فيلم “مُختلّ” .. صيحات تحلُّل المجتمع الأمريكي

image_pdf

فيلم “مُختلّ” (Unhinged) يحكي قصَّة ساعات قليلة قد تكون أربعة أو خمسة استطاع فيها المؤلِّف “كارل السورث”، والمخرج “ديريك بورت” أنْ يبُثَّا صيحات متوالية تنذر وتتوجَّس من تحلُّل وانهيار المجتمع الأمريكيّ. وبذكاء شديد واستفادة من كلّ شيء، وفي أقلّ من ساعة وثُلُث الساعة قدَّما معاني جمَّة في كبسولة من الجرعات الإثارة الأشدّ وطأةً للمُشاهدين. حتى قد لا يُنصح بمشاهدة الفيلم للذين يضيق صدرهم سريعًا من شدة جرعة الإثارة الذي يصل إلى حدّ الاختناق.

شابة تُسمَّى “ريتشل” (كارن بستوريس) تصحو من النوم على مهاتفة مُحاميها الذي يخبرها بأنَّ زوجها الذي على وشك أنْ يصير طليقها قد قدَّم مذكّرة لينال بيت الزوجيَّة. وبعد هذا الخبر السيِّء تنتبه الشابة التي نامتْ بين دفَّتَيْ كتاب عن مراعاة الطفل في حالات الطلاق على صوت ابنها الطفل (جابرييل باتمان) وقد دخل عليها ليستعجلها كي لا يتأخَّر عن مدرسته.

وبعد مناقشات مع أخيها على إيداع أمِّهما دور مُسنِّين تخرج بصُحبة ابنها لتوصله إلى المدرسة وتذهب إلى عملها. وبينما هي في خضمّ زحام شديد يتأكَّد الولد من التأخير والعقاب، وتتأكَّد هي من قرار فصلها من العمل. عند هذه اللحظة تُفتح الإشارة للعبور بينما تقف سيارة ضخمة أمامها لا تعبأ بالإشارة المفتوحة. تطلق هي نفير سيارتها -يقودها راسل كرو- مُطوَّلاً لتنبيهه ثمَّ تتعداه. لتُفاجأ بلحاقه بها وطلبه أنْ تعتذر بعد أن اعتذر لها. وفي اللحظة التي تحجَّجتْ ريتشل بأنَّ يومها كان سيِّئًا ما كانت تعلم أنَّ كثيرًا من مجرى حياتها سيتغيَّر كثيرًا من جرَّاء جملة هذا المُختلّ: أنتِ لا تعلمين معنى اليوم السيِّء لكنْ أعدك بأنَّني سأعرِّفك عليه.

السيناريو الذي ينقسم إلى شطرَيْن الأوَّل افتتاحيّ والثاني للمُطاردة كان جيِّدًا كفايةً لفيلم إثارة والباقي من العمل تكفَّل به التنفيذ الإخراجيّ. شطر الافتتاح انقسم بدوره لمشهد مع البطل “راسل كرو” المُختلّ، وعدَّة مشاهد مع البطلة وكلا القِسمَيْن كان لتغذية الخلفيَّات ورسم الشخصيَّتَيْن. ولا شكَّ أنَّ مشهد البطل ساهم بشدَّة في كثير من اختصار وصول الفهم الدافعيّ لمُشاهِد الفيلم. فرؤية شخص ضخم يتجرَّع الدواء كأنَّه حلوى، ويتأمَّل عود ثِقاب يحترق إلى النهاية، ثمَّ يسير كأنَّه قاطرة بشريَّة لا تتوقَّف ويفعل ما فعل كفى شرَّ الأسئلة التي سترد في ذهن المُشاهد عن دوافع وخلفيَّات البطل. كما ساهمت كذلك مشاهد البطلة مع هدف جانبيّ هو وصول الفيلم لعدد من الدقائق مناسب -زمن الفيلم قصير نسبيًّا باقتطاع شارة النهاية-.

والقسم الثاني من السيناريو “قسم المُطاردة” انقسم بدوره إلى قسمَيْن: الأوَّل قبل ذهاب البطل إلى بيت البطلة، والثاني بعد ذهابه له. وقد كانا متوازنَيْنِ في القوَّة مع بعض ضعف في النهاية. لكنَّ شيئًا لطيفًا في الكتابة هو عدم ظهور الحوار، أو بدَّقة إشعارك بعدم وجوده فكلُّ التأثير آتٍ من الحدث نفسه. ولا يبدو الحوار إلا في مشاهد البطل مع المحامي أو مع أخي البطلة. وهذا كان مُلائمًا لطبيعة العمل ومُؤثِّرًا بالإيجاب في إشعار المُشاهد أنَّ وقتًا طويلاً قد مرَّ وفي الحقيقة الزمن لا يتعدى ساعة وأربع عشرة دقيقة.

أمَّا راسل كرو فلا تُساق الإشادة هنا على العهد من التصفيق لنجوم المُمثلين بل لأنَّه حقًّا قام بدور حاسم في نجاح شخصيَّة المُختلّ في هذا الفيلم. وهنا نرصد ملحوظة -ليست جانبيَّة- هو أنَّ البطل ليس له اسم مِمَّا يلقي بضوء على أنَّها شخصيَّة أشبه ما تكون بالضمير الجمعيّ لا التشخيص الفرديّ المعهود. بالعموم استطاع هذا المُمثِّل إحكام دوره وتكثيف فكرة الاختلال والأزمة الداخليَّة، وأثر ذلك على مسار أفعاله في الأحداث. من أوَّل أدواته “جسده” الذي بدا على غير مألوف الرجل الذي نعهده فكان ضخمًا سمينًا يشبه الممثلين الصامتين الذين يساعدون في أدوار الفتوَّات والمجرمين. إلا أنَّهم من غمار الناس وهو قد استطاع نقل هذه النظرة -لهذا التشكيل الجسديّ- إلى مناطق العُمق لا السطحيَّة.

ومن تحرُّكه وتشريح مشيته، ومن نظراته الحادَّة المُستترة وراء نظارته، ومن لحيته النابتة التي تشعرك بمزيد من الاختناق. ومن قلَّة حديثه الذي يضيف له شعورات الهَيبة والغموض، وتوقُّع الأسوأ والتوجُّس الدائم. لقد أدَّى دورًا خالف الظنَّ الذي اعتقد به أنَّ الممثِّل يقدم تجربة هامشيَّة لكسب المال. وكذلك البطلة أيضًا وقد برعت في إشعار المُشاهدين بالخوف العميق والفزع الداخليّ ليس بالبكاء كما يفعل الممثِّل المُتوقَّع لكن باستخدام حقيقيّ لأدوات المُمثِّل، وبالقطع باستنطاق واستجلاب لموهبة حقيقيَّة ظاهرة. ولا يمكن عدم التنويه عن تمثيل الطفل الذي امتاز بالبراعة أيضًا.

أمَّا عمل المخرج فقد امتاز بنصيب وافر من البراعة والثقة والتحضير الجيِّد. ومن الممكن تلخيص عمل المخرج في جُملة هي كلمة السرّ “القدرة على صناعة جوّ إثارة ضاغط إلى درجة الاختناق”. ولتحليل هذه القدرة وكيف أتى بها باختصار فقد تمثَّل في الخطوات الآتية: السيطرة على إيقاع أحداث الفيلم، وبالقطع الجُزء الأهمّ هنا هو فيلم المُطاردة أو الفيلم منذ بدء لقاء البطلَيْن؛ فقد استطاع التوازن في إيقاع الأحداث ولمْ يسقط في الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون هو التضحية بكامل المطاردة لأجد دقائق معدودة أسوِّق بها الفيلم. وينبثق من هذه الخطوة الأولى عنصر آخر وهو شارة البداية ودورها الذي سأفرده بالنقاش.

وكيْ تصنع مُطاردة ناجحة -لا تتكون من بضع ثوانٍ أو دقائق معدودة- بل تمتدُّ إلى ساعة إلا خمس دقائق (الزمن منذ أوَّل لقاء البطلَيْن إلى نهاية المطاردة) لا بُدَّ من أنْ تعتمد على عناصر أساسيَّة هي الموسيقى المُصاحبة لهذه المُطاردة والتي يكون لها الدور الرئيس في التأثير النفسيّ اللاشعوريّ للمُشاهد وتوجيهه إلى الوجهة التي تريدها، وهندسة صوتيَّة تتسم بالمهارة والاحترافيَّة والحسّ الفنيّ، وإلى عنصر تمثيليّ جيِّد فيما فوق إليه تصبُّ هذه العناصر في النهاية. وكلُّ العناصر الثلاثة استخدمها المخرج بتوازن مُؤدٍ إلى صناعة فنيَّة جيِّدة. وواضح فيها آثاره وتوجيهه واختياره. وهنا نلفت الانتباه إلى تأثير صنف سيارة البطل (دفع رُباعيّ ضخمة) وشبهها بشخصيَّة البطل نفسه ونفسيِّته، وهي من أدوات المُخرج واختياراته.

أمَّا الجانب الأخير الذي يكمل عناصر المُطاردة الناجحة -أو يصنع جسدها بعد أنْ توفَّرت رُوحها من العناصر الثلاثة السابقة- هو التصوير. وقد اعتمد المخرج على دعامتَيْن أساسيَّتَيْن في تصوير المطاردة طوال الفيلم؛ الاعتماد على لقطات قصيرة إلى شديدة القِصَر، وسريعة ومتوالية. والدعامة الثانية هي تعدُّد زوايا التصوير تمَّ التقاطها من كاميرات مُثبَّتة أمام البطلَيْن من داخل السيارتَيْن، وعلى سطح السيارة الخارجيّ من وراء زجاج النافذة، وعلى المِرآة الجانبيَّة، وعلى ظهر السيارة الخلفيّ القائم، وعلى سيارة التصوير نفسها. كلُّ هذه اللقطات الطويلة استطاع تحرير فيلم يعتمد على لقطات أسرع، تساهم في صُنع حالة اللُّهاث في متابعة المُشاهد للفيلم.

أمَّا العنصر الأخير الذي اشترك فيه المؤلف والمخرج -لا يمكن القطع بمسئوليَّة أحدهما أو كليْهما عنه- فهو شارة البداية التي ساهمت أكبر المُساهمة في إيصال هدف صُنَّاع الفيلم. فقد اعتمد المخرج على أصوات تمثيليَّة كأنَّه تُبثُّ من الإذاعات -ولعلَّها حقيقيَّة-، وعلى الشريط أمامنا لقطات كثيرة متتالية بعضها حقيقيّ وبعضها مصنوع. ولعلَّ هذه الشارة هي أحد أنجح شارات البداية المُؤثِّرة في البناء الفيلميّ.

فقد أشارت إلى بعض المشكلات التي تواجه المجتمع الأمريكيّ. من مثل: فُقدان الوظائف لكثير من المُوظفيْن والعُمَّال، وتقليل الرواتب، واهتمام الناس بالمظاهر عن الجوهر -في لقطات التقاط مجاميع لصورة هاتف-، والمدينة المزدحمة المُتكدِّسة للغاية، والانهيار الأخلاقيّ الذي تفشَّى في المجتمع، والقيادة المُتهوِّرة من الكثيرين للحاق بركاب “أكل العيش” وتحقيق المصالح، وزيادة وفيَّات حوادث الطُّرُق خمسة أضعاف، وارتفاع الأسعار، والخدمات البطيئة. ولعلَّ هذا الفيلم في المعاني ينضمُّ إلى كثير غيره بدأ يتزايد يعبِّر عن حالة الاختناق والتفكُّك التي يعاني المجتمع الأمريكيّ مثل سلسلة أفلام “the purge” أو التطهير.

إلى أنْ نصل إلى أبلغ ما أراد الصُّنَّاع تقديمه وهو صكّ مصطلح “جرائم الغضب” فالمجتمع نتيجة كلِّ هذه السلبيات كرَّس لتصنيف جرائم ليس لها دافع اعتياديّ كبقيَّة الجرائم، بل هي من نتاج الغضب تلك الحالة التي تحيط بالمجتمع قبل انحلاله التامّ وانهياره -ولعلَّنا نرى الشيء الكثير من هذه الأسباب والنتائج في المجتمع العربيّ-. فيتحوَّل المجتمع فيها إلى كلٍّ مُجرم رغم أنفه، إلى حالة غريبة تدفع الجميع إلى الانحلال واستحلال الإجرام في حقّ الآخرين طالما استحلّ بعض الآخرين الإجرام في حقِّي. ولعلَّنا نتذكَّر هنا أنَّ جملة تراثنا وضميرنا “العدل أساس المُلك” ليست بروازًا على الحائط تُعلَّق حينما نسمع آخر جُمل شارة البداية الجيِّدة وهي تقول: “إنَّها علامات تحذير عن انهيار وشِيك عندما نصل إلى نقطة الغليان ثمَّ ننفجر”.

جديدنا