الإسلام السياسي؛ مأزق الثنائيّات (النصّ والعقل)

image_pdf

*نشرت في الراصد التنويري/ العدد السادس(6)/ خريف 2009.

 

تنبع أغلب تحدّيات الإسلام السياسي في العالم من طريقة التعاطي مع ثنائيّات النص والعقل، التراث والحداثة، سلطة الله المطلقة وسلطة الشعب غير المكتسبة، الخلّاقة والديمقراطيَّة، الانفتاح والانغلاق.

ورغم محاولة الكثير من روّاد التوفيقيَّة الإسلاميَّة رفع التقاطع بين طرفي هذه الثنائيّات، والسعي للوصول إلى رؤية متوازنة تفي بمتطلّبات المعاصرة والماضي، رغم ذلك لم يستطع الإسلام السياسي بتيّاراته المختلفة إيجاد صيغة توازن حقيقيَّة ومناسبة وسليمة. وحتى وقت قريب كانت القوى الإسلاميَّة في مصر والسعوديَّة وإيران والعراق والشام وباكستان تتعامل مع الديمقراطيَّة والحداثة وسلطة الشعب والعقل بمنطق ينطوي على الخشية والريبة ليصل في بعض الأحيان ولدى بعض القوى إلى مستوى المساواة بين تلك القضايا والكفر. وهذا لا يعني أنّ آليّات تعاطي الإسلام السياسي مع الثنائيّات واحدة ومتشابهة، بل هناك اختلافات في طبيعة الرؤية ومساراتها بين تيّار وآخر ومن بلد إلى آخر. فحركة الإخوان المسلمين في مصر مرّت بتغييرات في آليّة التفكير، وانتقل الاخوان من مرحلة القطيعة الكاملة مع مؤسّسات الدولة في مرحلة القطيعة الكاملة مع مؤسّسات الدولة إلى مرحلة تركيز المعارضة للسلطة الحاكمة من خلال المشاركة بمؤسّسات الدولة، في حين أنّ الإسلام السياسي السعودي بقي يؤسّس لسلفيّته وانتقلت بعض فصائله من التحالف مع سلطة العشيرة إلى التصدّي لها واتّهامها بالولاء للكافر. ويشهد منطق التيّار الإسلامي في إيران تغييرات مسمرّ بفرضها الشعور العارم لدى النخب والكثير من الشرائح الشعبيَّة بالحاجة الملحّة للتغيير، ولذلم انتقلت إيران في مرحلة وحدة الرؤية الدينيَّة للدولة في ثمانينات القرن الماضي إلى ثنائيَّة الإصلاحيّين والمحافظين. وتعتبر التجربة التركيَّة هي الأكثر مرونة في التعاطي مع الآخر الثقافي.

ولكن تبقى الأزمة حاضرة، رغم سعة التغييرات وعمقها، فباستثناء، تركيا، لم يتمكّن أي من التيّارات الإسلاميَّة المعاصرة من التوصل إلى حلّ معرفي لمأزق الثنائيّات الضاغطة، حتى الإسلام التركي لم يتمكّن من التوصّل إلى حلّ معرفي حقيقي، بل إنّه قفز عليه، مختارًا طريق السكوت عن التناقضات ليتعايش بطريقةٍ وأخرى معها رغم أنّها تناقضات. ولهذا نجد أنّ تركيا تشهد بين الفينة والأخرى مأزقًا بين علمانيَّة الدولة وإسلاميَّة الأحزاب الحاطمة، وينتهي المأزق بإقصاء الإسلاميّين.

في العراق لم تِعش التيّارات الإسلاميَّة، لغاية التغيير، مأزق الثنائيَّة بالشكل الذي عاشته تيّارات إسلاميَّة أخرى، وذلك بسبب أنّها انقطعت من الأرض والواقع الذي تنتمي إليه، وبقيت تعيش في فضاء المعارضة دون القدرة على المساس بالأرض والهبوط إليها، طبعًا السبب الرئيس هو أنّ النظام السابق قطع أغلب خيوط التواصل بينها وبين قواعدها. وعندما تقطع خيوط التواصل تصبح الأحزاب بعيدة عن تناقضات الواقع. وأيضًا أنّ الأحزاب السياسيَّة العراقيَّة كانت تعارض نظامًا مستبدًّا ديكتاتوريًّا، فتمكّنت من توحيد جهودها مع المعارضة غير الإسلاميَّة في هذا الاتّجاه، وبقي التيّار الإسلامي يعيش بعيدًا عن ثنائيَّة المعاصرة والماضي، وبقيت أيديولوجيّته سليمة من الكثير من تحدّيات المعاصرة، مستحضرًا النصّ في طرق تفكيره وآليّات عمله، ضمن خلافات بين أطرافه حول تفسير النصّ المقدّس بين طرف مؤيِّد لولاية الفقيه وآخر معارض لها، أي عندما انتقل الإسلام السياسي من المعارضة إلى السلطة؟ هل تمكّن هذا التيّار من التعاطي مع الثنائيّات الضاغطة بشكلٍ معقول؟ وهل نجح بإعادة بناء ذاته بعيدًا عن الخطاب والبرامج والأيدولوجيّة السابقة؟ وقبل الخوض في الإجابات هناك قضيّتان أساسيّتان ينبغي فهمهما:

أولا: أن التغيير في العراق، وعمليّة بناء دولة ما بعد صدام قامت بفعل إرادة أميركيَّة غلّفت بغطاء بناء الديمقراطيَّة في العراق باتّجاه التأسيس لتجربة نوعيَّة يمكن تعميمها على الشرق الأوسط.

فلم يكن أمام أي من أطراف المعارضة السابقة، الإسلاميّة أو العلمانيَّة، خيارات متعدّدة سوى التماشي مع بعض مقولات المعاصرة مثل الديمقراطيَّة.

ثانيًا/ أنّ الواقع الشعبي كان، إلى ما قبل عام، مطبوعًا بالتديّن العامّ، لأسباب كثيرة، لا يسعنا الحديث عنها هنا. لذلك فإنّ التيّارات الإسلاميّة وجدت نفسها أمام وضعين، أحدهما يدفع نحو المعاصرة، وهو الوجود الأميركي القوي، والآخر يدفع باتجاه التمسك بخيار الأيديولوجيا الدينيَّة، وهو الواقع الشعبي ذو الأكثريَّة المتديّنة والمقاد من قبل المرجعيَّة، سواء مرجعيَّة السيد السيستاني، أو مرجعيَّة الشهيد محمد الصدر بمقولاتها المتغلغلة في وجدان الطبقة الفقيرة من الشيعة. وهنا برزت الثنائيَّة بشكلٍ حادّ، فرضت نفسها على تيّارات الإسلام السياسي، فهي تمتلك قاعدة شعبيَّة دافعة، ولكنّها تواجه قوّة تدفع باتّجاه دولة مدنيَّة معاصرة قائمة على أسسٍ علمانيّة ديمقراطيَّة. ورغم مرور أربع تجارب مهمّة في عمليَّة بناء النظام السياسي في العراق وهي تجارب (مجلس الحكم، الحكومة المؤقّتة، الجعيّة الانتقاليَّة، البرلمان الدائم)، فإنّ التيّارات الإسلاميَّة ما زالت عاجزة عن الظهور بمقاربةٍ معرفيَّة توائم بين بنيتها الدينيّة وضرورات الدولة المدنيَّة.

فهي تسعى للتمسّك بطرفي الثنائيَّة بدون وضع أسس معرفيَّة تحدِّد الأوليّات وتكشف حجم التوائم بين طرفي المعادلة الثنائيَّة في العراق، وما ورد في الدستور يعبِّر عن حالة الفوضى في التعامل مع المقولات، فالدستور ينصّ على منع إصدار أي قانون وقرار يتعارض مع حقوق الإنسان والحرّيّات المدنيَّة في البلاد. هذه المادّة الدستوريَّة تعبِّر عن التخبّط في التعامل مع ثنائيَّة الحداثة والتراث، فالإسلاميّون قفزوا على حالات التقاطع التي قد تحدث في المستقبل بين الثوابت الدينيّة والحرّيّات المدنيّة وحقوق الإنسان.

والتقاطعات بين ثنائيتي الثوابت والحرّيّات لا يمكن حلّها عبر هذا النصّ الدستوري، لأنّه قفز عليها، واجتازها.

وأي حلّ لا بد وأن يستند إلى إعادة صياغة معرفيَّة لخطاب وبرامج القوى الإسلاميّة في العراق. نموذج آحر من التخبّط، هو ما طرحه حزب الفضيلة ومرجعيّته الدينيّة، عندما عارضوا استخدام الرموز الدينيَّة، ولكنّها في البيان ذاته أكّدت على أنّ المرجعيَّة الدينيَّة والسياسيَّة متّحدة، ولا يمكن فصلهما. نموذج ثالث للتناقضات وعدم القدرة على بناء رؤية رصينة توائم بين الثنائيّات، يكمن في إسلاميَّة الحزب الإسلامي واندفاعاته باتّجاه الشعارات القوميَّة، فهذا الحزب يؤمن بالإسلام كأيدولوجيا. ولكنّه يناقض نفسه بالرؤية القوميّة التي تدفعه باتّجاه التقارب مع العرب على حساب الآخرين.

ويعاني الحزب الإسلامي من تناقضٍ آخر هو ذاك القائم بين ثابت مشروعيّة المقاومة المسلّحة الذي يؤمن به ومنبعه الشرعي هو مقاتلة الحاكم الكافر. نموذج رابع يكمن في العلاقة بين المرجعيّة الدينيَّة والدولة في خطاب المجلس الأعلى الإيلامي، فلم يقدّم لنا المجلس الأعلى حتى الآن صيغة معرفيّة مناسبة لتلك العلاقة بين ثنائيتي الدولة المدنيَّة ودور المؤسّسة الدينيَّة. نموذج آخر يكمن في عجز حزب الدعوة عن تقديم مشروع كامل يبرِّر معرفيًّا ما يطرحه رئيس الحزب باعتباره رئيسًا للوزراء من مواقف تقترب من عمليّة بناء الدولة المدنيَّة مع أنّ الحزب لم يستطع أن يوضح مديّات ايديولوجيّته الدينيّة في برنامج سياسي واضح وصريح. هذه النماذج وسواها، تمثّل مستوى التناقض في بناء العلاقة مع الثنائيّات القائمة، وهذا التناقض لا يرفع بالطريقة التركيّة القائمة على أساس القفز على وضع الحلول الأوليّة، وليس بالنموذج السعودي القائم على أساس التعامل بمنطق السلفيَّة مع الحياة المعاصرة. إنّما يحتاج إلى وضع أسس معرفيَّة جديدة تضعها النخب الثقافيَّة انطلاقًا من استحقاقات وتراكمات الزمان والمكان. خصوصًا وأنّ الأغلبيَّة المتديّنة التي كانت موجودة بعد التغيير ما عادت قائمة بنفس قوّتها وحجمها، ولكن هذه الأحزاب تمتلك نخبًا سياسيَّة ولكنّها لا تمتلك نخبًا ثقافيَّة قادرة على البحث عن الحلول المعرفيَّة للتناقضات.

_________

 *عمار السواد

 

 

جديدنا