وساطة بين خصمين تاريخيين؛ هل جمع النبيُّ في وصيتِه لأمّتِه بين كتاب الله تعالى وسُنّتِه؟

image_pdf

 

من الأحاديث السُّنية المشهورة ما رُوي عن النبي (ص) في وداع أمته: “خَلَفْتُ فِيكُمْ شَيْئَينِ لَنْ تَضِلُّوا بَعدَهُمَا: كتابَ اللَّه وَسُنَّتِى، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يردا عَلَيّ الحَوْضَ”[1].

ظنَّ الأكثرون – وكنت واحدا منهم – أنَّ هذا النصّ صحيح، لكنَّني فوجئت يوما بحديثٍ على وِزانه، وفيه بدل (سنتي): (عترتي أهلَ بيتي)، فلما فتّشتُ وجدت هذه الرواية الثانية أصح، ثم فتّشت ثانية فوجدت رواية (سنتي) متهالكة! وإن كانت الغفلة قد جعلت الحاكم النيسابوي (ت: 405ه) يدخلها فيما استدركه على البخاري ومسلم، لكن بعض العارفين بحالها من القدماء والمعاصرين قد حملتهم المكابرة على الحكم بصحتها.

 

ومن أعجب العجب زعم أبي عمر ابن عبد البر القرطبي (ت: 463هـ) أن متنَها: “محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرةً يكاد يُستغنى بها عن الإسناد”[2].

وهذا قول متناقض لأنه لو اشتهر عند أهل العلم – الذين هم علماء الحديث – لاشتهر بسبب أسانيده، ولكن التعصبَ لإمامه مالك الذي رواه في الموطأ بلا سند، والتحيزَ الطائفي هما اللذان جعلا صرحا علميا كابن عبد البر يهوي رغم المفارقات الصارخة المتعلقة بمتن هذا الحديث.

والغريب حقا أنهم يحكمون بصحة الروايتين المتعارضتين مع أن الموضوع واحد، والمناسبة واحدة، ولا يمكن أن يكون الرسول قد قال هذا وهذا، وكأنه كان يخاطب في حجة الوداع أسلاف الشيعة، فيجاملهم بلفظ (العترة)، ويخاطب أسلاف السنة فيجاملهم بلفظ (السنة)!

فإذا كان علماء السنة لا ينازعون في صحة لفظ (العترة)، ولم يصحح لفظ (السنة) إلا طائفة من خَلَفِهم، فإن هذا يدل على أن مُعاندا منهم أراد أن يكيد الشيعة بالتشويش على هذا النص المزعج، فألقى بذلك طوقَ النجاة إلى متأخري الطائفة، الذين صاروا يُهملون الرواية الصحيحة، ويُميتون ذكرها، ويكثرون من ترديد الزائفة، حتى حلت محلها.

لكن غرابة الوصية في نسختها الشيعية دفعتني إلى مزيد من تعميق البحث، إذ ما دخل العِترة في الوقاية من الضلال إلى قيام الساعة؟

يبدو من مقارنة الروايات أنه قد وقع تلاعب بالصيغة التي عُطفت فيها العترة على كتاب الله، ولنتأمل ما يلي:

روى الترمذي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ القَصْوَاءِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي”، وفي رواية أخرى: ” إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي …”[3].

لكن عددا من المؤرخين والمحدثين يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبَ زمنَ حجة الوداع فعَمّ وخَصّ، إذ خاطب عُموم الحُجاج خُطبا متفرقة أشهرها في منى يومَ النحر، ثم خاطب خاصةَ أصحابه وهو راجع إلى المدينة في موضع يُسمى غديرَ خُمّ، فماذا قال عليه الصلاة والسلام في كل موضع؟

ما يعنينا هاهنا مما خاطب به العامة وصححته المراجعُ السنية أنه صلى الله عليه وسلم قال:

1- «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»[4].

2- «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَاب اللهِ»[5].

3- «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا»[6].

4- ومما يؤكد أن هذه الوصية لم يذكر فيها النبيُّ شيئا مع كتاب الله، أن عبد الله بن أبي أوفى لما سئل عن وصيته صلى الله عليه وسلم قال: «أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ»[7].

 

وهذه المتون الجيّدة مما يقوي ما أخرجه الحاكم عن أَبِي مُوسَى الْغَافِقِيِّ قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسَتَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ عَنِّي، فَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ بِهِ، وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[8].

وأما أصح الروايات في خطبة غدير خُمّ فتفيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ! فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ»

فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي».[9]

ومن الواضح أن هذه الوصية كانت بشيئين، كل واحد منهما منفصل عن الآخر، فأوصى هذه النخبة المرشحة لقيادة الأمة بعده بكتاب الله تماما كما أوصى العامة من قبل، ثم استوصى خيرا بأهل بيته، كما استوصى في خطبة يوم النّحر بالنساء، وبيان سبب ذلك قد يذهب بنا بعيدا.

لكن صاحب هوى شيعي دمج بين المناسبين، واختصر الوصية حتى يسوي بين كتاب الله والعترة، لتصير العترة بهذا التزوير مُستودع سر إلهي، ويبدو أن هذه العقيدة الفاسدة قد بدأ بثها مبكرا في الحزب العلوي، يدل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ عَلِمْتَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وفي رواية: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ؟، قَالَ: «لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ! إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ الرَّجُلَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ» قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: «الْعَقْلُ (أي مقادير الدية)، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكافرٍ»[10].

وهكذا تعرضت خطبة الوداع لغارتين متنافستين: غارة شيعية، وغارة سُنية، وفي هذا مثال لما حصل من التلاعب في كثير من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، لإكراهها أن تكون شاهدةَ زورٍ على أصولٍ طائفية باغية، تزاحم القرآن، ثم تنفيه عن مقامه المركزي في أمة لن تكون أمة مسلمة حقا إلا بإخلاص الدين لله، ولن يتحقق هذا الإخلاص إلا بأن لا تجعل كتابا مع كتاب الله، هذا ما وصّى النبي صلى الله عليه وسلم به، وببلاغه، فاللهم اشهد.

[1]– أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين: 1/172، رقم الحديث: 319، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1411 – 1990

[2]– التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: 24/ 331، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي, محمد عبد الكبير البكري، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب، 1387 هـ

[3]– سنن الترمذي: 5/662-663، رقم الرواية الأولى: 3786، ورقم الثانية: 3788

[4]– صحيح البخاري: 2/176-177، رقم: 1741، مسند أحمد: 2/495-496، رقم: 2036، و34/264، رقم: 20666، المستدرك على الصحيحين: 3/533، رقم: 5982. ابن حزم في حجة الوداع: 196، رقم: 148.

[5]– صحيح مسلم: 2/890، رقم: 1218، مشكل الآثار: 1/32، رقم: 41، صحيح ابن حبان: 4/312. ابن حزم في حجة الوداع: 170، رقم: 92.

[6]– صحيح مسلم: 2/944، رقم: 1298، مصنف ابن أبي شيبة: 6/418-419، رقم: 32537، و 32538، مسند أحمد: 27/209، رقم: 16649، سنن ابن ماجه: 2/955، رقم: 2861، سنن الترمذي: 4/209، رقم: 1706، ابن حزم في حجة الوداع: 192، رقم: 142

[7]– صحيح البخاري: في عدة مواضع منها 4/3، رقم: 2740، صحيح مسلم: 3/ 1256، رقم: 1634، مصنف ابن أبي شيبة: 6/ 228، رقم: 30939، مسند أحمد في عدة مواضع منها: 31/ 468، رقم: 19123، سنن الدارمي: 4/ 2029، رقم: 3224، سنن ابن ماجه: 2/900، رقم: 2696، سنن الترمذي: 4/432، رقم: 2119، السنن النسائي الكبرى: 6/150، رقم: 6414، صحيح ابن حبان: 13/382، رقم: 6023.

[8]– المستدرك على الصحيحين: 1/196، رقم: 385، مسند أحمد: 31/ 276، رقم: 18946

[9]– صحيح مسلم: 4/1873، رقم: 2408، مسند ابن أبي شيبة: 1/351، رقم: 514، مسند أحمد: 32/10-11، رقم: 19265، سنن الدارمي: 4/2090- 2091، رقم: 3359، سنن النسائي الكبرى: 7/320، رقم: 8119، صحيح ابن خزيمة: 4/62، رقم: 2357.

[10]– صحيح البخاري: 4/69، رقم: 3047، مسند أبي داود: 1/90، رقم: 92، مصنف ابن أبي شيبة: 5/409، رقم: 27471، سنن الدارمي: 3/ 1521 ، صحيح مسلم: 2/994- 999، رقم: 1370، سنن الترمذي: 4/24، رقم: 1412.

وسوم:

التعليقات:

Comments are closed.

جديدنا