مدينة الثقافة ومرجعيتها الشعبيَّة

image_pdf

قليلة هي الكتب في الثقافة العربيَّة التي تحتوي بين سطور صفحاتها جدل فكري ومحاولة من المؤلف لأن يرسو مع القارئ على ضفاف عالم الأفكار، الدكتور محمد حسن حافظ في كتابه “في مدينة القافة ومرجعيتها الشعبيَّة” يحاول أن يذهب بنا إلى عالم الأفكار فينطلق من رؤية عالم الاجتماع الفرنسي بياربورديو في تعريفه للسلطة على النحو التالي:-

بينما طرح باولوفريري (1921: 1997) إسهامًا نظريًا وميدانيًا ملهمًا في مجال صنع “الثقافة الجديدة”، عبر عمليات وبرامج غير تقليديَّة لمحو أُميَّة الكبار، وفي تفجير الكامن الجمالي والتنموي في “ثقافة الصمت” لدى المهمّشين في بلدان الجنوب (بلدان أمريكا الجنوبيَّة- أو اللاتينيَّة- وأفريقيا، على وجه التحديد). تحدَّث فريري عن المرحلة الانتقاليَّة بُعيد اندلاع الثورة الشعبيَّة، وعن تأثير الحاسم للثقافة فيها، حيث يرى المرحلة الانتقاليَّة مرحلة جديدة للوعي الشعبي، لكنها تتراوح بين ثلاثة مستويات للانتقال: المستوى الأول: “الانتقال الساذج” عندما تنجح نخبة النظام السابق ودعاته في البقاء والتلاعب بالجماهير. ويمثِّل “الدين” إحدى الوسائل التي تستخدمها النخبة ودعاتها للتلاعب بالجماهير، فهو نوع لا يمكن إنكاره من الأفيون السياسي الذي لا يحافظ على سذاجة الوعي المنبعث فحسب؛ بل أيضًا على أن يظل الشعب معتادًا على أن يُوجه، لكن فريري يؤكِّد- ومعه نؤكِّد – أنَّه بقدر ما يستغلّ الخطاب الديني السياسي احتجاج الجماهير ومطالبها، بقدر ما يُسارع من عمليَّة اكتشاف الجماهير للواقع المتناقض، بما فيه تناقض الفكر الديني نفسه (وتجدر الإشارة، هنا إلى أهميَّة الوعي بالفرق الجذري بين “الدين” من جانب، والفكر “الديني” وخطاباته من جانب آخر). ويضرب فريري بوضعيَّة الفلاحين في البرازيل المثل على الانتقال الساذج بُعيد اندلاع الثورة البرازيليَّة، حيث لم تكن المناطق الريفيَّة قد تأثَّرت  بالنهوض الذي أثارته التصدّعات التي أصابت المجتمع، فظلَّت واقعة تحت هيمنة القيادات السياسيَّة وإدارتها، ومُذعِنة إلى الوعي الجامد الذي يعدم امتلاك مغامرة الخوض في غمار الواقع الجديد، بالرغم من أنها تدركه!

وينتقل بنا إلى كليفورد جيرتز (1926: 2006)، فقد طرح منظورًا أنثروبولوجيًا لمفهوم الثقافة، يتأسس على تراث ماكس فيبر (1864: 1920)، عالج به مثالب ما تجاهلته المدارس النظريَّة (البنيويَّة والنفسيَّة)، حيال “المسألة الثقافيَّة”.

يُعرف جيرتز الثقافيَّة، سيميائيًا Semiotic، تأسيسًا على طروحات جريماس وبيرس وريكور، بأنها شبكة من أنظمة الإشارات Signs القابلة للتفسير والتأويل، ليست قوة قاهرة، وليست شيئًا تُعزى إليه، سببيًا، أحداث مجتمعيَّة، أو سلوكات، أو مؤسَّسات اجتماعيَّة، أو سيرورات عمليَّة؛ بل هي نسق يمكن به إجراء “وصف كثيف”، قابل لفهم هذه الأشياء. وتكمن الحكمة من المقاربة السيميائيَّة للثقافة في أنها تعبد الطريق للعالم المفهومي الذي تعيش فيه موضوعاتنا؛ وتمكننا من تنظيم محادثة معها، ومن تحقيق المهمَّة الكبرى للأنثروبولوجيا؛ أي: توسيع فضاء الخطاب الإنساني، دون الفصل بين “الوصف الكثيف” أثناء العمل الاثنوجرافي من جهة، و”التأويل” أثناء العمل النظري الأنثروبولوجي، من جهة موازية. فالأول هو “الجسم” والهيكل والوعاء الذي يضم ترسانة ثقيلة من المفاهيم المتداولة أكاديمياً، ومنها: الرمز؛ العقيدة؛ روح الجماعة؛ الهُويَّة؛ الطقس؛ رؤيَّة العالم؛ المعرفة المحليَّة؛ المقدس؛ التراث.. إلخ، وهي المفاهيم التي تتعاضد لتمكننا من العثور على موطئ قدم في الثقافة المحليَّة، دون الادّعاء بأنه موطئ القدم النهائي، ثم ترفدنا الكتابة الأنثربولوجيَّة المعنيَّة بصياغة المعنى (القاعدة)، وهو بدوره معنى غير مكتمل، مفتوح على إمكانيات لا متناهيَّة، وغير مقيدة بنماذج شموليَّة. تضمن هذه الطريقة النظر العلمي الواضح إلى الأحداث والأشياء التي تجري وفق حالة بث غير منقطعة للإشارات.

ثم يطرح محمد حسن حافظ تساؤلاً مهمًّا هو:

ما الذي يجعل عودة حقول الثقافة الشعبيَّة، ضمن هاجس المسألة الثقافيَّة، شأنًا ممكنًا في الوعي العربي بعد طول غياب؟ هل تنتمي هذه العودة- التي باتت محسوسة اليوم- إلى صحوة نقديَّة في هذا الوعي، أم هي ناجمة عن مصادفة تاريخيَّة محض؟ ثم هل يمكن لهذه الصحوة، أو تلك المصادفة، أن تكون دافعًا موضوعيًا لصون الثقافة الشعبيَّة بالهويَّة الحضاريَّة، وصون الهويَّة الحضاريَّة بالثقافة الشعبيَّة؟

عاين الوعي العربي المعاصر سلسلة إخفاقات، تجسَّدت في عدد من الأقطار العربيَّة، وحصدت شعوبها ثمراتها المرة: إخفاق في السياسة، يمثله انهيار حلم التوحيد القومي، ثم انهيار حلم الدولة الوطنيَّة الحديثة. وإخفاق في الاقتصاد، يمثّله فشل المشروع التنموي الاشتراكي والليبرالي على السواء، والانتقال من أحلام التنمية المستقلَّة إلى مجاهل الكساد والتضخُّم والمديونيَّة والتسوّل لدى بنوك القرض الدوليَّة. وإخفاق في الاجتماع، يمثّله الفشل في بناء اجتماع وطني وقومي متماسك، ودخول البنى الاجتماعيَّة في دوامة التناقضات الذاتيَّة والصراعات والفتن. وإخفاق في الفكر، يمثّله الفشل في تأسيس ثقافة تاريخيَّة إيجابيَّة، متوازنة مع الذات ومتواصلة مع العصر، مقابل الانتقال إلى لحظة من الانشقاق الحاد في الوعي،  ومن الحرب الأهليَّة الفكريَّة بين تيارات انكفائيَّة منغلقة، وأخرى اتباعيَّة متغرّبة.

كان هذا الإخفاق التاريخي قمينًا بإنجاب لحظات من الوعي متباينة في المضمون والمسلك الفكري، أبرزها لحظتان: لحظة وعي محبط اتَّصل بسيناريو التشاؤم، ولحظة وعي نقدي دعا إلى بناء سيناريو أكثر تفاؤلاً ورحابة على أنقاض هذه الإخفاقات. قادت اللحظة الأولى إلى مغامرات فكريَّة جددت متاهة الوعي، وكان من تلك المتاهة أن اختُلقت مشكلات لا يطرحها التاريخ، أو قُدمت طروحات انزوائيَّة في موضوعات شديدة التغرُّب عن محيط الاجتماع المصري والعربي. بينما قادت اللحظة الثانية (الموازيَّة) إلى إنضاج خطاب تاريخي عكف على تشخيص الآليات التي عملت بموجبها حالة الإخفاق ، وتجهيز تساؤلات حول خيارات بديلة للمستقبل؛ ومحاولة ضخ الحيويَّة وبثّ روح التجديد.

يرى المؤلِّف أنّ الإخفاق يدفعنا المتناسل إلى التفكير- بأناة- في الوعي بأهميَّة المسألة الثقافيَّة- التي طالما أُهدرت- في مشروع النهضة؛ والمطالبة بتأسيس سيادة ذاتيَّة لمجال الثقافة الشعبيَّة- الذي هو- إجمالاً- مجال “آداب الناس، وأحوالهم في المعيش”، بتعبير ابن خلدون.

إن فعاليَّة الثقافة تتحدَّد في مدى امتلاكها- أو قل: امتلاكنا- القدرة على مقاومة القصور الذاتي والاجتزاز والاستهلاك، وقدرتها/ قدرتنا على تأسسيس منظومة الاعتماد على النفس والتحرّر من التبعيَّة، بتحرير اقتصادي ينهض على تنمية مستقلَّة منتجة وعادلة في التوزيع؛ إسهامًا في ترقية خصائص حامليها، وتأسيسًا لنسق قيمي إيجابي، وتجاوزًا لنقائض تراث الأنا الميت، وحاضر الآخر المهيمن. ولا مناص، عندما يتوقَّف المجتمع عن إنتاج المعنى لحياته ورغباته وإرادته، من ابتلاع القيم الماديَّة والرمزيَّة التي تحتشد بها ثقافته، ولا يبقى أمامه غير التزود بزاد ثقافي جاهز، تتم زراعته في كهف الماضي التليد غير الحيوي في حياته، أو تخليقه في معامل الحاضر العولمي الذي لا يشارك فيه.

يذهب محمد حسن حافظ في ختام كتابه إلى أنه في صدارة أولويات البناء والإصلاح والتنمية، في الثقافة العربيَّة، مطالب وتدابير معرفيَّة حيويَّة، لعلنا نكتفي بثلاثة منها: تنمية التوجّه العلمي المركب من النظري والميداني والتطبيقي على السواء؛ وتمرين الذات على ممارسة النقد المراجعة؛ وبناء علاقة متوازنة بين الأنا والآخر.

ويؤكِّد محمد حسن حافظ أن النهوض العربي الذي نحتاج إليه هو الذي يعتمد التجديد من الداخل، عبر سياسات التنوير الموضوعي من قلب الثقافة الوطنيَّة، وليس التنوير الفوقي، وهو مسلك ينهض على مهمَّة مزدوجة:

أولاً: مهمَّة جماعة المثقّفين العضويين المنوط بها مراجعة أسباب الإخفاق أو التهديد، وعليها إعادة النظر في آليات التبعيَّة الذهنيَّة والثقافيَّة للآخر الغربي والشرقي على السواء، وعليها مواجهة ضغوطها على الأجيال الجديدة، وعليها تعزيز المثاقفة المتكافئة والمتّزنة مع العالم، بالتزامن مع تصفية التعاطي الثقافي من محمولاته الأيديولوجيَّة، وعليها إعادة اكتشاف ما تكتن به الثقافة الشعبيَّة وتراثها ومأثوراتها من قيم رمزيَّة، قابلة للاستلهام بصور مبتكرة وملهمة، في أوعية إعلاميَّة وثقافيَّة وإنتاجيَّة جديدة، وصولاً إلى رؤية مهيأة لتأسيس أنظمة ثقافيَّة متمتّعة بالأصالة، وغير مغتربة عن العصر.

ثانياً: مهمَّة الدولة في إنجاز مشروع التعليم لكل أبناء الشعب. وبتجديد مضمونه وبرمجه، وإنجاز الثورة العلميَّة والتقانيَّة، على نحو ما نجد في تجارب اليابان وسنغافورة وماليزيا والإمارات وبعض بلدان أمريكا الجنوبيَّة، دون أن ينال المسخ من تنوّعات تراثها الثقافي الحيّ المعيش.

ويتصوَّر المؤلَّف أنه بات من الأهميَّة بمكان أن يُعاد للثقافة، وللخيال الجمعي، حضورهما في عمليَّة رسم السياسات الثقافيَّة. وهناك دائمًا فرص ذهبيَّة أمام النخب، للاقتراب من تشخيص معضلات المجتمع في النمو والتقدم، وللإفلات من مسلك التبعيَّة الذهنيَّة والإصلاح المستقيم الذي تفرضه أُحاديَّة النظام العالمي.

جديدنا