ألبرت حوراني؛ حينما يقرأ المؤرِّخ الواقع

image_pdf

يعدّ ألبرت حوراني من المؤرِّخين المتميزين منهجياً وفكرياً، خاصَّة في كتابه المرجعي ” تاريخ الشعوب العربيَّة ” الذى صدر مترجماً في بيروت، فنراه يذكر رأياً حصيفاً بشأن قيادات الحركات الإسلاميَّة على النحو التالي ” لذلك فقيادة الحركات الإسلاميَّة كانت في معظمها في أيدي أناس عاديين مدنيين، ومن النخبة المثقَّفة الحديثة من المهتمّين . حركات  كهذه لم يكن لها الحرمة التى يسبغها قادة من ذوي التقى الموروث والعلم ” ، ويرى كذلك ” أنها أحزاب سياسيَّة يتنافس فيها الواحد منها مع الآخرين، ولم يكن لها سياسيات اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة واضحة لكن من المحتمل أن تشكِّل قوَّة معارضة ذات أهميَّة، ولكنها لم تكن في وضع يمكّنها من تأليف حكومات”.

هذا التحليل يذهب بألبرت حوراني إلى الوضع السائد في العديد من الدول العربيَّة من مصر إلى المغرب، حيث تحوَّلت الحركات الإسلاميَّة إلى أحزاب سياسيَّة متنافسة فقدت روحانيات الدعوة في ظلِّ المنافسة السياسيَّة، ولم تنجح في إدارة الحكم نتيجة افتقادها كفاءات إدارة الحكم على غرار الحالتين المصريَّة والتونسيَّة.

أمَّا بشأن رأي حوراني حول افتقاد الحركات الإسلاميَّة سياسيات اقتصاديَّة واجتماعيَّة، فيبدو أن هذا نشأ من تعارض بين المثاليَّة الذهنيَّة لدى الحركات الإسلاميَّة لمجتمع إسلامى افتراضي لم ينشأ على أرض الواقع وتخيله مثالياً مطلقاً سيد قطب في كتاباته فألهب به قراءه، لكنه كان أبعد عن الواقع، في الوقت الذى مارست فيه الحركات الإسلاميَّة الرأسماليَّة الاقتصاديَّة في أشدّ صورها تطرّفاً، لتشكل من خلال هذه الرأسماليَّة ريعا يوفِّر درجة من الرعاية الاجتماعيَّة لمن ينتمون لهذه الحركات، أو تساعد في إقامة أنصار لهذه الحركات عبر تمويل مشاريع رعاية اجتماعيَّة واقتصاديَّة لجذب المجتمع للمشروع الإسلامي.

وفي فقرة أخرى من ذات الكتاب، يرى ألبرت حوراني ما يلي: ” من راقب البلدان العربيَّة، أو العديد من البلدان الإسلاميَّة الأخرى في أواسط الثمانينات، ربما توصّل إلى الاستنتاج بأن مساراً مشابهاً للمسار الإيراني قد يكون المستقبل، ولكن هذا الاستنتاج قد يكون متسرّعاً، حتى بالنسبة إلى إيران ذاتها، من ناحية، كان حكم رجال الدين إعادة تثبيت التقاليد الموروثة، إلا أنه من ناحية أخرى مسار ضدّ التقاليد، الحكمة المتوارثة لعلماء الدين كانت تحثّهم أن لا يرتبطوا بصلات وثيقة مع حكومات هذا العالم، يجب أن يتركوا مسافة معنويَّة بينهم وبينها، مع الحفاظ على التواصل مع الحكام للتأثير عليهم، من الخطر ربط المصالح السرمديَّة للإسلام بمصير حاكم عابر في هذا العالم، وهذا الموقف انعكس في نوع من الشكّ لدى الجمهور برجال الدين الذين يتولّون دوراً  كبيراً في شؤون العالم، فهم معرضون مثل سواهم إلى خطر الفساد الذي تجلبه السلطة والثراء، وربما لا يكونون حكاماً جيدين “.

وفي فقرة تالية يذكِّر حوراني: ” وقد يحدث في مرحلة ما من مراحل التطوّر القومي، إن تضمحل جاذبيَّة الأفكار التي كرَّسها تراكم التقاليد والأعراف، ولا يعود لها جاذب الذى يتحلَّى به نظام آخر من الأفكار: مزيج من الأخلاقيَّة الاجتماعيَّة والقانون وهي عناصر دنيويَّة في الأساس، ولكن قد يكون لها نوع من العلاقة بالمبادئ العامَّة للعدالة الاجتماعيَّة التي يتضمّنهما القرآن”.

هذه الرؤية من حوراني يبدو أنه تتجاوز دور المؤرِّخ الذى يرصد الأحداث إلى دور المنظِّر الذي يتبنَّى رؤيته من خلال التجربة التاريخيَّة، فهل يعدّ حوراني بذلك متجاوزاً الرؤية التاريخيَّة له كمؤرِّخ إلى أن نراه منظّراً أو مفكّراً.

جديدنا