مرض “القابليَّة للاستعمار” المزمن

image_pdf

شخَّص المفكِّر الجزائري مالك بن نبي مشكلات الحضارة التي تعانيها الأمَّة الإسلاميَّة من طنجة إلى جاكارتا، في مجموعةٍ نادرة من كتبه القيّمة التي لا يقرأها إلا القليل القليل من الناس، أمّا الذين يفهمون ما يقول فهم أقل من القليل، ومن بين الأفكار التي تحدَّث عنها فكرة “القابليَّة للاستعمار” التي يؤكِّد عبرها مالك بن نبي أنّ دخول المستعمر إلى الدول المتخلّفة، ليس من منطق أنّه قوي ويمتلك عتادًا حربيًّا متطوّرًا أو جنودًا مدرّبين بشكلٍ جيِّد، ليس هذا ما جعلهم يحتلّون أرضنا هو نحن، فقبل أن يشرع المستعمرون في تحرّكاتهم الاستعماريَّة، كانت نفسيَّة الخنوع والانهزام قد تشكّلت لدى العرب والمسلمين، ممّا سهَّل على المستعمر مأموريّته، فتمكّنت آلته المدمّرة من السيطرة على البلاد المتخلّفة في كل أرجاء العالم في وقتٍ قياسي.

 

عندما خرجت هذه الفكرة إلى الوجود قامت جمعيّة علماء الجزائر ضدّ مالك بن نبي متّهمة إيّاه أنّه يشرعن للاستعمار ولا يحمّله المسؤوليَّة كاملة فيما ارتكبه من مجازر في حق الجزائريّين، وهو ما أدّى بها إلى مطالبة السلطات الجزائريَّة آنذاك بمنع كتاب “وجهة العالم الإسلامي” الذي ألّفه مالك بن نبي وتحدّث فيه عن فكرته الخالصة القابليَّة للاستعمار.

لكن وبعد مرور مدّة ليست بالقصيرة أدرك المسلمون انّ كلام مالك بن نبي كان صحيحًا ، وأنّ المشكلة الأولى التي تجعل كفتي الميزان مختلتين هي جرثومة القابليَّة للاستعمار المستوطنة في عقولنا منذ عصور الانحطاط الأولى عند فقدان الأندلس وبداية نهاية الإمبراطوريَّة العثمانيَّة. وقد وقف المفكّرون عند أهمّيّة هذه الفكرة وتأكّدوا أنّه وبدون معالجتها كمرضٍ أصابنا ويصيبنا فلن تكون الأمور على ما يرام، لكن للأسف الشديد لم يستطع الكثير من المسلمين في العالم حتى الآن، أن يتحرّروا من القابليَّة للاستعمار، رغم أنّهم حصلوا على الاستقلال، لكنّهم بقوا على حالهم بدون شخصيَّة ولا هويَّة ولا محاولات ذاتيَّة للنهوض من آثار الاستعمار، إذ لم يستوعبوا بعد منطق السفينة التي تحكم هذا العالم، رغم أنّ الإسلام يؤكِّد دائمًا على السننيَّة كمبدأ أساسي وضرورة احترامه لضمان سير جيّد للمستقبل دون عراقيل ومشاكل تعيق المسيرة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، فالسننيَّة هي التي آمنت بها بعض الدول في جنوب شرق آسيا مثل ماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا واستطاعت في وقتٍ قياسي أن تسجِّل نفسها في منظومة الدول المتقدّمة التي تمتلك اقتصادات قويَّة، وتنافس بشكلٍ جدّي وملموس كبريات الاقتصادات العالميَّة، فهؤلاء فهموا الدرس جيّدًا وتأكّدوا أنّ التبعيَّة العمياء للأقوى لن تمكّنهم من صنع شخصيّتهم الأصليَّة، ولن تجعل تجاربهم تتجاوز المربّع الأوّل، إنّهم استوعبوا الدرس واستطاعوا ان يضمنوا لأنفسهم مكانًا في مصاف الدول الكبرى اقتصاديًّا وثقافيُّا وسياسيًّا.

 

القابليَّة للاستعمار ما زالت جاثمة على عقولنا وولدت في لا وعينا مرضًا آخر لا يقل خطورة منها، وهو التسليم بأنّ التفوّق الأوروبي والأمريكي هو الغالب، ومهما حاولنا ان نواجههم فلن نستطيع، وترسّخ بذلك هذا المرض ممّا شكّل لدينا إحساسًا عميقًا بأنّ الدول المتخلّفة حكم عليها القدر أن تكون في الصف الأخير دائمًا وأنّ التاريخ يحتّم عليها أن تحمي ظهور أصحاب الصفوف الأولى، وأن تبقى وفيَّة بتزويدهم بالمواد الخام من أجل أن يضمنوا تفوّقهم الدائم وهيمنتهم الكاملة.

يتبجّح الكثير من المنتسبين إلى الدين الإسلامي بقوّة أفكاره وعالميّتها، ويقولون بأنّه دين يؤسّس للطريقة المثاليَّة للعيش في مجتمع العدالة والمساواة، لا يكلّ هؤلاء من ترديد أنّ الإسلام هو أعظم الديانات في هذا الوجود، نعم إن الإسلام هو أعظم دين في هذا الكون، وهو الدين الذي يمتلك منظومة أخلاقيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة متكاملة يكمل بعضها بعضا، لكن لماذا تخلّفنا نحن وتقدّم آخرون من أصحاب ديانات أخرى، إذا هناك خللا ما في مستوى معيّن؟

الخلل هو في المنتسبين إلى الإسلام الذين تخلّوا عن جميع الأفكار النيّرة في الإسلام، تخلّوا عن دراسة تعاليم هذا الدين الحنيف المسالم، ولم يعملوا على جعلها تحيا من أجل مصلحة الشعوبن تخلّوا عن التعامل مع الرسالة المحمّديَّة كرسالة منقذة للعالم دون أي إقصاء أو أي نفي للمخالفين في الرأي والعقيدة والعرق.

إذا استطاع المسلمون وغيرهم التخلّص من فكرة القابليَّة للاستعمار، وآمنوا بفكرة القابليّة لصنع الحضارة والتاريخ ضمن إيمان بسننيّة إلاهيَّة مؤطّرة لعملهم، وعلم ومعرفة يزودان العقل بما يحتاجه من حرّيَّة وانطلاق وتفكير، وإيمان مطلق بحرّيَّة الإنسان والأفكار والمعتقدات، حينها نستطيع أن ننطلق انطلاقة جديدة، انطلاقة كلها فن وإبداع ونظرة مشرقة إلى المستقبل، فالتاريخ لا يرحم من يتعامل معه بأي شكل من أشكال التخلّف والرجعيَّة والانهزاميَّة، ويسجّل بفخر من يسعون لصناعته صناعة حقيقيَّة مثمرة، عمادهم في ذلك هو علم حقيقي وسلم يعمّ الأمكنة والأزمة، فالعالم يقاس بما فيه من أفكار ولا يقاس بما فيه من أشياء، كما أكّد المفكّر مالك بن نبي.

_______

 

*الراصد التنويري/ العدد السادس/ خريف 2009.

 

جديدنا