الموضوع الاجتماعي والذات الإنسانيَّة

image_pdf

 

1

العلاقة المصيريَّة بين الموضوع الاجتماعي والذات الإنسانيَّة هي الأساس العقلاني لتفسير أنماط السيطرة الفكريَّة في المجتمع. والموضوعُ الاجتماعي هو الحَيِّزُ المعرفي الموجود في الواقع، والخاضعُ للأحاسيس اليوميَّة والتجارب العمليَّة. والذاتُ الإنسانيَّة هي جَوهر الإنسان، وشخصيته الاعتباريَّة، وهُويّته الوجوديَّة. وفي ظِلّ الحركة الاجتماعيَّة المُستمرَّة أفقيًّا وعموديًّا في التاريخ والجُغرافيا، يتكرَّس الموضوع كإطار خارجي، يحتوي على إفرازات العقل الجمعي، ويُحقِّق الاستقلاليَّة عن الإرادة والوَعْي، ويُحقِّق التوازنَ بينهما. وفي ظِلِّ الصراع المُستمر الذي يعيشه الإنسانُ داخل نَفْسه وخارجها، تتكرَّس الذات كَنَوَاة مركزيَّة تُعبِّر عن الشُّعور والتفكير،وتُترجم تعقيداتِ العَالَم الخارجي إلى أنساق اجتماعيَّة يُدركها العقلُ، مِن أجل تفسيرها والاستفادة منها.

2

إذا أدركَ العقلُ العلاقةَ بين الموضوع والذات في الحياة الاجتماعيَّة جُملةً وتفصيلًا، استطاعَ تفسير أنماط السَّيطرة الفكريَّة بكل تفاصيلها العلنيَّة والسِّريَّة، لأنَّ الفكر لا يُوجد في العَدَم، ولا يَنتشر في الفراغ، وهذا يعني أنّ الفكر موجود مَعَنا، ويعيش فِينا، ويتدفَّق بَيننا، وعلى تماس مُباشر معَ حياتنا، نتفاعل معه، ويتفاعل معنا، أي إنَّ الفكر كائن حَي له وجود حقيقي محسوس، وليس أوهامًا ذهنيَّة أو خيالات هُلاميَّة. وكُل شيء مَوجود في دائرة الإحساس إمَّا أن يَكون جوهريًّا ( ثابتًا ) أوْ عَرَضِيًّا ( مُتغيِّرًا )، والفِكرُ الجوهري الثابت مَوجود في الذات، والفِكر العَرَضي المُتغيِّر مَوجود في الموضوع، ولا تُوجد منطقة وُسطى، ولا حَلّ وسط، لأن طبيعة الفِكر غير مُحايدة، وتَرفض اللونَ الرمادي. ولا يُوجد فِكر _ سواءٌ كان ثابتًا أو مُتغيِّرًا _ يَحتوي على منطقة وُسطى أو حَل وسط، فالمنطقة الوُسطى تُوجد في المواقف الاجتماعيَّة، والحَل الوسط يُوجد في التطبيقات العمليَّة. والحَقُّ واحد لا يتعدَّد، لكن زوايا الرؤية هي التي تتعدَّد. وكما أنَّه لا تُوجد منطقة وُسطى بين السلام والحرب، كذلك لا تُوجد منطقة وسُطى بين الحق والباطل، وكما أنَّه لا تُوجد دولة فيها رئيسان، كذلك لا يُوجد إنسان فيه قَلْبَان، وهذا يدلُّ على أنَّ الفكر أُحَادي شديد المركزيَّة والاستقطاب، لكن الأهواء الذاتيَّة والمصالح الشخصيَّة والضغوطات الاجتماعيَّة هي التي تجعل الفِكرَ مُتَشَظِّيًا في الحياة المُعاشة، ضِمن عمليَّة تَمييع المواقف، واللعب على الحِبَال، والدُّخول في المُسَاوَمَات، والخُضوع لسياسة الأمر الواقع، والرُّضوخ أمام حقيقة أن القوي يَفرض شروطَه على الضعيف، والاستسلام لثقافة المغلوب المُولَع بتقليد الغالب. وهذا يُفَسِّر وجود التناقض بين الفكر والسُّلوك، وبين النظريَّة والتطبيق. كما يُفَسِّر قِيامَ الكثيرين بخطوات عمليَّة لا يؤمنون بها، واتِّخاذهم مواقف واقعيَّة غَير مُقتنعين بها، وتَرديد شعارات وهتافات لا يُصدِّقونها.

3

لا يُمكن تحليل عناصر السَّيطرة الفكريَّة في المجتمع، إلا بالسَّيطرة على العلاقة بين الموضوع والذات، لأنهما يُمثِّلان الحاضنةَ الشرعيَّة للفِكر، ولا يُوَاجِه الفِكْرَ إلا الفِكْر، والسِّلاح الوحيد لمُواجهة العقل هو العقل، خُصوصًا أن السَّيطرة الفكريَّة تكون مُتماهيَّة مع القُوَّة الناعمة، لأنها تعتمد على الجاذبيَّة والإقناع، وهذا يدلُّ على أهميَّة الثقافة باعتبارها الأساس الشرعي للقُوَّة الناعمة. ويُمكن إيجاد علاقة منطقيَّة بين هذه المصطلحات المُتعدِّدة وَفَق هذا الترتيب : إنَّ المَوضوع الاجتماعي يَكشف أبعادَ الذات الإنسانيَّة، ويُشير إلَيها، ويَمنحها شرعيَّة الوُجود ومَشروعيَّة الإبداع، وإذا وَجَدَت الذاتُ الإنسانيَّة كِيانَها، وأدركت ماهيَّة البيئة المُحيطة بها، وعَرَفَت وظيفتها في الحياة، واستوعبت دَوْرَها في الوجود، سَعَتْ إلى امتلاك الثقافة اللازمة لكشف عناصر القُوَّة الناعمة المتغلغلة في تفاصيل المجتمع، وهذا يُساهم في تحليل عناصر السيطرة الفكريَّة التي تَحْكُم العلاقاتِ الاجتماعيَّة والإنسانيَّة، وتتحكَّم بمسارها ومصيرها. وإذا عُرِفَ خَط السَّير، انكشفَ الهدف، وصارَ الوُصول إلَيه سهلًا. والأملُ الوحيد للخُروج مِن النَّفَق هو رُؤية الضَّوء في آخره.

 

جديدنا