الحزن والفرح عند الكندي؛ هل من حيلة لدفع الأحزان؟

image_pdf

“إنّ العظيم على العظيم صبور”. أبو الطيّب المتنبي

(ديوان المتنبي ص 72)

“ليس برديء أن نكون ما نحن، إنّما الرديء أن لا نكون ما نحن”. الكندي

(رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ص 28)

 

على سبيل التقديم:

إنّما غرضنا في هذا المقال تدبر مسألة الحزن والفرح عند أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (185 – 252 هـ / 801 – 866 م) الذي يعتبره بعض الدّارسين مُؤسّس الفلسفة العربيّة. بهذا المعنى، يكتسي النظر في الأبعاد الإشكاليّة لهكذا قضيّة أهميّة بالغة، باعتبارها من بين أبرز المباحث الإتيقيّة الخاصّة بالعقل الأخلاقي العربي، فضلا عن كونها تتنزل ضمن فضاء إبستيمي مداره سياسة النّفس وتدبيرها عند فيلسوف العرب، سعيا منه إلى: “رسم أقاويل تضاد الأحزان وتنبّه إلى عوراتها وتحصّن من الألم بملكها”[1]. وفي السيّاق عينه، يرى الكندي أنّ: “مثل نفسك الفاضلة وأخلاقك العادلة أنِفتْ من تملّك الرّذائل وطلبت التحصين من آلامها وجور أحكامها. وقد رسمت لكم بحسب ما رجوت أن يكون لك كافيا”[2].

إنّ تحصيل هذا الرّهان هو ما طالعنا به الكندي في مستوى رسالته الفلسفيّة الموسومة: “في الحيلة لدفع الأحزان” حيث استهلها فيلسوفنا الفذّ ببيان القصد من كتابة هذه الرّسالة وهو “تحصين النّفس من الألم”[3]. سيّما وأنّ “إصلاح النّفس وإشفاؤها من أسقامها أوجب شديدا علينا من إصلاح أجسامنا، فإنّا بأنفسنا نحن ما نحن لا بأجسامنا”[4]. وفي الأمر نظر لاحقا في القسم التّحليلي تدقيقا.

وعلى هذا الأساس، قمين بنا التنبيه إلى راهنيّة تلكم المسألة التي أثارها الكندي في رسالته الفلسفيّة المذكورة آنفا، بما يسوّغ لنا البحث في سُبل الإفادة العمليّة منها راهنا، عسانا ندفع جملة الأحزان والآلام التي نعيشها في كلّ لحظة وحين، جرّاء استفحال الشّر الأنطولوجي بلا هوادة، وتزايد أزمة المعنى والقيم زمن العولمة، واستشراء الصراعات والحروب، وتأبيد العنف اللّامشروع في واقعنا العطوب الذي يدعو إلى الغثيان على حدّ عبارة سارتر الشّهيرة. ولكن، ماذا لو اتّضح أيضا تضاعف مأساتنا كونيا نتيجة معضلة الجائحة الوبائيّة (الكورونا) وغيرها من الأوبئة الفتاكة والكوارث الطبيعيّة المختلفة. و”لأنّ كلّ ألم غير معروف الأسباب غير موجود الشفاء”[5]. فينبغي إذن في تقدير الكندي “أن نبيّن ما الحزن وأسبابه، لتكون أشفيته ظاهرة الوجود، سهلة الاستعمال”[6].

وحينئذ، فإنّ جملة الإشارات والتنبيهات الأوليّة التي ألمعنا إليها، تدعونا إلى التساؤل: ما المقصود بالحزن؟ وما هي أسبابه؟ فيم تتمثّل طبيعة الحيّل / الوصايا العقليّة والأخلاقيّة التي يشترطها الكندي دفعا للأحزان وتحصيلا للفرح والسّعادة؟ وأنّى لنا استثمارها (الحيّل/الوصايا) راهنا في واقعنا المأزوم؟

إنّ مطلوبنا في هذا المقال محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة بالاستناد أساسا إلى تصوّر فيلسوف العرب والاستئناس بمنهج تحليلي مقارن مفاده رصد مواقف الكندي ومقارنتها بمن أشكل عليهم أمر الحزن والفرح ونعني رأسا: مسكويه، أبو بكر الرّازي، دون نسيان كلّ من المدرسة الرواقيّة والأبيقورية … إلخ.

وسنعتمد في تحليل موضوع: الحزن والفرح، هل من حيلة لدفع الأحزان؟ من منظور الكندي على نظام البرهنة التّالي:

سنحاول في مرحلة أولى أن نتبيّن ماهيّة الحزن ونتتبّع مصادره الذاتيّة والموضوعيّة على نحو ما حدّدها فيلسوف العرب.

أمّا في مرحلة ثانية، قصدنا التعرّض بالدّرس والتحليل إلى إحصاء جملة الحيّل/الوصايا العقليّة والأخلاقيّة التي من شأنها أن تصرف عنّا الأحزان كما ذهب إلى ذلك الكندي في مستوى رسالته الفلسفيّة: “في الحيلة لدفع الأحزان” رأسا.

أمّا في مرحلة ثالثة ارتأينا تفصيل القول الممكن في سياقات العقل الأخلاقي ورهاناته عند الكندي، والذي ليندرج ضمن فضاء إشكالي مداره سياسة النّفس وتدبيرها، تحصيلا للسعادة وإتيقا الفرح المنشودين.

ومع ذلك، فإنّه يبقى من الضروري في نهاية هذا العمل البحث، فيما إذا كان ممكنا الإفادة راهنا من جملة الوصايا/الحيّل العقليّة والأخلاقيّة التي طرحها الكندي، دفعا لأحزاننا وآلامنا المتواترة في كلّ لحظة وحين.

 

  1. في ماهيّة الحزن وأسبابه لدى الكندي

إذا ما عدنا في مستوى أوّل إلى: “القاموس المحيط” للفيروز آبادي، نقرأ ما يلي بخصوص مفهوم الحزن الذي يفيد “الهمّ ومنه الحزانة وهمّ العيال نتحزن لأمرهم والحزون، سوأة الخلق والحزن ما غلظ من الأرض، والتحزن أي التوجع”[7].

نستجلي من هذا التحديد أنّ الحزن قاموسا يُحمل على معنى: الهمّ والتوجع وسوء الخلق وغلظة الطبع والدّلالات عينها، لألفيناها حاضرة بشكل لافت في ما يُعرّف به الكندي الحزن الذي هو “ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات وفوت المطلوبات”[8]. نفس التعريف يستعيده مسكويه في رسالة: “تهذيب الأخلاق” معتبرا أنّ الحزن يلحق “من فقد ملكا أو طلب أمرا فلم يجده…[و] الحزن ليس بضروري ولا طبيعي”[9]. في هذا الحدّ رصد لماهيّة الحزن ولأسبابه في نفس الآن. ولما كانت غاية قول الفيلسوف هي البحث عن السّعادة فإنّه يبدأ بحد هذه الأخيرة حدا سلبيا وذلك بحد مقابلها إيجابا عملا على التمكن منه ومن أسبابه. وبهذه السبيل المعرفيّة نقدر على اقتلاع هذا المقابل اقتلاعا جذريا أن ندرك منذ البدء الغاية العمليّة للحكمة[10].

إنّ الحزن نقيض الفرح والبهجة والسّعادة، ذلك أنّ “الحزن والسرور ضدان لا يثبتان في النّفس معا: فإذا كان محزونا لم يكن مسرورا، وإذا كان مسرورا لم يكن محزونا”[11].

إنّ الألم في تقدير الكندي هو مبعث الحزن، والحزن هو وجه من وجوه التّعاسة التي يسعى كلّ عاقل إلى تجنّبها وطلب ضدّها وهي السّعادة. فـ “إذا كان الحزن إنّما [هو] من آلام النّفس”[12] فإنّ الألم هو “الوجع والعذاب الذي يبلغ إيجاعه غاية البلوغ”[13].

قمين بالإشارة إلى أنّ الحزن يُعزى في تقدير الكندي إلى مصادر متنوّعة منها، ما هو خارجي عن النفس، وهو لذو نمط اجتماعي سياسي يتلخص رأسا في المقتنيّات، من ممتلكات ورئاسة ومصادر للّذة… ونحو ذلك. وهو أيضا يُرد إلى ما يحصل عليه الآخرون دونه. ما يسترعي انتباهنا هاهنا غياب أسباب بيولوجيّة للحزن، الأمر الذي لسوف يُشدّد عليه مسكويه في المقالة السادسة من “تهذيب الأخلاق” حيث يكون بصدد وصف علاج أمراض النّفس[14].

يرى الكندي أنّ عالم الكون والفساد يُشكّل عائقا دون امتلاك جميع المطلوبات أو اكتساب جميع المحبوبات عنده، ومن هنا ألفيناه يقترح استبدال طلب هذه المقتنيّات داخل عالم عقلي تكون ميزته الثبات، وذلك إذا أردنا أن لا تنال الآفات مقتنياتنا ممّا لا يتوفر في المقتنيّات الحسيّة التي هي مُؤقتة ولا يؤتمن فسادها أو تبدلها. إنّ من أراد غير هذا أراد ما ليس في طبعه كإنسان ومن أراد ما ليس في الطبع فقد أراد ما ليس موجودا، وبالتّالي لن يحصل على مطلبه فيصيبه الشقاء بسبب ذلك، وهكذا فإنّ سبب الشقاء هو طلب الموقوتات. علينا إذن، أن لا نأسف “على ما ينصرف منها عنّا”[15].

يُردّ الحزن الشديد في تقدير الكندي أيضا إلى النّفس، بما يُسوّغ إصلاحها وذلك من خلال تطهيرها من أدران المادّة بتغليب العقل على الشهوة والنزوات ودفع الآلام والأحزان. يقول الكندي: “وإذا كان الحزن إنّما من آلام النفس، وكان واجبا عندنا أن ندفع الآلام الجسدانيّة عنّا بالأدوية البشعة والكيّ والقطع والضمد والأزم: (القطع، أو الشد وإحكام الرّباط) وما أشبه ذلك من الأشيّاء المشفيّة للأبدان، وأن نحتمل في ذلك الكلفة العظيمة من الأموال لمن شفى من هذه العلل، وكان فضل مصلحة النفس وإشفائها من آلامها على مصلحة البدن وإشفائه من آلامه كفضل النفس على البدن”[16].

نتبيّن من هذا القول تأكيد الكندي على وجوب إصلاح النّفس بما هي أساس ماهيّة الإنسان وأفعاله. كما أبرز التقابل الذي يقوم عليه إصلاح النّفس أي اليُسر على المستوى المادّي من جهة بما هو إصلاح لا يتطلّب إنفاق مال ولا يعتمد وسائل علاجيّة مؤلمة، والعسر على المستوى الأخلاقي (المعنوي) من جهة ثانيّة، إذ يقتضي إصلاح النّفس مُغالبة الشهوات بقوّة الإرادة والمثابرة.

لعلّنا، لا نجانب الصّواب عندما نقول بالتقارب بين الكندي وسقراط في مستوى اعتبار أنّ غاية الفلسفة، إنّما هي التحكّم في الشهوات. وحسبنا دليلا عمّا نزعم ههنا، اتّفاق بعض الباحثين أنّ لسقراط حضورا قويا في فلسفة الكندي الأخلاقيّة، ويتمظهر هذا التلقي في رسالة الكندي: “في الحيلة لدفع الأحزان”. كما نتبيّن امتداداته أيضا من خلال الرّسائل التي الّفها الكندي عن فضيلة سقراط، وألفاظ سقراط، ومحاورة سقراط مع غيره، وخبر موت سقراط[17]. ولأمر كهذا، بمستطاعنا التأكيد على تنوّع يسم مصادر الكندي الخلقيّة، بدءا من سقراط والرواقيين وانتهاء بإفلوطين.

إنّ كلّ فلسفة في الأخلاق تفترض رؤية معيّنة لجوهر الإنسان وأنّ هذه الرؤية ذاتها تثير مشكل العلاقة بين النفس والجسم، وهو ما ألفيناه واضحا في طبيعة تصوّر الكندي لماهيّة الإنسان، بتأكيده على أنّ النّفس هي جوهر الإنسان بينما يبقى الجسم مجرّد آلة مشتركة بين كلّ الكائنات والأشيّاء وإبراز الأسّس التي يقوم عليها الإقرار بجوهرية النّفس من ذلك: التفكير، الثبات، التعالي، الخلود، البساطة… في مقابل عرضيّة الجسم: الغريزة، التغيّر، الفناء… إلخ في إطار ثنائي ميتافيزيقي. واعتمادا على المفاضلة الموجودة بين النّفس والتّأكيد على أنّ النّفس هي جوهر الذّات. فالأفضليّة الأخلاقيّة للنّفس ناتجة عن أفضليتها الأنطولوجيّة. هذا مصداقا لقوله: “النّفس سائس والبدن مسوس، والنّفس باقية والبدن داثر، ومصلحة الباقي والعناية بتقويمه وتعديله أصلح وأفضل من إصلاح وتعديل الداثر لا محالة الفاسد بالطبع. فإصلاح النّفس وإشفاؤها من أسقامها أوجب شديدا علينا من إصلاح أجسامنا: فإنا بأنفسنا نحن ما نحن، لا بأجسامنا، لأنّ الجسم مشترك لكلّ ذي جسم، فأمّا حيوانيّة كلّ واحد من الحيّة فبنفسه، وأنفسنا ذاتيّة لنا، ومصلحة ذاتنا أوجب علينا من مصلحة الأشيّاء الغريبة منّا. وأجسامنا آلات لأنفسنا تظهر بها أفعالنا: فإصلاح ذواتنا أولى بنا شديدا من إصلاح آلاتنا”[18].

إنّ العناية التي حظيت بها النفس مردها أنّها مركز للتدبير والسياسة، في حين يظل البدن يتهدده الفناء، فالاهتمام بالأبقى لأفضل، ناهيك أنّ الإنسان هو كذلك بنفسه لا بجسمه. خليق بالملاحظة إلى إعلاء الكندي من شأن الإرادة في الممارسة الأخلاقيّة وتأكيده على أهميّة التدرّب والعادة في إصلاح النفس. رغم الطابع الزّهدي الذي يمكن أن يفهم من دعوته إلى الصّبر وخطرها الممكن على فعّاليّة الإنسان في العالم. وضمن هذا السياق العامّ الذي اختطه الكندي، في تأسيسه لعناصر الفلسفة العمليّة، يتقدّم مشروع أبو بكر الرّازي الأخلاقي كمحاولة في سبيل تركيز أخلاق عقليّة مستندة إلى التجربة العمليّة لحياة النّاس. وقد كان للموقع الذي شغله الرّازي بوصفه طبيبا الأثر البالغ في نقل النموذج الطبي في علاج الجسم إلى مجال الأخلاق، حيث يتم ضمن هذه الرّؤية علاج النّفس ومداواتها كما لو أنّنا إزاء الجسم[19].

على هذا النّحو من النظر، يتراءى لنا أنّ الحزن يُعزى إلى أسباب ذاتيّة – سيكولوجيّة وأخرى موضوعيّة – أنطولوجيّة في تقدير الكندي. ولا يتمّ استبعاد الحزن إلّا بشروط منها معرفة طبيعة الحزن ومنزلته من النّفس واستنباط حيّل عقليّة وأخلاقيّة من شأنها أن تصرف هذه الأحزان. ولنا في ذلك وقفة تأمّل تباعا.

  1. في إحصاء الحيّل / الوصايا العقلية والأخلاقية لدفع الأحزان من منظور الكندي

لا شكّ في أنّ دفع الأحزان عن الإنسان في تقدير فيلسوف العرب رهن التزامه بجملة من الحيّل / الوصايا، لهي في مدلولها العميق أدوية ناجعة وفعّالة تُساعد على تحصين النّفس من براثن الأحزان والآلام والشقاء والنصب واللّغوب، نعرضها كالآتي:

  • الحيلة الأولى: تقسيم الحزن إلى ما هو من فعلنا وإلى ما هو من فعل غيرنا

ينبغي علينا أوّلا تقسيم الحزن إلى أقسامه، فهو إمّا ناتج عن فعلنا الخاصّ أو هو فعل غيرنا فينا. فإن كان من النمط الأوّل وجب علينا تجنبه، أمّا إذا كان من فعل غيرنا فينا،”فإن كان دفعه إلينا فينبغي أن ندفعه ولا نحزن، وإن كان دفعه ليس إلينا فلا ينبغي أن نحزن قبل وقوع المحزن، فلعلّ الذي إليه دفعه أن يدفعه قبل وقوعه بنا، ولعلّ الذي إليه الأحزان ألّا يحزن ولا يفعل الذي خفنا فإن حزنّا قبل وقوع المحزن كنّا قد أكسبنا أنفسنا حزنا لعلّه غير واقع بإمساك المحزن عن الأحزان أو لدفع الذي إليه دفعه عنّا، فكنّا أكسبنا أنفسنا حزنا لم يكسبناه غيرنا”[20].

صنّف الكندي الأشيّاء وميّز فيها بين “ما أمره بيدنا وأمره ليس بيدنا”[21] تساوقا مع ما ذهب إليه الرواقيون، ليرصد بذلك أسباب الحزن ويدعو النّفس بمقتضى ذلك لتفادي الألم بالزّهد في القنيات التي إن فقدناها أصابنا الغمّ. هذا مصداقا لقوله: “الحزن والسرور ضدان لا يثبتان في النّفس معا: فإذا كان محزونا لم يكن مسرورا، وإذا كان مسرورا لم يكن محزونا. فينبغي إذن أن لا نحزن على الفائتات ولا فقد المحبوبات، وأن نجعل أنفسنا، بالعادة الجميلة راضيّة بكلّ حال، لنكون مسرورين أبدا”[22].

نستجلي من هذا القول أنّ دربة النّفس وتربيتها على العادة المحمودة في نظر الكندي، لهي الخطوة الأولى لدفع الأحزان. ومن بين هذه العادات على نحو ما ذكرنا آنفا، الصّبر على الفائتات والسّلوة عن المفقودات وفي ذلك لشحذ للعزيمة وتحرّر من سلطان الضّرورات.

  • الحيلة الثانيّة: تذكّر السلوى عن المحزونات القديمة

يرى الكندي أنّ “من لطيف الحيلة في ذلك تذكر محزناتنا التي سلونا عنها قديما ومحزنات غيرنا التي شاهدنا حزنهم بها وسلوتهم عنها، وتمثيلنا في حال المحزن محزنا بالسالفات من محزناتنا والمحزنات التي شاهدنا وما آلت إليه من السلوة، فإنّ لنا بذلك قوّة عظيمة على السلوّ”[23].

إنّ الحيلة التي يضعها الكندي لدفع الأحزان هي تقسيم الحزن لبيان ما تقتضيه الحكمة من ترك الأفعال التي تحزننا وصرف الاهتمام عن التّأثر بما هو خارج عن إرادتنا وعدم الحزن على شيء لم يحدث بعد. كما يجب كذلك تذكّر الأحزان التي مرّت بنا، أو شهدها غيرنا، حيث تكون لنا دواء مُفيدا.

  • الحيلة الثالثة: تذكّر السلوى عن الفقر

تتعيّن هذه الحيلة / الوصيّة فيما يستلزمه العقل من تقصير لمدّة الحزن بدفع البلاء الذي يمكننا دفعه، سيّما وأنّ دفع البلاء لواجب أخلاقي. هذا ما عبّر عنه الكندي بقوله: “وأشقى الأشقياء من لم يجتهد في دفع البلاء عن نفسه بما أمكنه دفعه. وينبغي أن لا نرضى بأن نكون أشقياء ونحن نقدر على أن نكون سُعداء”[24]. ولقد برّر فيلسوف العرب واجب دفع الشقاء أو الحزن عن النّفس باعتبار الحزن وضعا في الإنسان أي حالة من حالات وجوده لا طبعا راسخا فيه. وهي مسلّمة لتستوجب إذن دفع الحزن من جهة أنّه عرض.

أن نلاحظ أيضا من حولنا من النّاس، الذين آلوا إلى الفرح والنسيان بعد انقضاء زمن الحزن، ويشير الكندي هنا أنّ الكثير من النّاس يستلذون بحالة الحزن التي تصير لهم وضعا. إذ “لو كان واجبا أن نحزن على ما نفقده لوجب أن نكون أبدا محزونين. فينبغي للعاقل أن لا يفكّر في الأشيّاء الضّارة المؤلمة، وأن يقلّ القنيّة ما استطاع إذا كان فقدها سببا للأحزان”[25].

  • الحيلة الرّابعة: تذكّر ما بالطبع

يقول الكندي في معرض حديثه عن هذه الحيلة ما يلي: “وينبغي لنا أيضا أن نتذكّر أنّا إذا أردنا أن لا نصاب بمصيبة فإنّما أردنا أن لا نكون البتة، لأنّ المصائب إنّما تكون بفساد الفاسدات، فإن لم يكن فساد لم يكن كائن. فإذن إن أردنا أن لا تكون مصائب، فقد أردنا أن لا يكون الكون والفساد في الطبع. وأيضا فإن أردنا أن لا يكون ما في الطبع فقد أردنا الممتنع، ومن أراد الممتنع حُرم مراده، ومن حرم مراده فشقيّ”[26].

شدّد الكندي على ضرورة التحرّر من الجهل والشقاء، مادام الأوّل مُكسب خساسة، وهو الجهل، والثّاني مُكسب ذلة وشماتة، وهو الشقاء. معتبرا في ثنايا ذلك كلّه، أنّ من موجبات الحياة في هذا العالم حصول الحزن والمصائب، فلا يفلت منها أيّا كان. ناهيك أنّ حكمة العقل لتقول باستحالة المهرب من القانون العامّ للواقع ولا محيد عنه. فقانون الوجود هو أن نوجد – ما دمنا قد وجدنا – على ما نحن عليه لأنّه محكوم علينا ألّا نكون شيئا آخر، أو بعبارة الكندي “ليس برديء أن نكون ما نحن، إنّما الرديء أن لا نكون ما نحن”[27]. وأن لا نكون ما نحن معناه الاستلاب والتشوه بالخوف والاضطراب والجهل والأسف، وهذه انفعالات معبّرة جميعها عن الحزن ومبعدة عن العقل الذي “يضع الأشيّاء مواضعها”[28].

  • الحيلة الخامسة: التمييز بين ما يعود وما لا يعود أمره إلينا

إنّ الحكمة من هذه الحيلة تتعيّن في الوعي بأنّ: “جميع الأشيّاء التي تصل إليها الأيدي مشتركة لجميع النّاس، وإنّما هي مجاورة لنا لسنا أحقّ بها من غيرنا، وأنّ الغالب عليها هي له ما غلب عليها. وأمّا الأشيّاء التي هي لنا وغير مشاركة لغيرنا فهي لا تصل إليها الأيدي ولا يملكها علينا غيرنا، التي هي قنيّة أنفسنا من الخيرات النفسانيّة. فهذه هي التي لنا العذر في الحزن عليها إن فقدناها من أنفسنا”[29].

إنّ دفع الحزن في تقدير الكندي يرتهن في الاقتناع باشتراك النّاس في كلّ ما تصله الأيدي، وبالتّالي فليس من الحكمة الحزن عليه، لأنّ الحزن يجب أن يُطال ما هو لنا بالطبع من قبيل الخيرات النفسانيّة، والدّواء هنا هو “الابتعاد عن الحسد”[30] وعن كلّ سلوكات وأفعال الشرّ والبغضاء والكراهيّة والأنانيّة والنرجسيّة المقيتة. ذلك أنّه “ينبغي لنا أن لا نقرف أنفسنا بالحسد، إذ هو أكمل الشرارات”[31]. لأنّ “من أحب أن ينال الأعداء الشرّ محبّ للشرور، ومن أحبّ الشرّ فهو شرّير. وأشرُّ من هذا من أحبّ أن ينال الأصدقاء الشرُّ (…). فأمّا من حزن على أن يتناول قنية غيره فمحسود. فينبغي أن لا نرضى بهذه الخساسة”[32].

  • الحيلة السّادسة: عدم ارتجاع العواري

يقول الكندي: “العار والسُّبة علينا أن نحزن إذا ارتجعت منا العواري. فإنّها من أخلاق ذوي الشّره والظنّ وسوء التمييز. ومن أُعير شيئا ظنّ أنّه ملكه – فهذا خارج من باب الشكر”[33]. فإذن من حزن على ردّ ما أعير- فقليل الشكر. وعليه، فإنّ دفع الأحزان ليرتهن في تقدير الكندي ها هنا، بأن نستجبي لأنفسنا من هذا الخلق الخارج عن العدل، وينبغي أن نستجبي من وضع المعاذير الصبيانيّة السخيفة لأنفسنا في الحزن على ارتجاع المعير، بل لنبتهج أشدّ بهج ببقاء زينة عواريّة الشريفة علينا، ولا نأسى على فقد ما ارتجع منّا. إذ كان واجبا أن لو ارتجع كلّ ما أعار، أن لا نحزن بل نبتهج، إذ كان بهجنا الأكثر من ذلك من شكره وفي موافقته على محبته.

  • الحيلة السّابعة: في ضرورة تقليل القنيّة

إنّ دفع الأحزان في هذا الإطار، رهن “تقليل القنيّة، إذ كان عدمها وفوتها – إذ كانت من الخارجة عنّا – سببا للأحزان. فإنّ من ذلك وحده يكون الحزن”[34].

إنّ ضرورة امتلاك الأشيّاء التي هي قنيّة للنّفس، فهذه لا يمكن أن تؤخذ أو تفتك، إذ ليست هي من القنيّات المشتركة. لذلك إذا حدث واسترجع أحد الأشيّاء كان مودعا عندنا، فلا ينبغي أن نحزن على ذهابه، فعلى العكس من ذلك يكون هذا الأمر مصدر فرح لا حزن، لأن يسترجع هو الخسيس فقط، وليس الأفضل “أعني النفسانيّات وما يتّصل بنا وبعقلنا”[35].

إنّ التقليل من القنيّات الخارجيّة من شأنه أن يُساعد على التقليل من الحزن. يلجأ الكندي في هذا الإطار إلى رواية تتحدث عن قوم صعدوا مركبا باتجاه موطنهم، ولكن هذا المركب توقف بعد الإقلاع لحاجة طرأت. وهنا نُلفى الكندي يُقسّم المسافرين إلى ثلاثة أصناف وفقا لغاية كلّ منهم وتعامله مع الأشيّاء التي صادفها أثناء التوقف.

  • صنف غادر المركب وعاد دون ينشغل بالمكان الذي توقف عنده المركب مكتفيا بما يسمعه وينظر إليه، وذلك غايته ومطلبه، فهؤلاء هم من كان على أخلاق الملوك.
  • صنف آخر فقد راحته وطمأنينته نتيجة ما حصل مّما وجده من أشيّاء اعتقد أنّها تكون ممتلكات له، إلّا أنّ هذا الصنف من النّاس تمكّن من إيجاد مكان له داخل المركب بالرّغم من الإزعاج الذي تسبب فيه لمن يدعوهم الكندي “أصحاب العقول”.
  • صنف آخر غادر المركب دون عودته، إذ هو منهمك بجمع ما وجده من مقتنيّات وأمتعة ظنّ أنّ فيها سعادته، وهؤلاء هُم العامّة وأراذل القوم[36].
  • الحيلة الثامنة: كره الرّديء وعدم كره الذي ليس برديء

لقد ضرب الكندي أمثلة ملموسة تكشف الرّابط الوثيق بين التّعقل ودفع الأحزان وبين الجهل والوقوع في الشقاء. العقل يبعد عنّا الحزن بما يقدّمه من حجج تبعد عنّا دوافع الحزن من ذلك مثلا أنّه، إذا قلنا أنّه لا ينبغي أن نكره الذي ليس برديء وإنّما ينبغي أن نكره الرّديء. على هذا يُصحّح الكندي موقف البشر من الموت فيقول: “إنّ الموت ليس برديء، وإنّما خوف الموت رديء لأنّ الموت تمام طباعنا. فإن لم يكن موت، لم يكن إنسان بتة لأنّ حدّ الإنسان هو: الحيّ النّاطق المائت”[37]. على هذا الأساس، لا يمكن أن تكون الرّداءة هي أن نموت لأنّ الموت من طبعنا، فمن الحكمة إذن أن لا نحزن، وإذا كان لا بدّ من الحزن فلنعمل على “تقصير مُدّة الحزن”[38] وأن نحزن على أنّنا نحزن لا أن نحزن على أنّنا لا نحزن أو في عبارة آسرة للكندي: “إنّما ينبغي أن نحزن على أن نعدم أن لا نحزن فإنّ هذه خاصّة للعقل فأمّا الحزن على أن نعدم أن نحزن، فهذه خاصّة للجهل”[39].

نلاحظ أنّ هذا الاستدلال الذي يدفع به الكندي خوف النّاس من الموت، ليستقي منطلقاته الأولى وإرهاصاته الأساسيّة من المعين الرّواقي مُمثلا في “زينون السيتي” (zénon de Cittium) والرواقيين الرّومان مثل:”شيشرون” (Cicéron) و “أبيكتات” (Epictète) و”سيناك”(Sénèque) ناهيك أنّ الحكمة الرواقيّة لتقوم على قبول متبصّر بالأحداث الناجمة عن الطبيعة أو القدر مما يمنح طمأنينة أو سكينة (بالأتراكسيا Ataraxie) تعدّ سبيلا إلى تحصيل السّعادة لأنّها تتوّج من جهة أولى الصفاء الدّاخلي للإنسان، وتعبّر من جهة ثانيّة عن لا مبالاة تجاه الألم والحزن والموت والخوف، أي سائر ما يرتبط بالانفعالات ويتنافى مع العقل. وعلى هذا النحو، فإنّ صورة الكمال في الحياة كامنة وفقا للفيلسوف الرواقي في التلاؤم التامّ والكلّي مع الطبيعة على أساس العقل وليس على أساس الانفعالات. والحكمة الأخلاقيّة تكمن في ممارسة السّلوك المنسجم مع الفضيلة المتمثلة في الحياة وفق مبدأ العقل الذي ينظم الأفكار ويحكم الكون[40].

إنّ العقل يقتضي: “أن نكون في الطبيعة كما تريدنا أن نكون وأن نريدها فينا كما تريد هي ذاتها”[41]. أمّا عدم العقل “فيضع الأشيّاء في الأشيّاء في غير مواضعها ويظنها بخلاف ما هي”[42]، وليس ذلك دليل جهل وحسب بل هو أيضا علامة على تعامل غير سوي مع الزمن، تعاملا يتمثّل في عيش المرء منتظر ما هو غير مؤكّد وهو ما يؤدي إلى عدم الالتزام بحاضر الفعل. وقد كان مرّ معنا أنّ الحاضر الذي نعنيه ليس أبدا يستغرق كلّ الأزمنة إذ لو كان كذلك لرفعت زمنيته وإنّما هو الحاضر الحيّ الذي هو تعبيرة الفعل والانفعال[43]. وبالجملة، يتضح لنا تلقي الكندي للأخلاق الرّواقيّة التي تميّز بين ما يكون أمره بيدنا وتحت طائلة الإرادة وبين الأمور التي تكون خارج سلطتنا ولا نقدر على الفعل فيها مثل قوانين الطبيعة التي لا يبقى لنا إلّا العيش في توافق معها.

ولا بدّ من الإشارة أيضا إلى عمق التأثير الذي مارسته الأبيقورية في تفكير الكندي، بشأن تلكم المسألة. وحسبنا دليلا عمّا نزعم هاهنا، ما ذهب إليه أبيقور(Epicure) (341 ق.م – 270 ق.م) في “رسالة إلى مينسي” Ménécée))، مفادها “عوّد نفسك على أنّ فكرة الموت هي لا شيء بالنّسبة إلينا، إذ أنّ كلّ خير وكلّ شرّ يكمن في الإحساس، والحال أنّ الموت إلغاء كلّي لهذا الأخير. إنّ هذه المعرفة المؤكّدة بأنّ الموت لا شيء بالنّسبة إلينا ينتج عنها تثمين أفضل للمسرّات التي تمنحنا إيّاها الحياة الفانيّة، لأنّها لا تضيف إليها ديمومة لا نهائيّة وإنّما تنزع عنّا في المقابل الرّغبة في الخلود. وبالفعل فإنّه لا شيء يُثير الرّعب في الحياة بالنسبة إلى فهم فعلا بأنّ لا شيء في الموت يدعو إلى الرّعب. وهكذا علينا أن نعتبر أحمقا من يقول إنّنا نخشى الموت، لا لأنّها تُكربُنا عندما تحلّ بنا وإنّما لتألُّمنا بعد من فكرة كونها آتيت يوما ما. إذ لو أنّ أمرا لا يسبّبُ لنا أيّ اضطراب بحضوره فإنّ القلق المقترن بانتظارنا له يغدو دونما أساس. وهكذا فمن بين الشّرور التي ترتعد لها فرائصنا يكون أعظمها شأنا هو لا شيء بالنّسبة إلينا، إذ طالما نحن على قيد الحياة فالموت ليس هنا، وعندما تكون الموت نكفُّ تماما على أن نكون”[44].

يدعو أبيقور إلى عدم التفكير في الموت طلبا في الطمأنينة، ما دام التفكير في واقعة الموت، إنّما هو أمر باطل من الأساس ومصدرا لتعاسة الإنسان بالنهاية. فالموت في نظر أبيقور لا شيء بالنّسبة إلينا، إذ يفقد الشيء الذي ينحلّ القدرة على الإحساس، والشيء الفاقد للإحساس هو لا شيء عندنا. فعندما نكون فالموت لا يكون، وعندما يكون فنحن لا نكون، وعلى هذا فالموت وفقا للفهم الأبيقوري لا يعني الأحياء ولا الأموات، لأنّه لا يمتّ بصلة إلى الأحياء، ولأنّ الأموات لم يعودوا بعد موجودين. وعندئذ، فإنّ الحكمة في تقديره لهي تحقيق السّعادة التي تكمن في الشعور باللذّة ومفارقة الألم وإزالته بإقصاء أسباب الخوف التي يصنفها هذا الفيلسوف اليونانيّ إلى أربع: (الخوف من الآلهة، الخوف من الموت، الخوف من الحزن والخوف من الألم).

ولسوف يكون موقف كلّ من أبيقور ولوكراس (98.ق.م – 55.ق.م)[45] الذي أظهر على امتداد مؤلّفه الموسوم: ” في الطّبيعة” وفاء لنظريات أبيقور ومشروعه المتمثل في حكمة تمنح الإنسانيّة الطمأنينة، موضوع مراجعة نقدية من لّدن بيار. بايل بقوله: ” يفترض كلّ من أبيقور ولوكراس أنّ الموت أمر لا يعنينا ولا شأن لنا به. وهما يستخلصان ذلك ممّا يفترضانه من أنّ النّفس فانيّة وأنّ الإنسان لن يحسّ بشيء بعد انفصال النّفس عن الجسد…(…) هذان الفيلسوفان(…) يفترضان أنّ الإنسان لا يخشى الموت إلاّ أنّه يتصوّر أنّها متبوعة بشقاء فعلي رهيب. إنّهما يخطئان ولا يقدّمان أيّ علاج للذّين يعتبرون مجرّد فقدان الحياة شرا عظيما.”[46]

ويواصل بايل دحضه معلنا: “أنّ حبّ الحياة المنغرس في وجدان الإنسان بحيث أنّ اعتبارها خيرا عظيما علامة دالّة على ذلك، ويترتّب عن ذلك أنّ مجرّد انتزاع الموت لهذا الخير يجعلنا نخشاها كشرّ عظيم. فما جدوى أن نقول ضدّ هذه الخشيّة (من الموت): لن تحسّوا بشيء بعد موتكم؟ ألن يردّ عليكما للتوّ: إنّه لكاف أن أحرم من الحياة التي أحبها بهذا القدر وإذا كانت وحدة نفسي وجسدي حالة تخصنّي وأرغب بشدّة في المحافظة عليها، فإنّه لا يمكنكما أن تزعما أنّ الموت الذي يحطم هذه الوحدة هو أمر لا يعنيني. ولنستنتج من كلّ ذلك أنّ حجّة “أبيقور” و “لوكراس” لم تكن محكمة التنظيم، وأنّها لم تكن لتصلح إلاّ في دفع المخاوف إزاء عذابات العالم الآخر. هناك نوع آخر من الخوف ينبغي لهما مقاومته وهو الخوف إزاء الحرمان من نعم الحياة”[47].

نستخلص من هذا الموقف أنّ الحكمة الأبيقورية الهادفة إلى منح الإنسان الطمأنينة بتحريره من مخاوفه من الموت، لا تحد في شيء من قلقه الذي لا يتعلّق في تقدير بايل بمخاوف وهميّة من عذاب القبر أو العالم الآخر، بل بفقدان الحياة ذاتها والحرمان من نعمها.

  • الحيلة التّاسعة: كفاية المتبقي

يقول الكندي في هذا السيّاق: “وينبغي أن يكون منّا على بال كلّ فائتة ومعدوم ما بقي لنا من قنياتنا الحسيّة والعقليّة، وأن تتشاغل بذكرها وتعديدها عن السّالفة. فإنّ في تذكّر الباقي سلوة من المصائب”[48].

  • الحيلة العاشرة: مقارنة الفائت بالمقبل من المحزنات

أنهى الكندي رسالته بهذه الوصيّة أو الحيلة التي من شأنها دفع الحزن، حيث ألفيناه يُشدّد على ما يلي: “قد يكون منّا على بال عند كلّ محزنة من فائت أو تالف من الحسيّة أنّ الذي بقي علينا من ترقب المصائب بفقد قنياتنا الحسيّة وأنّه قد سقط عنّا – يُقلّ بعض المحزنات”[49].

يعتبر الكندي أنّ من لم يقتن الخارجات عنه، ملك مُسترقات الملوك، ويقصد رأسا الغضب والشهوة. بوصفهما ينابيع الرذائل والآلام. فأعظم الأسقام في تقديره سقام النفس الذي هو أعظم من سقام البدن. لأنّه من لم يؤثر فيه الغضب والشهوة آثارهما المذمومة فليس عليه سلطان. “ومن آثر الغضب والشهوة تسلطتا عليه وملكتاه وتصرفتا به حيث شاءتا. فبحق أنّه من لم يقتن الخارجات عنه، ملك مسترقي الملوك وغلب أكبر الأعداء الحالة معه في حصنه التي لا يحترس من شرور أسلحتها بحمي الحديد، ولا يؤمن مع مساكنتها أفحش الآثام وجلل البوار”[50].

إنّ هاته الوصايا العشر أو الحيّل العقليّة والأخلاقيّة على نحو ما أحصاها الكندي، إذا ما التزم بها الإنسان وتمكّن من تثبيتها في نفسه حصنته من الحزن والخوف والشهوة والجهل وساعدته على تحقيق الفرح. هذا تساوقا مع ما أشار إليه فيلسوفنا في خاتمة رسالته، بقوله: “فمثّل، أيّها الأخ المحمود، هذه الوصايا مثالا ثابتا في نفسك، تنجُ بها من آفات الحزن، وتبلغ بها إلى أفضل وطن من دار القرار ومحلّ الأبرار”[51].

هذا النّداء الكندي لترجمان للمنزع الإنسي، حيث بوّأ الإنسان منزلة الصدارة في تأمّلاته الفلسفيّة برمتها. رُبّ أنسنة منشودة لا تتحقّق، إلا من خلال حسن تربيّة النفس وسياسة المرء لذاته.

لعلّه بالإمكان الآن وفي هذا المستوى من التحليل، استشراف دور الفلسفة ومفاعيلها، تحصيلا للسّعادة ولإتيقا الفرح، وتحقيقا للكمال الإنساني وفقا لمنظور الكندي.

  1. الكندي الرّائد البعيد للفكر الفلسفي عند العرب: قراءة في منزلة الفلسفة ومقتضيات تحصيل السّعادة / الفرح

إنّما مطلوبنا في هذا العنصرالأخير من بحثنا، تقصّي منزلة الفلسفة ومفاعيلها عند فيلسوف العرب أوّلا. وتوجيه تأمّلاتنا شطر إتيقا السّعادة والفرح، بوصفها غاية يشترك في طلبها كلّ البشر، وما يستوجبه ذلك من تساؤل عن طبيعتها وشروط تحقّقها ثانيّا. فكيف ذلك؟

 

  • دفاعا عن الفلسفة عند الكندي

لقد أورد الكندي في رسالة الحدود تعاريف متنوّعة للفلسفة، إلّا أنّها تكاد تتمحور حول دلالة مفردة تخترق مجمل هذه التعريفات، وهي السّمة العمليّة أو الخلقيّة للفلسفة هذا مصداقا لقوله: “إنّ الفلسفة هي التشبه بأفعال اللّه تعالى، بقدر طاقة الإنسان – أرادو أن يكون الإنسان كامل الفضيلة”[52]. ثمّ يشرح الكندي المقصود من هذا القول، فيبيّن كيفيّة هذا التشبه، وماهيّة الفعل الفلسفي، فيعلن: “فحدوها أيضا من جهة فعلها، فقالوا: العناية بالموت (…). فهذا الموت الذي قصدوا إليه، لأنّ إماتة الشهوات هي السبيل إلى الفضيلة، ولذلك قال كثير من أجلّة القدّماء: اللّذة شرّ”[53].

نستجلي من هذا القول أنّ اللّذة في تقدير الكندي تقترن بالاشتغال بالأمور الجسميّة مقابل الزهد في البعد العقلي. ويستنتج من ذلك تأكيدا، مفاده أنّ الموت الذي قصده الفلاسفة هو في الحقيقة موتان: أحدهما طبيعي، هو تخلّي النّفس عن استعمال الجسم. أمّا الثاني، فيعنون به إماتة الشهوات تحصيلا للفضائل.

كما يضيف في تعريف آخر: “وحدوها أيضا من جهة العلّة، فقالوا: صناعة الصناعات وحكمة الحكم”[54]. فالفلسفة هنا توجد عند أصل كلّ شيء، إذ هي ترتبط بحقيقة الفعل الإنساني المحض، وهي غاية شريفة، لا ينالها إلّا من تعمّق في أسبابها التي من بينها “معرفة الإنسان نفسه”. في مسايرة من لّدنه للتعريف السقراطي. وعليه، فإنّ الفلسفة تتحدّد بوصفها معرفة شموليّة وكليّة للعالم برمته هذا ما أعلنه الكندي: “الفلسفة علم الأشيّاء الأبدية الكليّة، إنّياتها ومائيّتها وعللها، بقدر طاقة الإنسان”[55]. والجدير بالإشارة أنّ هذا العلم يكون “بقدر طاقة الإنسان” وأنّ حقيقة الشيء هي علته، وأنّ غاية الفيلسوف هي في ذات الوقت نظرية وعمليّة: “إنّ غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحقّ وفي عمله العمل بالحقّ”[56]. و”ينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحقّ، واقتناء الحقّ من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصيّة عنّا، والأمّم المباينة، فإنّه لا شيء أولى بطالب الحقّ من الحقّ. وليس (ينبغي) بخس الحقّ، ولا تصغير بقائله ولا بالآتي منه. ولا أحد بُخس بالحقّ بل كلّ يُشرّفه الحقّ”[57].

إنّ مفهوم الحقّ في تقدير الكندي هو من صميم الدّعوة إلى توسيع الدّين بالأخلاق انتصارا للفضائل على الرذائل واعتبار الفلسفة والدّين من مجال واحد هو المجال الأخلاقي، كما أقرّ الفارابي، بعد الكندي، وجوب الوصل بين الدّين والفلسفة ضمن رؤية شاملة للعالم. فالكندي قد انتصر للفلسفة في زمن قوّة الدّولة بما أسماه “الحقّ”.

الجدير بالملاحظة أنّ الكندي، قد استعمل قياس الخُلف في سياق البرهنة على ضرورة الفلسفة، بقوله: “فإن قالوا إنّه يجب، وجب طلبها عليهم. وإن قالوا إنّها لا تجب، وجب عليهم أن يحضروا علّة ذلك، وأن يُعطوا على ذلك بُرهانا. وإعطاء العلّة والبرهان من قنيّة علم الأشياء بحقائقها. فواجب إذن طلب هذه القنيّة بألسنتهم، والتمسّك بها اضطرار عليهم”[58].

وغنيّ عن البيان القول إنّ تعريف الكندي للفلسفة يرتبط في كلّ مرّة بتعريف الأخلاق، ذلك أنّ موضوعات المعرفة لديه تحيل كلّها إلى التساؤل عن مدبر هذا العالم، عن نمط وجوده وعن منزلته ضمن وجود العالم العقلي، “فهو كالنفس في البدن، لا يقوم شيء من تدبيره إلّا بتدبير النّفس، ولا يمكن أن يعلم إلّا بالبدن، بما يُرى من آثار تدبير النفس فيه …”[59]. إنّ المنهج الذي يتمثّل من خلاله فيلسوف العرب وظيفة الفلسفة أو الحكمة، يجعل من بعدي النظر والعمل متلازمان، يشترط أحدهما الآخر بصفة حتميّة. بل استحالة معرفة الفعل النظري إذا لم تكن ضمن مدار العمل، وهو جزء منه يتمّم معرفة الإنسان بنفسه، وبأقسام الفضائل المكوّنة له، سيّما وأنّ “الحكمة هي فضيلة القوّة النطقيّة، وهي علم الأشيّاء الكليّة بحقائقها واستعمال ما يجب استعماله من الحقائق”[60]. كما أنّ الرّوح الفلسفيّة أساسها: “الحبّ والنّور وتمجيد قوى القلب والعقل”[61]. صفوة القول ههنا، إنّ المستفاد من خلال هذا العرض الذي قدّمه الكندي لبعض التحديدات التي كانت سائدة في عصره عن الفلسفة، أنّ فعل التّفلسف – من جهة تنصيصه على بعض الجوانب الواردة ضمنه – هو فعل أخلاقي، بما أنّ الأخلاق عنده تبدأ بتأمّل الأشيّاء العقليّة الخالصة وتنتهي عند تنقيّة النّفس. وهذا هو الطريق الملكي إلى “السّعادة الإنسيّة”[62]. وفي الأمر نظر تباعا.

  • العقل الأخلاقي العربي وكيمياء السّعادة بين التحقّق الدُنيوي والأُخروي عند الكندي

حدّد ابن منظور في لسان العرب السّعادة اشتقاقيا بوصفها: “مصدر من سعد أو سعد ومنه السّعد أي اليمن وهو نقيض النحس، والسّعادة خلاف الشّقاء والسّعيد نقيض الشّقي والسّعد طيب فيه منفعة عجيبة في القروح التي عسر اندمالها، وأسعده، أعانه، إسعاد النساء في المناحات هو أن تقوم المرأة فتقوم معها أخرى من جاراتها فتساعدها على النياحة، وسعود النجوم منازلتها، واستسعد الرجل برؤية فلان أي عده سعدا”[63]. تحمل السّعادة إذن اشتقاقيا أو إتيمولوجيا على معنيين هما: المساعدة والبهجة والشفاء ورضاء النفس من جهة ومواتاة الحظّ ويمن الطابع من جهة ثانية، وهما معنيان واردان في كثير من الألسن الأخرى أيضا، حيث نلفى المعنى الاشتقاقي لمصطلح السّعادة في اللّاتينية (augurium من  heur) و الألمانيّة (glück, gelingen ® réussir) والأنجليزية (happiness ® chance favorable) والفرنسية (bon-heur) هو أنها الحظ المواتي أو الملائم وهي في نفس الآن حالة من الرّضا التام الذي يسيطر على الوعي[64]. ولسوف نجد جملة هذه المعاني الخاصّة بماهيّة السّعادة حاضرة بشكل لافت لدى فيلسوف العرب الذي أثار ذات المسألة وطفق يجوس خلالها من الزوايا المتعدّدة المحيطة بها: مفهمة وتنبيها وتحصيلا دنيويا وأخرويا. على الرّغم من أنّ تدبر معنى السّعادة وشروط تحصيلها ضمن المتن الفلسفي لأبي يوسف مهمّة من الصعوبة بمكان، على اعتبار أنّ الكندي لم يفرد مؤلّفا خاصّا بموضوع السّعادة على نحو ما ألفيناه مثلا لدى الفارابي من بعده، حيث خصّص كتابي: “تحصيل السّعادة” و”التنبيه على سبيل السّعادة” للنّظر في مسألة السّعادة بين التحقّق الدُنيوي والأُخروي، وفي بعديها: النظري والعملي[65].

لا جرم أنّ النّصوص التي تركها لنا الكندي، لم تسعفنا بتعريف مباشر للسّعادة، لكنّنا نُلفى لديه بالرّغم من ذلك حدودا مشتركة تساعدنا على تقصي ماهيّة السّعادة، وتكمن هذه الحدود والرّسوم في:

  • العقل: “جوهر بسيط مدرك للأشيّاء بحقائقها”.
  • النّفس: أحد تعريفاتها، “أنّها جوهر عقل متحرّك من ذاته بعدد مِلّف”.
  • العمل: “فكر بفكر”.
  • الاختيّار: “إرادة تقدّمها روية مع تمييز”.
  • الرّوية: “الإماتة بين خواطر النّفس”.
  • الرّأي: إمّا هو الظّنّ الظاهر في القول والكتاب ويُقال: “أنّه اعتقاد النّفس أحد شيئين متناقضين اعتقادا يمكن الزوال عنه، ويُقال “أنّه الظّنّ مع ثبات القضيّة عند القاضي، والرّأي إذن، سكون الظّنّ”.
  • الإرادة: “قوّة يقصد بها الشيء دون الشيء”.
  • العلم: “وجدان الأشيّاء بحقائقها”.
  • الفهم: “يقتضي الإحالة بالمقصود”.
  • الظّن: “هو القضاء على الشيء من الظاهر ويُقال: لا من الحقيقة والتبيين من غير دلائل ولا بُرهان، ممكن عند القاضي بها زوال قضيته”.
  • اليقين: “هو سكون الفهم مع ثبات القضيّة ببرهان”[66].

تتحدّد السّعادة وفقا لهذا المنطوق وفي ثنايا المتن الفلسفي الكندي برمته، بما هي دفع للأحزان والآلام وتحقيق الطمأنينة والفرح. ومن هذا المنطلق، ارتبط مفهوم السّعادة عند الكندي بالنّفس، فهو لم يتناول السّعادة بشكل مباشر، لكنّه تناولها من خلال علاقة النّفس بالجسم وملذاته، لأنّه يرى أنّ الاستغراق في الملذات لا يُؤدي إلّا إلى السّعادة المظنونة. ولأمر كهذا، فإنّ تحصيل السّعادة الحقيقيّة في تقدير الكندي، يقتضي تحرّر النّفس من الجسم وملذاته ومن القنيّة مهما كانت. لأنّ النّفس إذا دخلت في علاقة مصيرية مع القنيّة وفي حال فقدها لها تنهار تلك السّعادة، لأنّها في منظوره ليست حقيقيّة، وتدخل النّفس في شقاء أبدي. وهذا تقليد سقراطي ورواقي بامتياز. كما جعل من طهارة النّفس والتشبه باللّه وانفرادها عن الجسم عاملا مهمّا في الوصول إلى السّعادة الحقيقيّة[67]. وذلك على جهة وقوعه بلا هوادة تحث جاذبية هذا المدّ الفلسفي لكل من الفيلسوفين اليونانيين: فيثاغورس وأفلاطون.

تقوم السّعادة / إتيقا الفرح التي يُؤسّس لها الكندي، انطلاقا من جملة التعريفات السّابقة على حياة التأمّل النظري وقيادة العقل المؤهل لبلوغ السّعادة الحقيقيّة. إلّا أنّ هذا العنصر لا يكفي لوحده، بل يُضاف إلى هذا التأمّل العقلي تزهد روحي، وهذا يدخل في باب الفلسفة العمليّة، وهو جانب أخلاقي غاية الفعل الإنساني التشبه بالفضيلة والوصول إلى تحصيل السّعادة.

من نافلة القول التذكير في هذا المقام أيضا، بالعلاقة التلازميّة بين الفضيلة والسّعادة عند الكندي، فهو يستخدم في هذا السّياق مصطلح “الفضائل الإنسانيّة”[68] للإبانة على الخلق الفاضل الصّادر عن النّفس. وتتوّزع الفضائل الكامنة في النّفس على: الحكمة والنجدة (الشجاعة) والعفّة، وهو تقسيم مستوحى من التقليد اليوناني لدى أفلاطون وأرسطو. أمّا الفضائل الناتجة عن النّفس والتي تحيط بالجسم، يذكر الكندي الآثار عن النّفس، ثمّ فضيلة العدل.

تعرّض الكندي بالدّرس والتحليل إلى وظائف هذه الفضائل، حيث يقول بخصوص الحكمة التي هي ميزة القوة الناطقة، أنّها “علم الأشيّاء بحقائقها واستعمال ما يجب استعماله من الحقائق”[69]. أمّا فضيلة النجدة (الشجاعة) فمصدرها القوّة الغلبيّة (القوّة الغضبيّة)، وتفيد “الاستهانة بالموت في أخذ ما يجب أخذه ودفع ما يجب دفعه”[70]. في حين تخصّص فضيلة العفّة لتناوّل الأشيّاء التي تدخل في تربيّة الأجسام “وحفضها بعد التمام وائتمار امتثالها والإمساك عن تناول غير ذلك”[71].

إنّ السّعادة وفقا للتصوّر الفلسفي الكندي هي عين الفضيلة، إذا اقترنت بمبدإ الاعتدال، حيث لا إفراط ولا تفريط. (إذا فهمت على معنى تحقيق اللّذة العقليّة، لا على معنى تحقيق اللّذة الحسيّة أو تحقيق اللّذة الدّائمة لا اللّذة الزائلة). فما تقوم عليه الفضيلة من زهد في الملذات ومن التزام بحياة التأمّل، وما تستوجبه من صفاء داخلي، لا يتحقّق، إلّا بضرب من اللّامبالاة تجاه الألم والحزن والموت والخوف وسائر الانفعالات. لا تحمل الفضيلة على معنى القيمة النظرية المجرّدة، بل على معنى الحكمة العمليّة. وبمقتضى ذلك، فإنّ الفعل المؤسّس على فضيلة الاعتدال يكون خيّرا ويحكمه مطلب السّعادة، كما أنّ الحكيم هو من يكون خيّرا وفاضلا وسعيدا. والحياة السعيدة هي الحياة الفاضلة، والفضيلة هي الفعل العقلاني المطابق للخير. وعليه، فإنّ الفضيلة، لهي تدبير السّعادة وفق ما تقتضيه حكمة العقل.

تشترط السّعادة الدنيوية والأخروية في تحقّقها: العقل والفضيلة والفلسفة وفعل الخيرات والابتعاد عن الشرور والرذائل والقبائح والتشبه باللّه. فالكندي حاول الجمع بين سقراط وأفلاطون وإفلوطين والرواقيين في بحثه مسألة السّعادة ضمن سياقات العقل الأخلاقي. وظلّ فيلسوف العرب منسجما مع طروحات هؤلاء الفلاسفة، ربّما لأنّها وافقت تصوّره لأخلاق روحانيّة لاهوتيّة. هذا ما يسوّغ لنا القول، إنّ أبا يوسف كان يؤسّس لأخلاق روحانيّة شبه ربانيّة، تبدو في تقديرنا مستحيلة واقعيا، وهو ما يتجلّى في ربطه بين السّعادة القصوى الأخرويّة التي لا يراها في هذه الدّنيا، بل يراها في عالم غير هذا العالم وبين الأفعال الحميدة والفضائل الخيّرة التي على المرء اتّباعها ليصل من خلالها إلى بلوغ تلكم السّعادة، باعتبارها استحقاقا وجدارة.

من قبيل الخاتمة: نتائج وآفاق

ولقد صرّفنا القول في مسألة الحزن والفرح عند الكندي على نحو يجلّي لنا دوافع الحزن الذاتيّة والموضوعيّة، أو السيكولوجيّة والأنطولوجيّة، وتعرّفنا في ثنايا ذلك على جملة الحيّل أو الوصايا العقليّة والأخلاقيّة اللّازمة لدفع الأحزان وما يقترن بها من آلام وتعاسة وتعبا ولوعة في نفسيّة الإنسان الحزين، تحصيلا لإتيقا الفرح والسّعادة.

إنّ الوصايا العشر التي كُنّا قد فصلنا فيها القول تفصيلا مع الكندي في إطار انهمامه بسياسة المرء لنفسه، لهي في حقيقتها معبّرة عن حاضر الحياة والفعل والإرادة، لأنّه لا دعوة فيها إلى رجاء غير مُبرّر ولا إلى خوف من الموت أو من فقدان القنيات.

من الأهميّة بمكان الإقرار هاهنا أنّ مباشرة النّظر في هكذا مسألة، قد مكّننا من تبيّن بعض سياقات العقل الأخلاقي من منظور فيلسوف العرب، حيث ألفيناه مهتما بشكل لافت بسياسة النفس وتدبيرها، وحريصا كلّ الحرص على تأصيل الأخلاق، بما هي نظام سلوك مكتسب قائم على العادة ويشترط الصبر وقوّة الإرادة ومن ثمّ يشترط العقل والإقرار بأهميّة التربيّة والتدرب والتعوّد في بناء سلوك ما أو في تغييره. وإذا كان الخلق مكتسبا، فيكون من الأنسب تكريس تربيّة جيّدة تساعد على تأصيل العادات الحسنة من أجل أن “يصير ذلك الخلق مستفادا”[72]. الأمر الذي يحيل على الترابط الموجود بين البعدين النظري والعملي في فلسفة الكندي وأثر هذا الترابط في تحديد موقفه من الإنسان ومن النّفس خصوصا. ولهذا تعتبر رسالته: “في الحيلة لدفع الأحزان” في تقديرنا رسالة في الفلسفة الأخلاقيّة من جهة والفلسفة التربويّة من جهة أخرى.

ومن هذا كلّه، يمكننا اعتبار الكندي من الفلاسفة البارزين في مجال الفلسفة الخلقيّة على وجه الخصوص وعلى الرّغم من اعتماده على مصادر مُتعدّدة دينيّة وفلسفيّة بفعل تأثير التيارات الفلسفيّة الوافدة على التراث العربي(الأفلاطونيّة، الفيثاغورية، الأرسطيّة، الأفلاطونيّة المحدثة ونحو ذلك)، فإنّه استطاع إلى حدّ كبير أن يمزج بينهما مزجا دقيقا مضيفا إليها بُعدا عمليا، وهذا ما جعل مجالات فلسفته الخلقيّة ممثلة للبعد الفلسفي النّظري والبعد الاجتماعي العملي معا، والذي لسوف تتوطد معالمه بالتساوق مع طروحات كلّ من الرّازي والفارابي ومسكويه[73].

إنّ الصدق الذي كتب به الكندي رسالته “في الحيلة لدفع الأحزان”، ليدلّ على أنّه عبّر بها عن تجربة ذاتيّة، إذ عاش محنة مُؤامرات الحسّاد وقطع مرحلة “الهزيمة السياسيّة”. فكان ما كتبه نابعا من إحساسه بالألم ومن تجربته في دفع الأحزان التي ألمّت به، فكانت بحقّ نصائح أخلاقيّة تسعى إلى رسم دروب السّعادة الدنيويّة والأخروية. فما أحوجنا اليوم إلى تلكم الوصايا / الحيّل، عساها تقينا من الأحزان والمآسي ما تقدّم منها وما تأخر وتساعدنا على تحصيل الفرح المنشود، أو السّعادة المأمولة زمن العدميّة والعبثيّة والرّداءة واللّا-معنى واللّا-مسؤوليّة المُعمّمة معموريا. إجمالا يبقى نصّا الكندي (رسالة في الحيلة لدفع الأحزان) ومسكويه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)[74] – في تقديرنا- “نصين عمليين” بما هما ذاتهما موضوع ممارسة عمليّة فضلا عمّا فيهما من آراء ونصائح ووصايا تمكّن من جودة الفعل، فهما يُشكّلان دليل وقوام الممارسة اليوميّة، وهما شأنهما شأن الكثير من النّصوص الرواقيّة – نصّان تعاليميان توجيهان يمكّنان الأفراد من مُساءلة تصرفاتهم ومراقبتها حتّى تتيسر سياسة الفعل وتدبير التصرّف وتشكيل الذّات إتيقيّا. وما همّ الإتيقا إن لم تكن سُؤالا في الكيفيّة التي يحيا بها الإنسان إنسانيّا؟ وما سُؤال تلك الكيفيّة إن لم تكن سُؤالا في معنى الحياة الإنسانيّة وفي قدرة الإنسان على الوجود وفق ذلك المعنى؟ أوليس من السّعادة إذن أن يقد الفيلسوف “حكمته العمليّة” من لحم التجربة الفردية والجماعيّة لتنقدر معقوليّة أفعاله على قيمه ولتنفتح قيمه على التصيرات الإصطراعيّة للأفعال التي تجاهد لتمكين معقوليتها في التّاريخ؟[75]

إنّ المبحث الأقدر على جعلنا نفكّر بالفلسفة الإسلاميّة كجزء من همّ الذّات اليوم، إنّما هو مبحث “الإتيقا” كأشدّ التساؤلات خصوصيّة، لأنّه يدور حول الإنسان الذي هو نحن. إنّ إنسانيتنا هي حجّتنا دائما ضدّ العالم “الحالي”، ولكن أيضا ضدّ تاريخنا وضدّ أنفسنا. فإنّ عديد الأسئلة الأساسيّة لم تُطرح بعد، ليس فقط حول الفلسفة بل حول الإنسان العربي نفسه[76]. تساوقا مع ما ذهب إليه أستاذي الكيس فتحي المسكيني في هكذا عبارات آسرة وبليغة من لّدنه. ناهيك أنّ معنى “الإتيقا” في تقديره، لهو الخيط اللطيف الذي يشدّ مقاصد الفلاسفة من الكندي إلى ابن طفيل مرورا بالفارابي وابن باجة[77]. فليست الفلسفة المقصودة ههنا شيئا آخر سوى “الفلسفة” نفسها، في ماهيتها التي تحدّدت منذ الكندي إلى ابن باجة بوصفها في جوهرها “إتيقا” (Ethique)، أي “معرفة الإنسان نفسه”، و”بقدر طاقة الإنسان”. فإنّما هي في ماهيتها “فلسفة عمليّة” بالمعنى الأقصى لمفهوم”العمل” (Pratique) بوصفه وجود الإنسان نفسه. إنّ المقصد الأسنى لما كانت الفلسفة عندئذ إنّما هو “السّعادة”، التي هي المطلوب الأقصى لكلّ ضرب من الانشغال بالنظر[78].

ومهما يكن من أمر، فإنّ أهميّة هذه الدّراسة لا تكمن في هذه النتائج التي انتهينا إليها، فهي نسبيّة ولا تدّعي لنفسها الحسم النهائي، وإنّما في الآفاق التي تهفو إلى فتحها سواء في مقاربة تراثنا الفلسفي القديم ومساءلة قضاياه أو في طريقة استثماره في واقعنا الرّاهن. ذلك أنّ التأمّل في كلّ هذه الإمكانات الفكريّة التي فتحها الكندي وغيره من الفلاسفة العرب، يجعلنا نعتقد أنّ المرحلة الحضارية التي نعيشها، قد تكون هي المرحلة التي تبرز راهنيّة هذه الفلسفة وضرورة استعادتها. ولكنّها، لن تكون لها قيمة، إلّا إذا فهمت في حدود ضرورة استرداد فيلسوف العرب كرمز خاصّة، رغم أنّ فلسفته قادرة على أن تساهم بشكل جدي في إنارة الكثير من قضايانا الرّاهنة في الميادين العمليّة رأسا مثل: الأخلاق والسياسة والتربيّة… وغيرها. وذلك من منظور أنّ قضايا العقل العملي في التّراث الفلسفيّ العربي يمكن استلهامها لوضع مشروع في العقل الأخلاقي والعملي في الفكر العربي المعاصر، عساه ينتشل الإنسان المعاصر من واقع الشقاء الذي يعيشه ومن الريبيّة القيميّة، بفعل التّواتر السّريع لصناعة قيم جديدة ساهم الإعلام في الترويج لها اليوم. وتحميل مسؤوليّة ما يحياه الإنسان راهنا من أوضاع لا إنسانيّة (الحروب والكوارث والهجرة اللّانظاميّة والأوبئة والشقاء…) لأصحاب اليد الطولى عالميّا، الذين طغوا في الأرض فأكثروا فيها الفساد وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. وما ذلك علينا بعزيز.

 

قائمة المصادر والمراجع

باللّسان العربي

  • ابن سينا (أبو علي): رسالة في العهد، في الفلسفة الإسلاميّة (مجلّة 42)، منشورات معهد تاريخ العلوم العربيّة والإسلاميّة، جامعة فرنكفورت، ألمانيا، 1999.
  • ابن عدي(يحي): تهذيب الأخلاق، تقديم سليم دولة، دار المعرفة، تونس، 2004.
  • آل ياسين (جعفر): فيلسوفان رائدان الكندي والفارابي، دار الأندلس، بيروت – لبنان، ط1، 1980.
  • الجابلي (سعيد): إشكاليّة السّعادة عند الفارابي بين النظري والعملي، مجلّة تبيّن، العدد 25، المجلّد السّابع، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة – قطر، صيف 2018.
  • دي بور (جورج): تاريخ الفلسفة في الإسلام، نقله إلى العربيّة وعلّق عليه د. محمّد عبد الهادي أبو ريدة، دار النّهضة العربيّة، بيروت، ط 5، 1981.
  • الرازي (أبوبكر): رسائل فلسفية، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1982.
  • الطاهري (العربي): إشكاليّة السّعادة عند الفارابي ومسكويه، بحث في العلاقة بين الأخلاق والسياسة في الفلسفة العربيّة، بحث لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، إشراف د.فتحي التريكي، جامعة تونس، 2007 – 2008.
  • العيادي (عبد العزيز): إتيقا الموت والسّعادة، دار صامد للنشر، صفاقس، الجمهوريّة التونسيّة، ط 1 أفريل 2005.
  • الكندي (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق): رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ضمن رسائل فلسفيّة للكندي والفارابي وابن باجة وابن عدي، تحقيق وتقديم د. عبد الرّحمن بدوي، دار الأندلس، بيروت، 1997.
  • مسكويه (أبو علي أحمد بن محمّد): تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق قسطنطين زريق، نشر الجامعة الأمريكيّة ببيروت، بيروت 1966.
  • المسكيني (فتحي): فلسفة النوابت، دار الطليعة للطباعة والنشر – بيروت، الطبعة الأولى، تشرين الأوّل (أكتوبر) 1997.

المصادر والمراجع باللسان الأجنبي

  • Combès, (J). «La nécessité stoïcienne et l’exigence Plotinienne» in Revue de Métaphysique et de Morale, n°3, 1969.
  • Epictète. Entretiens, traduction.Joseph Souilhé, Ed.Les Belles Lettres, Paris 1962.
  • Lettres à Ménécée, in : « Doctrines et Maximes », Ed. Hartmann 1938.

المعاجم والموسوعات

  • ابن منظور (أبو الفضل جمال الدّين): لسان العرب، الجزء الثالث، دار المعارف، القاهرة، د.ت.
  • آبادي (الفيروز): القاموس المحيط، الجزء الرّابع، دار الجيل، بيروت، د.ت.
  • Bayle, (P). Dictionnaire historique et critique (1967), Genéve. Saltine Repint. 1969.
  • Lalande, (A). vocabulaire technique et critique de la philosophie, (1 ère éd 1926), P.U.F.Paris, (16 è éd 1988).

 [1]  الكندي (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق)، رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ضمن رسائل فلسفيّة للكندي والفارابي وابن باجة وابن عدي، تحقيق وتقديم د. عبد الرّحمن بدوي، دار الأندلس، بيروت، 1997، ص 6.

[2]  الكندي، رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ص 6.

[3]  رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ص 6.

[4]  رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ص 11.

[5]  رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ص 6.

[6]  رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ص 6.

[7]  آبادي (الفيروز)، القاموس المحيط، الجزء الرّابع، دار الجيل، بيروت، د.ت، ص 215.

[8]  الكندي، في الحيلة لدفع الأحزان، ص 6.

[9]  مسكويه (أبو علي أحمد بن محمّد)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، تحقيق قسطنطين زريق، نشر الجامعة الأمريكيّة ببيروت، بيروت 1966، ص 219.

[10]  العيادي (عبد العزيز)، إتيقا الموت والسّعادة، دار صامد للنشر، صفاقس، الجمهوريّة التونسيّة، ط 1 أفريل 2005، ص 249.

[11]  الكندي، في الحيلة لدفع الأحزان، ص 9.

[12]  المصدر نفسه، ص 11.

[13]  آبادي (الفيروز)، القاموس المحيط، الجزء الرّابع، ص 77.

[14]  مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 272 وما بعدها.

[15]  الكندي، رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ص 7 – 8.

[16]  في الحيلة لدفع الأحزان، ص 11.

[17]  أبو ريدة (محمّد عبد الهادي): مثلا يشير إلى تأثر الكندي بسقراط في السيرة الأخلاقيّة طبعا. راجع مقدّمة أبو ريدة ضمن رسائل الكندي الفلسفيّة (80)، ص 21 – 23. وهو هنا لم يجانب الصّواب، إذا ما أخذنا مثلا رسالة الكندي: “في الحيلة لدفع الأحزان”، فإنّ جلّ القيم التي يتحدّث عنها الكندي لهي امتداد لسقراط. أنظر، ص 20 – 21. كذلك يشير ماجد فخري إلى التلقي الكندي لفلسفة سقراط الخلقيّة ويدعم فكرته تلك برسالة الكندي آنفة الذّكر، وما كتبه الكندي من مؤلّفات تتمحور في أغلبها حول سيرة سقراط. كما يقول دي بور أنّ المثل الأعلى عند الكندي هو سقراط. لمزيد التوسّع في هذا الأمر، أنظر، تاريخ الفلسفة في الإسلام، نقله إلى العربيّة وعلّق عليه د. محمّد عبد الهادي أبو ريدة، دار النّهضة العربيّة، بيروت، ط 5، ص 188.

[18] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 11. حري بنا التنبيه إلى امتدادات موقف الكندي عند الرّازي الذي يقول: ” نؤلف كتاب الطب الروحاني لمعالجة أمراض النفس، بموازاة كتابنا المقصود لمعالجة طب الجسد”. راجع، الرازي (أبوبكر)، رسائل فلسفية، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1982، ص15.

[19] الطاهري (العربي)، إشكاليّة السّعادة عند الفارابي ومسكويه، بحث في العلاقة بين الأخلاق والسياسة في الفلسفة العربيّة، بحث لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، إشراف د.فتحي التريكي، جامعة تونس، 2007 – 2008، ص 176.

[20] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 12 – 13.

[21] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 12.

[22] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 9.

[23] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 14.

[24] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 14.

[25] مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 221.

[26]  في الحيلة لدفع الأحزان، ص 16 – 17.

[27]  في الحيلة لدفع الأحزان، ص 28.

[28]  في الحيلة لدفع الأحزان، ص 30.

[29]  في الحيلة لدفع الأحزان، ص 17.

[30]  في الحيلة لدفع الأحزان، ص 17.

[31]  في الحيلة لدفع الأحزان، ص 17.

[32]  في الحيلة لدفع الأحزان، ص 17 – 18.

[33]  في الحيلة لدفع الأحزان، ص 18 – 19.

[34] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 20.

[35] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 18 – 19.

[36] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 23 – 27.

[37] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 28. يرد في “تهذيب الأخلاق” فصل موسوم ب: “الخوف من الموت: أسبابه وعلاجه”(ص 209 – 217). على أنّ مضمونه مطابقا لما تضمنته رسالة منسوبة لابن سينا بعنوان: “الشفاء من خوف الموت”، ضمن رسائل الشيخ الرئيس أبي علي الحسين، بن عبد اللّه ابن سينا، انتشارات بيدار، 1400 هـ، ص 339 – 345. مضافا إلى ذلك – في تقديرنا – ما تشير به رسالة التهذيب من اعتماد واضح وصريح على رسالة الكندي في الحيلة لدفع الأحزان. راجع، العيادي (عبد العزيز)، المرجع السابق، ص 253 – 254.

[38] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 13.

[39] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 28. ذلك هو نفس ما أقرّه مسكويه: “فقد ظهر ظهورا حسنا أنّ الموت ليس برديء كما يظنه جمهور النّاس، وإنّما الرديء هو الخوف منه، وأنّ الذي يخاف منه هو الجاهل به وبذاته”. (مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 216).

                                               [40] Epictète, Entretiens, Trad.Joseph Souilhé,éd.Les Belles Lettres,Paris.1962, p.853.

          [41] Combès (Joseph), « La nécessité stoïcienne et l’exigence Plotinienne » in Revue de Métaphysique et de Morale, n°3, 1969, P.312.

[42] الكندي، في الحيلة لدفع الأحزان، ص 30.

[43] العيادي (عبد العزيز)، إتيقا الموت والسّعادة، ص 260.

[44] Epicure, Lettres à Ménécée, in : « Doctrines et Maximes », Ed. Hartmann 1938, PP. 74 – 75.

[45] لوكراس: شاعر وفيلسوف لاتيني من أهمّ مؤلّفاته: “في الطبيعة” الذي نشره بعد موته شيشرون، ويعرض فيه في قالب أناشيد ستّ لأهمّ مبادئ أبيقور في الفيزياء وفي الأخلاق.

[46] ب. بايل: القاموس التّاريخي والنّقدي (مقال “لوكراس”).

Bayle (P), Dictionnaire historique et critique (1967), Genéve. Saltine Repint.1969.PP.527-528.

[47] المرجع نفسه، ص527-528.

[48] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 30.

[49] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 30.

[50] في الحيلة لدفع الأحزان، ص 31.

[51] رسالة في الحيلة لدفع الأحزان، ص 31. تُعزى جملة الوصايا / الحيّل العقليّة والأخلاقيّة التي أوردناها في جوهرها إلى موقف فيلسوف العرب من ثلاث معضلات كبرى هي: “الرّغبة والعقل والزّمن”. راجع، العيّادي (عبد العزيز)، إتيقا الموت والسّعادة، ص 252 – 263.

[52]  الكندي، رسائل الكندي الفلسفيّة، ص 172.

[53]  مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 43.

[54]  رسائل فلسفيّة، ص 122.

[55]  رسالة في الفلسفة الأولى، ص 97.

[56]  رسالة في الفلسفة الأولى، ص 97.

[57]  رسالة في الفلسفة الأولى، ص 103.

[58]  رسالة في الفلسفة الأولى، ص 105.

[59]  رسالة في الفلسفة الأولى، ص 174.

[60]  رسائل فلسفيّة، ص 177 وما بعدها.

[61]  رسائل فلسفيّة، ص 104.

[62]  رسائل فلسفيّة، ص 144.

[63]  ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، د.ت، الجزء الثالث، ص 211 وما بعدها وكذا الفيروز آبادي، القاموس المحيط، دار الجيل، بيروت، د.ت، الجزء الأوّل، ص 312 – 313.

[64] André Lalande, vocabulaire technique et critique de la philosophie, (1 ère éd 1926), P.U.F.Paris, (16 è éd        1988) P. 116.

[65] راجع مقالنا الموسوم بـ: إشكاليّة السّعادة عند الفارابي بين النظري والعملي، مجلّة تبيّن، العدد 25، المجلّد السّابع، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة – قطر، صيف 2018، ص 71 – 101.

[66]  رسائل الكندي الفلسفيّة، ج 1، ص 273.

[67]  رسائل الكندي الفلسفيّة، ج 1، ص 273.

[68] رسائل الكندي الفلسفيّة، ص 179. طفق فيلسوف العرب في تأسيس فلسفة للأخلاق قوامها الفضيلة العقليّة والاعتدال أو التوسّط، وأنّ القيّم ليست ذاتيّة، بل نسبيّة وإنّ للعادة دورا كبيرا في اكسابنا قيّما جيّدة أن لم تكن لنا من قبل، وهذا التصوّر كان بتأثير من أرسطو. راجع، بخصوص نظرية الفضيلة عند الكندي، رسائل الكندي الفلسفيّة، ص176 – 178. أمّا بخصوص العادة ودورها في الأخلاق، أنظر، المرجع نفسه، ص10.

[69]  رسائل الكندي الفلسفيّة، ص 177.

[70]  رسائل الكندي الفلسفيّة، ص 177. هذا ما ألفيناه لدى الكندي من جهة تلقيه النظري للفكر الأرسطيّ في تعريفه للفضائل، حيث قال: ” الفضائل لها طرفان أحدهما من جهة الإفراط والآخر من جهة التقصير، وكلّ واحد منهما خروج عن الاعتدال”. وهنا نلاحظ أنّ الاختلاف بين تعريف أرسطو والفارابي من جهة، وتعريف الكندي من جهة أخرى هو اختلاف لفظي لا غير. راجع، الرسائل، ص 178. والمتأخرون نسبيّا عن الكندي والفارابي، مثل يحي بن عدي وكذلك مسكويه، الذين قد تأثروا بتعريف المعلّم الأوّل للفضيلة، وإن في حدود. راجع، بن عدي، تهذيب الأخلاق، ص 83. ومسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 29.

[71]  رسائل الكندي الفلسفيّة، ص 177. لمزيد التوسع في هذا المبحث، أنظر، آل ياسين (جعفر)، فيلسوفان رائدان الكندي والفارابي، دار الأندلس، بيروت – لبنان، ط1، 1980، ص 13 – 54.

[72]  في الحيلة لدفع الأحزان، ص 10. إنّ تأكيد دور التربيّة في تثبيت الأخلاق يُستفاد أيضا من نصوص أرسطو، إضافة إلى نصوص الفلاسفة العرب اٌنظر هنا: مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 36، الرّازي، رسائل الطب الرّوحاني، ضمن رسائل فلسفيّة، ص 20 – 21، ابن سينا، رسالة في العهد، في الفلسفة الإسلاميّة (مجلّة 42)، منشورات معهد تاريخ العلوم العربيّة والإسلاميّة، جامعة فرنكفورت، ألمانيا، 1999، ص 152 – 161. وكذلك ابن عدي، تهذيب الأخلاق، تقديم سليم دولة، دار المعرفة، تونس، 2004، ص49 – 80. أورده الطّاهري (العربي)، المرجع السّابق، ص 172.

[73]  مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 256.

[74]  يعتبر كتاب “تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق” من أهمّ كتب ابن مسكويه في الفلسفة العمليّة عموما والفلسفة الأخلاقيّة خصوصا. يقول مسكويه في غرضه من تأليف هذا الكتاب: “إنّ غرضنا أن نحصّل لأنفسنا خلقا تصدر به عنّا الأفعال الجميلة وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي…”. (مسكويه، تهذيب الأخلاق، ص 21).

يشتمل الكتاب على ستّ مقالات: الأولى وضع فيها مبادئ الأخلاق التي أرجعها إلى النفس وقواها وتعرّض فيها إلى مسألة الخير والسّعادة والفضائل والرذائل. الثانية حدّد فيها معنى الخلق وكيفيّة تهذيبه في اتّجاه تحقيق الكمال الإنساني. الثالثة خصّصها لبيان معنى الخير وأقسامه والسّعادة ومراتبها. الرّابعة خصّصها لبيان حقيقة العدالة وشروط تحققها. الخامسة وضع فيها ما به تستقيم الحياة الاجتماعيّة ومن ثمّ ركز على قيمتي المحبّة والصداقة. والسادسة وهي آخر فصول الكتاب أفردها للحدّيث عن الصّحة النفسيّة وكيفيّة حفظها ومعالجة المظاهر المرضيّة منها معالجة سلوكيّة ومعرفيّة أو عرفانيّة.

[75]  العيادي (عبد العزيز)، المرجع السّابق، ص 264.

[76]  المسكيني (فتحي)، فلسفة النوابت، دار الطليعة للطباعة والنشر – بيروت، الطبعة الأولى، تشرين الأوّل (أكتوبر) 1997، ص 81.

[77]  المسكيني (فتحي)، فلسفة النوابت، الهامش (1) ص 70.

[78]  فلسفة النوابت، ص 69 – 70. يقول أستاذي الجليل د. فتحي المسكيني في هذا السيّاق بالذّات: “الإتيقا” قائمة في ماهيتها على مطلب السّعادة بما هي مطلب “كلّ” إنسان، إنّها أفقيّة دائما، وتزرع إمكانها ممّا هو محايث في البشر، من قواهم واستعداداتهم وإرادتهم”. (فلسفة النوابت، ص 74).

جديدنا