز المقالح، مدبولي- القاهرة- الطبعة الثالثة 1987.
  • عبلة الرويني، الجنوبي، دار سعاد الصباح – القاهرة المقطم-، الطبعة الأولى 1992.
  • ويتني.س.بودمان، شعريَّة إبليس اللاهوت السردي في القرآن، ترجمة: رفعت السيد علي، منشورات الجمل-بيروت-، الطبعة الأولى 2017.
    _______
    *زينب بكاري.

جديدنا